واعلم أخي المربى أن المربى الكفء من صفاته أن يحول أولاده من المنافسة على الامتلاك إلى المنافسة على الإيثار، ولك في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الاسوة الحسنة والقدوة الصالحة، هو وصحابته، ومن افضل الوسائل التي يكتسب بها الطفل الإيثار ويصبح ضمن قيمة واتجاهاته، هو أسلوب القصة المشوقة والحكاية المؤثرة والمواقف الخالدة المنتقاة من تاريخ هذه الأمة الناصع، ومنها ما فعله الأنصار مع إخوانهم المهاجرين، وينبغي على الأبوين داخل الاسرة أن تلتزموا بهذا السلوك، فهي أول قدوة في حياة الإنسان.
ومن الجدير بالذكر، إن المؤاثرة لا تكون إلا في طاعة الله، كأن تترك مثلاً صلاة الجماعة في المسجد حتى لا تزعج ضيفك فهذه المؤاثرة مرفوضة، كأن يترك الفرد مساعدة أمه حتى يترك المجال لأخيه، فهذه أيضاً ليست مؤاثرة، فلابد أن ينتبه المربى لمثل هذه الأمور، كما ينبغي للمربى أن يكون يقظاً لماحاً، فإذا لاحظ الإيثار من أحد تلاميذه، فينبغي أن يبادر بالثناء عليه ومدحه ومكافأته، فالله -تعالى- يقدر ويكافئ على قدر العمل.
3. العفو والصفح:
من السلوكيات الاجتماعية التي ينبغي أن يبنها الآباء والمربون في نفوس تلاميذهم وأبنائهم.
وقال ابن منظور في لسان العرب: العفو: هو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه وأصله المحو والطمس، أما الصفح: فهو الإعراض عن الذنب.
قال - تعالى -: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199].
هذه الآية تدل على عظمة هذا السلوك القويم وأهميته في التربية الاجتماعية، فالتعبير القرآني يشير بالأخذ، والعرف يقول أنه كلما كان الإنسان عظيماً وقال خذ، فهذا يدل على أن المأخوذ عظيم في نفسه، فما بالك إذا كان المعطى هو الله - جل وعلا - والأخذ هو أحب خلق الله إلى الله، فكيف يكون الشيء المأخوذ، فلابد أنه أعظم القدر، والعفو هو مفتاح السعادة؛ وهو سر النجاح في معاشرة الخلق؛ فمن تأمل حال الخلق وحدهم غير معصومين من الخطأ، ولو وقف المرء أمام كل خطأ ليقتص لنفسه ما عاش أحد، وإذا تتبعت أحوال الناجحين في الحياة الاجتماعية، لوجدت من أهم سماتهم الاجتماعية هو العفو، فهو يرقى بالإنسان فالانتقام وعدم العفو والوقوف على الأخطاء صغيرها وكبيرها، سمة من سمات الحيوان، ويكفى أن العفو من صفات الله -تبارك وتعالى-، كما أن الانتقام أيضاً من صفاته ولكن مع من أصر على العصيان وأثر العناد.
من هنا كان العفو من أهم مقومات ودعائم الأخوة، فهو يزيل العداوة والكره ويذهب بالبغضاء والشحناء، لذا تجد العفو محبوب اجتماعيا، ليس له أعداء، لذلك أمر الله -تبارك وتعالى- به في كثير من الآيات، وحث عليه بأسمى الأُمنيات، قال - تعالى -: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)[الحجر: 85].
وقال -تعالى-: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[النور: 22].
وقال - تعالى -: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران: 134].
وقال -تعالى-: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[الشورى: 43].
وغيرها من الآيات التي تبين فضله وأثره.
وإذا كنا نريد لأبنائنا وتلاميذنا، تربية نفسية صافية من كل ما يعكر النفس ويشوبها، وإذا كنا نريد لهم تربية اجتماعية قوامها الأخوة والمحبة، والأمان والسيادة، وكسب العلاقات الاجتماعية الفعالة، فعلينا بإكسابهم سلوك العفو، فنتمثل ونتشبع به، ونقص عليهم ما يؤثر من المواقف الجليلة، والقصص الرائعة في العفو، وأن نكافئ ونثيب عليه.
