عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 22-09-2019, 05:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,493
الدولة : Egypt
افتراضي رد: حوار الحضارات مقاربة فلسفية في ضوء الدراسات الإسلامية المعاصرة

ومن الشروط اللازمة لقيام حوار الحضارات:

(أن يقوم الحوار على التفاهم.

إدراك كل طرف حقيقة الآخر دون أن ينحل إليها.
اقتناع طرفي الحوار بأن كل منهما سيفيد الآخر ويستفيد.
الاهتمام بدراسة وتدريس الحضارات الأخرى حتى تكون نظرته أكثر شمولية وموضوعية
الحوار لا يمكن أن يتم إلا في نطاق الإيمان, الذي هو القاسم المشترك لجميع الحضارات, بتعميق إيمانه وإدراكه لله بنفس عقيدته, وهو ما يطلق عليه(روح الحضارات).([45])
أهمية توظيف ثورة التواصل وتقنياته المعاصرة في حوار الحضارات.
القواسم المشتركة:

لعل من عوامل إنجاح مساعي حوار الحضارات البحث عن القواسم المشتركة, والانطلاق منها (ومن مبادئ الوحدة بين حوار الحضارات:معرفة القيم والفضائل الأخلاقية, ووحدة الكرامة الإنسانية)([46]), وهذا ما يطلق عليه في أسس الحوار التنزلُ مع الآخر, والقبول بالمشتركات, ومن أهم منطلقات التأسيس على القواسم المشتركة؛تتبع المشتركات الإنسانية والتركيز عليها كمنطلقات للقاء والحوار.
(وللحوار الفكري الديني المؤسس على مبدأ احترام الإنسان والحرية الدينية واحترام الضمير الديني للآخرين والتعاون دور مهم جداً الآن, خاصة إذا كنا نعلم أن المسلمين لم يجدوا في الفلسفة الغربية للقرون الماضية أي محاور جدي يمكن مخاطبته, لاجتياح تيارات فلسفية إما ملحدة أو نسبوية أو غير مبالية للفلسفة الغربية.لهذا السبب لابد من إعطاء الحوار دفعة جديدة في ظل تطورات العالم الحالي. وقد يساعد المسلمون الغرب في أزمة الفلسفة التي يعيشها حالياً, والتي يعتبرونها فلسفة انحلال معادية للدين.ولن يقوم هذا الحوار على مبدأ المنع والتحريم والمغالطات والقذف ولا على مبدأ العنصرية والعنف الممارس في حق المسلمين, بل على مبدأ الإقناع والاقتناع)([47]).
وإسهامات حوار الحضارات ليست محصورة على الأفراد أو المبادرات, فهناك بعض المنظمات لها إسهام فاعل في هذا المجال, ولبعض المنظمات في العالم الإسلامي إسهام بارز في مجالات حوار الحضارات, والتركيز على المشتركات الإنسانية كأرضية ملائمة لحوار بناء, ومن تلك المنظمات منظمة المؤتمر الإسلامي, فالحوار الحضاري يسعى إلى مناقشة المشكلات التي تواجهها الحضارات والبحث عن حلول لها.
والأهداف التي يسعى لها حوار الحضارات هي نفسها التي من أجلها أقيمت منظمة المؤتمر الإسلامي وهي:
العمل على محو التفرقة العنصرية.
القضاء على الاستعمار بجميع أشكاله.
اتخاذ التدابير اللازمة لدعم السلام والأمن الدوليين القائمين على العدل.
دعم كفاح الشعوب الإسلامية في سبيل المحافظة على كرامتها واستقلالها وحقوقه الوطنية.
إيجاد المناخ المناسب لتعزيز التعاون والتفاهم بين الدول الأعضاء والدول الأخرى.
التشاور والتعاون لإزاحة مخاوف العالم الإسلامي تجاه الأزمة الحالية واستشراف آفاق المستقبل([48]).
و(والصورة المشوهة عن عالمنا العربي والإسلامي التي تقدمها وسائل الإعلام في الغرب, والدراسات والمقالات الغربية المغرضة, يجب العمل على نشرها في الساحة الفكرية العربية من جهة وأن يتصدى لها المفكرون في العالم العربي والإسلامي لمناقشتها ودحضها بأسلوب علمي, كما يجب نشر الردود في نفس المجالات وغيرها من وسائل الإعلام في الغرب. وهذا من المهام الأساسية للجامعة العربية والمنظمات المتفرعة عنها, ومراكز الدراسات الإستراتيجية العربية, ومنظمة المؤتمر الإسلامي)([49]).
في المقابل فإن بعض النظريات والمبادرات التي تتخذ من الميل إلى التغلب والجنوح لإلغاء الآخر منطلقاً وحيداً, إن التلبس بهذا الأمر لمن يتصدر لممارسات حوار الحضارات هو نوع من أنواع الحكم على هذه الممارسات بالفشل والضياع, فلابد لمن يتصدر للمشاركة في حوار الحضارات أن يتجرد من كل نزعة من نزعات التغلب وإلغاء الآخر, وليكن مراده البحث عن الحق والحقيقة.
