مالك بن نبي
خالد سعد النجار
القابلية للاستعمار
عندما يستعرض مالك بن نبي التاريخ الإسلامي يقسمه إلى فترات ثلاث:
1- الفترة الروحية التي دخل المسلمون فيها إلى حضارة إسلامية: وتبدأ ببداية البعثة النبوية وتنتهي عند معركة صفين، وتتميز هذه الفترة (بأروع صور الزهد والتقشف التي كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثلها الأعلى، كما تتميز بالتضحية من قبل الصحابة مثل: أبي بكر وعثمان وعمر.. ) [24].
وفي هذه الفترة خضعت كل النوازع للإيمان، وغابت كل الأنانيات والعصبيات، واندفع المسلم بكل طاقاته وإمكاناته، وكانت شبكة العلاقات الاجتماعية على أقوى ما يتصوره إنسان، وبلغة علم النفس: فإن الفرد يكون في أحسن ظروفه ويعيش التوازن الدقيق بين: الروح والعقل، أو بين: الروح والمادة
2- الفترة العقلية: وتمثل أوج ازدهارها المدنية الإسلامية كالفترة الأموية والعباسية الأولى، وفيها تدون العلوم وتتأسس المدينة ويستبحر العمران- كما يعبر ابن خلدون.
(بيد أن العقل لا يملك سيطرة الروح على الغرائز، فتشرع في التمرد بالتدريج) [25]، وتضعف قليلاً شبكة العلاقات الاجتماعية ولكن المجتمع يستمر قوياً بالاندفاع الأول؛ حتى يصل لمرحلة تنتهي فيها قوة الاندفاع كمحرك استنفذ آخر قطرة من وقوده، وتنتهي هذه الفترة بانتهاء عصر دولة الموحدين في المغرب.
3 - مرحلة الغرائز التي تستمر حتى بداية هذا القرن: حيث يحاول العالم الإسلامي النهوض، وفي هذه الفترة تتغلب الغرائز الفردية والتفكك الاجتماعي، ويعيش المسلم على هامش التاريخ، والمجتمع مكوَّن من أفراد لا ينقصهم التدين في كثير من الأحيان ولكنه تدين فردي، فهو يحاول إنقاذ نفسه في الآخرة، ولكن لم يعد يملك التماسك الاجتماعي وتسخير ما خلق الله له لبناء حضارة، فهم أفراد من بقايا حضارة يحملون بين جنوبهم ما يسميه مالك بن نبي (القابلية للاستعمار)، فالمجتمعات الإسلامية المعاصرة لم تُستعمر إلا لوجود هذه القابلية لديها، وقد يتعرض بلد من البلدان للاحتلال والغزو ولكنه يقاوم، أما الاستعمار فهو صفات نفسية في المستَعمِر والمستعمَر، فهناك فرق بين الاستعمار والاحتلال، وقد استعمرت بريطانيا بلداً كبيراً كالهند ولكن إقليماً صغيراً كأيرلندا الشمالية استعصى عليها، وإن بلداً كاليمن لم يدخله الاستعمار ولكنه مصاب بنفس أمراض العالم الإسلامي.
وقبل أن نمضي مع مالك بن نبي في تحليله للفترة الثالثة، لابد من إبداء تحفظ على هذا التقسيم الحاد للتاريخ الإسلامي الذي يبدو فيه أقرب إلى عقلية المهندس [26] منه إلى عقلية المؤرخ، فتركيزه على صِفِّين جعل حكمه قاسياً على الفترة التي أعقبتها، بل وقع في أخطاء تاريخية وشرعية، والضعف العلمي الذي غلب على الأمة الإسلامية إنما هو بعد القرن التاسع وليس بعد الموحدين مباشرة.
وقد عبر ابن خلدون عن هذه الحالة بنبرة الأسى والحزن: (وكأني بالمشرق قد نزل به ما قد نزل بالمغرب ولكن على مقدار ونسبة عمران، وكأنما لسان السكون ينادي في العالم بالنوم والخمول فأجاب) [27]، ومجيء دولة قوية كالدولة العثمانية لم يغير من الناحية الحضارية شيئاً، حتى إذا جاء القرن الثاني عشر الهجري كانت الأمة الإسلامية في غاية الضعف والتمزق.
(وأصبحت دوافع الحياة فاترة، يعبر عنها قول أحدهم عندما يسأل عن مهمة حياته: “نأكل القوت وننتظر الموت”) [28].
