عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 29-01-2020, 01:47 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,517
الدولة : Egypt
افتراضي منهجية إثبات الأهلة في ظل المتغيرات المعاصرة

منهجية إثبات الأهلة في ظل المتغيرات المعاصرة (1)؛
أ.د. محمد جبر الألفي



الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد أردت أن أكتب بحثاً يجمع بين الفقه والفلك، لبيان منهجية إثبات الأهلة في ظل المتغيرات المعاصرة، يمكن الاستهداء به – وبغيره – في اتخاذ قرار طالما انتظره المسلمون المقيمون خارج بلاد الإسلام، ليقيموا على هديه شعائر دينهم الحنيف، وبخاصة صوم شهر رمضان واستقبال عيد الفطر. فلاقت هذه الدعوة قبولاً، وانشرح صدري لبحث هذا الموضوع الذي كثر فيه الخلاف، وتشعبت بصدده الآراء، ويتكرر ذلك مع اقتراب شهر رمضان في كل عام.
واختلاف الآراء لا يفسد ما بين المسلمين من ود ومحبة واتحاد، ولا يعكر عليهم صفو عباداتهم، طالما نتج عن اجتهاد صحيح قد استجمع شروطه وضوابطه، وبني على أدلة منقولة ومعقولة، ففي البخاري ومسلم: قال رسول الله r يوم الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"[1]، فأدركهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي ؛ لم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي r، فلم يعنف واحداً منهم.
والخطة المنهجية لدراسة هذا الموضوع تتضمن أربعة مباحث:
المبحث الأول: اختلاف المطالع.
المبحث الثاني: رؤية الهلال.
المبحث الثالث: اعتماد الحساب في إثبات الأهلة.
المبحث الرابع: قرارات المجامع الفقهية.

والله أسال أن يعين على إتمامه، وأن يجنبني الزلل، وأن ينفع به، إنه سميع مجيب.

المبحث الأول: اختـلاف المطالـع
يراد بالمطالع: مكان طلوع القمر بطرفه الهلالي المنير على أهل الأرض، عند الغروب أو إثره، في أول ليلة من الشهر القمري[2]. ونبحث هذه المسألة في ثلاثة مطالب:
نخصص أولها لتحقيق القول في الخلاف العلمي حول اعتبار اختلاف المطالع أو عدم اعتباره.
ونبين في الثاني أثر الحدود السياسية في تحديد المطالع.
أما الثالث فيحاول تفسير السنن الكونية في توالي الشهور كاملة أو ناقصة.
المطلب الأول: تحقيق القول في الخلاف العلمي حول اعتبار اختلاف المطالع أو عدم اعتباره
ينقسم هذا المطلب إلى فرعين:
الفرع الأول: اختلاف المطالع من الناحية الفلكية.
الفرع الثاني: اختلاف المطالع من الناحية الفقهية.
الفرع الأول: اختلاف المطالع من الناحية الفلكية[3]
أسهب علماء الفلك قديماً وحديثاً في الحديث عن الأهلة وشروط وعوامل اختلاف مطالعها، وخلاصة ما ذكروه في هذه المسألة:
(1) ظاهرة ميلاد الهلال الجديد، والتي يقصد بها فلكياً أول انتقال القمر عن وضعية المحاق وانزياحه عن الاجتماع بالشمس (انسلاخ مركز قرصه عن مركز قرص الشمس كما يبدو من الأرض)، هذه الظاهرة حدث كوني مطلق – أي يحدث في لحظة واحدة بالنسبة لجميع الأرض – ويمكن تحديد توقيته بدقة عالية لعدة سنوات مقبلة، كما يمكن أن تصادف على جزء معين من الأرض، أي ساعة في ليل أو نهار، حسب موضعه النسبي من الشمس، وأما بالنسبة للأرض كلها فتصادف بالطبع جميع ساعات الليل والنهار.
(2) تخضع رؤية هذا الهلال الجديد لعدة عوامل، أهمها:
أ- المسافة الزاوية بين الشمس والقمر عند الأرض، وتلك تحدد مساحة الجزء المضيء من سطح القمر (قوس النور)، وبالتالي شدة الضوء الذي يصلنا منه، كما أنها السبب المباشر لظهور أطواره المختلفة.