ولا يغيب عنا أن كل حضارة هي حلقة في منظومة الإرث الحضاري الإنساني, ولهذا يبرز دائماً التباين الواضح في تعامل الناس مع حوار الحضارات وفق منطلقاتهم وأخلاقياتهم وتأسيسهم الفلسفي.
والسؤال الجوهري الأساس في هذا المضمار؟, من يحتاج للحوار أكثر؟, ومن يسعى له أكبر؟, وهل للشعوب دور في الحوار؟, أم هي للنخب السياسية فقط؟, وما الهدف من جعله حواراً خاصاً بالنخب الثقافية فحسب؟, وهي تعني الإجابة على التساؤلات الكبرى: من؟ ولماذا؟ وكيف؟, من يحاور؟ ولماذا يحاور؟ وكيف يحاور؟
وللإجابة على سؤال: من يحتاج للحوار أكثر؟ ومن يسعى له أكبر؟ نقول: أن من يحتاج للحوار أكثر هي منظومة الحضارة الإنسانية بمجموعها, وكل ما كانت الحضارة ذات أصل قوي لم تحجم عن الحوار البناء, أو تعرض عنه, ولعل هذا ما يميز الحضارة الإسلامية أنها تدعو أتباعها لفتح آفاق الحوار المثمر العقلاني مع الآخر.
وهل للشعوب دور في حوار الحضارات؟, لا ريب أن للشعوب دورا مساعدا في إنجاح منظومة الحوار, بعد أن يقوم بالمبادرات النخب المثقفة, والنخب السياسية قد تفعل بعض المبادرات بمقاصد فعلية لحوار الحضارات, وقد تأخذ طابع المناورة في بعض الأوقات بغية كسب بعض المواقف.
ثم بعد ذلك يأتي تساؤل: هل هناك رغبة حقيقية في التواصل والحوار والتعايش؟, إذ كيف يمكن المسارعة في الدعوة لحوار الحضارات البعيدة دونما اللجوء إلى رتق الفتق الحاصل في كيان ذات الثقافة والحضارة الواحدة؟, إن من المهم قبل الهرولة نحو تفعيل الحوار الكوني وحوار الحضارات أن يتم المناداة بالحوار الديني في الثقافة ذاتها وإزالة كل ما يعكر صفو الوحدة والتواد والائتلاف الذي هو أحد مقاصد الشريعة.
وهذا يقودنا كذلك لتساؤل: من يكرس النظر إلى العالم على أنه إما متقدم أو متخلف؟!, وهذا يؤكد على أن نظرة العالم المتقدم المسيطر للعالم المتخلف المستضعف هي نظرة أحادية لا تشاركية, فلا بد قبل كل شيء بناء تلك العلاقة التشاركية أولاً, ثم الحديث بعد ذلك عن التواصل والحوار والتعايش.
ولا شك أن حوار الحضارات ميدان ذلك الفسيح (فالحوار والتعايش بين الحضارات والثقافات يساهم في درجة كبيرة في التقارب بين الشعوب والأمم, وإزالة الحواجز المتراكمة من سوء الفهم ومن الأفكار المسبقة المختزنة في ذاكرة الشعوب عبر قنوات فكرية تقوم في أغلب الأحيان على أسس غير صحيحة)([50]).
ولا ريب أن من يمتلك زمام المبادرة بثقة, ويبدع في أدواتها يمكنه ذلك من الحصول على مزيد قوة ومنعة (فالحوار قوة وسلاح من أسلحة السجال الثقافي والمعركة الحضارية, وهو وسيلة ناجحة من وسائل الدفاع عن المصالح العليا للأمة, وشرح قضاياها, وإبراز اهتماماتها, وتبليغ رسالتها, وإسماع صوتها, وإظهار حقيقتها, وكسب الأنصار لها, وجلب المنافع إليها, ودرء المفاسد عنها)([51]), ولن يتم تحقيق هذا النجاح إلا يتضافر الجهود وتكاتفها بغية الوصول لتحقيق أهداف الحوار.
وهنا يكمن تقديم جدلية متى يكون حوار الحضارات؟, إن حوار الحضارات لا يكون إلا بوجود التكافؤ والندية, والذي يسبقه سعي جاد في دخول مسارات حوار الحضارات رغبة في إثراءها وتقويتها, ولا يتم الحوار بين الحضارات إلا بوجود مبدأ التواصل بين الحضارات بعضها البعض أو بين النخب فيها على أقل تقدير, مع استحضار الهدف الأسمى لمبدأ الحوار وهو تحقيق العيش المشترك وفق المشتركات الإنسانية, والتناغم الإنساني الواسع.
