مفسدات الصيام المعاصرة التي تعم بها البلوى
د.نايف بن جمعان الجريدان
الخلاصة والترجيح:
منَ العرض الطِّبي السابق، وكذا ما ذكرته منَ الخلاف في الحجامة وغسيل الكلى، وما صحب ذلك من عرض لأدلة كل فريق ممن قال بفساد الصوم بهما (الحجامة، وغسل الكلى)، وممن قال بِعَدم الفساد في ذلك، فإني أُعيد القول في ذلك كله إلى طريقتي الغسيل الكلوي التي ذكرتهما بداية، وبِتَطبيق هاتينِ الطَّريقتينِ على مريض الفشل الكلوي المُزْمن، والمحتاج إلى العلاج بِعَملية الغسيل الكلوي؛ فإنه سيكون أمامه أن يعمل ما يلي:
أولاً: المريض القائم بِغَسيل الكُلى بِطَريقة الغسيل الدموي (الديلزة الدموية):
سيكون في يوم الغسيل مُفطرًا، وسيكون عليه قضاء بعد ذلك إن قدر عليه بعد شهر رمضان، في الأيام التي لا يقوم فيها بالغسيل، وهذه العمليَّة - كما ذكرت سابقًا - تستغرق من 3 إلى 4 ساعات ثلاثة أيام أسبوعيًّا.
وهذا المريض في هذه الحالة، الذي أراه أنه يمكنه الأخذ بِقَول مَن رأى بِعَدم فساد الصوم بذلك، وإن كنتُ أنصح هؤلاء المرضى الذين يستخدمون هذه الطريقة بالقيام بِعَملية الغسيل ليلاً، خاصَّة وأنِّي سألتُ أحد الأطباء ممن أثق به أنه يمكن للمريض برمجة وقته ليكون الغسيل ليلاً، فالمهم أن تكون ثلاث مرات، إلاَّ أن بعض المرضى قد تزداد لديهم الحالة فيحتاجون إلى الغسيل في أيِّ لحظةٍ من ليل أو نهار، وحينئذٍ جازَ له فعل ذلك ولو كان صائمًا.
ثانيًا: المريض القائم بِغَسيل الكُلى بِطَريقة الغسيل البريتوني (الديلزة الصفاقية):
فهذا كما لاحَظْنا منَ العرض الطبي لا يقدر على الصيام نهائيًّا؛ لأن هذا النوع من الغسيل -كما ذكرنا سابقًا - يجب أن يستمر يوميًّا من 7 إلى 9 ساعات، ولا يمكن أن يتوقَّف عنه، ولو ليوم واحد، فهذا - والعلم عند الله - يسقط عنه الصيام؛ لأنه في حكم المريض، ومرضه هذا قد يكون منَ النوع الذي لا يُرجى بُرْؤُه، فقد شاهدنا مرضى نعرفهم مصابين بهذا المرض كانت نهايتهم الوفاة - والله المستعان - لذا فالذي يظهر - والله أعلم - أنَّ له الفطر، ومما يدل على ذلك قوله - تعالى -: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}49.
وهذا المريض عليه أن يسألَ طَبيبَه المختص عن حالته؛ فإن كانت هناكَ طريقة يمكنه عملها ويشفى بإذن الله؛ فهذا يفطر، على أمل الشفاء والقضاء، أما أذا لم يكن لِمَرضه حلٌّ طبيٌّ، وأن النهاية ستكون الوفاة، فله أن يُفطر ويُطعم عن كل يوم مسكينًا؛ كما في قوله - تعالى -: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}50، وقد رأينا منَ الشريعة السمحة مراعاتها أمر التَّيسير، ورَفْع الحَرَج؛ كما في قوله - تعالى -: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}51، وقوله - تعالى -: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}52، إلى غير ذلك منَ الأدلة الشَّرعيَّة الدَّالَّة على هذا المقصد العظيم53.
المسألة الثانية
بخَّاخ الربو، وأثر استعماله على الصيام
بداية أذكر تعريفًا لِمَرض الربو:
مرض الرَّبْوِ هو: التهاب مُزمن يصيب القَصَبات الهوائيَّة، مما يُؤدي إلى ضيقها عند تعرض المريض للمواد الحساسة، مما يؤدِّي إلى صعوبة دخول وخروج الهواء أثناء التَّنَفُّس، وهذا ما يعرف بالنوبة القلبية54.