ولا تنس؛ أخي المربى أن تعلمهم أن العفو لابد أن يقابل بالفضل، كما علمنا الله تبارك وتعالى، قال: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[البقرة: 237].
4. الصبر واحتمال الأذى:
المؤمن يتحمل ويصبر على ما يجده من إخوانه من جفاء وغلظة، وما يلقاه منهم من أذى وإساءة سواء بالقول أو الفعل، فهو يتحمل كل ذلك احتسابا عند الله وحفاظاً على الأخوة، قال -تعالى-: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)[فصلت: 34 – 35].
يربى الله -تبارك وتعالى- المجتمع المسلم على ما يسميه أصحاب علم الاجتماع بثقافة التسامح، فمن أخلاق المسلمين المؤمنين أن يقابلون الإساءة بالإحسان؛ لأنه من خصائص النفوس الكريمة إنها تحب من أحسن إليها، وعفا عنها، وبها تزول العداوة ويصير العدو ولى حميم، ولما كانت هذه الخصلة تحتاج إلى مجاهدة ومثابرة، أتبعها الله بما من شأنه أن يدفع كل عاقل إلى الالتزام بها والاتصاف والتمسك بها، حتى يكون من أصحاب الحظ العظيم.
وهذه الصفة من أهم الصفات والسلوكيات التي تحافظ على وحدة المجتمع وبقاؤه متماسكاً متفاعلاً، فلو ذهب كل فرد إلى الانتقام لنفسه ممن إساء إليه، ويدفع السيئة بمثلها لما انتهى الدور، وعندها صبح المجتمع في دوامة من البطش والعنف.
5. خصال مذمومة نهى الإسلام عنها:
ولم يغفل الإسلام تحريم بعض الصفات المذمومة التي توقع العداوة وتنشئ الفتن وتلقى بشرها على المجتمع كله مقطعة أوصال المحبة والأخوة.
الغيبة:
حرم الله -تعالى- الغيبة، وهى ذكر المسلم أخيه بما يكره في غيابه، قال -تعالى-: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)[الحجرات: 12].
فقد نفر الله -تعالى- منها أبلغ وأشد تنفير، حيث صور الذى يغتاب بأنه يأكل لحماً وهذا اللحم ميتاً ليس هذا فحسب إنما هو لحم أخيه، والنفوس السليمة تجزع وتنفر من سماعه.
وقد نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عنها أيضاً؛ فعن أبى هريره -رضى الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أتدرون ما الغيبة؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((ذكرك أخاك بما يكره)) قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته"[[9]].
وعن أبى بكرة -رضى الله عنه- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال خطبته يوم النحر بمنى في حجه الوداع: ((إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت)[[10]].
وعن عائشة -رضى الله عنها- قالت: قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "حسبك من صفية كذا وكذا قال بعض الرواة تعنى قصيره فقال: ((لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)) قالت: وحكيت له إنساناً، فقال: ((ما أحب أنى حكيت إنساناً وإن لي كذا وكذا))[[11]].
والغيبة من الأمراض الخلقية والاجتماعية الخطيرة، لها آثارها السلبية على الفرد والجماعة تورث الهم والغم والحزن، وتسبب الشعور بالقلق وعدم الارتياح، من قبيل قول الشاعر:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ** وصدق ما يعتاده من توهم
تفقد الاحترام وتذهب بالهيبة، لانشغال صاحبها بهفوات الناس وسقطاتهم، كما تنشأ العداوات والأحقاد وثير البغضاء والكراهية فهي تفرق بين الناس، وتورث العداوة والشحناء، كما أنها كشف للستور وإظهار للغيوب، وفضح للعيوب، لذلك فأثارها مدمرة من شأنها أن تقضى على المجتمع وتذهب بريحه، فكان من رحمة الله علينا أن حرمها وصور حرمتها بأبشع الصور.
ولكن هناك حالات خاصه تباح فيها الغيبة.
قال الامام النووي: اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهو ستة أسباب:
الأول: التظلم، فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية، أو قدرة على إنصافه من ظالمه، فيقول: ظلمني فلان بكذا.