إن الأمراض الاجتماعية والنفسية التي يركز عليها مالك بن نبي ربما تظهر لبادي الرأي أنها صغيرة وليست هي مشكلة المسلمين الرئيسية، والجواب على ذلك: أننا حتى لو اعتبرناها صغيرة ولكنها مهمة جداً لأنها كحبات الرمل التي تستطيع إيقاف آلة ضخمة.
الشلل الأخلاقي:
إن أخطر مرض أصاب المسلمين هو الانفصام بين النموذج القرآني والتطبيق العملي، فقد انعدمت الدوافع الآلية التي حركت الرعيل الأول من الصحابة [29].
ويلخِّصها قول الفرزدق الشاعر للحسين بن علي رضي الله عنه- واصفاً أهل العراق: (قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية)، وبدأ ضمير المسلم يتهرب من الحقائق المنزلة (وحركة الخوارج والمعتزلة مثال على ذلك) [30]، ولكن هذا المرض ازداد فشواً في مجتمع (ما بعد الموحدين)، فأصبح المسلم نتيجة لغروره لا يحاسب نفسه، ولا يعترف بأخطائه، وأصبحت المعادلة: (بما أن الإسلام دين كامل وبما أنه مسلم، فالنتيجة أنه كامل، وبذلك اختلت أي حركة عنده لزيادة الجهد والتقدم)[31].
ونتيجة لهذا الخلل ضعفت الروابط الاجتماعية: (فعالم الأشخاص لا يتألف ضمن منهج تربوي، يهتم بالأخلاق) [32]، وهذا التآلف مهم جداً، قال - تعالى -: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال: 63]، ومبدأ المؤاخاة الذي قام بين المهاجرين والأنصار أصبح من الخطابات السعيدة، والأخوَّة الإسلامية أصبحت كلاماً للزينة وشعور تحجر في نطاق الأدبيات [33]، وهذا الضعف يقصد به المجتمع ككل ولا يقصد به كل فرد، فلا يزال في الأمة (كأفراد) خير كثير، ولا يزال الناس في الريف أقرب للفطرة.
عدم الفعالية:
وكان من نتائج هذا الانفصام الأخلاقي: أن المسلم يحمل أفكاراً صحيحة ولكنه لا يستطيع تطبيقها في دنيا الواقع، كفريسة تعرضت للشلل حتى يسهل ابتلاعها، لأن البيئة التي تحيط به وتغذيه بثقافتها أصبح مثلها الأعلى هو الزهد الأعجمي والصوفية أصحاب المرقعات، ولا يتمثلون بعمر بن الخطاب أو بعبد الله بن المبارك أو الإمام مالك، (والمسلم في هذه الحالة إنما يغالط نفسه، فيهرب إلى هذه التعلات الصوفية الكاذبة) [34]، وفي المقابل: نجد عند الغربيين أفكاراً قد لا تثبت أمام النقد الموجه لها ولكنهم استخدموها إلى أقصى ما يستطيعون، مثل: فكرة (التقدم)، والمسلم يحمل القرآن ولكنه لا يستفيد منه كثيراً في التخطيط لنهضة قادمة، فعقلية ما بعد الموحدين تشله عن الإبداع، هناك خلل في طريقة تفكيره، فعندما اكتشف ابن النفيس الدورة الدموية لم يستفد منها المجتمع الإسلامي لأنه لم يكن على المستوى الثقافي الذي يحيط هذا الاختراع بالرعاية، والمشكلة: (أن مجتمع ما بعد التحضر يسير إلى الخلف بعد أن انحرف عن طريق حضارته وانقطعت صلته بها) [35].
أمثلة على هذا الخلل:
1- ذهان السهولة (مرض السهولة): يميل المسلم في تقويمه للأشياء إما للغلو فيها أو للحط من قيمتها، ويتمثل هذا في نوعين من الأمراض: فإما أن الأمور سهلة جداً ولا تحتاج إلى تعب وكد فكر، والحل بسيط، وإما أن الأمور مستحيلة، وأبرز مثال على مرض (السهولة): قضية فلسطين، فقد قيل: إن إخراج اليهود سيتحقق بعد أشهر، ولو نفخنا عليهم نفخة واحدة لطاروا، ولكنهم في الحقيقة لم يطيروا، (وهناك من يظن أنه بخطبة رنانة تحل مشاكل المسلمين، وبعضهم يكره أن تدعوه إلى تفكير عميق في موضوع ما من الموضوعات لأنه يؤثر السهولة ويكتفي بتفسير سطحي، وعندما تخطط السياسة طبقاً لمبدأ السهولة فإنها سوف تجتذب إلى تيارها كثيراً من الناس ذوي النوايا الطيبة، الذين يقدرون الأشياء بناء على سهولات الحاضر لا على صعوبات المستقبل) [36] وأيسر طريق لأصحاب السياسات الانتهازية أن يستخدموا كلمات مثل: الاستعمار والإمبريالية والوطنية؛ للتغرير بالشعوب، هذه الكلمات التي (تليق جداً لتشحيم المنحدر حتى يكون الانزلاق عليه نحو السهولة ميسوراً جداً) [37].