وأنواع الأدوية المستخدمَة في علاج الربو كثيرة، وما يهمنا هنا هي تلك الأدوية، التي يستخدمها المريض عنْ طريق الاستنشاق بالفم، كبخاخ الربو خاصَّة.
تعريف بخاخ الربو وطريقة استعماله:
وهو عبارة عن علبة فيها دواء سائل، وهذا الدواء يحتوي على ثلاثة عناصر: الماء، والأكسجين، وبعض المستحضرات الطِّبية، ويتم استعماله بأخذ شهيق عميق مع الضغط على البخَّاخ في نفس الوقت، وبعد استنشاقه يترسب جزء منه في الفم والبلعوم، ويصل إلى المعدة والأمعاء الدقيقة بعد البلع، إلاَّ أنَّ معظم الدَّواء يذهب إلى القصبات، والقصيبات الهوائيَّة.
وحجم المادة الدوائية التي تصل إلى الجوف (المعدة) ضئيل جدًّا؛ بل قد لا يذكر من أجزاء المليلتر، وغالب حديثي هنا يرتكز على الأدوية التي تستخدم كموسعات للشُّعَب الهوائية، والتي هي عبارة عن أدوية وقتية، ويستمر مفعولها من 4 - 6 ساعات، وتعمل هذه الأدوية على ارتخاء عضلات الشُّعَب الهوائيَّة، ومنع إفراز المواد الكيميائيَّة المُسَببة لتَقَلُّص العضلات مدة مفعولها، وهي ما تُعَرف بالفينتولين (Ventolin)، ويستخدم في علاج ذلك (البخاخ المضغوط)، وهذه علبة يكون الدواء فيها على شكل سائل مضغوط مع الهواء في أنابيب؛ أي: يَتَكَوَّن من ثلاث عناصر - كما ذكرت: الماء، والأكسجين، وبعض المستحضرات الطبية -.
وتستعمل هذه البخاخات بِطَريقتينِ:
الطريقة الأولى: تكون مباشرة: وهي الشهيرة والمنتشرة والتي تعم بها البلوى، وذلك بأن توضع فتحة البخاخ في الفم وتغلق الشفتان، ثم يضغط على جهاز البخاخ؛ لإخراج الدواء ليستنشقه المريض بفمه، فينتشر في الرئة داخل القصبات الهوائية.
الطريقة الثانية: وهي استعمال الأقماع الهوائية التي تغطي الفم والأنف معًا، وهي ليست مدار بحثنا55.
وهل بخاخ الربو يُفطِّر أو لا؟ اختلف في ذلك العلماء المعاصرون على قولَيْنِ:
القول الأول:
أنَّ استخدام بخاخ الربو في نهار رمضان لا يفطر الصائم باستعماله، ولا يفسد الصوم56، ومما استند عليه أصحاب هذا القول ما يلي:
1 - أنَّ الصائم له أن يَتَمَضمَضَ ويستنشقَ، وإذا تَمَضْمَضَ سيبقى شيء مِن أَثَر الماء، مع بلع الريق سيدخل المعدة، والداخل من بخاخ الربو إلى المريء ثم إلى المعدة هذا قليل جدًّا، فيُقاس على الماء المتبقي بعد المضمضة، ووجه ذلك أنَّ العبوة الصغيرة تشتمل على 10 مليلتر منَ الدواء السائل، وهذه الكمية وُضعت لمائتي بخة، فالبخة الواحدة تستغرق نصف عُشر المليلتر، وهذا يسير جدًّا57.
2 - وأيضًا: أنَّ دخول شيء إلى المعدة من بخاخ الربو ليس أمرًا قطعيًّا؛ بل مشكوك فيه، والأصل بقاء الصوم وصحته، واليقين لا يزول بالشك58.
3 - أن هذا لا يشبه الأكل ولا الشُّرب، ولا ما في حكمها59.
4 - أن الأطباء ذكروا أن السواك يحتوي على ثمان مواد كيميائية، وهو جائز للصائم مطلقاًَ - على الراجح - ولا شك أنه سينزل شيء من هذا السواك إلى المعدة، فنزول السائل الدوائي كنزول أثر السواك(60).