ب- الفترة الزمنية التي يمكثها القمر فوق الأفق بعد غروب الشمس (قوس المكث).
جـ- شدة إضاءة الأفق الغربي بالنسبة للحافة المضيئة (قوس النور) وخلو هذا الأفق مما يمنع الرؤية من السحب والشوائب العالقة في الجو.
(3) هناك خط يمثل كافة الأماكن التي تشترك – في سبق غيرها – في رؤية الهلال بعيد ولادته، فتتمكن من رؤيته في ساعة واحدة إبان أول ظهور له بعد انمحاقه، ولا يشترط أن تتطابق مواقع هذه الأماكن مع أحد خطوط الطول الجغرافية على الأرض. وبسبب دوران الأرض حول نفسها باتجاه الغرب تتمكن الجهات الواقعة غرب هذا الخط المفترض أن تشاهد الهلال الجديد إلا لعارض خارجي يتعلق بالجو، أو لعارض داخلي يتعلق بالراصد، بخلاف الجهات الواقعة إلى الشرق من هذا الخط.
ومن الجدير بالذكر أن هذا الخط ليس ثابتاً، بل يتغير من شهر لآخر، وهو في كل مرة يكاد يقسم الأرض إلى قسمين: يضم أحدهما الأماكن الواقعة شرقي هذا الخط، ويستحيل فيها رؤية الهلال الجديد. ويضم القسم الآخر كافة البقاع الواقعة غربي هذا الخط، والتي تتمكن من رؤية الهلال الجديد عادة، وبينهما منطقة ممكنة الرؤية بعسر عند حافة القسم الأول وبعسر عند حافة القسم الثاني، وهذا يؤدي إلى أن رؤية القسم الأول ستتأخر عن الثاني بفارق أدناه (12) ساعة، وأقصاه (24) ساعة. فإذا تم ميلاد الهلال الجديد بعد غروب الشمس (أي ليلاً) في منطقة ما فلن تكون رؤيته ممكنة إلا في أقصى الآفاق غرباً منها، حيث يتجاوز عمره بضع عشرة ساعة عند غروب الشمس في تلك الآفاق – حسب بعدها – ويستحيل أن يرى في الأماكن التي تغرب فيها الشمس بعيد ساعات قليلة من ولادته، بينما سيكون من اليسير رؤيته إذا تم ميلاده في أول النهار، في بقعة ما، حيث يتجاوز عمره (14) ساعة عند غروب الشمس في تلك البقعة، في الوقت الذي يستغرق مكثه بعد الغروب أكثر من (12) دقيقة فيها.
(4) ما يرى من ظاهرة نسبية رؤية الهلال، بمعنى اختلافها من محل لآخر، يعود بشكل رئيسي إلى الاختلاف في غروب الشمس نظراً لارتباط رؤية الهلال بوقت الغروب كما هو المعتاد والمتعارف عليه في سائر البلاد، ومن هنا اكتسبت الرؤية هذه الصفة، أي الإضافة إلى الغروب. وأما من حيث الحقيقة فالأرض كلها تشترك في أول يوم من الشهر القمري، ولكن بداية هذا اليوم (وبالطبع بداية الشهر تبعاً لها) هي التي ستختلف على وجه الدقة تبعاً لغروب الشمس، كما هو عرف المسلمين في تحديد بداية اليوم.
(5) لا ينطبق مفهوم خط اتحاد المطالع – كما هو مصطلح عليه فلكياً – على مفهومه الفقهي، الذي يقصد به اختلاف أول الشهر القمري تبعاً لتباعد البلدان، لأن الأول لا معنى له ؛ لأنه لن يتميز بالحكم عما سواه، بل ستشترك معه جميع المناطق الواقعة إلى الغرب من أول خط تتحد فيه مغارب القمر، ويمكن رؤية هلاله فيها وإن تأخرت قليلاً.
الفرع الثاني: اختلاف المطالع من الناحية الفقهية:
اتفق الفقهاء من مختلف المذاهب على وجوب صيام شهر رمضان برؤية الهلال[4] لقوله تعالى:{فمن شهد منكم الشهر فليصمه}[5] ولقول النبي r :"صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"[6].
