الفقه على المذاهب الأربعة
المؤلف: عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري
الجزء الاول
[كتاب الطهارة]
صـــــ 136 الى صــــــــ143
الحلقة (28)
[مباحث التيمم]
يتعلق بالتيمم مباحث: أحدها: تعريفه، ودليله، وحكمة مشروعيته،
ثانيها: أقسامه؛
ثالثها: شرطه؛
رابعها: الأسباب التي تجعل التيمم مشروعاً:
خامسها: أركان التيمم، أو فرائضه؛
سادسها: سننه؛
سابعها: مندوباته ومكروهاته؛
ثامنها: مبطلاته، وإليك بيانها.
[تعريف التيمم ودليله وحكمة مشروعيته]
معناه في اللغة: القصد،
ومنه قوله تعالى: {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} فمعنى - تيمموا تقصدوا، ومعناه في الشرع مسح الوجه واليدين بتراب طهور على وجه مخصوص (1) ، وليس معناه أن يعفر وجهه ويديه بالتراب، وإنما الغرض أن يضع يده على تراب طهور، أو حجر، أو نحو ذلك من الأشياء التي سيأتي بيانها، وهو مشروع عند فقد الماء، أو العجز عن استعماله لسبب من الأسباب الآتي بيانها. وقد ثبتت مشروعيته بالكتاب والسنة والإجماع.
فأما الكتاب فقد قال تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على صفر، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء، فتيمموا صعيداً طيباً، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه، ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج} ، فهذه الآية الكريمة قد دلت على أن التيمم شرع للناس عند عدم الماء: أو العجز عن استعماله.وحكمة مشروعيته هي أن الله سبحانه قد رفع عن المسلمين الحرج والمشقة فيما كلفهم به من العبادات،
وقد يقال: إن رفع الحرج يقتضي عدم التكليف بالتيمم عند فقد الماء، أو العجز عن استعماله، فتكليفهم بالتيمم فيه حرج أيضاً وهذا قول فاسد، لأن معنى رفع الحرج هو أن يكلفهم الله سبحانه بما في طاقتهم، فمن عجز عن الوضوء أو الغسل، وقدر على التيمم، فإنه يجب عليه أن يمتثل أمر الله تعالى، ولا يناجيه إلا بالكيفية التي بينها لها، لأن الغرض من العبادات جميعها إنما هو امتثال أمر الله تعالى، وإشعار القلوب بعظمته، وأنه هو وحده الذي يقصد بالعبادة، ثم إن بعض الأمور التي أمرنا أن نعبده بها لنا فيها مصلحة ظاهرة،(1) المالكية، والشافعية: زادوا في تعريف التيمم كلمة - بنية - وذلك لأنها ركن من أركان التيمم عندهم
***************
كالغسل - والوضوء، والحركة في الصلاة، والبعد عن الملاذ في الصيام، ونحو ذلك من الأمور التي تنفع الأبدان، وبعضها لنا فيه مصلحة باطنة، وهو طهارة القلوب بامتثال أمره، وهذه تفضي إلى المنافع الظاهرة، لأن من خشي ربه وامتثل أمره حسنت علاقته مع الناس؛ فسلموا من شره، وانتفعوا بخيره، وذلك ما يطالب به المرء في حياته الدنيا، فامتثال الأوامر الإلهية خير ومصلحة للمجتمع الإنساني في جميع الأحوال، ومما لا ريب فيه أن التيمم إنما يفعل امتثالاً له عز وجل، فهو من وسائل طاعته الموجبة للسعادة.وقد يظن بعض من لا يفقه أغراض الشريعة الإسلامية التي تترتب عليها سعادة المجتمع، وتهذيب أخلاق الناس أن التراب قد يكون ملوثاً - بالميكروبات - الضارة، فمسح الوجه به ضرر لا نفع فيه، والذي يقول هذا لم يفهم معنى التيمم، ولم يدرك الغرض منه، لأن الشارع قد اشترط أن يكون التراب طاهراً نظيفاً، ولم يشترط أن يأخذ بالتراب، ويضعه على وجهه، بل المفروض هو أن يأتي بكيفية خاصة تبيح له العبادة الموقوفة على الوضوء والغسل،
