عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 10-11-2019, 02:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,931
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معالم فقه الخلاف

معالم فقه الخلاف 1
عبد الوهاب بن محمد الحميقاني

التمهيد:
أولاً: نشأة الخلاف:
لما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه -رضوان الله عليهم- يبلغهم دين الله - سبحانه -، ويعلمهم أحكامه، ويقضي بينهم بشرعه لم يختلفوا كثيراً في استنباط الأحكام الشرعية، وإن اختلفوا في حكم مسألة رجعوا في ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لكونه مصدر بيان الأحكام الشرعية في كل شأن من شؤونهم.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقر المصيب منهم، إن كان الصواب مع أحدهم، أو يبين لهم وجه الصواب إن كان قد خفي عليهم؛ وبهذا ينحسم الخلاف بينهم ويجتمعون على قوله - صلى الله عليه وسلم - ويصدرون عن رأيه.
مثال ذلك ما رواه عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: " احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل؛ فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (( يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟، فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: (وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) [النساء: 29]، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئاً))[4].
فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسكوته أقر عمراً - رضي الله عنه - على اجتهاده، وأن ما فعله كان صواباً، وانحسم الخلاف في هذه المسألة.
ومثله أيضاً ما رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: " خرج رجلان في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيداً طيباً فصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد: (( أصبت السنة وأجزأتك صلاتك، وقال للذي توضأ وأعاد: لك الأجر مرتين))[5].
فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - لهما ولأصحابه أن من لم يعد الصلاة أصاب الشريعة الثابتة بالسنة، ومن أعاد الصلاة كان له الأجر مرتين؛ لأن كلاً منهما صلاة صحيحة تترتب عليها المثوبة وإن لم يكن مطالباً شرعاً بالثانية؛ لأنها تطوع منه والفريضة هي الأولى[6].
وهكذا مضى الصحابة - صلى الله عليه وسلم - في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجعون إليه في كل ما ينزل بهم من نوازل، أو يستجد فيهم من مسائل فيبينها لهم، وبذلك يرتفع خلافهم ويصبح إقراره أو بيانه بعد ذلك سنة وشريعة فيهم، وهكذا دأب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هداية أصحابه ورعايتهم وبيان الحق لهم، فيما جهلوه أو اختلفوا فيه في كل أمر من أمورهم، وما مات إلا وقد تركهم على البيضاء الواضحة كما قال عمه العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - عند موته - صلى الله عليه وسلم -: " والله ما مات حتى ترك السبل نهجاً واضحاً؛ فأحل الحلال وحرم الحرام، ونكح وطلق وحارب وسالم، ما كان أرعى غنم يتبع بها صاحبها رؤوس الجبال يخبط عليها العضاة بمخبطه، ويمدر حوضها بيده، بأنصب ولا أدأب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان فيكم"[7].
وبوفاته - صلى الله عليه وسلم - انقطع الوحي ولم يبق للصحابة - رضي الله عنهم - بعد شخصه الكريم - صلى الله عليه وسلم - مصدراً للتشريع إلا كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي وعوها وحفظوها عنه، فكانوا يعرضون ما نزلت بهم من حوادث وما اختلفوا فيه من مسائل على كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن وجدوا لله - عز وجل - أو لرسوله - صلى الله عليه وسلم - فيها حكماً قضوا به، وإن كانت مستجدة لم يقض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها بحكم، اجتهدوا في استنباط حكمها، يلحقون النظير بنظيره، ويردون الشبيه إلى شبيهه، يجتهدون في ذلك ولا يألون جهداً في موافقة الشرع.
قال ولي الله الدهلوي: " فانقضى عصره الكريم وهم على ذلك، ثم إنهم تفرقوا في البلاد وصار كل واحد مقتدى ناحية من النواحي، فكثرت الوقائع ودارت المسائل، فاستفتوا فيها، فأجاب كل واحد حسب ما حفظه أو استنبطه، وإن لم يجد فيما حفظه أو استنبطه ما يصلح للجواب، اجتهد برأيه وعرف العلة التي أدار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها الحكم في منصوصاته، فطرد الحكم حيثما وجدها، لا يألو جهداً في موافقة غرضه - عليه الصلاة والسلام - فعند ذلك وقع الاختلاف بينهم" [8].