وإنما وقع الخلاف بينهم فيما إذا رئي الهلال في بلد ولم ير في بلد آخر، وجملة أقوالهم في ذلك تعود إلى أربعة:
القول الأول:
إذا رئي الهلال في بلد لزم جميع البلاد العمل بهذه الرؤية ،والصيام بموجبها، وهو رأي الحنفية، والحنابلة، واختاره الليث بن سعد، وهذه بعض نصوصهم:
في المذهب الحنفي:
جاء في فتح القدير: "وإذا ثبت في مصر لزم سائر الناس، فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب، في ظاهر المذهب"[7] وزاد ابن عابدين قوله: "وهو المعتمد عندنا"[8].
وفي المذهب الحنبلي:
جاء في الإنصاف: "قوله: وإذا رأى الهلال أهل بلد، لزم الناس كلهم الصوم، لا خلاف في لزوم الصوم على من رآه، وأما من لم يره : إن كانت المطالع متفقة لزمهم الصوم أيضاً، وإن اختلفت المطالع فالصحيح من المذهب لزوم الصوم أيضاً"[9]. وفي المغني:"وإذا رأى الهلال أهل بلد لزم جميع البلاد الصوم، وهذا قول الليث"[10].
وينضم إلى هذا الرأي بعض المالكية وبعض الشافعية: ففي المنتقي: "وإذا رأى أهل البصرة هلال رمضان، ثم بلغ ذلك أهل الكوفة والمدينة واليمن، فالذي رواه ابن القاسم وابن وهب عن مالك: لزمهم الصيام، أو القضاء إن فات الأداء"[11].
وفي طرح التثريب للعراقي: "وقال آخرون: إذا رئي ببلد لزم أهل جميع البلاد الصوم .. وإليه ذهب القاضي أبو الطيب، والروياني وقال: إنه ظاهر المذهب، واختاره جميع أصحابنا، وحكاه البغوي عن الشافعي نفسه"[12].
أدلة هذا القول: الكتاب – السنة – المعقول:
(1) من الكتاب: قوله تعالى:{فمن شهد منكم الشهر فليصمه}[13]. فهذه الآية دليل على وجوب الصيام متى ثبت دخول الشهر بالرؤية، فإذا ثبتت برؤية في بلد لزم الجميع الأخذ بها.
ويؤخذ على هذا الاستدلال: أن الآية عامة، ومعناها – كما قال الطبري -:"من دخل عليه شهر رمضان وهو مقيم في داره فعليه صوم الشهر كله:[14].
(2) من السنة: عن أبي هريرة أن النبي r قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمي عليكم الشهر فعدوا ثلاثين"[15]. جاء في كشاف القناع: أن هذا خطاب للأمة كافة، فمتى ثبتت رؤية الهلال في بلد لزم جميع البلدان الأخذ بهذه الرؤية[16].
ويؤخذ على هذا الاستدلال أن الخطاب موجه لأهل كل بلد، فمتى ثبتت الرؤية في بلد لزم جميع من في البلد الصوم، ولا يلزم جميع البلاد[17].
(3) من المعقول: الشهر اسم لما بين الهلالين، وقد ثبت أن هذا اليوم منه في سائر الأحكام، فيجب صيامه بالنص والإجماع[18]. وما دام قد ثبت أن هذا اليوم من رمضان بشهادة الثقات عندهم، فكذلك في كل مكان، إذ التفرقة تحكم يحتاج إلى دليل، وليس ثمة دليل يوجب التخصيص[19].
القول الثاني:
وهو المعتمد في المذهب المالكي، ومضمونه أن الهلال إذا رئي في بلد لزم الصوم البلاد القريبة والبعيدة، أما البلاد البعيدة جداً فلا يلزمهم الأخذ بهذه الرؤية.
واستدلوا بما سبق من أدلة الرأي الأول، واستثنوا البلاد البعيدة جداً للإجماع[20].