والذي يقول: إن وضع اليد على الرمل النظيف أو الحجر الأملس النظيف، أو الحصى، ونحو ذلك ينقل الميكروبات الضارة جدير به أن لا يضع يده على الخبز، أو الفواكه، أو الخضر، وجدير به أن يحجر على الناس العمل في المعادن، ودبغ الجلود، وصنع الأحذية، والخشب، بل جدير به أن لا يضع يده على شيء من الأشياء؛ لما عساه أن يكون قد علق بها شيء من الميكروبات، إن هذا قول من يريد أن ينسلخ عن التكاليف ليكون طليقاً في باب الشهوات التي تطمح إليها النفوس الفاسدة فتفضي بها إلى الهلاك والدمار؛ وإلا فإننا قد شاهدنا العمال الذين يباشرون تسميد الأرض - بالسباخ - ويباشرون تنقية المزروعات من الافات أقوى من هؤلاء المستهترين بالدين صحة، وأهنأ منهم عيشاً، فما بال الميكروبات لم تفتك بهم؟ على أن الدين الإسلامي يحث الناس دائماً على الطهارة والنظافة، ويأمرهم باجتناب الأقذار، والبعد عن وسائل الأمراض، ولذا اشترط أن يكون التراب الذي يضع عليه المتيمم يده طاهراً نظيفاً، كالثوب النظيف، والمنديل النظيف فإن كان قذراً ملوثاً، فإنه لا يصح التيمم به.بقي شيء آخر،
وهو أن يقال: لماذا شرع التيمم في عضوين من أعضاء الوضوء، وهما الوجه واليدان دون باقي الأعضاء؟ والجواب: ان الغرض من التيمم إنما هو التخفيف فيكفي فيه أن يأتي ببعض صورة الوضوء،
على أن العضوين اللذين يجب غسلهما دائماً في الوضوء هما الوجه واليدان: أما الرأس فإنه يجب مسحها في جميع الأحوال، وأما الرجلان فتارة يغسلان، وتارة يمسحان، وذلك فيما إذا كان لابساً الخف، فالله سبحانه أوجب التيمم في العضوين اللذين يجب غسلهما دائماً، ولا يخفى ما في ذلك من التخفيف.
وأما دليل مشروعية التيمم من السنة: فأحاديث كثيرة: منها ما رواه البخاري، ومسلم منحديث عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معتزلاً، لم يصلّ مع القوم، فقال: "ما يمنعك يا فلان أن تصلي في القوم؟
فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء،
فقال: عليك بالصعيد، فإنه يكفيك"، وقد أجمع المسلمون على أن التيمم يقوم مقام الوضوء والغسل، وإن اختلفت آراؤهم في أسباب التيمم، وفيما يصح عليه التيمم من أجزاء الأرض، وسنبينه لك مفصلاً في موضعه قريباً.[أقسام التيمم]ينقسم التيمم إلى قسمين (1) ،
الأول: التيمم المفروض،
الثاني: التيمم المندوب، فيفترض التيمم لكل ما يفترض له الوضوء أو الغسل من صلاة، ومس مصحف، وغير ذلك ويندب لكل ما يندب له الوضوء، كما إذا أراد أن يصلي نفلاً ولم يجد ما يتوضأ به، فإنه يصح له أن يتيمم ويصلي، فالنفل مندوب، والتيمم له مندوب؛ يعني أن يثاب عليه ثواب المندوب، وإن كان الصلاة لا تصح بدون التيمم، فهو شرط لصحة الصلاة مع كونه في ذاته مندوباً، بحيث لو تركه وترك الصلاة النافلة التي يريد أن يصليها به، فإنه لا يؤاخذ.
