المدرسة النبوية الأولى تربية وتعليما ودعوة: تواضع المعلم وأدب المتعلم
الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي
من سورة الأنعام
المدرسة النبوية الأولى تربيةً وتعليمًا ودعوةً
تواضُع المعلِّم، وأدب المتعلِّم
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين:
قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ * وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الأنعام: 52 - 55].
كانت فئة الأغنياء في مجتمع مكة من أمثال أبي لهب والوليد بن المغيرةِ وأبي سفيان تتباهى بشرَفها وقوتها واقتدارها، فأورثها ذلك استكبارًا وفخرًا بالأنساب، وعزة جوفاء بالنفس والمال، واعتدادًا بالموروث الجاهلي معتقداتٍ وعاداتٍ وتقاليدَ، وحرصًا على التميُّز الغاشم والاستعلاء الظالم، وبغيًا وعتوًّا استبدوا بهما على العباد، وقسوة وأَدُوا بها بناتهم، وانتفَوا بها من بعض أبنائهم، وعدوانية هوجاءَ استذلوا بها الفقراء والضعفاء، مواليَ وعبيدًا وجواريَ ومنبوذين مِن خلعاء القبائل والأعراق ونُزَّاعها.
وكان لا بد أن يثمر هذا الوضع الاجتماعي ثماره السلبية المُرَّة على صعيدين، صعيد المشاقِّ والمحن التي عانى منها صاحب الدعوة الإسلامية صلى الله عليه وسلم، وصعيد مستضعَفي المجتمع الذين استأنسَتْ فطرتهم بصدق النبوة وصحة عقيدتها وسلامة منهجها، فأقبلوا على الإيمان والعبادة لا تُلهيهم عنهما تجارةٌ ولا لهوٌ.
ولئن كان موضوع آيات الحلقة السابقة من سورة الأنعام هو تعنُّتَ صناديد مشركي قريش وإعراضَهم عن الإيمان واستعلاءَهم على الحق، ومحاولة استحياء فطرتهم الأولى بالترهيب والترغيب نِذارة وبِشارة، ثم كان أمرُ الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يوجِّه عنايته ودعوته إلى غير المستكبرين، ممن لا يُقيمون وزنًا لحطام الدنيا وزينتها، ولا يأبهون إلا بما يوقنون به مِن الغيب، وما ينتظرهم من الحشر والنشر والحساب والجزاء المخلِّد في الجنة أو النار، بقوله عز وجل: ﴿ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 51] - فإنه تعالى قد سلك بدعوة رسولِه صلى الله عليه وسلم سبيلَ العلاج الحاسم لآفات المجتمع الجاهلي آنئذٍ، غنًى فاحشًا ظالِمًا مستأثرًا بالخيرات، وفقرًا مُدقِعًا مُذِلًّا متحفزًا للفتك والوثوب، يُفرز كل حين طائفةً من الحاقدين على مجتمع الاستكبار والطغيان، من صعاليك البادية وقطَّاع الطرق، أمثال: عروة بن الورد، والسُّلَيْك بن السُّلَكَة، والشَّنْفرى، وتأبطَّ شرًّا،ووضع للمجتمع المؤمن الناشئ منهجًا يُعلي به، نحو الأفضل والأرضى، مشاعرَ الغنى والاستكبار لدى الأغنياء، ومشاعرَ الغضب والحقد لدى الفقراء، ويرفعها إلى آفاق رحبة جديدة لم يألفها أي من الطرفين، آفاق الأخوة الإنسانية والأهداف السامية التي تشرِّف أولي العزم من الرجال، وتبصِّرهم بالحال، وتستشرف بهم أفضل المآل.
وقد كان طبيعيًّا أن يمتثل صلى الله عليه وسلم لأمر ربه في الاهتمام بمن أقبلوا على دعوته صادقين مخلصين مؤمنين بيوم الدِّين، حَذِرين أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع، وأن يكون أكثر أول أتباعه كأول أتباع إخوانه الرسل عليهم السلام، مِن ضعَفة المؤمنين في مجال المال والجاه والكسب، من أمثال: صهيب، وبلال، وعمار بن ياسر، وخبَّاب بن الأرتِّ، وسَلْمان الفارسي، وعبدالله بن مسعود، وصُبَيْح مولى أُسَيْد، وسالم مولى أبي حذيفة، وعمرو بن عبدعمرو ذي الشِّمالين، والمقداد بن عمرو، وواقد بن عبدالله الحنظلي، ومَرْثَد بن أبي مَرْثَد، وأشباههم.
