آثار الجهل بأسماء الله - تعالى - وصفاته على الفرق المبتدعة
آدم عبده يحيى
أثر الجهل بأسماء الله وصفاته على المشبِّهة:
مِنهم الذين شبهوا الله - تعالى - بخلقه، وقاسُوا صفاتِه على صفات خلقه، فهؤلاء شرُّ الجهَّال وأقبحهم، لم يعُد لله - تعالى - في نفوسهم تعظيمٌ ولا هيبة، ولا تنزيه له من مشابهة المخلوقين، فقاسوه على خلقه، فأفرطوا أيَّما إفراط.
ومنشأ هذا الغلط القبيح: أنه استولى عليهم الخيالُ، وفسروا نصوص الأسماء والصفات بعقولهم المجردة، القاصرة عن إدراك حقائقها.
ومن هؤلاء المشبهة: مَن شبَّه المخلوق بالخالق، فخرجوا من الباب الآخر بثوب الغلو في المخلوق، فرفعوه إلى منزلة الله - سبحانه وتعالى - ومن هؤلاء هاتان الفرقتان: المتصوفة والشيعة.
أولاً: المتصوفة:
وهم أهل تعطيل وتشبيه في الوقت نفسه على خُطى منحرفي النصارى واليهود؛ حيث سلبوا الله تعالى معاني الألوهية والوحدانية، وشبَّهوا المخلوقين به - جل وعلا - فعظَّموهم وعَبَدوهم من دون الله، وإن كانوا على أصناف:
فمنهم: القبوريون، الذين جعلوا من المقابر مزاراتٍ للتوسل، والاستغاثة، والاستشفاء، والتبرك بأحجارها وترابها؛ لفساد اعتقادهم في ذلك، حيث زعموا أنهم أهل لذاك.
ومنهم: الغلاة، الذين شغلوا أنفسهم بمقامات وهمية، سمَّوْها: شهودًا وفناءً، والتأويلات الباطنية لظواهر النصوص الصريحة، عن مراد الله - تعالى - في مقامات العبودية الحقيقية، التي من مظاهرها تنفيذُ أوامر الله - تعالى - والقيامُ بها على الوجه المشروع، والاستكثارُ منها بحسب الإمكان والطاقة والقدرة، والأخذُ بالدِّين من جميع جوانبه، وألاَّ تحجبه عبادةٌ عن عبادة أبدًا.
فهؤلاء المتصوفة عبدوا الله - تعالى - على مرادهم دون مراد الله – تعالى - وقدَّموا حظهم على محابِّ الله - تعالى - حتى حجبهم هذا الجهلُ عن تعظيم الله - تعالى - ووصلوا إلى انحراف فكري خطير، وقالوا: إن الله - تعالى - يحلُّ في مخلوقاته، وإنه في كل مكان - تعالى الله عما يقوله الجاهلون علوًّا كبيرًا.
ومن الآثار السلوكية المنحرفة لهذا المنهج:
1- الانشغال بطقوس وعادات ما أنزل الله بها من سلطان؛ ظنوا أنها عبادة وقربة، حتى سئموا العباداتِ الحقيقيةَ وازدرَوها، ولم تطقها نفوسُهم؛ لبُعدها عن استشعار حق الله - تعالى - في الأمر، ومراده منه.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "وقد أخبرني مَن رأى ابنَ سبعين قاعدًا في طرف المسجد الحرام، وهو يَسخَر من الطائفين ويذمهم، ويقول: كأنهم الحُمُر حول المدار، ونحو هذا، ولا ريب أن هؤلاء مُؤثِرون لحظوظهم على حقوق ربهم، واقفون مع أذواقهم ومواجيدهم، فانين بها عن حق الله ومراده.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يحكي عن بعض العارفين أنه قال: العامة يعبدون الله، وهؤلاء - المتصوفة - يعبدون نفوسهم"[20].
وبلغ بهم الحال إلى الخروج عن حقيقة العبودية، فيرون أنهم لا يعبدون الله - تعالى - بالرجاء والرغبة؛ لأن هذا اعتراض على مراد الله وأمره، وأن مَن أحب الله لا يضره عذابُه؛ بل لا بد أن يستعذب هذا العذاب فيه، حتى قال قائلهم:
أُحِبُّكَ لاَ أُحِبُّكَ لِلثَّوَابِ وَلَكِنِّي أُحِبُّكَ لِلعَذَابِ
وَكُلُّ مَآرِبِي قَدْ نِلْتُ مِنْهَا سِوَى مَلْذُوذِ وُجْدِي بِالعَذَابِ
وقال آخر:
وَتَعْذِيبِي مَعَ الهُجْرَانِ عِنْدِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ طِيبِ الوِصَالِ
لأَنِّي فِي الوِصَالِ عُبَيْدُ حَظِّي وَفِي الهُجْرَانِ عَبْدٌ لِلمَوَالِي[21]
وقد ابتلى الله - تعالى - أحدَهم، يقال له: سمنون، القائل:
وَلَيْسَ لِي مِنْ هَوَاكَ بُدٌّ فَكَيْفَمَا شِئْتَ فَامْتَحِنِّي
فامتحنه الله بعُسْر البول، فجعل يطوف على الناس وهو يقول: ادعوا لعمِّكم الكذاب![22] فأحوجه الله - تعالى - إلى رجاء العافية في الدنيا قبل الآخرة.