القول الثاني:
أنه لا يجوز للصائم أن يستعمل بخاخ الربو، وإن احتاج إلى ذلك فإنه يتناوله ويعتبر مفطرًا، وعليه قضاء صيام اليوم الذي استعمله فيه61، وحجتهم في ذلك ما يلي:
1- أنَّ جزءًا من بخاخ الربو الدوائية، تشتمل على الماء، فهو يصل إلى الجوف (المعدة)، فيكون مفطرًا للصائم بذلك.
2- ولأنه دواء يستنشقه الصائم عن طريق فمه فيفطر به62.
وقد يناقش هذا: بأنَّه إذا سُلِّم بِنُزوله، فإنَّ النازل شيء قليل جدًّا يُلْحَق بما ذكرنا من أثر المضمضة، و يجاب عنه كذلك بالدليل الأول لأصحاب القول الأول63.
الخلاصة والترجيح:
والذي يظهر - والله أعلم - أن استعمال الصائم بخاخ الربو لا يُفطر، ولا يفسد صومه بذلك، خاصة أن المادة العلاجية فيها مُوجهة إلى مجرى النفس، وهو الحويصلات والقصبات الهوائية، وليس إلى مجرى الطعام (المعدة)، وما يصل منها إلى الجوف (المعدة) ضئيل وقليل جدًّا، بل ولا يُقصد إيصالها إليها، وليس موجه إليها، وهو يسير غير مقصود، وما كان كذلك فإنه لا يُفطر، لا سيما مع عموم البلوى بهذا الدواء، فكثير من الناس يشتكون من هذا المرض العصري، إضافةً إلى أنه يشق على الصائم تأخير استعماله إلى الليل، إذا ما أصابته أزمة تنفسية شديدة نهار رمضان، فلا سبيل للتخلص والخروج منها إلاَّ بِتناول ذلك واستعماله.
وممكن أن يُقاس استعمال بخاخ الربو، على عدد منَ النظائر التي نَصَّ عليها الفقهاء المتقدمين والمعاصرين على أنها لا تُفطر؛ ومن ذلك ما يلي64:
1- البَلَل اليسير الذي يبقى في جدار الفم بعد المضمضة، فإنه يختلط بالرِّيق، وينزل إلى الجوف ولا يفطر به الصائم؛ لأنه يسير غير مقصود، قال في "الدُّر المختار": "إذا بقي في فِيهِ بَلَل بعد المضمضة لم يفطر؛ لأنه واصل بِغَير قصد"65، وقال في "كشاف القناع": "إذا بلغ ما بقي من أجزاء الماء بعد المضمضة لم يفطر؛ لأنه واصل بغير قصد"66، ومنَ المعلوم أن ما يصل إلى الجوف من هذا البلل أكثر بكثير مما يصل إلى الجوف عند استعمال بخاخ الربو.
2- الأثر المنفصل عنِ السواك الرطب عند استعمال الصائم له، لا يفطر به الصائم، ولو وصل إلى جوفه؛ لكونه يسيرًا غير مقصود.
3- قطرة الأنف - وسيأتي الكلام عنها إن شاء الله - فقد جاء في مجلة مجمع الفقه الإسلامي في عددها العاشر67 بأنها لا تفطر.
المسألة الثالثة
استعمال الصَّائم قطرة الأنف
الأنف منفذ إلى الحلق كما هو معلوم بدلالة السُّنَّة، والواقع، والطِّب الحديث، فمنَ السُّنَّة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وبالِغ في الاستنشاق إلاَّ أن تكون صائمًا"68، فدل هذا الحديث على أنَّ الأنف منفذ إلى الحلق، ثم المعدة، والطب الحديث أثبت ذلك، فإن التشريح لم يدع مجالاً للشَّك باتصال الأنف بالحلق69.
واختلف العلماء المُعاصِرون في تفطيرها للصائم، إذا استعملها حال صيامه على قولينِ:
القول الأول:
أنَّ القطرة في الأنف تفطر70، وهؤلاء يشترطون وصولها إلى الجوف (المعدة)، واستدلوا بما يلي: بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وبالِغ في الاستنشاق إلاَّ أن تكونَ صائمًا"71.
وجه الدَّلالة منه:
1 - فيه دليل على أنَّ الأنف منفذ إلى المعدة، وإذا كان كذلك فاستخدام هذه القطرة نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم.