كما كان متوقعًا أن يثير قربهم من الرسول صلى الله عليه وسلم وإكرامُه إياهم وحسن معاملته لهم، واستئثارهم بمجالسته والأخذ عنه - حَنَقَ المترَفين والأكابر والرؤساء والسادة في مكة، وخوفَهم من أن ينتصر بهم في دعوته، فينقلب ميزان القوة في المجتمع، وترتد عليهم عاقبة ظلمهم واستكبارهم، مساواةً يدعو لها الدِّين الجديد، وتُنكرها الأنانية والاستعلاء والعزة بالمال والأنساب، وأخوَّةً يكرسها التنزيل الكريم ويعيشها عليه الصلاة والسلام بين أصحابه أسوةً طيبة وخُلقًا كريمًا، ومحبة في الله لا تنقُضُها الأهواءُ، ولا تنغِّصُها البغضاء.
كلُّ هذه المؤشرات التي لاحظها كبراءُ قريش كان من شأنها أن تدفَعَهم لمحاولة نقض هذا الائتلاف الإيماني الجديد، وقد جرَّبوا من قبل كلَّ أصناف التعذيب والتهديد والوعيد، ضد هذه الفئة المؤمنة من مستضعَفي مكَّةَ وعبيدها وفقرائها، فلم يُفلحوا في تثبيط عزائمها أو ثَنْيِها عما ذاقت حلاوتَه من الإيمان، ثم جربوا أساليب الاستهزاء والسخريَّة والتحقير لها، فلم يُوهِنوها أو يُخضِعوها لإرادتهم.
وإذ يئِسوا مِن نجاعة أساليبهم تلك، واتسعت حِلَقُ المستضعفين حول الرسول صلى الله عليه وسلم وتنامَت واستمرت، وتجاوزت مرحلة الحذَر والتكتُّم إلى المعالَنة والتحدي والاستعلاء بالإيمان، ضجَّ طغاة مكة للأمر، وحاولوا تفكيك هذا التلاحم بين النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه المستضعَفين، وسلكوا لذلك عددًا آخرَ مِن المسالك الملتوية، استفزازًا ومكرًا، وخديعة وكيدًا خفيًّا، منها: ما ذكره عكرمةُ مِن أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن أمية ومطعِم بن عدي والحارث بن نوفل وقرظة بن عبد وعمرو بن نوفل في أشراف بني عبدمناف مِن أهل الكفر جاؤوا إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، لو أن ابن أخيك محمدًا يطرد عنه مواليَنا وحلفاءنا، فإنهم عبيدنا، كان أعظمَ في صدورنا وأطوعَ له عندنا، وأدنى لاتِّباعنا إيَّاه، وتصديقنا له، فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم فحدَّثه بالذي كتموه، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو فعلتَ ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون وإلى ما يصيرون! فنزل قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ [الأنعام: 52]، فلما نزلت هذه الآية أقبل عمرُ بن الخطاب واعتذَر مِن مقالته.
ومنها: ما قاله جبير بن نفيل مِن أن قريشًا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة فقالوا: أرسلت إلينا، فاطرُدْ هؤلاء السُّقَّاط عنك؛ فنكون أصحابك، فكانت الآية نفسُها جوابَهم،ومنها ما رُوي عن عيينة بن حصن الفزاري: أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده سلمان وبلال وصهيب وأشباههم، فقال عيينة: يا رسول الله، لو نحَّيت هؤلاء عنك لأتاك أشراف قومك فأسلموا، فأنزل الله تبارك وتعالى: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾ [الأنعام: 52]،ومنها: ما رُوي عن خباب بن الأرتِّ قال: "كنا ضعفاءَ نجلس عند النبي صلى الله عليه وسلم بالغداة والعشي يعلمنا القرآن والخير، وكان يخوِّفنا بالجنة والنار، وما ينفعنا الله به، والبعث بعد الموت،فجاء الأقرع بن حابسٍ التميمي وعيينة بن حصنٍ الفزاري، فقالوا: إنا مِن أشراف قومنا، وإنا نكره أن يرَوْنا معهم، فاطردهم إذا جالسوك، فنزلت: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾ [الأنعام: 52]، إلى قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾ [الأنعام: 53].
