عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 02-02-2020, 09:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,867
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الإفراط والتفريط

الفقرة الثالثة: وهي ذِكر بعض الوسائل الدعويَّة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وكما تكونُ الدعوة إلى الله في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالكلمة الطيِّبة والقول الحسن؛ لأنَّ مبنى الشريعة الإسلاميَّة، وتطبيق أحكامها في العقائد والعبادات والمعاملات أوامرُ من الله - عزَّ وجلَّ - ونَواهٍ كما سبق الحديث عن ذلك، كما نقولُ في التَّقوى أنها امتثالُ الأوامر واجتناب النَّواهي، فكما يكونُ ذلك بالكلمة الطيِّبة والقول الحسن فإنَّه يكونُ كذلك بوسائل أخرى من كتابةٍ وخطابةٍ وتوجيه وتنبيه، وهذا كلُّه من وَسائل الدعوة.

الكتابة في الصحف، الوعظ والإرشاد، تحقيق كتب السَّلَفِ التي تُبيِّن المنهجَ الصحيح والعقيدةَ السَّليمة، نشْر المقالات الحديثة في الوسائل التي يسَّرَها الله - عزَّ وجلَّ - لعباده؛ سواء في الإنترنت، أو في التليفزيون، أو كما سمعنا البارحة ونحن في هذه الدِّيار البعيدة عن الرياض كان المفتي يُحاضِرُ ونحن نسمَعُ كلامَه أوضح ممَّا تسمَعُون كلامي، فهذه الوسائلُ كلها يسَّرها الله - عزَّ وجلَّ - وينبغي للدعاة وللآمِرين بالمعروف والناهين عن المنكر أنْ يستعملوها وأنْ يستفيدوا منها في تبليغ الدعوة، وتوجيه الناس إلى ما ينفَعُهم في أمر دِينهم ودُنياهم، والكلام في الدعوة إلى الله سَواء كان عن طريق الخطابة، أو في المقالات المنشورة، أو في الكتاب المؤلَّف يحسُن أنْ يكون مُشتَمِلاً على الترغيب فيما عند الله من الجَزاء الحسن والثواب الجزيل، والترهيب من عِقابه لِمَن خالَف أوامِرَه وارتكب نواهيَه، وقد يكونُ ذلك بالفِعل الجميل؛ يعني: كما يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالكلمة الطيِّبة المسموعة، وبالكلمة المنشورة، وبالحديث الذي يُسمَع من إذاعةٍ أو من تلفازٍ، فإنه كذلك يكونُ بالسيرة الحسنة، وبالفعل الجميل، وبالسُّلوك الفاضل، والخُلُقِ الرفيع؛ قال الله - تعالى - لنبيه محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ï´؟ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ï´¾ [آل عمران: 159]، ولأتْباعه المُقتَدِين بهدْيه أسوة حسَنة في رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.

جَرِّبْ أيُّها المسلم في بيتك، وبين أُسرتك حين يرتَكِب أحدهم خطأ، جَرِّبْ معه الكلمة الطيِّبة، وجَرِّبْ معه العُنف وانظُر أيهما أحسن وأفضل، وكذلك مع الآخَرين.

أنت تحبُّ للمسلم ما تحبُّه لنفسك، وتحبُّ لنفسك ما تحبُّ لأخيك المؤمن، أو تحبُّ لأخيك ما تحبُّ لنفسك، فأنت تريدُ أنْ تُقدِّم له الخير، فإذا جِئتَه وقد ارتكب خَطأ، وأردت أنْ تُنبِّهه على ذلك الخطأ، وأنْ تدلَّه على الخير، فعليك أنْ تُقدِّم له ذلك الخيرَ بالكلمة الطيِّبة وبالقول الحسن، لا بالكلمة الفظَّة الغليظة؛ لأنَّه لا يقبَلُ منك، وقد يردُّ عليك بمثْل ما قلت له، ويجبُ على الداعي أنْ يتَّبِعَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في رفقه وحِلمه وشَفقته على المدعوِّ وإنْ أساءَ إلينا.