[شروط التيمم]
يشترط لصحة التيمم أمور: منها دخول الوقت (2) ، فلا يصح التيمم قبله، ومنها النية (3) ؛ ومنها الإسلام، ومنها طلب الماء عند فقده على التفصيل الآتي، ومنها عدم وجود الحائل على عضو من أعضاء التيمم، كدهن وشمع يحول بين المسح وبين البشرة، ومنها الخلو من الحيض والنفاس، ومنها وجود العذر بسبب من الأسباب التي ستذكر بعد.هذا، وللتيمم شروط وجوب (4) أيضاً، كالوضوء والغسل، وقد ذكرت الشروط مجتمعة عند كل مذهب في أسفل الصحيفة.
(1) الحنفية: زادوا قسماً ثالثاً، وهو التيمم الواجب، وقد عرفت مما تقدم في "سنن الوضوء أن الحنفية قالوا: إن لواجب أقل من الفرض، فيجب التيمم للطواف، بحيث لو طاف بدون وضوء، تيمم، فإنه يصح طوافه، ولكنه يأثم إثماً أقل من إثم ترك الفرض، وقد بينا لك ذلك في "الوضوء" بياناً وافياً، فارجع إليه إن شئت
(2) الحنفية قالوا: يصح التيمم قبل دخول الوقت
(3) المالكية، والشافعية قالوا: النية ركن لا شرط، كما ذكر آنفاً
(4) المالكية قالوا: للتيمم شروط وجوب فقط، وشروط صحة فقط. وشروط وجوب وصحة
معاً، فأما شروط وجوبه فهي أربعة: البلوغ، وعدم الإكراه على تركه، والقدرة على الاستعمال، فلو عجز عن التيمم سقط عنه، ووجوب ناقض فإن لم ينتقض لا يجب ضرورة.
أما شروط صحته، فهي ثلاثة: الإسلام، وعدم الحائل، وعدم المنافي - أي عدم ما ينقضه حال فعله - وأما شروط وجوبه وصحته معاً فهي ستة: دخول الوقت، والعقل، وبلوغ الدعوة - بأن يبلغه أن الله تعالى أرسل رسولاً -، وانقطاع دم الحيض والنفاس، وعدم النوم والسهو ووجود الصعيد الطاهر، فلم يعدوا طلب الماء عند فقده من شروطه، وإن قالوا بلزومه في بعض الأحوال، كما يأتي، ولم يذكروا منها وجود العذر اكتفاء بذكره في الأساب، وهذه الشروط هي التي ذكرت في الوضوء، إلا أن دخول الوقت هنا شرط وجوب وصحة معاً، بخلافه في الوضوء، فإنه شرط وجوب فقط.
الحنفية: اقتصروا في التيمم على ذكر شروط الصحة، وكذلك في الطهارة المائية اقتصروا على ذكر شروط الصحة، وقد تقدم في الوضوء أنه لامانع من تقسيمها إلى الأقسام الثلاثة التي ذكرها المالكية، وهي شروط وجوب فقط، وشروط صحة فقط، وشروط وجوب وصحة معاً، باعتبارين مختلفين، كالحيض والنفاس، فإن عدمهما شرط للوجوب من حيث الخطاب، فإن الحائض أو النفساء لا تكلف بالوضوء فلا يجب عليهما، وشرط للصحة من حيث أداء الواجب فإن وضوء الحائض لا يترتب عليه المقصود منه، وهو أداء ما يتوقف عليه من صلاة ونحوها، فإن الصحة ترتب المقصود من الفعل على الفعل، ثم يستحب الوضوء من الحائض، أو النفساء لتذكر عادتهما، ولكن هذا الوضوء لا يصح به أداء ما شرع لأجله الوضوء.