2 - ذهان الاستحالة: وقد يحدث العكس، فيرى المسلم أن الأمور مستحيلة ويقف أمامها عاجزاً، وهي في الحقيقة غير مستحيلة ولكن ربما يضخمها عمداً حتى لا يتعب نفسه في الحل، أو أنه يشعر بضآلة نفسه وصغر همته فيحكم عليها بالاستحالة، وقد مرت فترة كانت بعض الشعوب تنظر إلى صعوبة إخراج المستعمر من بلادها [38].
وقد تجد اليوم بعض المسلمين الذين ينتظرون (معجزة الرجل الوحيد) كأن يأتي صلاح الدين آخر ليوحد المسلمين من جديد، ويعتقدون استحالة أية محاولة لاستئناف حياة إسلامية.
3- طغيان الأشياء: عندما يكون مجتمع ما في حالة نهوض يجب أن يتحقق الانسجام والتوازن بين هذه العوالم (الأشياء والأشخاص والأفكار)، ولكن الحقيقة أن النزعة (الكمية) هي المسيطرة، (فلا يسأل المؤلف عن الموضوع الذي تناوله في بحثه، وإنما يسأل عن عدد صفحات الكتاب، وقد يقع المؤلف نفسه في هذه النزعة فيفتخر بأنه أخرج كتاباً من كذا صفحة) [39].
وعندما تريد إحدى المصالح الحكومية تجهيز مقرها: تزوده بعدد خيالي من المكاتب، بحيث يتعذر توفير المكان اللازم لها، والموظف الكبير يجب أن يكون في غرفته أربعة تلفونات وخمس أجهزة تكييف، ومشكلة التنمية تعالج بزيادة الضرائب التي تشل جميع أوجه النشاط الفردي، وفي هذه الأجواء يظن الفرد أن (التكديس) هو الحضارة، فيشتري منتجات الغرب بكميات أكثر مما يحتاج له، (وإذا كان مجتمع ما قبل التحضر فقيراً في عالم الأشياء، فإن مجتمع ما بعد التحضر مكتظ بالأشياء ولكنها خالية من الحياة)[40].
طغيان عالم الأشخاص:
عندما يتعلق الناس بالأشخاص أكثر من تعلقهم بالمبدأ أو الفكرة فإنهم يرون أن إنقاذهم من الحالة التي هم عليها بـ (البطل القادم) الذي ينتظرونه دون أن يقوموا بجهد يذكر.
فالخلاص لا يتم بتجمع أناس على مبدأ يدافعون عنه، ويتفانون فيه، ويتقنون فن التعاون؛ بل بالرجل الذي يجمعهم ويوحدهم، وقد يطول انتظارهم وهم يمنون أنفسهم بالأماني، وهكذا نسمع الخطباء لا يفتأون يذكرون (أين صلاح الدين) أو (قم يا صلاح الدين)، فهم يريدون (صلاحاً) آخر ينقذهم، ولاشك إن (إجلال رجل القدر) مثل إجلال (الشيء الوحيد) مرض منتشر في أرجاء العالم الإسلامي، وهو أحياناً السبب في إفلاس فادح لسياسات عديدة [41] وقد لا يكون هناك رجل القدر ولكن (رجل النحس) الذي نلقى عليه كل ضعفنا وفشلنا، وبدلاً من أن نتدبر الأحداث، ونبحث بطريقة أعمق عن الأسباب الحقيقية لفشلنا يمكن بكل سهولة أن نلصق التهمة بـ (رجل النحس).
فعندما وقع انفصال سورية عن مصر عام (1961م) قالوا: إن السبب هو رجل النحس (حيدر الكزبري) ولكن من الواضح أن الانقلاب كان لابد واقعا في وجود الكزبري أو في غيابه، فجيم عوامل التشجيع على هذا الانفصال كانت متوفرة، سواء من الأخطاء التي وقعت أو من عدم توفر فكرة مضادة للانفصال[42].