وهذا من غرور وشطحات الصوفية المفتونين في دينهم؛ إذ حجبوا أنفسهم عن ثواب الله - تعالى - ورحمته، فلعب عليهم الشيطان، فقالوا: إن حبهم لله - تعالى - ليس لرجاء ثوابه، وإنما لعذابه؛ حتى لا يكون للنفس حظ بما عند الله - تعالى.
2- حرمان عبودية جميع الجوارح والحواس لله - تعالى - بما يتعلق بها من عبادات وطاعات؛ فمنهم مَن سجنوا أنفسهم بين الجدران، فلم يُصلُّوا مع الجماعة، ولم يشهدوا الجُمَع؛ لأن الشيطان أغراهم بأن ما هم فيه هو العبادة والطاعة، وهم خير من المجاهدين والطائفين والرُّكَّع السجود، فجهلوا مراد الله – تعالى - وعطلوا الحواس والجوارح من العمل في مرضاته؛ ففسدت قلوبهم - نعوذ بالله تعالى من هذا الحال والمآل.
قال فيهم سيد الصوفية (الجنيد بن محمد) لما قيل له: أهل المعرفة يصِلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله، فقال الجنيد: إن هذا كلام قوم تكلموا بإسقاط الأعمال عن الجوارح[23].
3- صرف أعظم الطاعات والقُرَب لغير الله – تعالى - والغلو في الأنبياء والصالحين؛ وهذا ثمرة الجهل بأسماء الله وصفاته؛ لأنهم وصفوا أصحاب القبور والأولياء والصالحين بما هو لله - تعالى - ولقَّبوهم بألقاب الألوهية والربوبية، فاستعظموهم في نفوسهم وهَوَتْ إليهم أفئدتُهم، ورجوهم من دون الله – تعالى - واستغاثوا بهم، وهتفوا بأسمائهم وألقابهم.
ومنشأ الغلط عند هؤلاء: أنهم جهلوا أسماء الله - تعالى - وصفاته، وربوبيته وألوهيته، وعمدوا إلى الأولياء والصالحين فغالوا فيهم، ووصفوهم بصفات الألوهية والربوبية، واعتقدوا فيهم الاعتقادات الباطلة، فبقدر ما جهلوا من أسماء الله - تعالى - وصفاته، سلبوها من الله - تعالى - ووضعوها في الأولياء والصالحين.
وحَقَّ على هؤلاء قولُه – تعالى -: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، وعاقبهم الله - تعالى - على تعطيل أسمائه وصفاته، وعدم العلم بها: أنْ عطَّل جوارحهم وقلوبهم من عبوديته الحقيقية، وشَغلهم بطقوس ومزارات وهتافات، وجَذْب ونَحْب، أضاعوا بها أوقاتهم إن لم تَضِع أعمارهم، وفاتتْ عليهم بها نَفحَاتٌ وفضائلُ، وهم في لهوهم سامدون.
4- تحكيم الأذواق والمواجيد والأهواء، والتحاكم إليها، وترك النصوص الشرعية لتأويلات ساذجة لا اعتبار لها عند أولى الأحلام والنهى.
ثانيًا: الشيعة:
أهل الغلو من المتشيعين لآل البيت، جمعوا كذلك بين التعطيل والتشبيه، وهم على فِرَق، منها: (الزيدية، والإمامية، والباطنية)، ولا توجد فرقة من فرق أهل البدع قد جمعتْ من الشر والضلال ما جمعه أتباع الإمامية والباطنية، فهم قد وصلوا إلى مرحلة تأليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في حياته قبل مماته - وهم السبئية - بصريح اللفظ الذي لا يحتمل التأويل، وما زال هذا دينًا يدينون به، وإن لم يذكروه بصريح العبارة، إلا أن ما تضمنته كتبهم، ورسائلهم، وقصائدهم، وطقوسهم، وحسينياتهم - يدلُّ عليه، كوَصْف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بصفات الألوهية والربوبية، والاستغاثة به، ومثل ذلك اعتقدوه في بعض آل البيت كالحسين بن علي - رضي الله عنه - وبقية الأئمة، فرفعوهم فوق منزلتهم، وفضَّلوهم على الأنبياء والمرسلين، وادَّعوا فيهم العصمة المطلقة، وأنهم يعلمون الغيب ما كان وما يكون؛ بل حتى قيل: لم يبلغ مكانتَهم لا مَلَكٌ مقرَّب ولا نبي مرسل، وهكذا.