وحينئذ يمكن تقسيم الشروط هنا كالآتي: شروط وجوب فقط، وهي ثلاثة: البلوغ، والقدرة على استعمال الصعيد، ووجود الحدث الناقض، أما الوقت فهو شرط لوجوب الأداء لا لأصل الوجب، فلا يجب أداء التيمم، إلا إذا دخل الوقت، بكون الوجوب موسعاً في أول الوقت، ومضيقاً إذا ضاق الوقت، وكذلك في الوضوء والغسل، وقد تقدم عده في الوضوء شرطاً للوجوب تسامحاً، وشروط صحة فقط، وهي سبعة: النية؛ وفقد الماء، أو العجز عن استعماله وعدم وجود حائلعلى أعضاء التيمم، كدهن وشمع، وعدم المنافي له حال فعله: بأن يتيمم، ويحدث أثناء تيممه، والمسح بثلاث أصابع، فأكثر إذا مسح بيده؛ ولا يشترط المسح بنفس اليد، فلو مسح بغيرها أجزأه، كما يأتي؛ وطلب الماء عند فقده إن ظن وجوده؛ وتعميم الوجه واليدين بالمسح، وشروط وجب وصحة معاً، وهي الإسلام، فإن التيمم لا يجب على الكافر، لأنه غير مخاطب، ولا يصح منه، لأنه ليس أهلاً للنية، وانقطاع دم الحيض والنفاس؛ والعقل، ووجوب الصعيد الطهور، فإن فاقد الصعيد الطهور لا يجب عليه التيمم. ولا يصح منه بغيره، حتى ولو كان طاهراً فقط، كالأرض التي أصابتها نجاسة، ثم جفت، فإنها تكون طاهرة تصح الصلاة عليها، ولا تكون مطهرة، فلا يصح التيمم بها، كما تقدم في "كيفية التطهير".
الشافعية: عدوا الشروط مجتمعة بدون تقسيم إلى شروط وجوب. وشروط صحة، وهي ثمانية:وجود السبب من فقد ماء، أو عجز عن استعماله، والعلم بدخول الوقت، فلا يصح قبل دخول وقت الصلاة، وتقدم إزالة النجاسة عن البدن إذا كانت غير معفو عنها، فلو تيمم قبل إزالة النجاسة لم يصح تيممه، والإسلام، إلا إذا كانت كتابية انقطع حيضها أو نفاسها، فإنه يصح تيممها ليحل لزوجها قربانها للضرورة، وعدم الحيض أو النفاس، إلا إذا كانت الحائض أو النفساء محرمة، فإنه يصح منهما التيمم بدلاً عن الاغتسال المسنون للإحرام عند العجز والتمييز، إلا المجنونة التي تيمم ليحل قربانها، وعدم الحائل بين التراب وبين المسموح، وطلب الماء عند فقده على ما يأتي.
الحنابلة عدوا الشروط مجتمعة من غير فرق بين وجوب وصحة وهي: دخول وقت الصلاة، سواء كانت فرضاً أو غيره ما دامت مؤقتة، ولو حكماً، كصلاة الجنازة، فإن وقتها يدخل بتمام غسله أو تيممه، فلو تيمم قبل ذلك لا يصح تيممه، وتعذر استعمال الماء لسبب من الأسباب الآتي بيانها؛ والتراب الطهور المباح الذي لم يحترق، بشرط أن يكون له غبار يعلق بالعضو، كما يأتي، والنية؛ والعقل، والتمييز، والإسلام، وعدم الحائل، وعدم المنافي، والاستناء، أو الاستجمار قبل التيمم
***********************
الأسباب التي تجعل التيمم مشروعاً
ترجع هذه الأسباب إلى أمرين أحدهما: فقد الماء، بأن لم يجده أصلاً.