فمبدأ فرض الحضارة عبر الإرغام على ثقافة بعينها بأسلوب التغلب والفرض والقوة أضحت فكرة مهترئة بائسة, إن فكرة التواصل العام في الفكر الإسلامي مبنية أساساً على التعارف وفق ما أمر الله به: ï´؟يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْï´¾([52])
فجوهر الحضارة الإسلامية هو جذور تكوينها وانفراد مصدريتها الربانية الإلهية, فهي خاتمة الديانات السماوية وتعاليمها التي ارتضاها الله ï´؟إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْï´¾([53]) وما يميزها كذلك أنها خاتمة الرسالات التي جاءت قبلها, وهي تمامها وكمالها.
ونختم هذا المحور في الحديث عن أبرز مجالات استفادة المسلمين من الحضارات ومنها ما يلي:
تطوير الإنتاج في مجال الحضارة الإسلامية (الصناعات, العلوم, التقنيات), من بعد تدعيمها بالمفاهيم الإسلامية الرصينة.
مجال الإنتاج الثقافي: مجال الأدب والتأليف والكتابة.
مجال الفنون التشكيلية (الفنون البصرية) العمارة والزخرفة والنحت والحفر والتصوير.
التقدم في العلوم الطبيعية التجريبية.
مجال الصناعة, والتقنية الصناعية (الورق, الزجاج, السكر, العطور, المنسوجات- المعادن...)
مجال الزراعة وتطوير وسائل الري وتحسين الأراضي واستصلاحها([54]).
وقد طبق المسلمون عبر العصور مبدأ التعاطي الحضاري فقد استفادوا من مجمل الأعراق والشعوب من حولهم؛دون التأثر والتأثير على قيمهم الراسخة, فأخذوا من الرومان الدواوين دون أن يأخذوا بقوانين الرومان, وأخذوا من الإغريق العلوم التجريبية دون التأثر بوثنياتهم, وأخذوا من الحضارة الهندية علوم الفلك والحساب دون أن ينساقوا مع فلسفة الهنود الكونفوشوسية, وهكذا فقد حافظ المسلمون على هويتهم الحضارية الخاصة المتميزة, إن من الشطط عند البعض تصور أن من أهم أنماط الحضارة؛ الحضارة المادية التقنية؟ إذ هي لا تعدوا أن تكون ناتج إفراز وليس حضارة.
المقاربة الثانية: العلاقة بين الحضارات:

إن التأسيس الفلسفي لمقاربة الصلة بين الحضارات تحتم معرفة أصل هذه الصلة ومنشؤها وهل هي عملية تلقائية أم أنها تحتاج لمن يبادر بها ويتبناها ويسيرها؟ كل هذا يدفعنا إلى السؤال الأزلي: هل حوار الحضارات استمداد وتكامل أم صراع وتغلب؟.
سبق معنا بيان أن عموم الحضارات يأخذ بعضها من بعض, فهي في المحصلة الختامية تتكامل لكن هناك من يريد لهذه الحضارات أن تكون في موقع التجاذب والتنافر النكد, ولا يريد لها التقارب والتجاور, ومبعثهم في هذا متباين من شخص لآخر وفق منطلقات الاتجاهات والرؤى الضيقة, إن (احترام الرأي الآخر؛ له أثره الإيجابي في تطور الفكر؛ لأنه لا يتطور الفكر الإنساني من دون نقد بناء, وما لم يعبروا عن آرائهم بكل صدق, فلولا اختلاف الآراء والحوار من أجل اكتشاف الأصلح منها ما تقدم الاقتصاد أو السياسة, أو عرف الناس الصواب في أمور دينهم, أو تطورات العلوم الطبيعية. وما جعل العلوم تتطور هو وجود النقاش والجدل وتبادل الآراء, وتقبل العلماء لذلك كله بروح طيبة, وهذا ما ينبغي أن يكون في كل ناحية من نواحي الحياة).([55])
إن مكون حوار الحضارات لابد أن يسبقه تفعيل لحوار داخلي, إذ يطرح البعض تأسيس تلك العلاقة على الحوار الذاتي الداخلي, فأهمية (قيام حوار داخلي كأساس لنهضة حوار حضاري مع الآخر إذ يمكننا أن نتحدث عن حوار حضاري لا عن حوار حضارات, بما أن الموقف الحضاري يقتضي التسليم بوجود حضارة واحدة وثقافات متعددة)([56]), ولفهم واستيعاب حوار الحضارات لابد من فهم العلاقة بين الحضارات واستجلاء مكامن الالتقاء بينها.
وإذا تأملنا ديناميكية الحوار نجد أنها تنبع من الرغبة للتقارب (إن الحوار نابع من الضرورات الحياتية للمجتمعات البشرية وينظر إليه باعتباره منهجاً يعتمد على التفكر والعلم والإيمان لينتهي إلى حالة من المعرفة المتبادلة, وبهذا يقف الحوار في مواجهة النزاع, والتخاصم والاعوجاج أو الانحراف, والمنافع الضيقة)([57]).