الاقتداء والاتِّباع العلمي من الآمِر بالمعروف والناهي عن المنكر لكلِّ ما جاء به إمامُ الدعوة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - قولاً وعملاً في امتِثال الأوامر، واجتناب النَّواهِي، والقيام بجميع فرائض الله، والوقوف عند حُدوده مع الخلق الحسن، والنيَّة الصالحة الخالصة، يكونُ الداعي بهذا الفعل ترجمة حيَّة لما يقولُ، وقدوة حسَنة للخَلْقِ أجمعين.

إنَّ القُدوة الحسَنة لها تأثيرُها البالغ في المدعوِّين، فإذا فُقِدت القدوة الصالحة الرشيدة من الداعية إلى الله، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، بحيث يقولُ ما لا يفعل، فيقول قولاً ويدعو إليه الناس وهو لا يفعله، ويدعو إلى صالح العمل وهو لا يعمَله، فقد خسر وضاع جهده، وعرَّض نفسه للذمِّ والتوبيخ المنصوص عليه في قوله - تبارك وتعالى -: ï´؟ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ï´¾ [البقرة: 44]، وقوله - عزَّ وجلَّ -: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ï´¾ [الصف: 2].

فكيف يكونُ المتصدِّي للأمر بالمعروف حين يأمُر غيره بالصدق والأمانة وحسن الجوار وهو لا يعمل من ذلك شيئًا، وحين ينهي عن الغش والكذب والغيبة والنميمة ثم هو يمارسها؟! إنَّه يكون بعمله هذا مخالفًا لما ينبغي أنْ يعمله، وداخلاً تحت الآيتين الكريمتين وهو بعمله هذا ممَّن يَنهَى عن الأخلاق الذميمة ثم يأتيها، والشاعر يقول:
لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ
عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ



بل يخشى عليه من الرِّياء والعُجب، وابتِغاء الشُّهرة، وهي مقاصدُ دَنِيئة ينبغي للمسلم - ولا سيَّما الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر - الابتعادُ عنها؛ لأنَّها مقاصدُ تُنبِئ عن مرَض القلب وعدم الإيمان بالله الذي بيده الموت والحياة، والثواب والعقاب، والمرجع والمآب إليه، ومجازاة كلٍّ بعمله، فالله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

الفقرة الرابعة: وسَطيَّة هذه الأمَّة بين الأمم في جميع أُمورها، ووسطيَّة أهل السُّنَّة والجماعة من سَلَف هذه الأمَّة في الفِرَق الإسلاميَّة في الإفراط والتفريط؛ فالإفراط هو الغلوُّ، والتفريط هو التقصيرُ، وهو الجزء الثاني من عنوان المحاضرة.

أيُّها الإخوة الكرام، قال - تعالى -: ï´؟ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ï´¾ [البقرة: 143]، وهو خِطابٌ لهذه الأمَّة، فقد فُسِّرتْ هذه الآية الكريمة بالعَدالة والخيريَّة والتوسُّط بين الإفراط والتفريط؛ فعن أبي سعيدٍ - رضِي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قوله - تعالى -: ï´؟ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ï´¾ [البقرة: 143] قال: ((عُدولاً)).

ويقول الإمام ابن جرير - رحمه الله تعالى - في تفسير الآية: وأرى أنَّ الله - تعالى ذِكرُه - إنما وصفهم بأنهم وسطٌ لتوسُّطهم في الدِّين؛ فلا هم أهل غلوٍّ فيه غلوَّ النصارى الذين غلَوْا في الترهُّب وقولهم في عيسى ما قالوا فيه؛ لأنهم قالوا: إنَّه ابن الله، وجعلوه إلهًا وثالث ثلاثة، ولا هم أهل تقصيرٍ فيه تقصيرَ اليهود الذين بدَّلوا كتابَ الله، وقتلوا أنبياءَهم، وكذَبوا على ربهم وكفروا به، ولكنَّهم أهل توسُّط واعتدال فيه فوصفَهُم الله بذلك؛ إذ كان أحبُّ الأمور إلى الله أوسطها، وهذا كلام ابن جرير.