جاء في مواهب الجليل ما خلاصته أن الحكم بثبوت رمضان يعم كل من نقل إليه، إذا نقل بشهادة عدلين، أو نقل باستفاضة. وأجمعوا على عدم لحوق رؤيته ما بَعُد، كالأندلس من خراسان[21].
ودعوى الإجماع غير مسلمة، لا بالمعنى الأصولي، ولا بإجماع المذهب، لوجود المخالفين في المذهب المالكي، والمخالفين في المذاهب الأخرى – كما تقدم -.
القول الثالث:
إذا رئي الهلال في بلد لزم الصوم ما قرب من البلدان دون ما بعد. وهذا قول جمهور الشافعية، وقول عند الحنابلة، وقال به بعض الحنفية وبعض المالكية. وهذه بعض نصُوصهم:
في المذهب الشافعي:
ورد في المجموع إذا رأوا الهلال في رمضان في بلد ولم يروه في غيره، فإن تقارب البلدان فحكمهما حكم بلد واحد، ويلزم أهل البلد الآخر الصوم بلا خلاف. وإن تباعدا فوجهان مشهوران في الطريقتين، أصحهما: لا يجب الصوم على أهل البلد الأخرى)[22].
في المذهب الحنبلي:
في الإنصافوإذا رأى الهلال أهل بلد لزم الناس كلهم الصوم، لا خلاف في لزوم الصوم على من رآه، وأما من لم يره: إن كانت المطالع متفقة لزمهم الصوم أيضاً، وإن اختلفت المطالع فالصحيح من المذهب لزوم الصوم أيضاً ... وقيل: تلزم من قارب مطلعهم، اختاره شيخنا – يعني به الشيخ تقي الدين -. وقال في الفروع: وقال شيخنا – يعني به الشيخ تقي الدين -: تختلف المطالع باتفاق أهل المعرفة، فإن اتفقت لزم الصوم، وإلا فلا)[23].

في المذهب الحنفي:
قال الزيلعيولا عبرة باختلاف المطالع، وقيل: يعتبر .. والأشبه أنه يعتبر، لأن كل قوم مخاطبون بما عندهم، وانفصال الهلال عن شعاع الشمس يختلف باختلاف الأقطار)[24].

في المذهب المالكي:
ذكر ابن عبدالبر أن بعض العلماء قال باعتبار اختلاف المطالع، وأن بعضهم قال بعدم اعتباره، ثم قالإلى القول الأول أذهب، لأن فيه أثراً مرفوعاً، وهو حديث حسن تلزم به الحجة، وهو قول صاحب كبير لا مخالف له من الصحابة، وقول طائفة من التابعين، ومع هذا: إن النظر يدل عليه عندي)[25].

أدلة هذا القول:
عمدة الاستدلال للقول الثالث حديث كُرَيْب، الذي رواه مسلم [26]، وأن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام. قال: فقدمت الشام فقضيت حاجتها، واستهل عليّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال ؟ فقلت: رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته ؟ فقلت: نعم، ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: أولا نكتفي برؤية معاوية وصيامه ؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله r.

وجه الاستدلال:
أن ابن عباس وأهل المدينة لم يعتدوا برؤية أهل الشام، وقول ابن عباس:”هكذا أمرنا رسول الله r) يدل على أن هذا ليس من اجتهاده، وإنما هو امتثال لما أمر به النبي r، ويكون هذا الحديث حجة في عدم اعتبار رؤية البلدان المتباعدة، وأن لأهل كل بلد رؤيتهم[27].
ناقش المخالفون حديث كريب من وجهين:
(1) يحمل الحديث على أنهم لا يفطرون بقول كريب وحده، بل لابد من شهادة رجلين أو استفاضة.
(2) الحجة إنما تكون في المرفوع من رواية ابن عباس، وليس في اجتهاده، وهذا المرفوع يخالفه حديث صحيح – تقوم به الحجة – وهو ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من أهل السنن بلفظ "لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين"[28]. وهذا لا يختص بأهل ناحية على جهة الانفراد، بل هو خطاب لكل من يصلح له من المسلمين، فالاستدلال به على لزوم رؤية أهل بلد لغيرهم من أهل البلاد أظهر من الاستدلال به على عدم اللزوم[29].