أو وجد ماء لا يكفي للطهارة (1) ،
ثانيهما: العجز عن استعمال الماء، أو الاحتياج إليه، بأن يجد الماء الكافي للطهارة، ولكن لا يقدر على استعماله، أو كان يقدر على استعماله، ولكن يحتاجه لشرب ونحوه، على التفصيل الآتي، أما باقي الأسباب التي سنذكرها بعد فإنها أسباب للعجز عن استعمال الماء، وأما من فقد الماء، فإنه يتيمم لكل ما يتوقف على الطهارة بالماء من صلاة مكتوبة، وصلاة جنازة (2) ، وجمعة، وعيد، وطواف، ونافلة، ولو كان يريد صلاتها وحدها (3) دون الفرض، وغير ذلك، ولا فرق في فاقد الماء بين أن يكون صحيحاً أو مريضاً، حاضراً أو مسافراً سفر قصر أو غيره، ولو كان السفر معصية، أو وقعت فيه معصية (4) ، وأما من وجد الماء،
وجود السبب من فقد ماء، أو عجز عن استعماله، والعلم بدخول الوقت، فلا يصح قبل دخول وقت الصلاة، وتقدم إزالة النجاسة عن البدن إذا كانت غير معفو عنها، فلو تيمم قبل إزالة النجاسة لم يصح تيممه، والإسلام، إلا إذا كانت كتابية انقطع حيضها أو نفاسها، فإنه يصح تيممها ليحل لزوجها قربانها للضرورة، وعدم الحيض أو النفاس، إلا إذا كانت الحائض أو النفساء محرمة، فإنه يصح منهما التيمم بدلاً عن الاغتسال المسنون للإحرام عند العجز والتمييز، إلا المجنونة التي تيمم ليحل قربانها، وعدم الحائل بين التراب وبين المسموح، وطلب الماء عند فقده على ما يأتي.
الحنابلة عدوا الشروط مجتمعة من غير فرق بين وجوب وصحة وهي: دخول وقت الصلاة، سواء كانت فرضاً أو غيره ما دامت مؤقتة، ولو حكماً، كصلاة الجنازة، فإن وقتها يدخل بتمام غسله أو تيممه، فلو تيمم قبل ذلك لا يصح تيممه، وتعذر استعمال الماء لسبب من الأسباب الآتي بيانها؛ والتراب الطهور المباح الذي لم يحترق، بشرط أن يكون له غبار يعلق بالعضو، كما يأتي، والنية؛ والعقل، والتمييز، والإسلام، وعدم الحائل، وعدم المنافي، والاستناء، أو الاستجمار قبل التيمم
(1) الشافعية، والحنابلة قالوا: إن وجد ماء لا يكفي الطهارة وجب عليه أن يستعمل ما تيسر له منه في بعض أعضاء الطهارة، ثم يتيمم عن الباقي
(2) المالكية قالوا: لا يتيمم فاقد الماء إذا كان حاضراً صحيحاً للجنازة، إلا إذا تعينت عليه، بأن لم يوجد متوضئ يصلي عليها بدله، وإذا تيمم للفرض فإنه يصح له أن يصلي بتيممه للفرض على الجنازة تبعاً، أما المسافر أو المريض، فإنه يصح له أن يتيمم لها استقلالاً، سواء تعينت عليه، أو لا
(3) المالكية قالوا: لا يجوز لفاقد الماء الحاضر الصحيح أن يتيمم للنوافل إلا تبعاً للفرض، بخلاف المسافر والمريض، كما ذكر قبل هذا
(4) الشافعية قالوا: إذا كان عاصياً بالسفر: فإن فقد الماء، ولم يجده أصلاً تيمم وصلى، ثم أعاد الصلاة؛ أما إن عجز عن استعماله لمرض ونحوه. فلا يصح له التيمم، إلا إذا تاب على عصيانه، فإذا تيمم بعد ذلك وصلى لم يعد صلاته
***************************
وعجز عن استعماله لسبب من الأسباب الشرعية، فإنه كفاقد الماء، يتيمم لكل ما يتوقف على الطهارة، ومن أسباب العجز أن يغلب على ظنه حدوث مرض باستعماله، أو زيادة مرض، أو تأخر شفاء، إذا استند في ذلك إلى تجربة، أو إخبار طبيب حاذق مسلم (1) ، ومنها خوفه من عدم يحول بينه وبين الماء إذا خشي على نفسه أو ماله أو عرضه، سواء أكان العدو آدميا، أم حيواناً مفترساً، ومنها احتياجه للماء في الحال أو المآل، فلو خاف - ظناً لا شكاً - عطس نفسه، أو عطش آدمي غيره، أو حيوان لا يحل قتله، ولو كلباً (2) غير عقور عطشاً يؤدي إلى هلاك، أو شدة أذى، فإنه يتيمم، ويحفظ ما معه من الماء، وكذلك إن احتاج للماء لعجن أو طبخ، وكذلك إن احتاج إليه لإزالة نجاسة غير معفو عنها (3) ، ومنها فقد آلة الماء، كحبل ودلو، لأنه يجعل الماء الموجود في البئر ونحوها كالمفقود (4) ، ومنها خوفه من شدة برودة الماء، بأن يغلب على ظنه حصول ضرر باستعماله بشرط أن يعجز عن تسخينه، فإنه في كل هذه الأحوال يتيمم (5) ، وفي لزوم طلب الماء عند فقده تفصيل في المذاهب (6) .