ثم قال: وأمَّا التأويل ومعناه في اصطلاح ابن جرير هو التفسير، وعندما نجدُ في تفسيره قوله: أمَّا تأويل كذا فليس هو التأويل المعروف عند المتأخِّرين، وهو صرف اللفظ عن ظاهره، وإنما المقصود به التفسير، يقول: وأمَّا التأويل للآية نفسها؛ أي: تفسيرها فإنه جاء بأنَّ الوسط الخيار، هذا كلام ابن جرير - رحمه الله.

وأمَّا الإفراط: فهو لغةً: التقدُّم في مجاوزة الحدِّ في الأمر، جاء في معجم "مقاييس اللغة": يُقال: أفرط، إذا تجاوَز الحدَّ في الأمر، وفي "لسان العرب": الإفراط الإعجال والتقدُّم، والإفراط في الأمر: الإسراف، والإفراط: الزيادة على ما أُمِرت.

والتفريط لغةً: التقصير وإزالة الشيء عن مكانه، قال ابن فارس: وكذلك التفريط، وهو التقصير؛ لأنَّه قصَّر فيه، وقعَد به عن رُتبته التي هي له، وفرَّط في الشيء: ضيَّعه.

فالإفراط مثل الغلوِّ، فالغلوُّ لغةً: مجاوزة الحدِّ، غلا بالأمر يغلو غلوًّا؛ أي: جاوَز الحدَّ، وهو كذلك في الشرع.

قال - تعالى -: ï´؟ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ ï´¾ [النساء: 171]، وقال: ï´؟ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ï´¾ [المائدة: 77]؛ ومعناه: لا تتجاوَزُوا الحدَّ في اتِّباع الحق، ولا تطروا مَن أُمِرتُم بتَعظِيمه فتُبالِغوا فيه حتى تخرُجوا عن حيِّز النبوَّة إلى مَقام الألوهيَّة كما صنعتم في المسيح وهو نبيٌّ من الأنبياء فجعلتموه إلهًا من دون الله!

وفي السُّنَّة من حديث ابن عباس - رضِي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - غَداة العقبة وهو على ناقته: ((القُط لي حَصًى))، فلقطت له سبع حَصيات هُنَّ حصى الحذف، فجعل ينفضهنَّ في كفِّه، ويقول: ((أمثال هؤلاء فارموا)) ثم قال: ((يا أيها الناس، إياكم والغلوَّ في الدِّين؛ فإنَّه أهلك مَن كان قبلكم الغلوُّ في الدِّين)).

ومن هذه النصوص يتَّضح لنا أنَّ الإفراط وهو الغلو مجاوزة الحدِّ في المأمور به، وأنَّ التفريط هو التقصير وضَياع المأمور به، وأنَّ العدل هو الوسط بين ذلك، فلا إفراط ولا تفريط.

وإذا كان منهج سَلَفِ الأمَّة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسطًا، فلا إفراطَ ولا تفريط كما أنَّ منهجهم في جميع أمور الدِّين في العقائد والعبادات وسط، لا إفراط ولا تفريط خِلافًا للفرق الإسلاميَّة البعيدة في مَنهجها وسُلوكها عن منهج أهل السُّنَّة، القريبة منه والبعيدة؛ لأنَّ الفِرَقَ المخالفة لأهل السُّنَّة والجماعة الذين هم الطائفة المنصورة منها البعيدة البعدَ الكثير، ومنها القريب؛ ولذا فإنَّنا في المقارنة سنقتصرُ على موضوعنا - وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن سلف هذه الأمَّة، ومَن خالَفهم في هذا الباب – على منهج فرقتين من الفرق التي تصدَّت في زَعْمِها للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل جعلَتْه إحداهما أصلاً من أصولها الخمسة التي ابتدعَتْها في دِين الله مُضاهيةً بها أركان الإسلام الخمسة.

ونبدأ في المقارنة بمنهج أهل السُّنَّة والجماعة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمخالفين لها؛ لأنَّ المقارنة في جميع الأمور كبيرة، ولا يتَّسِع لها المجال.