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، ورد العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا، فازجره عنه ونحو ذلك ويكون مقصوده التوصل إلى إزالة المنكر، فإن لم يقصد ذلك كان حراما.
الثالث: الاستفتاء، فيقول للمفتي: ظلمني أبي أو أخي، أو زوجي، أو فلان بكذا فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص منه، وتحصيل حقي، ودفع الظلم؟ ونحو ذلك، فهذا جائز للحاجة، ولكن الأحوط والأفضل أن يقول: ما تقول في رجل أو شخص، أو زوج، كان من أمره كذا؟ فإنه يحصل به الغرض من غير تعيين، ومع ذلك، فالتعيين جائز كما سنذكره في حديث هند إن شاء الله -تعالى-.
الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم، وذلك من وجوه:
منها جرح المجروحين من الرواة والشهود وذلك جائز بإجماع المسلمين، بل واجب للحاجة.
ومنها: المشاورة في مصاهرة إنسان أو مشاركته، أو إيداعه، أو معاملته، أو غير ذلك، أو مجاورته، ويجب على المشاور أن لا يخفي حاله، بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة.
ومنها: إذا رأى متفقها يتردد إلى مبتدع، أو فاسق يأخذ عنه العلم، وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك، فعليه نصيحته ببيان حاله، بشرط أن يقصد النصيحة، وهذا مما يغلط فيه. وقد يحمل المتكلم بذلك الحسد، ويلبس الشيطان عليه ذلك، ويخيل إليه أنه نصيحة فليتفطن لذلك.
ومنها: أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها: إما بأن لا يكون صالحا لها، وإما بأن يكون فاسقا، أو مغفلا، ونحو ذلك فيجب ذكر ذلك لمن له عليه ولاية عامة ليزيله، ويولي من يصلح، أو يعلم ذلك منه ليعامله بمقتضى حاله، ولا يغتر به، وأن يسعى في أن يحثه على الاستقامة أو يستبدل به.
الخامس: أن يكون مجاهرا بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر، ومصادرة الناس، وأخذ المكس، وجباية الأموال ظلما، وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يجاهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب، إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكرناه.
السادس: التعريف، فإذا كان الإنسان معروفا بلقب، كالأعمش، والأعرج، والأصم، والأعمى، والأحول، وغيرهم جاز تعريفهم بذلك، ويحرم إطلاقه على جهة التنقيص، ولو أمكن تعريفه بغير ذلك كان أولى، فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء وأكثرها مجمع عليه، ودلائلها من الأحاديث الصحيحة مشهورة [[12]].
النميمة:
ومن آداب الحديث أيضاً خلوه من النميمة وهى نقل الكلام بين طرفين لغرض الافساد وزرع العداوة والفتنة بينهم.
وقد حرمها الله ورسوله، قال - تعالى -: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ)[القلم: 11].
وعن حذيفة -رضى الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا يدخل الجنة نمام)) [[13]].
وقد أعد الله -تعالى- للنمام العذاب الأليم في القبر؛ فعن ابن عباس -رضى الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بقبرين، فقال: ((إنهما يعذبان، وما يعذبان في كبير، بلى إنه كبير، أما أحدهما، فكان يمشى بالنميمة، وأما الاخر فكان لا يستتر من بوله))[[14]].
والنمامون هم شرار الناس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: " شراركم المشاؤون بالنميمة، المفسدون بين الاحبة، الباغون العيوب))[[15]]
حقاً هم شرار الناس لأنهم يضيعون أوقاتهم وأوقات غيرهم هباءً منثورا بدلاً من ذكر الله وما ينفع الناس، فضلاٍ عن الأضرار المادية والأدبية التي يلحقونها بالناس، فضلاً عن الفتن والأحقاد التي يذرعونها بين الناس، فهؤلاء لا أمان لهم.