أعاد الصلاة؛ أما إن عجز عن استعماله لمرض ونحوه. فلا يصح له التيمم، إلا إذا تاب على عصيانه، فإذا تيمم بعد ذلك وصلى لم يعد صلاته
(1) المالكية قالوا: يجوز الاعتماد في ذلك على إخبار الطبيب الكافر عند عدم وجود الطبيب المسلم العارف به ومثل ذلك ما إذا استند إلى القرائن العادية، كتجربة في نفسه، أو في غيره إن كان موافقاً له في المزاج.
الشافعية قالوا: يكفي أن يكون الطبيب حاذقاً، ولو كافراً بشرط أن يقع صدقه في نفس المتيمم، أما التجربة فلا تكفي على الراجح، وله أن يعتمد في المرض على نفسه إذا كان عالماً بالطب، فإن لم يكن طبيباً، ولا عالماً بالطب، جاز له التيمم: وأعاد الصلاة بعد برئه
(2) الحنابلة قالوا: إن الكلب الأسود، كالعقور؛ لا يحفظ له الماء، ولو هلك من العطش
(3) الشافعية قالوا: يشترط أن تكون هذه النجاسة على بدنه؛ فإن كانت على ثوبه فإنه يتوضأ بالماء مع وجود النجاسة؛ ولا يتيمم؛ ويصلي عرياناً إن لم يجد ساتراً؛ ولا إعادة عليه
(4) المالكية قالوا: إن فاقد آلة الماء أو من يناوله الماء، لا يتيمم إلا إذا تيقن أو ظن أنه لا يجدها في الوقت
(5) الحنابلة قالوا: لا يتيمم لخوف من شدة برودة الماء إلا إذا كان محدثاً حدثاً أكبر؛ لأنه هو الذي يتصور فيه ذلك، أما المحدث حدثاً أصغر، فإنه لا يتيمم إلا إذا تحقق الضرر
(6) المالكية قالوا: إذا تيقن، أو ظن أنه بعيد عنه بقدر ميلين، فأكثر، فإنه لا يلزمه طلبه، أما إذا تيقن، أو ظن، أو شك وجوده في مكان أقل من ميلين، فإنه يلزمه طلبه إذا لم يشق عليه؛ فإن شق عليه، ولو دون ميلين، فلا يلزمه طلبه ولو راكباً، ويلزمه أيضاً أن يطلب الماء من رفقته إن اعتقد، أو ظن، أو شك، أو توهم أنهم لا يبخلون عليه به، فإن لم يتطلب منهم، وتيمم أعاد الصلاة أبداً في حالة ما إذا كان يعتقد أنهم يعطونه الماء، أو يظن، وأعاد في الوقت فقط في حالة ما إذا كان يشك في ذلك، أما في حالة التوهم فإنه لا يعيد أبداً، وشرط الإعادة في الحالتين أن يتبين وجود الماء معهم، أو لم يتبين شيئاً، فإن تبين عدم الماء فلا إعادة عليه مطلقاً، ولزمه شراء الماء بثمن معتاد لم يحتج له، وأن يستدين إن كان ملياً ببلده.