إنَّ أهل السُّنَّة والجماعة من سَلَفِ هذه الأمَّة لم يجعَلُوا لأنفُسهم أصولاً يرجعون إليها ويَأخُذون منها عَقائدهم وأخلاقهم ومَناهجهم غير الكتاب والسُّنَّة، مُستمدِّين ذلك من فهْم السلف الصالح لنُصوص الكتاب والسُّنَّة؛ فقُدوتهم ومَنهجهم مَنهج نبيِّهم الذي وصَفَه الله - عزَّ وجلَّ - بأنَّه على خُلُقٍ عظيم، فقد كان خُلُقُه القرآن كما قالت عائشة - رضي الله عنها - وقد وصَفَه ربُّه بالرأفة والرحمة والحِرص على ما ينفَعُ أمَّته ويُصلِح أحوالهم ومَآلهم في الدُّنيا والآخرة؛ قال - تعالى - في وصْفه: ï´؟ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ï´¾ [التوبة: 128]، وأمره بالدعوة والتوجيه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالأسلوب الحسن والخلق الرفيع؛ فقال له - وهو أيضًا أمرٌ لأمَّته -: ï´؟ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ï´¾ [النحل: 125].

وقد قام - صلَّى الله عليه وسلَّم - بتطبيق ذلك المنهج خيرَ قيامٍ من حين بعَثَه الله - عزَّ وجلَّ - رسولاً للناس كافَّة وأمَرَه بالتبليغ بقوله: ï´؟ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ï´¾ [المدثر: 1- 2] إلى أنْ توفَّاه الله - عزَّ وجلَّ - وهو يقول في وصيَّته: ((اللهَ اللهَ، الصلاةَ الصلاةَ، وما ملكت أيمانكم))، آخِذًا لكلِّ مَقامٍ ما يُناسِبه، فقد يكونُ المقام بالكلمة، وقد يكون المقام بالجِهاد في سبيل الله - عزَّ وجلَّ - لإعلاء كلمة الله - عزَّ وجلَّ - وهذا الذي قام به رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه من بعده، وقد بدَأ بإنْذار أهله وعَشيرته ممتثلاً لأمر ربه: ï´؟ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ï´¾ [الشعراء: 214]، فقد دعا قومَه وعشيرتَه فعَمَّ وخَصَّ، وذلك بأسلوب الشَّفَقَةِ والرحمة قائلاً لهم جميعًا بِمَن فيهم أقرب الناس إليه: ((أنقِذُوا أنفُسَكم من النار، لا أُغنِي عنكم من الله شيئًا)).

وإذا رجعنا لسِيرته العَطِرة وسِيرته العمليَّة نجد فيها الأمثلة الواضحة التي تُبيِّن ذلك الأسلوب الحسَن الذي فيه الرِّفق واللين والرحمة حين يُنكِر المنكر فيجعل مرتكبَ ذلك المنكر يأخُذ الأمر الموجَّه إليه بكلِّ راحةٍ وفرح وسرور.

نذكُر أمثلة:
جاء في "صحيح البخاري" أنَّ أعرابيًّا جاء ودخَل المسجد، فبالَ فيه، وهذا أمرٌ منكر؛ ولهذا شدَّ الصحابة جميعًا النكيرَ عليه لأنَّه ارتكب منكرًا، فماذا قال لهم - صلَّى الله عليه وسلَّم؟

قال: ((دَعُوه، لا تُزرِموه، دَعُوه)) فبعد أنْ قضى بوله أُزِيلَ هذا المنكر بأمرٍ يسير هيِّن سهل، قال: ((ائتوني بذَنُوبٍ من ماءٍ))، فأخَذوا الذَّنوب وصبوه على النَّجاسة، فطهرت، ثم قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لذلك الرجل: ((يا أخي، هذه الأماكن لا تصلح لهذا))؛ يعني: هذا المكان الذي أنت فيه وهو مسجدٌ للصلاة ما يصلح للبول، البول والقاذورات محلُّها هناك.

ماذا قال ذلك الرجل؟
قال: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحَمْ معنا أحدًا، هذا الأسلوب الحسَن الذي دُعِيَ به ذلك الرجل جعَلَه يشعر هذا الشعور، ويتقبَّل هذا الأمر، ويدعو هذا الدعاء الذي تجاوَز فيه الحدَّ؛ لأنه لا يجوز الاعتداءُ في الدعاء، فالرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال له: ((لقد حجَّرت واسعًا))؛ يعني: رحمةُ الله تسَعُني وتسَعُك وتسَعُ الناس جميعًا، فالشاهد في هذا أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما قال للصحابة أنَّ الشيء الذي تُنكِرونه ليس بمنكرٍ، ولكن بيَّن لهم أنَّ تغييرهم له بهذا الأسلوب غير مناسب.