ومنها: ما روي من أن الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصين الفزاري ورفاقًا لهم في الكفر جاؤوا النبي صلى الله عليه وسلم فوجدوه قاعدًا مع بلال وصهيب وعمار وخباب في ناس من ضعفاء المسلمين، فلما رأَوْهم حوله حقروهم وأتوه فقالوا: يا رسول الله، لو جلست في صدر المجلس ويغيب عنها هؤلاء وأرواح[1] جِبَابهم - وكانت عليهم جباب من صوف لم يكن عليهم غيرها - لجالسناك وحادثناك وأخذنا عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ مَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 114]، قالوا: فإنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسًا تعرف لنا به العرب فضلنا؛ فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن يرانا العرب مع هؤلاء الأعبُدِ، فإذا نحن جئناك فأقمهم، وإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت، قال: ((نعم))، قالوا: اكتب لنا بذلك كتابًا، قال: فدعانا لصحيفة ودعا عليًّا ليكتب، إذ نزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾ [الأنعام: 52]، فألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده، ثم دعانا فأتيناه وهو يقول: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [الأنعام: 54]، فكنَّا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ﴾ [الأنعام: 52]الآية، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعمد، وندنو منه، حتى كادت رُكَبُنا تمسَّ رُكَبه، فإذا بلغ الساعة التي يقوم قمنا وتركناه حتى يقوم، وقال: ((الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبِر نفسي مع قوم من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات))[2].
ولئن تضاربت الروايات حول أسباب نزول قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ ﴾ [الأنعام: 52] وظروفه، فإن ذلك لا يضعفها أو ينفيها؛ إذ قد تكون الآية نزلت أولًا بسبب معين يتعلق بمحاولة طرد المؤمنين من مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ظرف خاص مشابه، فكانت ردًّا على المشركين أوحى به الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وكانت طوائف المشركين تتوافد عليه صلى الله عليه وسلم كل حين تُلحُّ عليه وتسأله إبعاد المستضعَفين عن مجلسه، فيُجيبهم بنفس الآية التي نزلت من قبل في ظروف مشابهة.
أما ما رُوي من أنه صلى الله عليه وسلم هَمَّ أن يستجيب لمطلب المشركين في إبعاد المستضعَفين عن مجلسه، فإنه بعيد كل البعد عن الصحة، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يهُمَّ بذلك أو يفعله، وقد أوحى إليه ربه في سورة هود التي نزلت قبل الأنعام بقول نوح عليه السلام لقومه الذين ازدَرَوْا بمستضعفي أتباعه: ﴿ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ ﴾ [هود: 29، 30].
إن موقف مشركي مكة من المستضعَفين هو نفس موقف قوم نوح، علِمَه الرسول صلى الله عليه وسلم وحيًا من ربه، وليس له أن يحيد عنه، وكيف يشِذُّ عن منهج إخوته الأنبياء والرسل، وقد أمره ربُّه أن يقتديَ بهم بعد أن ذكَّرَه بإسحاق ويعقوب وداود وسليمان وأيوب ويوسف وهارون وزكريا ويحيى وإلياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوط عليه وعليهم السلام، ثم قال له: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90]؟!.
إن الرسولَ صلى الله عليه وسلم لم يطرد مَن كان معه من المستضعَفين، ولم يهُمَّ بطردهم، وهو الذي كان يقول لهم: ((معكم المَحْيَا ومعكم المماتُ))، وما كان له ذلك وقد أمر في سورة الكهف أن يصبر نفسَه معهم، وألا يطيع فيهم عبيدَ أهوائهم من المشركين، بقوله تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28].