وقد تتجسد الأفكار بأشخاص ليسوا أهلا لحملها فتحسب كل أخطائهم وانحرافاتهم على المجتمع الإسلامي أو على الإسلام، وقد تتجسد بأشخاص يحملونها ولكن إذا ماتوا انتهت هذه الأفكار بموتهم، أو فتر حماس الأتباع، لقد مارس العالم الإسلامي، دور البطولة في كفاحه ضد الاستعمار عندما بزغ في سمائه أبطال مثل عبد الكريم الخطابي، وعمر المختار، وعز الدين القسام.. ولكن مشكلة المسلمين الأساسية لم تحل (لأن من طبيعة هذا الدور أنه لا يلتفت إلى حل المشاكل التي مهدت للاستعمار وتغلغله داخل البلاد) [43] ولا يعني هذا إنكار دور هؤلاء الأبطال، أو التقليل من شأنهم، ولكنها العودة إلى الأصل وهو إنشاء تيار إسلامي قوي يتعلق بالمبدأ ويقوم بالجهد الجماعي، ولذلك جاءت الآية القرآنية حاسمة في هذا الموضوع، إن الواجب على المسلمين قيادة الدعوة وحمل الرسالة بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) [آل عمران: 144].
يركز مالك بن نبي في أكثر كتبه على هذا المرض، ويطالب المسلمين، والشباب بشكل خاص، بأن يتحول للارتباط بالمنهج لا بشخص معين، لأن هذا الشخص مثل الرأس الذي يقود عربات القطار، فإذا انحرف انحرف القطار كله، وهذا الذي يثيره الأستاذ مالك صحيح بشكل عام ولكنه بالغ في تهميش دور الأشخاص مع أنهم هم الذين يحملون الفكرة ويجسدونها عملياً حتى يقتنع الناس بها، وكلامه فيه شيء من التجريد والمثالية، وهذا الإسلام، وهو حق صريح، إذا لم يحمله أشخاص يتمثلونه ويثرونه بين الناس فلا ينتشر إلا قليلاً.
طغيان الأفكار:
إذا كان هناك طغيان في عالم الأشياء وعالم الأشخاص، فقد يصل الأمر إلى طغيان في عالم الأفكار، فعندما يكون المجتمع في حالة مضطربة، فلا هو بداية دخول الحضارة، ولا هو خارج تماماً عن الحضارة، في هذه الحالة قد يفقد المتعلم تكيفه مع الوسط الاجتماعي، أو لا يستطيع أن يقوم بعمل مثمر يرضي ضميره، عندئذ يلجأ إلى البحث في الأفكار المجردة النظرية التي لا تأخذ طريقها إلى التطبيق، وبدل أن يتكلم عن معاناة الناس ومشاكلهم والتخطيط لمجتمع أفضل فهو يتكلم عن الماضي الذي ليس له صلة بالحاضر، أو يفتعل معارك وهمية ليكون هو أحد أبطالها، وتدفع المطابع كل يوم عشرات الكتب التي لا تمس الواقع المعاش بل هي هروب مفتعل من الواقع، وقد تطغى الأمور النظرية على مدرس في الجامعة فيتحدث عن تركيب الأدوية وعن النباتات ويجهد نفسه في وصف بعض النباتات بدلاً من أن يمد يده من النافذة ويقطف واحدة منها ليقدمها إلى الطلبة حية نابضة، ولكنه مع الأسف يبحث عنها في الكتاب، فهو كل شئ بالنسبة له [44].
وقد يبلغ الخلل في عالم الأفكار، إلى درجة أن يعرقل المبادرات والجهود، وهو ما يسميه مالك بن نبي “الأفكار الميتة” (فالبديهيات في التاريخ، كثيراً ما قامت بدور سلبي كعوامل تعطيل مثل بديهية: الأرض مسطحة، فإنها حالت دون اكتشاف أمريكا قروناً طويلة) [45]، والبوصلة التي ساعدت كولومبس على اكتشاف أمريكا هي من اختراع المسلمين!، وقد كان من حكم الطب القديم أن الحرارة مثلاً دواؤها الرطوبة ولا بأس بهذه الحكمة ما لم تكن قيداً يقيد الفكر فلو استسلم الطب لحكمة كهذه مع صلاحيتها في بعض الظروف لما وجد (باستور) طريقاً لاكتشاف العلاج النافع لداء (الكلب) مثلاً [46].