وهؤلاء سلبوا الله - تعالى - صفات الألوهية والربوبية، وجعلوها في أئمة آل البيت، فاستعظموهم في أنفسهم؛ بل قدسوهم بهذا الغلو الشنيع الذي وقر في قلوبهم ونفوسهم، فكان لهذا المعتقد المنحرف آثارٌ في حياتهم السلوكية، منها:
1- التشريع في الدين مما ليس فيه من عبادات وطقوس وأحكام؛ كالمتعة، والخُمُس، والصلاة على طِينة الحسين (كربلاء)، والطواف حول قبور أئمة آل البيت، وشدِّ الرحال إليها، وزعموا أنها أعظم من زيارة البيت الحرام.
2- تعطيل الجهاد في سبيل الله – تعالى - فلا جهاد لهم، حتى يخرج مهديُّهم المزعوم والمعصوم، فيحمل لواء الجهاد، وأي جهاد؟! إنه غزو بيت الله الحرام وخرابه، واستباحة المدينة، ونبش قبور الخلفاء وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وصلبهم والتمثيل بهم، وبئس ما زعموا.
3- الشرك بالله - تعالى - بكل صوره وأشكاله: بناء الأضرحة، وتقديس الأئمة الأحياء والأموات، وغير ذلك.
4- تكفير المخالفين، ومِن ثَمَّ ممارسة التنكيل بهم، واستباحة دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وسبي نسائهم وأولادهم، وإسقاط أنظمتهم ودولهم، والاستعانة بالأعداء عليهم، وحرمانهم من جميع الحقوق في ديارهم، كل هذا؛ لزعمهم أن هذا حكم أئمتهم في المخالفين لهم.
فكانت أقوال أئمتهم مقدسة، لا تحتمل الخطأ، ولا التأويل؛ لأنهم معصومون من الخطأ، بينما القرآن الكريم - في عقيدتهم - قد ناله التحريف والنقص!
ـــــــــــــــــــ
[1] "شجرة المعارف والأحوال، وصالح الأقوال والأعمال"، للعز بن عبدالسلام، ص77، نقلاً عن "الأسماء الحسنى"، لعبدالله الغصن، ص121.
[2] "الفوائد"، لابن القيم: ص 159.
[3] أخرجه البخاري في صحيحه، رقم 310.
[4] حرورية: نسبة إلى منطقة حروراء التي خرج منها الخوارج.
[5] أخرجه مسلم في صحيحه، رقم 508.
[6] أخرجه البخاري في صحيحه، رقم 2295، ومسلم في صحيحه، رقم 86.
[7] "مجمل أصول أهل السنة والجماعة في العقيدة"، ص15.
[8] "مدارج السالكين"، 1/318.
[9] انظر: "طريق الهجرتين وباب السعادتين"، لابن القيم، ص56 - 59، ففيه كلام نفيس جدًّا في هذا الباب، و"مدارج السالكين"، 1/308، المشهد الثالث من مشاهد المعصية، و"شفاء العليل"، ص5، المقدمة.
[10] "مدارج السالكين"، 1/216، بتصرف.
[11] انظر: "مدارج السالكين" 1/ 308. وانظر: المصدر نفسه، 1/ 308، 309، المشهد الرابع من مشاهد المعصية.
[12] انظر: "مدارج السالكين"، 1/196.
[13] انظر: "مدارج السالكين"، 1/ 196.
[14] "مدارج السالكين"، 1/308، 309.
[15] "حلية الأولياء"، لأبي نعيم، 9/263، نقلاً عن مجلة البيان، العدد (99)، ص 93.
[16] "مدارج السالكين"، 2/117، نقلاً عن مجلة البيان، العدد (99)، ص 91.
[17] "مدارج السالكين"، 1/131.
[18] "مدارج السالكين"، 1/ 131.
[19] "مدارج السالكين"، 3/ 347، بتصرف.
[20] "مدارج السالكين"، 1/202.
[21] انظر: "مدارج السالكين"، 2/ 29، 30.
[22] "مدارج السالكين"، 2/38، بتصرف.
[23] "مدارج السالكين"، 2/76.