قال الشاعر:
من نم في الناس لم تؤمن عقاربه ** على الصديق ملم تؤمن أفاعيه
السيل بالليل لا يدرى به أحد *** من أين جاء ولا من أين يأتيه
الويل للعهد منه كيف ينقضيه *** والويل للود منه كيف يفنيه
الكذب:
الكذب من كَذَبَ كِذْباً و كِذّاباً: أخبر عن الشيء بخلاف ما هو عليه في الواقع، وهو سلاح من أقوى وأشد أسلحة إبليس في إفساد بنى آدم، فهو البداية لكل معصية، فالكذوب يتعمد الكذب ليغطي ويمحو نقيصة قام بها أو ليجمل سيئة فعلها، أو ليبرر ما يقوم به من أعمال الشيطان، لذلك فهو كما وصفة الصادق الصدوق بأنه يؤدى إلى الفجور، لهذا فقد حاربه الاسلام وحرمه صيانه للفرد والمجتمع من أخطاره وقضاءً على أقوى أسلحه إبليس اللعين.
وقد حرمه الله -تعالى- فقال: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)[الاسراء: 36].
وقال -تعالى-: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق: 18].
وقال -تعالى-: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)[البقرة: 10].
وقال -تعالى-: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ)[الزمر: 60].
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الصدق يهدى إلى البر، وإن البر يهدى إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدى إلى الفجور، وإن الفجور يهدى إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً))[[16]].
كما أنه خصله من خصال النفاق، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصله منهن كانت فيه خصله من نفاق حتى يدعها، إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر))[[17]].
وقيل: رأس المأثم الكذب وعمود الكذب البهتان، أمران لا ينفكان من الكذب، كثرة المواعيد، وشدة الاعذار.
وقال الفضيل: ما من مضغة أحب إلى الله -تعالى- من اللسان إذا كان صدوقاً ولا مضغة أبغض إلى الله -تعالى- من اللسان إذا كان كذوباً.
لا يكذب المرء إلا من مهانته *** أو فعله السوء أو من قله الأدب
لبعض جيفة كلب خير رائحة من كذبة المرء في جد وفى لعب.
ما يجوز من الكذب:
قال الامام النووي - رحمه الله -: اعلم أن الكذب، وإن كان أصله محرماً، فيجوز في بعض الاحوال بشروط، مختصر ذلك أن الكلام وسيله إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب يحرم الكذب فيه، وإن لم يمكن تحصيله إلا بالكذب جاز الكذب، ثم إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا كان الكذب مباحا، وإن كان واجبا، كان الكذب واجبا. فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله، أو أخذ ماله وأخفى ماله وسئل إنسان عنه، وجب الكذب بإخفائه. وكذا لو كان عنده وديعة، وأراد ظالم أخذها، وجب الكذب بإخفائها.
والأحوط في هذا كله أن يوري. ومعنى التورية: أن يقصد بعبارته مقصودا صحيحا ليس هو كاذبا بالنسبة إليه، وإن كان كاذبا في ظاهر اللفظ، وبالنسبة إلى ما يفهمه المخاطب، ولو ترك التورية وأطلق عبارة الكذب، فليس بحرام في هذا الحال.
واستدل العلماء بجواز الكذب في هذا الحال بحديث أم كلثوم - رضي الله عنها -، أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيرا أو يقول خيرا)).
زاد مسلم في رواية: قالت أم كلثوم: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث، تعني: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها [[18]].
السخرية والاحتقار:
حرم الله -تعالى- احتقار المسلم أخاه، والاحتقار من حقر يحقر بمعنى ذلَّ، فالحقر يعنى الذلة والتصغير والتقليل والاستهانة بالغير، قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الحجرات: 11].
وقد ذم الله -تعالى- فاعله، وأعد له عذاباً أليماً، قال -تعالى-: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[التوبة: 79].
وكما يسخر الشخص من الآخر، يسخر المعتدى عليه من الساخر يوم القيامة، قال - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ* وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)[المطففين: 29: 36].
وعن أبى هريره -رضى الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم"[[19]].
فيحرم على المسلم أن يشمل حديثة احتقاراً لغيره، فالله -سبحانه- يرفع الناس بعضهم فوق بعض، فهو - سبحانه - قادر على أن يزل المُختَقِر ويرفع المحتقَر، فعن جندب بن عبد الله -رضى الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله -عز وجل-: من ذا الذى يتألى على أن لا أغفر لفلان إني قد غفرت له، وأحبطت عملك))[[20]].