وحتى تفهم العلاقة بين الحضارات لا بد من وضوح العوامل التي تكون سبباً في انعدام التقارب والتواصل بين الحضارات, مما ينتج عنه الصدام ولعل من أبرزها:
عوامل الصدام بين الحضارات:

يحكم المشهد العام عدة عوامل ترسخ تفضيل خيار الصدام على التقارب بين الإسلام والغرب, إن (عقدة الاستعلاء والتفوق أو المركزية الغربية, وعقدة الحروب الصليبية, وعقدة الخوف من الإسلام, وعقدة الهيمنة والنفوذ).([58]) كل هذه تحول دون التوصل لتقارب الحضارات وبناء الصلة بينها, فلابد من التغلب على هذه العقبات أولاً قبل تقديم أي مشروع للتقارب أو حتى لاندماج الحضارات بعضها ببعض, ولعل الصراع بين الحضارات ناتج من نواتج الحروب على مر العصور (والتي من أسبابها: النزاعات الإقليمية, والتنافس على موارد محدودة, والتسابق على أسواق مرغوب فيها, والغارات, والحماس الديني, واختلاف الآراء الأيديولوجي, ومعضلة الأمن التي تثيرها سباقات التسلح التي يمكن أن تكون عاملاً يدفع إلى حروب وقائية, ومصالح السيطرة للنخبة).([59])
وقد يلجأ بعض المفكرين لطرح صور من صراع الحضارات وتجاذبها سعياً منهم لصرف النظر عن الصراع الفعلي على قوى السياسة ومراكز الاقتصاد والتنافسية الفعلية بينهم, في حين يؤكد الدكتور الجابري على أن (فكرة صدام الحضارات من الناحية العلمية مجرد وهم, وفكرة غير معقولة. ولكن هذه الفكرة على صعيد الإستراتيجية السياسية والعسكرية والثقافية تنطوي على نوايا وأهداف, وبما أننا نحن كعرب ومسلمين في قمة المستهدفين فعلينا أن نكون على وعي بمضمونها وأهدافها, وأن نسعى إلى تعريتها وفضحها).([60])
فلابد من إثارة قضية الحوار بين الثقافات والحضارات مقابل الصدام أو الصراع بينها, فهذا هو الخيار الأوحد للتعايش بسلام بعيداً عن التغلب والخصام.
هذا وقد تم تلقف مفهوم (فكر صدام الحضارات, الذي وجد مجالاً خصباً منذ تواري الاتحاد السوفييتي وبروز العالم الإسلامي كإشكالية سياسية, فشهد المفهوم انتعاشاً بتنزيله إلى معترك الصراع الحضاري, ما أخرجه من الانكماش داخل الدائرة الدينية إلى التمدد داخل التفاعلات الحضارية)([61]), وهذا يدفعنا إلى القول: أن من الأسس التي تبنى عليها العلاقة بين الحضارات وحدة المعرفة وتكاملها بعيداً عن فرضيات الصراع المفتعل, ومن الجيد التعرف هنا على أبرز الآفات التي قد تصيب الحضارات وتكون سبباً في قطع طريق الصلة فيما بينها وبين الحضارات الأخرى.
آفات الحضارة المعاصرة وآثارها على الحياة البشرية:

يؤخذ على بعض الحضارات المعاصرة بعض الآفات يمكن ذكر بعضها هنا, فكثيراً ما تسفر بعض الدراسات التي تعدها مراكز مستوعبات الأفكار أو ما يطلق عليه (Think Tanks) إلى استغلال صراع الحضارات كأحد متغيرات العلاقة بين الأمم والشعوب, فيتضح من(تقرير مؤسسة راند أنه جاء في توقيت ملائم للمرحلة الحالية من المواجهة الفكرية بين الغرب من ناحية والعالم الإسلامي من ناحية أخرى. فلقد حرص التقرير على أن يكشف القناع عن حقيقة السياسة الأمريكية المقترحة للمنطقة, وعن طبيعة شركاء المرحلة القادمة, وما يجب أن يتوافر فيهم من صفات, والدور الذي يجب عليهم القيام به) ([62]).
إلا أن البعض يرى أن (تركيز الحوار على القواسم المشتركة وإهمال نقاط الضعف, يترك المجال مفتوحاً أمام بذور الصراع والاختلاف مجدداً. فضلاً عن أن فكر صراع الحضارات الذي قام على طروحات هنتجتون هو فكر خيالي إذ لا توجد كتل حضارية منفصلة عن بعضها)([63]).
والمؤكد أن تجسير العلاقة يبنى في الأغلب على التركيز على القواسم المشتركة بين الحضارات, إن مما يجلي حقيقة الدين الإسلامي وصلاحيته للتطبيق لكل زمان ومكان سعيه الدائم لتوضيح موقفه تجاه الآخر, واللجوء إلى الحوار المثمر بدلاً من الصدام المنفر, حيث إن فكرة (الصدام والصراع يلحق الضرر بالجميع, ولذلك ينبغي إحلال الحوار, ونبذ الصدام واستبعاده نهائياً. والتحاور بين الأمم والشعوب ليس بالأمر الجديد, وأن الحوار والتواصل بين الثقافات والحضارات قائم من آلاف السنين)([64]).