أما النهيُ الوارد في الآية الكريمة عن الطرد، وإن كان ظاهره موجَّهًا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنما هو في الواقع ردٌّ على المشركين الذين كانوا يحاولون تفكيكَ ارتباط العُصبة المؤمنة بنبيِّها، وفضَّ مجلسها معه، ردٌّ يكبِتُهم ويقرع أسماعهم، ويريهم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لن يتخلى أبدًا عن هؤلاء الفقراء الذين تزدري أعينهم، امتثالًا لأمر ربه في هذه الآية أولًا، وتأسيًا بسيرة أخيه نوح عليه السلام في أتباعه ثانيًا، واستجابة لعاطفة الحب والولاء التي تنشأ عادة بين المؤمنين ثالثًا، وإشعارًا بأن لهؤلاء المستضعَفين مكانة عند ربهم، ينزل لها الوحي دفاعًا عنهم ورفعًا لشأنهم، فلا يفكر أحد أبدًا في إذلالهم أو الحط من شأنهم، أو يطمع في أن يتخلى عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنه بمقاييس الدعوة المحمدية الناشئة إعلانٌ عام بأن حسابات الدنيا بين البشر قد تغيَّرت بنزول الرسالة، فلم يعُدْ لمقاييس النسَب والعِرْق والمال والجاه والسلطة والنفوذ والقوة المادية أي شأن، وأن القوةَ الحقيقية بالإيمان والحق، والتفاضلَ بين الناس والرفعةَ في أتباع الأنبياء بالتقوى، وأن جميع العلاقات والقيم في المجتمع الجديد أصبحت مرتبطة بحسابات الآخرة إيمانًا وكفرًا، لا يجوز أن يستكبر فيه غني على فقير، أو قوي على ضعيف، أو أن يُستبْعَد فيه الفقير تأليفًا للغني، أو الضعيف استرضاءً للقوي، وأن المؤمنين فيه تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ على مَن سواهم، وأن هؤلاء المستضعَفين الذين استكبر عتاة المشركين عن مجالستهم مِن أكرم الخلق عند الله تعالى؛ ولذلك نهى عن الازدراء بهم، أو استبعادهم من الحضرة النبوية مهما تكن الأسباب بقوله عز وجل: ﴿ وَلَا تَطْرُدِ ﴾ [الأنعام: 52]؛ أي: لا تُبعِد عن مجلسك فقراء المؤمنين ومستضعَفيهم.
ثم وصفهم الحق سبحانه وتعالى عقب ذلك بأجلِّ وصف، وزكَّاهم بأحسن تزكية؛ إذ شهد لهم بصدق الإيمان، وصواب التوجه والعبادة، بقوله عز وجل: ﴿ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ [الأنعام: 52].
ذلك أن قوله تعالى: ﴿ يَدْعُونَ ﴾ [الأنعام: 52] من فعل: "دعا، يدعو، دعاء، ودعوة"، والأصل في معناه أن تُميل الشيء إليك بصوت أو كلام منك، ومنه الدُّعاءُ - بضم الدال ممدودًا - وهو العبادة بكل أصنافها؛ صلاة وصيامًا، وحجًّا ونُسكًا، ومعاملة للخَلْق بما أرشد إليه الكتاب والسنة، والرغبة إلى الله تعالى فيما عنده من الخير، والابتهال إليه بالسؤال، كما في قوله عز وجل: ﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [الأعراف: 55].
كما أن الدعوةَ إلى الله معناها ترغيب الغير في الإقبال على دِينه، وتبليغهم رسالته، وهي أشرف وظيفة بُعث بها الأنبياء والرسل عليهم السلام، وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ خاطَبه ربه عز وجل بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45، 46]، ولا شك أن كل مسلم عليه واجب الاقتداء بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والقيام بالدعوة إلى الله تعالى على بصيرة، إن كان عالِمًا بلَّغ، وإن كان جاهلًا تعلَّم وعلَّم؛ لأنها أحسن وأشرف ما يقوم به المؤمن؛ قال عز وجل: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33]، ولأن التكليف بها ورد في كتاب الله بصيغة الأمر، والأمر للوجوب، وهو قوله تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125].