السباب واللعان وإيذاء الغير:
حرم الله ورسوله السب واللعن وإيذاء الغير بغير حق تحقيقاً للعدل والرحمة وحفاظاً على الوحدة والمحبة والألفة بين المسلمين، ووقاية ودرءاً للفتنة والفرقة والاختلاف، ومحواً لأمراض القلوب قبل علتها من حقد وكره.
قال - تعالى -: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا)[الاحزاب: 58].
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن المؤمن كقتله))[[21]].
فقد شبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن المؤمن بالقتل وهو أكبر الكبائر تنبيهاً للمسلمين لما يحدثه اللعان من أثر في نفس المعتدى عليه.
ونفى النبى - صلى الله عليه وسلم – الشفاعة والشهادة عن اللعانين يوم القيامة، قال: ((لا يكون اللعانون شفعاء، ولا شهداء يوم القيامة))[[22]].
ويستثنى من ذلك لعن بعض أصحاب المعاصي غير المعينين، من قوله - تعالى -: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)[هود: 18].
فلم يحدد شخصاً يعنيه، ولعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون تحديد، مثل لعن الواصلة والمستوصلة، لعن المتشبهين من الرجال بالنساء.. إلخ، فكلها ألفاظ تكره.
كما جعل - صلى الله عليه وسلم - سب المسلم من الفسق فقال: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر))[[23]].
وأيضاً من صفات غير المؤمنين السب و اللعن و الفحش في القول، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء))[[24]].
وإنما المسلم من حفظ لسانه ويده عن المسلمين، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده))[[25]].
المن على الغير:
ومن آداب الأخوة: ألا يمن المرء بما أعطى ويعتدّ به، يقصد من الاعتداء إلحاق الاذى والتوبيخ بالمعطى.
والمن يبطل الصدقة، قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)[البقرة: 264].
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم)) قال -أي الراوي-: فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات، ثم قال الراوي -أبو ذر-: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: ((المُسبل، والمنان، والنفق سلعته بالحلف الكاذب))[[26]].
الهمز والمز:
قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الحجرات: 11].
وقال -تعالى-: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ)[القلم: 11].
وقال - تعالى -: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)[الهمزة: 1].
الهمزة من الهمز، بمعنى الطعن في أعراض الناس، ورميهم بما يؤذيهم، واللمزة من اللمز، بمعنى السخرية من الغير، عن طريق الإشارة باليد أو العين أو غيرها... وقيل الهمزة الذى يعيبك في الغيب، واللمزة الذى يعيبك في الوجه، وقيل العكس، وحاصل هذه الأقوال يرجع إلى أصل واحد، وهو الطعن وإظهار العيب، ويدخل في ذلك من يحاكى الناس في أقوالهم وأفعالهم وأصواتهم ليضحكوا منه[[27]].
التنابز بالألقاب:
التنابز هو التداعي بالألقاب المكروهة، كأن ينادى الشخص بأقبح أسمائه ازدراءً له وتعيراً به، فقد نهى الله -تبارك وتعالى- عنه في آية السلوك، قال - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الحجرات: 11].
ولكن يستحب للمسلم أن ينادى أخاه بأحب أسمائه إليه.
سوء الظن:
قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)[الحجرات: 12. وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث))[[28]].
يحرم الله -تبارك وتعالى- سوء الظن بالمسلم المستور الحال، الظاهر العدالة، النقي النظيف، وذلك بدون دليل واضح وبرهان قوى، ففيه هتك لحرمات الأشخاص واستباحة لكراماتهم وحرياتهم، فهو بأمرهم اجتناب كثيراً من الظن، فلا يتركوا أنفسهم نهباً لكل ما يوسوس به الشيطان وما يلقيه من شبهات وشكوك تثير القطيعة وعدم التواد في المجتمع.
وقد عبر جل شأنه بقوله: (كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ) للإشعار بأن الغالب على الظن أن يكون باطلاً لا أصل له، فهو لا يدرى أي ظنونه تكون صادقة؛ وما دام الامر كذلك فالأولى والأجدر اجتناب الظن كلية.
يتبع