2 - وأيضًا: نَهْي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنِ المبالغة في الاستنشاق، يتضمن النهي عنْ إدخال أي شيء عن طريق الأنف، ولو كان يسيرًا؛ لأن الدَّاخل عن طريقِ المُبَالَغة شيء يَسير.
القول الثاني:
أنَّ القطرة في الأنف لا تفطر، وليس لها أثرٌ في الصوم72، ومما عللوا به لهذا القول ما يلي:
3 - أن ما يصل إلى المعدة من هذه القطرة قليل جدًّا، فإنَّ الملعقة الواحدة الصغيرة تتسع إلى 3 - 5 سم، من السَّوائل، وكل 3 سم يمثل خمس عشرة قطرة، فالقطرة الواحدة تمثل جزءًا من خمسة وسبعين جزءًا مما يوجد في الملعقة الصغيرة، وبعبارة أخرى حجم القطرة الواحدة (0.06) من 3سم73، وهذا القليل الواصل أقل مما يصل منَ المتبقي منَ المضمضة، فيعفى عنه قياسًا على المتبقي منَ المضمضة.
4 - أنَّ الدواء الذي في هذه القطرة مع كونه قليلاً فهو لا يُغَذي، وعلة التفطير هي التقوية والتغذية، وقطرة الأنف ليست أكلاً ولا شربًا - كما سبق تقريره- والله - تعالى - إنما علق الفطر بالأكل والشُّرب.
الخلاصة والترجيح:
لقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعليم الوضوء: "وبالِغ في الاستنشاق، إلاَّ أن تكون صائمًا"، وما أفهمه مِن هذا الحديث تَنْزيلاً على مسألتنا أمران:
1- أنَّ القطرة الخفيفة التي لا تصل إلى الحلق لا تبطل الصوم؛ لأنَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يَنْه الصائم عنِ الاستنشاق مطلقًا، وإنما أمره بِعَدم المُبَالغة فيه.
2- وأمَّا القطرات الكثيرة التي تصل إلى الحلق فإنها تفسد الصَّوم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى الصائم عنِ المبالغة في الاستنشاق، والمُبَالغة من شأنها أن توصل الماء إلى الحلق، ويتبع ذلك الابتلاع فساد الصوم.
المسألة الرابعة
استعمال الصائم قطرة العين
اختلف الفُقَهاء فيما يوضع في العين كالكحل ونحوه، هل يفطر أو لا؟ وخلافهم هذا مَبْنِيّ على أمر آخر، وهو: هل تُعْتبر العين منفذًا كالفم، وحاصل ذلك ما يلي:
فذهب الأحناف74، والشافعية75، إلى أنه لا منفذ بين العين والجوف، أو الدماغ، وبناءً على ذلك، فهم لا يرون أن ما يوضع في العين مفطرًا، وذهب المالكيَّة76، والحَنَابِلة77، إلى أنَّ العين منفذ إلى الحلق كالفم، والأنف فإن اكتحل الصائم ووجد طعمه في حلقه، فقد أفطر.
وقد بَحَث شيخ الإسلام خلاف الفقهاء في الكحل، ومما قاله: "وأما الكحل، فهذا مما تنازع فيه أهل العلم، والأظهر أنه لا يُفْطر، فإن الصِّيام من دين المسلمين، الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حَرَّمَها الله ورسوله في الصيام، ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - بيانه، ولو ذكر ذلك لَعَلَّمَه الصحابة، وبَلَّغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه، فلمَّا لم ينقل أحدٌ من أهل العلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك لا حديثًا صحيحًا، ولا ضعيفًا، ولا مسندًا، ولا مرسلاً، عُلم أنه لم يذكر شيئًا من ذلك، والحديث المروي في الكحل ضعيف78.
وإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى، لا بدَّ أن يبيّنها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيانًا عامًّا، ولا بدَّ أن تنقل الأمة ذلك، فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى، كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب، فلو كان هذا مما يفطر لَبَيَّنَه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما بين الإفطار بِغَيْره، فلما لم يُبَيِّن ذلك، عُلم أنه من جنس الطيب، والبخور، والدهن، والبخور، قد يتصاعد إلى الأنف، ويدخل في الدماغ، والدهن يشربه البدن، ويدخل إلى داخله، ويَتَقَوَّى به الإنسان، وكذلك يَتَقَوَّى بالطيب قوة جيدة، فلما لم يَنْهَ الصائم عن ذلك، دل على جواز تطييبه، وتبخيره، وإدهانه، وكذلك اكتحاله"79.