فالحوار الهادئ الهادف, تميل له النفوس, وتطمئن له القلوب, ويكون سبباً في تخطي العقبات والعراقيل, وتعاليم الدين الإسلامي تدعو إلى الحوار المفتوح, فالله سبحانه وتعالى يقول: ï´؟قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَï´¾([65]).
في حين يرى البعض أن الإغراق في الماديات المحضة هو ضرب من ضروب القضاء على الحضارة المعاصرة, إن(الإنسان في الحضارة الغربية المعاصرة, إنسان معطوب خاسر قد أفلتت منه السعادة, يلفه الشقاء واليأس, ويرجع ذلك إلى أنه أنحرف بحضارته وغرق في المادية وأن طلب الدنيا أعمى بصره وبصيرته وأفسد روحه ووجوده, فلم يبق له من طريق في الخلاص إلا أن يتوجه إلى دين الإسلام)([66]), وكل هذا يدعونا للسؤال الفلسفي القادم:
أصراعٌ أم حوار حضاري؟.

تتكاثر بعض الرؤى التي ترى أن مرحلة تمايز الحضارات وانتشارها يأخذ طابع الصراع في بعض مراحله, (إن منطق الحوار يستند إلى حقيقة أن الحضارات لا يمكن أن تكون جزراً منعزلة عن بعضها, بل هي على اتصال وتفاعل فيما بينها, تؤثر في بعضها, وتتأثر ببعضها)([67])
فيرى الدكتور الجابري أن شعار(" حوار الحضارات" يبدو نبيلاً ومعقولاً, إلا أنه غير بريء وذلك لأن الحوار بين الحضارات إما أن يكون عفوياً تلقائياً نتيجة الاحتكاك الطبيعي, فيكون عبارة عن تبادل في التأثير, أخذ وعطاء بفعل الصيرورة التاريخية. وهذا النوع من تلاقح الحضارات لا يحتاج إلى دعوة, ولا يكون بتخطيط مسبق, بل هو عملية تاريخية تلقائية يحكمها طلب الأفضل)([68]).
إذن فالحوار حالة إنسانية معقولة, بينما الصراع حالة عدوانية, ومقولة مزيفة, وقد تكون بنية الصراع مفتعلة عبر وسائل مغرضة من قبل الخصوم, مما يتوجب معه التصدي لهذا النشاط بنشاط مقابل ينفي الشبه ويرد عليها, ومن تلك الجهود التي ننادي بها (إزالة الالتباس لبعض نقاط التداخل في العلاقة بين الإسلام والغرب, حيث الإسلام مفهوم عقيدي يعني قيم وتقاليد وأحكام الدين الإسلامي, بينما نطاقه جغرافي يمتد من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى وسط آسيا وشمال الهند والصين..)([69]), وقطعاً لا يمكن لقائل أن ينادي أنه إذا عدم التقارب فلا بديل عنه إلا الصراع والخصام!.
(والبديل الإسلامي لصراع الحضارات, ليس حالة "السكون" في علاقات الحضارات بعضها بالبعض الآخر, لأن في السكون "مواتاً", ربما أفضى إلى "التبعية والتقليد", اللذين ينتهيان إلى الواحدية والمركزية الحضارية...وإنما البديل الإسلامي لفلسفة الصراع, هو فلسفة "التدافع" بين الحضارات)([70]). حيث إن التدافع قد ينتج عنه حوار مثمر في بعض سياقاته, إن من الأهمية بناء التقارب بين الحضارات وفق مبدأ التعاون المفضي لـ معادلة: رابح- رابح.
ويرى البعض أن (واقع الحوار الحضاري يتسم بالضبابية والغموض, إذ ليس في مرجعية الغرب –وهو صاحب القوة والقرار- ما يدفعه أو يشجعه على الاعتراف بالآخر وقبوله كند له يشاركه في صياغة مستقبل الإنسانية, وإيجاد نظام عالمي عادل تتنسم البشرية في ظله ريح السلام والأمن, وتتكافأ فيه فرص النمو والتقدم.وإذا كانت بعض الشرائح في المجتمعات الغربية قد أوصلتها قناعاتها وتجاربها الفكرية والحياتية إلى تقبل فكرة الحوار وتشجيعها, واستبعاد خيار الصراع والمواجهة, فإن القوى النافذة والفاعلة التي تشرف على إدارة دفة السياسة والاقتصاد في الدول الغربية لا تحبذ هذه الدعوة إلى الحوار, ولا تستسيغها لاصطدامها بمصالحها, وانعكاس تأثيرها سلباً على نفوذها وهيمنتها, ووقوفها في وجه أطماعها,والأمل معقود بالدرجة الأولى على النخبة المثقفة الواعية في كل حضارة, والتي توجد فيها أعداد من ذوي النظرة العلمية الموضوعية المنصفة)([71]).