قصة أخرى:
جماعةٌ جاؤوا إلى إحدى زوجات رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وسألوها عن عبادته، فأخبرتهم، فكأنهم تقالُّوها، وقالوا: هذه العبادة قليلة، والرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، فكيف بنا نحن! فكلُّ واحد أراد أنْ يلزم نفسه بشيءٍ من العبادة والتبتُّل، فعزَم أحدُهم على الصوم الدهرَ، والآخَر على قِيام الليل، والثالث على عدَم الزواج والانقِطاع للعبادة.

ولَمَّا بلَغ ذلك الخبرُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قام في جمْع الناس، فقال: ((ما بالُ أقوامٍ يقولون كذا وكذا)) ثم ذكَر القصَّة وقال: ((إنِّي أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوَّج النساء، فمَن رغب عن سنَّتي فليس منِّي)).

الذين قالوا هذا القول يسمَعون ويعرفون أنفُسَهم أنهم هم الذين قالوا ذلك، ثم نفس الكلام هذا ينفَعُ الآخَرين الذين يسمعون، ثم جاء في روايةٍ أخرى لنفس القصة أنَّه قال لهم: ((أنتُم الذين قلتُم كذا وكذا))، وقد بيَّن العلماء أنَّ هذا القول قاله فيما بينه وبينهم؛ ولهذا يُروَى عن الشافعيِّ وغيره أنَّ التشهير بالشخص بالمنكر ليس بنصيحةٍ، وإنما هو فضيحة؛ فالإنسان إذا وجَد شخصًا ارتكب منكرًا ونصَحَه فيما بينه وبينه تكون النصيحة مقبولةً، ولكن إذا شهر به على رُؤوس الأشهاد فإنَّه لا يقبل منه مثْل هذا، فينبغي للمسلم ولا سيَّما الداعية الآمِر بالمعروف والناهي عن المنكر، أنْ يتبع ذلك المنهج السليم الذي بَيَّنَه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولهذا نجدُ أنَّ عُلَماء السلف اعتنوا بهذا الجانب فألَّفُوا الكتب التي أشَرْنا إلى بعضها، ومنها كتاب شيخ الإسلام ابن تيميَّة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وقد بيَّن فيه المناهجَ والأساليب الجيِّدة التي يستفيدُ منها الداعية؛ حيث قال: الأمر بالمعروف بمعروفٍ والنهي عن المنكر بغير منكرٍ، فإذا نصَحت الإنسان بينك وبينه فهذا معروفٌ قدَّمت له ذلك المعروف بهذا الأسلوب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبغي أنْ يكون بغير مُنكرٍ، وإذا مدَدْت يدَك لتُغيِّر المنكر، فقد يمدُّ مَن تمدُّ يدك عليه يدَه إليك أيضًا، ويترتَّب على ذلك منكرٌ أكبر من الشيء الذي تريدُ أنْ تُغيِّره، فلا بُدَّ أن يكون الأمر بالمعروف بمعروفٍ، وأنْ يكون النهي عن المنكر بغير منكر.

وأمَّا المخالفون لمنهج السَّلَفِ لأهل السُّنَّة والجماعة في هذا المنهج للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأوَّلهم الخوارج، وهم أوَّل فِرقةٍ أظهرت الخلاف، وفرَّقت جماعة المسلمين، وهم الذين خرجوا على عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وهم الذين خرَجوا على علي بن أبي طالب - رضِي الله عنه - بعد مَعركة صفين، ودليلُ ذلك أنهم قالوا لعليِّ بن أبي طالب؛ يعني: دليل أنهم خرجوا على عثمان قولهم لعلي بن أبي طالب: إنْ لم تعد الأشتر وهو قائد الجيش صنَعْنا بك ما صنعنا بعثمان، يعني هدَّدوه بهذا التهديد إنْ لم يعد الأشتر.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.35 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 28.72 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.14%)]