والطب الحديث أثبت أن هناك قناة تصل بين العين والأنف، ثم البلعوم80؛ لذا اختلف العلماء المُعَاصِرونَ في قطرة العين، وهل يفطر الصائم بهذا التقطير أو لا؟ على قولَيْن:
القول الأول:
أنَّ قطرة العين ليست مفطرة81، ومما اسْتَدَلُّوا به ما يلي:
1 - أنَّ جوف العين لا تَتَّسع لأكثر من قطرة واحدة، والقَطْرة الواحدة حجمُها قليلٌ جدًّا، فإن الملعقة الواحدة الصغيرة تَتَّسع من 5 سم إلى 3 سم منَ السوائل، وكل 3 سم يمثل خمسَ عشرةَ قطرةً، فالقطرة الواحدة تُمَثِّل جزءًا من خمسة وسبعين جزءًا مما يوجد في الملعقة الصغيرة، فقطرة العين الواحدة = 0.06 منَ السنتيمتر المكعب، وهذا المقدار لن يصل إلى المعدة، فإن هذه القطرة أثناء مرورها بالقناة الدمعية فإنها تُمتص جميعًا، ولا تَصِل إلى البلعوم، فإذا قلنا: إنه سيصل إلى المَعِدة شيء، فهو يسير، والشَّيء اليَسِير يُعفَى عنه، كما يُعْفَى عنِ الماء المُتَبَقِّي بعد المضمضة82.
2 - أنَّ هذه القطرة أثناء مُرُورها في القناة الدمعية تُمْتَصُّ جميعها، ولا تصل إلى البلعوم، أما الطَّعم الذي يشعر به في الفم، فليس كذلك - أي: لا تُمتص - لأنَّها تصل إلى البلعوم؛ بل لأنَّ آلة التَّذَوُّق الوحيدة هي اللِّسان، فعندما تمتص هذه القطرة تذهب إلى مناطق التَّذَوُّق في اللسان، فتصبح طعْمًا يشعر بها المريض، هكذا قَرَّرَ بعض الأطباء83، وإذا ثبت هذا فهو حاسم في المسألة.
3 - أنَّ القطرة في العين لا تفطر؛ لأنها ليستْ منصوصًا عليها، ولا بِمَعنى المنصوص عليه، والعين ليستْ منفذًا للأَكْل والشُّرب، ولو لَطَّخ الإنسان قدميه، ووجد طعمه في حلقه لم يفطره؛ لأن ذلك ليس منفذًا، فكذلك إذا قطَّر في عينه84.
القول الثاني:
أنَّ استعمال الصَّائم لِقَطرة العين تُسَبِّب فساد صومه85، وهم يَقِيسون في ذلك على الكحل إذا وصل إلى الحلق86.
الخلاصة والترجيح:
الذي يظهر - والله أعلم - أنَّ استعمال قطرة العين لا يُفطر، وأمَّا قياس ذلك على الكحل فهو محل نظر؛ لأنَّ إفطار الصائم بالكحل محل خلاف؛ كما تَبَيَّنَ لنا من كلام ابن تيميَّة السابق، وإذا كان في المسألة خلاف، فلا يصح القياس عليه87.
المسألة الخامسة
الحقن والإِبَر العِلاجيَّة (الجلديَّة، العَضَليَّة، الوريديَّة)
وَيُمْكن تقسيم هذه الحقن إلى قِسْمَيْن88:
القسم الأول: الحقنة العلاجيَّة الجلديَّة، أوِ العضليَّة، أوِ الوَرِيديَّة غير المغذية:
وهذه الحقن إذا كانت كذلك - أي: لا تُغَذِّي الجسم عند حقنها للصائم - فهي لا تُفطر بناءً على ما سبق، وقَرَّرْته مِن:
1- أنَّ المَعِدة هي مكان التغذية، فإذا لم يصلها مُغَذٍّ، فلا يُعد الصائم مفطرًا.
2- وأن الأصل صحَّة الصوم، حتى يقوم دليل على فساده، وهذه الإبرة ليست أكلاً، ولا شربًا، ولا بمعنى الأكل والشُّرب، وعلى هذا؛ فَيَنْتَفِي عنها أن تكونَ في حكم الأكل والشرب89.
يتبع