كاختلافهم في قتال من ارتد من العرب بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أول الأمر حتى أقام أبو بكر - رضي الله عنه - الحجة عليهم في ذلك فأجمعوا على رأيه.
قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: " لما توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو بكر - رضي الله عنه -، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر - رضي الله عنه -: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى عليه وسلم: (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله))، فقال: " والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها"، قال عمر - رضي الله عنه -: " فو الله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر - رضي الله عنه - فعرفت أنه الحق" [9].
وكاختلافهم في توريث الجد مع الأخوة[10].
إذ ذهب أبو بكر وابن عباس وكثير من الصحابة - رضي الله عنه - إلى أن الجد يسقط جميع الأخوة والأخوات في الميراث كالأب.
وكان زيد بن ثابت وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم - يورثون الأخوة مع الجد، وبينوا أن الجد لا يحجب الأخوة من الميراث لأنه يدلي إلى الميت بواسطة الأب كالأخوة سواء بسواء.
إلى غير ذلك من المسائل الكثيرة التي اختلف فيها الصحابة ي في العلم والعمل.
ومع تفرق الصحابة في الأمصار بعدما فتحوها، وما كان مع كل واحد منهم من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما ليس مع الآخر، اتسعت دائرة الخلاف والتباين في آرائهم واجتهاداتهم، وقد أخذ ذلك عنهم التابعون كل في مكانه، وهكذا امتد الاختلاف فيما يستجد من أحكام إلى التابعين واتسع نطاقه في وقتهم تبعاً لتجدد الحوادث والمسائل التي تحتاج إلى بيان الحكم الشرعي فيها، فاختلفت اجتهاداتهم وآراؤهم في تلك الحوادث لاختلاف علومهم وتفاوت مداركهم ولعدم بلوغ سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأكملها إلى كل واحد منهم، وغيرها من أسباب الخلاف الآتي ذكرها.
ثم أتى بعد التابعين تابعوهم، كأبي حنيفة ومالك والليث والأوزاعي والثوري والشافعي وإسحاق وأحمد وأمثالهم من علماء وأئمة هذه الأمة " فسلكوا على آثارهم اقتصاصاً، واقتبسوا هذا الأمر عن مشكاتهم اقتباساً، وكان دين الله - سبحانه - أجل في صدورهم، وأعظم في نفوسهم، من أن يقدموا عليه رأياً أو معقولاً أو تقليداً أو قياساً فطار لهم الثناء الحسن في العالمين، وجعل الله - سبحانه - لهم لسان صدق في الآخرين" [11].
قال الحافظ ابن حزم مبيناً نشأة الخلاف وأسبابه بين الصحابة ومن بعدهم: " وقد علم كل أحد أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا حوالي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة مجتمعين، وكانوا ذوي معايش يطلبونها وفي ضنك من القوت شديد، قد جاء ذلك منصوصاً وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر أخرجهم الجوع من بيوتهم، فكانوا من متحرف في الأسواق ومن قائم على نخله، ويحضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل وقت منهم الطائفة إذا وجدوا أدنى فراغ مما هم بسبيله.
هذا ما لا يستطيع أحد أن ينكره، وقد ذكر ذلك أبو هريرة - رضي الله عنه - فقال: " إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على نخلهم، وكنت امرأً مسكيناً أصحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملء بطني" 12]، وقد أقر ذلك عمر فقال: " فاتني مثل هذا من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألهاني الصفق في الأسواق" ذكر ذلك في حديث استئذان أبي موسى" [13].
فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسأل عن المسألة ويحكم بالحكم ويأمر بالشيء ويفعل الشيء، فيعيه من حضره ويغيب عمن غاب عنه.
فلما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وولي أبو بكر - رضي الله عنه - فمن حينئذٍ تفرق الصحابة للجهاد إلى مسيلمة وإلى أهل الردة وإلى الشام والعراق، وبقي بعضهم بالمدينة مع أبي بكر - رضي الله عنه -.
فكان إذا جاءت القضية ليس عنده فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر سأل من بحضرته من الصحابة عن ذلك، فإن وجد عندهم رجع إليه وإلا اجتهد في الحكم ليس عليه غير ذلك.