والغَداةُ في قوله تعالى عقب ذلك: ﴿ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾ [الأنعام: 52] تعني البُكْرة، ضد العَشيِّ، وهي ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لو تَوَكَّلون على الله حقَّ توكُّله لرزقكم اللهُ كما يرزقُ الطير، تَغْدُو خِماصًا، وتعود بِطانًا))، قرأها ابن عامر في سورتي الأنعام والكهف بضم الغين وسكون الدال والواو بعدهما: ﴿ بِالْغُدْوَةِ ﴾، وقرأها الباقون بفتح الغين والدال وألف بعدهما،وتقييد الدعاء في هذه الآية الكريمة بطرفي النهار: ﴿ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾ [الأنعام: 52]، إشارة إلى استغراق العبادة يومهم كاملًا،كشأن أصفياء الله تعالى وأوليائه، وقد خوطب محمد صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: ﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾ [غافر: 55]، وقوله عز وجل: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [الأعراف: 205]، وقوله سبحانه: ﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الإنسان: 25]، وخُوطِب زكريا بقوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾ [آل عمران: 41]، كما أن الجبال تعبُدُ الله وتسبِّحه بالغداة والعشي: ﴿ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ ﴾ [ص: 18]، والملائكة عند ربهم يسبِّحون: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ﴾ [الأعراف: 206]، والكون كله يعبُدُ ويدعو ويسبِّح: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 44].
ولا شك أن عبادةَ هذه الفئة المؤمنة المقصودة بالآية الكريمة ودعاءَها كان بإشراف مباشر للرسول صلى الله عليه وسلم؛ شحذًا لمشاعرهم، وإعدادًا لقدراتهم على القيام بدورهم في نُصرة الدِّين ونشره، وكانت دعوتهم جامعةً لمعاني العبادة كلها؛ توحيدًا لله تعالى، وثناءً عليه، وذِكرًا وتمجيدًا له عز وجل، وحفظًا لما نزل من القرآن الكريم، واستيعابًا لأحكامه، وتعلُّمًا لمختلِف العبادات والمعاملات، وقيامًا بها، كل ذلك منهم دعاء بالغَداة والعَشيِّ، وعبادة لله جامعة؛ لأن الله تعالى قد سمى العبادةَ دعاءً، وقال: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60]، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الدُّعاءَ هو العبادةُ))، ثم قرأ: ﴿ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60].
لقد كانت هذه الفئةُ المؤمنة كلها مِن فقراء مكةَ الذين سارعوا إلى الإيمان حالَ سماعهم ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونالهم مِن أذى المشركين أشدُّ البطش والتعذيب، فكانوا القدوة الحسنة في الصبر والثبات والبذل والجهاد طيلة حياتهم، لم يبدِّلوا ولم يغيِّروا ولم يَهِنوا، وكان على رأس هذه الفئة ستةٌ مِن كرام صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ هم سَلْمان الفارسي الذي كان يقول: (إن استطعتَ أن تأكل التراب ولا تكونَنَّ أميرًا على اثنين، فافعَلْ)، وبلال: الذي استأذن أبا بكر بعد وفاة النبيِّ صلى الله عليه وسلم في أن يترك المدينة ليجاهد في سبيل الله، فرجاه الخليفةُ أن يبقى معه، ثم أذِن له،وصهيب الذي صلى إمامًا بالناس بعد استشهاد عمر بن الخطاب إلى أن تم اختيار الخليفة الجديد، وعمار الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عمارًا مُلِئ إيمانًا إلى مُشَاشِه))[3]، والمِقداد: أول مَن أعدَّ فرسًا في سبيل الله، وأحد الفرسان الثلاثة في غزوة بدر[4]، وثالث مَن تكلم في مجلس الشورى يوم بدر بعد أبي بكر وعمر، وقال مقولته المشهورة: (يا رسول الله، امضِ لِما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [المائدة: 24]، بل نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلَا إنا معكما مقاتلون، والذي بعثك بالحق، لو سِرتَ بنا إلى بَرْكِ الغمادِ، لجالَدْنا معك من دونه حتى تبلغه، ولنقاتلن عن يمينك وعن يسارك وبين يديك، ومِن خلفك حتى يفتح الله لك)، وخبَّاب بن الأرتِّ: الذي بِيع في الجاهلية بمكة عبدًا، وكان سادس مَن أسلَم، وأول مَن أظهر إسلامه، فعُذِّب عذابًا شديدًا لأجل ذلك، وهو القائل: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّد بُردةً له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصرُ لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: ((قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل فيُحفَر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعَل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون]؛ (البخاري: 6943.
يتبع