ولا شك أن هناك كثيراً من الأفكار خذلت أصحابها لأنها لا تحمل أصولاً صحيحة، فكم أهدر من الوقت في جدل ومناقشات، وكم سودت من صفحات مبنية على أحاديث موضوعة أو ضعيفة، وكم عاش المسلمون متأثرين بأفكار الصوفية التي تدعو إلى البطالة والزهد غير المشروع حيث كان مثلهم الأعلى (المجاذيب).
الحق والواجب:
يميل الفرد بطبيعته إلى نيل حقه، وقد ينفر من القيام بواجبه، والأمة التي تصاب بمرض (السهولة) وعاشت قروناً من التخلف، فإن من أهون الأشياء عليها التي لا تكلفها كثيراً هو المطالبة بالحقوق، ونسيان الواجبات، فهي تشبه الكائن (الأميبى) المتبطل، حتى إذا رأى فريسة هينة أبرز إليها ما يشبه اليد ليقنصها، ثم يهضمها في هدوء وبقى هذا ا الكائن يأكل من حاجاته المتواضعة حتى إذا جاء الاستعمار لم يدع له شيئاً فتحرك ضميره (أي معدته) فمد يده إلى فريسة وهمية أطلق عليها لفظة (الحق) [47].
وكان هذا منشأ سياسة الدجل التي مارسها من يتقن هذه الأدوار، وللمطالبة بالحقوق إغراء شديد فهي كالسم لا يجذب الذباب ويجتذب الانتفاعيين، بينما كلمة الواجب لا تجتذب غير (النافعين) [48]، وعندما يستغلها الزعماء المهرجون لتجميع الغوغاء من الشعب ويلعبون بمفتاح (الحقوق) فسيكون من الصعب أن يستخدموا مفتاح الواجبات وتتحول الأمة إلى استجداء حقوقها من الأمم المتحدة ومجلس الأمن والرأي العام العالمي ولكن ما من مجيب، لأن هذه الأصنام ما نصبت إلا لتخدير الشعوب وتعليمها لغة الاستجداء.
وعلى الصعيد السياسي فإن كلمة الواجب توحد وتؤلف بينما كلمة الحق تفرق وتمزق، وهكذا ما خرجت دولة من دول العالم الثالث من ربقة الاستعمار إلا وتناحرت أحزابها على المطالبة بحق اقتسام الغنيمة، بدلاً من أن يتكلموا عن الواجبات، وهذا ما حصل في الجزائر، واليمن الجنوبي، ونيجريا، والكونغو … [49]
ومن الأمثلة التي ترويها ذاكرة الأستاذ مالك بن نبي حول هذا الموضوع: (شاهدت خلال بعض المواقف السياسية في الجزائر جيلاً من السياسيين يقفون من قضية مهمة بالنسبة للشعب الجزائري وهي قضية الأمية، يقفون منها موقفاً جديراً بالملاحظة، فقد كتب هؤلاء السياسيون المقالات الطويلة لشرح هذا المرض الاجتماعي الخطير، موضحين نتائجه المنكرة في حياة الفرد، وهم في هذا كله يهاجمون الاستعمار في خطب ملتهبة بالحماس متقدة بالوطنية، وهكذا يستمرون في خطبهم ومقالاتهم حتى تتقطع أنفاسهم عن الكلام، وتمر الأعوام تلو الأعوام والمشكلة لا تجد في مجهوداتهم حلها، ذلك أنهم لم يدخلوا إلى المشكلة من طريق حلها، لقد أصدرت الحكومة الفرنسية عام (1940م) قوانين استثنائية قاسية حول تنظيم التعليم في مختلف مراحله بالنسبة للطائفة اليهودية (مسايرة لألمانية الهتلرية) وشعرت الطائفة بأن أطفالها قد أصبحوا مهددين بالأمية غير أنها لم تكتب مقالة واحدة تستنكر هذا الإجراء، ولم يلق واحد منها محاضرة عن هذا الأمر، وإنما اجتمعت النخبة فيها ودرست المشكلة لكي تحدد موقفها منها، وحددت موقفها بأن يتطوع كل ذي علم بقدر ما عنده من العلم، وهكذا أصبح كل بيت من بيوت المتعلمين مدرسة في ساعات معينة، ولا نستطيع أن نبرر هذا بتفوق اليهود المادي أو العلمي لأننا لا نستطيع أن نفترض أن الدكتور أو الصيدلي أو المحامى اليهودي أغزر علماً من زميله الجزائري، فالاختلاف هو في الموقف الاجتماعي إزاء مشكلة معينة) [50].