وهكذا فقد تكاثرت الآراء التي تقدم حوار الحضارات كبديل عن صراع الحضارات(حوار الحضارات بديل لصراع الحضارات, حواراً نظرياً حول القيم والمبادئ والعلوم والفنون. حوار يتضمن المستوى النظري كنوع من التقارب بين طرفي الحوار, واكتشاف العناصر الإنسانية المشتركة بينهما).([72]), ومقتضى التدافع هو الوقوف بندية كاملة تجاه حملات محاولة إلغاء الآخر والقضاء عليه.
ومبدأ التدافع أشمل من الحوار, فهو يحوي الصراع والحوار في آن معاً, (وفلسفة التدافع هذه ليست مجرد "فكر إسلامي", حتى تكون من مناطق "الاجتهادات والمتغيرات", وإنما هي "دين ثابت", ومنهاج بلوره الوحي الإلهي في القرآن الكريم, باعتباره سنة من سنن الله في الاجتماع الإنساني, حاكمة للعلاقات بين الأفكار والشرائع والملل والأقوام والحضارات.فالله سبحانه وتعالى –عندما يخاطب رسوله e- فيقول له: ï´؟وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍï´¾([73]). يعلمنا سبحانه- معالم هذا المنهاج, فالتدافع لا يعني"صرع الآخر وإلغاءه", وإنما تحويل موقفه من "العداوة"-التي تجعله من أهل "السيئات"- إلى موقع وموقف "الولي الحميم"- الذي يجعله من أهل "الحسنات:!..فيتم "الحراك", بواسطة "التدافع", مع بقاء "تعددية الفرقاء المتمايزين".([74])
ولإحلال الحوار بدلاً عن الصراع يجب علينا أن نكون على قدر كبير من الوعي بمكونات قوتنا, مع ضرورة حماية مكتسباتنا وتطويرها من خلال الحوار مع الآخرين([75]), ويتضح موقف الإسلام من فرضية الصدام بين الحضارات هو أنه لا يريد أن يهدم الحضارة المعاصرة, لأنها ستنهدم على رءوس الجميع, وإنما يريد أن نحميها من نفسها, وأن يقدم لها طوق النجاة من غرق يهددها, ويهدد البشرية معها([76]).
إنها حالة التكامل التي تمثلها تعاليم الدين الإسلامي القادرة على أن تؤسس لحضارة قابلة للحياة, (فالبشرية في حاجة ماسة إلى حضارة جديدة تعطيها الدين ولا تفقدها العلم, تعطيها الإيمان ولا تسلبها العقل, تعطيها الروح ولا تحرمها المادة, تعطيها الآخرة ولا تحرمها الدنيا, تعطيها الحق ولا تمنعها القوة, تعطيها الأخلاق ولا تسلبها الحرية)([77]) (ولن يكون ذلك إلا من خلال الرسالة الحضارية التي يحملها المسلمون للعالم, وهي رسالة ربانية إنسانية أخلاقية, تتميز بالتوازن والتكامل, وتهيء الإنسان ليقوم بعمارة الأرض وخلافة الله, وعبادته بالعلم النافع, والعمل الصالح, والتواصي بالحق والصبر)([78]).
إن أعظم الأسباب التي تؤدي إلى عدم القدرة على تنفيذ حوار حضارات متكافئ متفوق يكون سببه الاختلاف والتنافر, وفي كثير من الأحيان يكون السبب نابع من الذات نتيجة للانقسام(إن المشكلة الكبرى التي تعيق العرب والمسلمين في فتح حوار حقيقي مع الغرب تتمثل في انقسامهم, وتشرذمهم, وتباين آرائهم ووجهات نظرهم, وعدم قدرتهم على التعاون والتنسيق فيما بينهم, وإصرارهم على إقامة علاقات فردية مع الغرب حسب ما تقتضيه المصالح الخاصة لكل قطر, مما جعل من المستحيل الاتفاق على إستراتيجية واحدة تكون منطلقاً للحوار, وتساعد على صياغة أهداف يمكن أن تتحقق من هذا الحوار, أو أن توجد الأرضية الصلبة وتبني القاعدة المتينة التي يمكن أن يقوم عليها مثل هذا الحوار)([79]). ولأن أغلب الأطروحات المعاصرة فيما يتصل بحوار الحضارات يقدم الأنموذج الغربي (الأمريكي على وجه الخصوص) كصورة نمطية مثلى, فإن للمنطق (الفلسفة) حدود يقف عندها ولا يتجاوزها:
إن الحديث عن ضرورة صبغ كافة المجتمعات بصورة ونمطية الحياة الغربية كخيار أوحد للحضارة المدنية المعاصرة يصطدم بعدد من صور الممارسات التي توضح أنه حتى في المجتمع الأمريكي الواحد لم يستطع الوصول لهذا النمط الموحد, فهناك جملة من الصراعات المحلية الداخلية في نسيج المجتمع الأمريكي على سبيل المثال, بين من أصولهم مكسيكية وأفريقية أو صينية وإسبانية وهكذا. فلماذا يستغرب أن يقع مثل هذا في المجتمعات الأخرى؟!