القول الرابع:
وقال به عكرمة – مولى ابن عباس -، والقاسم ابن محمد بن أبي بكر الصديق، وسالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب، وإسحاق بن راهويه: أن لكل بلد رؤيته الخاصة به، ولا يلزم برؤية غيره. واستدلوا على ذلك بحديث كريب المتقدم[30].
خلاصة وترجيح:
يمكن رد الأقوال الفقهية في مسألة المطالع إلى اتجاهين:
أولهما: لا يعتد باختلاف المطالع، فإذا رئي الهلال في بلد لزم جميع البلاد العمل بهذه الرؤية، وهذا هو المشهور عند الحنفية والحنابلة، واختاره الليث بن سعد. وحكاه البغوي عن الشافعي، وإليه ذهب القاضي أبو الطيب، والروياني وقال: إنه ظاهر المذهب واختاره جميع أصحابنا. وهو ما رواه ابن القاسم وابن وهب عن مالك، ويمكن أن نقول: إنه رأي المالكية، بعد أن نقلنا عدم ثبوت ما ادعوه من الإجماع على عدم لحوق رؤية الهلال ما بعد من البلاد، كالأندلس من خراسان.
والاتجاه الآخر: يعتد باختلاف المطالع، فلا يلتزم أهل البلد الذي لم ير الهلال برؤية غيرهم، إلا إذا كان بين البلدين تقارب، حدده البعض بحسب مطالع الشمس والقمر، وحدده البعض الآخر بحسب الأقاليم، ورأي بعضهم تحديده بمسافة القصر. وهذا الاتجاه يمثل قول جمهور الشافعية، وهو قول عند الحنابلة، وأخذ به بعض الحنفية وبعض المالكية، ويمكن أن نضم إليه ما نقل عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق.
وبناء على ذلك نقول: إن مسألة اعتبار اختلاف المطالع أو عدم اعتباره من المسائل الاجتهادية التي يسوغ الخلاف فيها، ولا يرجح الدليل أحد الاتجاهين على الآخر لتقارب الأدلة. ومع ذلك فإني أميل إلى الاتجاه الذي يعتبر اختلاف المطالع لأنه يضم ابن عباس – حبر الأمة وترجمان القرآن – وعكرمة والقاسم وسالم وإسحاق، وهو قول جمهور الشافعية، وقول في المذهب الحنبلي، وبه قال بعض الحنفية – منهم الزيلعي – وبعض المالكية – منهم ابن عبدالبر -. وهذا هو المتبادر إلى الفهم من قول الرسول r :"صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمي عليكم الشهر فعدوا ثلاثين"، ذلك أن الهلال لا يظهر – في نفس الوقت – لكل أهل الأرض، ولا يحجبه الغيم عن كل أهل الأرض، فتكون لكل بلد رؤيته، وفق الضوابط الآتية:[31]
(1) أن الشمس والقمر وسائر الكواكب إذا طلعت على بلد واقع على أحد خطوط الطول – ممتدا من الشمال إلى الجنوب – كانت مشرقة على جميع البلدان الواقعة على هذا الخط.
(2) كل البلاد الواقعة غربي هذا الخط يكون الهلال ثابتاً عندها – مهما اختلفت المطالع – وكلما كانت البلاد أشد بعداً من جهة الغرب كان الهلال أظهر.
(3) متى ابتدأت رؤية الهلال على خط من خطوط الطول، فجميع البلاد التي تقع شرقه لا يكون الهلال ظاهراً فيها ولا يرى إلا في الليلة التالية. وعلى هذا يفسر حديث كريب، حيث رأى الهلال في دمشق (45 درجة – خط الطول الشرقي من جرينتش) ليلة الجمعة، ورآه أهل المدينة (50 درجة – خط الطول الشرقي) ليلة السبت.
(4) لا اختلاف بين أهل الأرض قاطبة في رؤية الهلال إلا بليلة واحدة فقط، لأن الهلال إذا ظهر في بلدة ولم يظهر فيما قبلها فإنه يتم دورته بعد أربع وعشرين ساعة، فيراه جميع سكان المعمورة.
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 32.37 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.74 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.94%)]