فلما ولي عمر - رضي الله عنه - فتحت الأمصار، وزاد تفرق الصحابة في الأقطار، فكانت الحكومة تنزل في المدينة أو في غيرها من البلاد، فإن كان عند الصحابة الحاضرين لها في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثر حكم به، وإلا اجتهد أمير تلك المدينة في ذلك، وقد يكون في تلك القضية حكم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - موجود عند صاحب آخر في بلد آخر.
وقد حضر المديني ما لم يحضر المصري، وحضر المصري ما لم يحضر الشامي، وحضر الشامي ما لم يحضر البصري، وحضر البصري ما لم يحضر الكوفي، وحضر الكوفي ما لم يحضر المديني، كل هذا موجود في الآثار وفي ضرورة العلم، بما قدمنا من مغيب بعضهم عن مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأوقات، وحضور غيره، ثم مغيب الذي حضر أمس وحضور الذي غاب فيدري كل واحد منهم ما حضر ويفوته ما غاب عنه، وهذا معلوم ببديهة العقل وقد كان علم التيمم عند عمار وغيره، وجهله عمر وابن مسعود فقالا: «لا يتيمم الجنب ولو لم يجد الماء شهرين»، وكان حكم المسح عند علي وحذيفة وغيرهم وجهلته عائشة وابن عمر وأبو هريرة وهم مدنيون، وكان توريث بنت الابن مع البنت عند ابن مسعود وجهله أبو موسى، وكان حكم الاستئذان عند أبي موسى وعند أبي سعيد وجهله عمر.
وكان حكم الإذن للحائض في أن تنفر قبل أن تطوف عند ابن عباس وأم سليم وجهله عمر وزيد بن ثابت، وكان حكم تحريم المتعة والحمر الأهلية عند علي وغيره وجهله ابن عباس، وكان حكم الصرف عند عمر وأبي سعيد وغيرهما، وجهله طلحة وابن عباس وابن عمر.
ومثل هذا كثير جداً فمضى الصحابة على ما ذكرنا ثم خلف بعدهم التابعون الآخذون عنهم وكل طبقة من التابعين في البلاد التي ذكرنا فإذا تفقهوا مع من كان عندهم من الصحابة وكانوا لا يتعدون فتاويهم لا تقليداً لهم ولكن لأنهم إنما أخذوا ورووا عنهم إلا اليسير مما بلغهم عن غير من كان في بلادهم من الصحابة - رضي الله عنهم - كاتباع أهل المدينة في الأكثر فتاوى ابن مسعود واتباع أهل مكة في الأكثر فتاوى ابن عباس.
ثم أتى بعد التابعين فقهاء الأمصار كأبي حنيفة وسفيان وابن أبي ليلى بالكوفة، وابن جريج بمكة ومالك وابن الماجشون بالمدينة وعثمان البتي وسوار بالبصرة، والأوزاعي بالشام والليث بمصر فجروا على تلك الطريقة من أخذ كل واحد منهم عن التابعين من أهل بلده فيما كان عندهم واجتهادهم فيما لم يجدوا عندهم وهو موجود عند غيرهم و(لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة: 286].
وكل من ذكرنا مأجور على ما أصاب فيه حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - أجرين، ومأجور فيما خفي منه أجراً واحداً، وقد يبلغ الرجل مما ذكر حديثان ظاهرهما التعارض، فيميل إلى أحدهما دون الثاني بضرب من الترجيحات...، ويميل غيره إلى الحديث الذي ترك هذا بضرب من تلك الترجيحات...
ثم كثرت الرحل إلى الآفاق وتداخل الناس والتقوا وانتدب أقوام لجمع حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وضمه وتقييده، ووصل من البلاد البعيدة إلى من لم يكن عنده وقامت الحجة على من بلغه شيء منه، وجمعت الأحاديث المبينة لصحة أحد التأويلات المتأول في الحديث، وعرف الصحيح من السقيم، وزيف الاجتهاد المؤدي إلى خلاف كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى ترك عمله، وسقط العذر عمن خالف ما بلغه من السنن بلوغه إليه وقيام الحجة به عليه" [14].
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 25.79 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 25.17 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.43%)]