إن الموقف يلزمه أن يبنى على التأكيد على (هويتنا العربية والإسلامية, وعلى وحدة الهدف والمصير, وعلى مصالحنا الوطنية والقومية, وعلى مطالبنا من الآخرين ورغبتنا في التعاون والتعامل معهم على أساس من الندية والاحترام المتبادل)([80]).
ولابد أن يسبق كل هذا الجهد بامتلاك (الإرادة والعزم والتصميم, فعندها نتمكن من صياغة خطاب إسلامي نتوجه به إلى العالم, ونستطيع عمل برنامج إسلامي علمي يحق لنا بموجبه أن نقول بأن الإسلام هو الحل)([81]), عندئذٍ يمكن لنا القول إن بناء هذه العلاقة وتجسيرها متى ما تهيأت الظروف المناسبة لذلك, ومن أهم تلك السبل بناء العلاقة على أصل التحاور لا التنافر, والتقارب لا الصراع والتباعد, ولكي ينتج هذا التقارب والعلاقة ثماره المرجوة لابد أن يبنى على أصل من التحاور البناء الذي يؤسس على مقومات الحوار الناجح والذي تتضح فيه الأهداف والغايات, مع اعتبار أن الحضارات والثقافات يأخذ بعضها من بعض, بحسب قربها من الفطرة التي فطر الله الناس عليها, وهذا يحتم قبول طابع المفارقة وعدم الاستعلاء الحضاري بل الإقرار بالحق في الاختلاف, إذ أنه في علاقة تقاربية طردية كلما تمكن المرء من اكتشاف مكونات حضارات الآخرين أمكنه أن يؤسس لخصوصياته الحضارية الثقافية أبعادها الملائمة, وهذا يقوده إلى البعد عن النزعة الذاتية الضيقة عند تحقق هذا المسعى.
ونعود للتساؤل الأساس في هذه المقاربة: ما موقفنا من حوار الحضارات؟, هل هو القبول أم التوجس؟.
ولعل العرض السابق تناول الإجابة على هذا التساؤل, وصفوة القول فيه: أن الحوار خيار ممكن وقد حث عليه الدين الإسلامي ورغب فيه, ووجود التوجس قد يكون مقروناً ببعض مقاصد الحوار المعلنة أو غير المعلنة من الآخر من قبيل الرغبة في التغلب, ومسخ هوية الآخرين, وغيرها, إن محاولة صهر الحضارات والهيمنة عليها قسراً ثم إعادة إنتاجها هي محاولة فاشلة للتسويق لفكرة حوار الحضارات وتقاربها.
فالخلاصة نقول: إنه لا وجود فعلي لما يطلق عليه صدام أو صراع الحضارات بل هي أطروحات غلب عليها التشنج وعدم وضوح الرؤية, ولي في الختام أن أطلق على هذا المسمى العالمي "الحوار الإنساني", بدلاً من حوار الحضارات.
المقاربة الثالثة: مستقبل حوار الحضارات (كيف يمكن تصور حوار الحضارات في ظل عالم تتجاذبه مجموعة اتجاهات متباينة؟).
من أسس المقاربة الفلسفية لحوار الحضارات محاولة استقراء مستقبل هذا الحوار واستشراف تعاطيه الحضاري وتحقيق أهدافه. ومدى ملائمة الاستمرار فيه وتطويره, أو التخلي عنه وتركه, إن النظرة الواقعية لمستقبل الحوارات لا يكاد يخرج من الأنماط والسيناريوهات المستقبلية التالية:
نجاح مساعي حوار الحضارات وفق ما خطط لها.
تعثر حوار الحضارات لأسباب عرقية أو ثقافية أو اقتصادية أو سياسية ونشوء نظريات مخالفة له تدعو للانكفاء على الذات والصدام مع الآخر وإقصائه.
ترنح حوار الحضارات بين النجاح والإخفاق.
والرؤية المستقبلية لحوار الحضارات هي إمكانية نجاحه متى ما أحيط بعدة عوامل نجاح تساعده على تحقيق أهدافه, والتخلص من كل عثرات قد تواجهه, ومن المهم في سياق الحديث عن مستقبل حوار الحضارات أن تكون صورته واضحة المعالم لمن يرغب في المشاركة فيه ويقبل بنتائجه, فمن الضروري معرفة مقاصده وإجراءاته, ونظرياته وثماره التي تعود بالنفع على الأفراد والجماعات, ولأجل هذا تبرز بعض النظريات المستقبلية الخاصة بالحديث عن انهيار الحضارات, ولهذا عدة عوامل.