مثال آخر يتذكره ابن نبي وهو يحلل هذه المشكلة: (وبدلا من أن تكون البلاد (الجزائر) ورشة للعمل المثمر والقيام بالواجبات فإنها أصبحت منذ سنة (1936م)، سوقاً للانتخابات، وصارت كل منضدة في المقاهي منبرا تلقى منه الخطب الانتخابية، وهكذا تحول الشعب إلى جماعة من المستمعين يصفقون لكل خطيب، أو قطيع انتخابي يقاد إلى صناديق الاقتراع، وفى هذا اختلاس أي اختلاس للعقول التي أشرفت على قطف ثمار نهضتها) [51].
وهذا المرض لا يزال مسيطراً على العقول، فكثيراً ما نسمع في قرية من القرى أو حي من الأحياء المطالبة بحقهم في فتح طريق أو تنظيف شارع أو فتح مدرسة، وكان بوسعهم أن يتعاونوا لإنجاز مثل هذا العمل.
وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم الناس القيام بالواجب عندما أعطى الذي جاء يطلب صدقة حبلا وفأسا وأمره أن يحتطب ولا يتكفف أيدي الناس [52].
العقلية الذرية:
يقصد بهذا المصطلح أن بعض الناس (ينظر إلى الأحداث والوقائع مجزأة منفصلة فردية، كأنما في مجموعها لا تكون حلقة من التاريخ وإنما كوماً من الأحداث) [53].
وهذه العقلية موجودة في أوساط المسلمين بسبب بعدهم عن (الفعل الحضاري) وبسبب التكوين الاجتماعي الذي ورثناه، ومن مظاهرها (أن جهودنا في كل مجال لا تتسمم بالجهد المتواصل ولكن بالمحاولات المتتابعة، فما أن يبدأ نشاط ما حتى يذهب فجأة كأنه وثبة برغوث أو كأنه مركب على صورة الخط المنقط الذي يمر من نقطة إلى أخرى دون أن يصور شيئاً، ولنعتبر على سبيل المثال كم منذ نهاية الحرب ظهرت مجلة في بلادنا ثم اختفت بنفس السرعة) [54].
ومن مظاهر هذه العقلية (العجز عن أن نعقد صلات بين الأفكار وعن أن نعطي لمناقشة مشكلة ما حركة متصلة مطردة لا يحجل فيها الفكر من نقطة إلى نقطة، بل يطرد دائماً من مقدمة إلى نتيجة) [55] (وإذا كان من الممكن تجزئة المشكلة لتجزئة حلولها “فكل الطرق تؤدي إلى روما” ولكن الطريق عبر المنهج هو أطول الطرق بلا شك، إن طريق الحضارة لا يمكن خطه بإقامة مدرسة هنا ومصنع هناك وسدٍّ هنالك، أو بوضع سلة معدنية في جانب هذا الشارع حيث لا أحد يفكر في إلقاء المهملات) [56].
ولو أننا تعودنا الربط والتعميم وتتبع الجزئيات من الكليات لما استغربنا تشابه المشكلات الخارجية التي يواجهها العالم الإسلامي، فالعالم الذي نواجهه (الاستعمار) لا تأتى فيه الأشياء عفواً وإنما كنتائج لخطط محكمة، فعندما تفشل بعثة علمية في بلاد الغرب أو أحد أفراد هذه البعثة نفاجأ: كيف حصل هذا؟ [57].
ولو تتبعنا بعض الظواهر المحيرة في العالم الإسلامي لوجدنا أن المحرك لها واحد، ولكن عقلية تجزئ الأشياء تجعلنا لا نشعر بالقاسم المشترك فيما بينها.
إن هذا النزوع نحو تجزئة مشكلة الحياة إلى ذرة ذرة، وهذا العجز عن التعميم ليس من خواص الفكر المسلم كما يحاول أن يؤكده المستشرق الإنكليزي “جب” (بل هو طراز للعقل الإنساني بعامة عندما يقصر عن بلوغ درجة معينة من النضج، وإن التراث الثقافي الخطير الذي خلفته الحضارة الإسلامية يظل شاهدا على ما كان يتصف به الفكر الإسلامي في عصوره الذهبية بالإحساس “بالقانون” وهو يستلزم القدرة على التركيب، وأصول الفقه الإسلامي أكبر دليل على ذلك) [58].
يتبع