الحنابلة قالوا: إن فاقد الماء يجب عليه طلبه في رحله، وما قرب منه عادة، ومن رفقته ما لم يتيقن عدمه، فإن تيمم قبل طلبه لم يصح تيممه، ومتى كان الماء بعيداً لم يجب عليه طلبه، والبعيد ما حكم العرف به.
الحنفية قالوا: إن كان فاقد الماء في المصر، وجب عليه قبل طلبه التيمم، سواء ظن قالوا قربه، أو لم يظن: أما إن كان مسافراً، فإن ظن قربه منه بمسافة أقل من ميل، وجب عليه طلبه أيضاً إن أمن الضرر على نفسه وماله، وإن ظن وجوده في مكان بعيد عن ذلك، كأن كان ميلاً فأكثر، فإنه لا يجب عليه طلبه فيه مطلقاً، ولا فرق بين أن يطلب الماء بنفسه، أو بمن يطلب له، ويجب أن يطلبه من رفقته إن ظن أنه إذا سألهم أعطوه، فإن تيمم قبل الطلب لم يصح التيمم، وإن شك في الإعطاء وتيمم وصلى ثم سألهم فأعطوه يعيد الصلاة، فإن منعوه قبل شروعه في الصلاة، ثم أعطوه بعد فراغه لم يعد، وإن كانوا لا يعطونه إلا بثمن قيمته في أقرب موضع من المواضع التي يعز فيها، أو بغبن يسير وجب عليه شراؤه إن كان قادراً، بحيث يكون الثمن زائداً عن حاجته، أما إذا كانوا لا يعطونه إلا بغبن فاحش، فإنه لا يجب عليه شراء الماء، ويتيمم.
الشافعية قالوا: يجب على فاقد الماء أن يطلبه قبل التيمم بعد دخول الوقت مطلقاً، سواء في رحله، أو من رفقته، فينادي فيهم بنفسه، أو بمن يأذنه، إن كان ثقة، ويستوعبهم، إلا إذا ضاق وقت الصلاة، فإنه يتيمم ويصلي من غير طلب واستيعاب لحرمة الوقت، وفي هذه الحالة تجب عليه الإعادة إن كان المحل يغلب فيه وجود الماء، وإلا فلا إعادة، فإن لم يجده بعد ذلك، فإن له أحوالاً ثلاثة: أن يكون في حد الغوث - وهو أن يكون في مكان يبعد عنه رفقته، بحيث لو استغاث بهم أغاثوه مع اشتغالهم بأعمالهم - وضبطوا في هذه المسافة بنهاية ما يقع عليه البصر المعتدل، مع رؤية الأشخاص والتمييز بينها، أو أن يكون في حد القرب - وهو أن يكون بينه وبين الماء نصف فرسخ، أي ستة آلاف خطوة؛ فأقل -، أو أن يكون في حد البعد - وهو أن يكون بينه وبين الماء أكثر من ستة آلاف خطوة.
فأما حد الغوث، فإنه لا يخلو إما أن يتيقن فيه وجود الماء؛ أو يتردد فيه، فإن تيقن وجود الماء وجب عليه طلبه، بشرط الأمن على نفسه وماله وعضوه ومنفعته؛ ولا يشترط الأمن على خروج الوقت؛ وأما إن تردد في وجود الماء، فإنه يجب عليه طلبه إن أمن على نفسه وماله وعضوه ومنفعته، وأمن على ماله به اختصاص، وإن لم يصح ملكه لنجاسته، كالروث، وأمن من الانقطاع عن رفقته، ومن خروج الوقت.
وأما حد القرب، فإنه لا يجب عليه طلب الماء فيه، إلا إذا تيقن وجوده، بشرط أن يأمن على نفسه وماله وعضوه ومنفعته؛ وأما أمنه على الوقت في هذه الحالة، فإنه لا يشترط إن كانت الجهة التي هو بها يغلب فيها وجود الماء، وإلا اشترط الأمن على الوقت أيضاً.
وأما حد البعد فلا يجب عليه طلب الماء، ولو تيقن وجوده لبعده