عوامل انهيار الحضارات وفنائها:

وهذه إحدى سيناريوهات مستقبل حوار الحضارات, فمن السنن الكونية التي لا يمارِ فيها أحد أن الحضارات تأخذ طابع الكائن البشري الحي, فهي تمر بمراحل الولادة, والطفولة, والصبا, والقوة, والشباب, ثم الهرم, والكهولة, وتختم بالفناء, فكم من حضارة بدأت ضعيفة تسير بخطى ثقيلة, ثم يتطور حالها لتعيش القوة والتأثير ثم ما تلبث أن يصيبها عوامل الوهن والعجز فتتقلص وتتلاشى وتنتهي فتكون أثراً بعد عين, إن الوقوع في الشرك والكفر والطغيان من أكبر عوامل انهيار الحضارات وفنائها, ومن تلك الحضارات في العصر القديم: عاد وحضارتهم, ثمود وحضارتهم, قوم نوح, قوم لوط, فرعون وقارون وهامان.
سبق معنا الحديث عن إمكانية الاستفادة مما لدى الحضارات الأخرى في جانبها المادي واستثماره, في حين أن بعض أبناء المسلمين فُتن بما لديهم من ثقافة فسعى في التبشير بها في المجتمعات الإسلامية والحماسة لها.(ولكن الخلط الفكري والثقافي وعدم وضوح المفاهيم أدى إلى عدم الاستفادة من الحضارات الأخرى. إن بعض المسلمين تركوا ما هو مشترك عام بين الحضارات-مثل العلوم الطبيعية والصناعات والتقنيات الحديثة -وقاموا بنقل مفاهيم الثقافة العلمانية الغربية في مجالات كثيرة من الفنون) ([82]), وكما كان الفناء سنة ربانية للأمم الماضية, فإنها سنة ربانية باقية ومستمرة للحضارات, فأي حضارة معاصرة تبنى على الظلم والقهر فإن مآلها إلى الفناء نتيجة فسادها, وكما أن لقيام الحضارات عوامل بناء, فإن لها عوامل أفول وفناء, (ومن صور الفساد التي تهدد الحضارة العلمانية الغربية المعاصرة:
مشكلة الانحلال الاجتماعي وتفكك واختلال الأسرة.
مشكلة الاستنساخ والهندسة الوراثية واللعب في الخريطة الجينية للإنسان.
فالفساد والبغي والطغيان والفجور والفسق من أخطر الأمور على الأمم والحضارات, ولذلك جاءت أحكام الشريعة الخاصة بالحدود رادعة لتمنع الفساد والبغي والطغيان, وبالتالي حماية المجتمعات من الفساد وحفظ حياة الناس وأموالهم وأعراضهم)([83]), إن من أبرز عوامل فهم سياقات الحضارات على تنوعها فهم سنن التدافع, والمقصود به محاولة تغلب أمة على أخرى والسعي في القضاء عليها, إن إحدى الصور المستقبلية المتداولة لحوار الحضارات دخولها في خضم ما يسمى بتدافع الحضارات, سواءً كان هذا التدافع في سياقاته البناءة أو هو تدافع التغلب والقهر.
فهم سنة التدافع:

إن (فهم السنن الإلهية على وجهه الصحيح كما أرادها الله عز وجل, تعطي المسلم المعيار الصحيح فيتخذ القرار السليم المتزن,ويحافظ على الحضارة الإسلامية ويحفظ خصوصيتها الإسلامية ويحميها من التأثيرات السلبية للحضارات الأخرى ومن تلك السنن سنة التدافع وسنة التكامل وسنة التوازن وسنة التعارف وسنة التعاون. وفي سنة التدافع يقول تعالى: ï´؟وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَï´¾([84]) والتنافس والسبق وإحراز النجاح في شتى المجالات, وليس المجالات العسكرية فقط ضروري وهام في فهم سنة التدافع, ويحقق التقدم في المجالات المختلفة, والتخلي عن ذلك يعتبر ضعفاً وتخاذلاً والرسول e حذر من ذلك)([85]).
إن المتأمل في الحضارة الإسلامية يجد أنها قامت في أصلها وفرعها على مبعث رباني يمثل ختام الرسالات السماوية, وقد جاءت محققة لكل احتياجات الناس في جوانب حياتهم كلها, وهذا أكسبها تميزاً عن غيرها من الثقافات فأضحت قادرة على التغلب على أي نوع من أنواع المصاعب والصروف, مما ينبئ بأنها ستبقى قوية وقادرة في مستقبلها على تقديم الكثير, وتكون ذات منعة تقدم للناس فيوض إسهاماتها في مسيرة الحياة الإنسانية.
وهناك معطيات تساعد في تقديم الدين الإسلامي كرافد فهم للحضارة, وله بُعده في التعريف بالحضارة الإسلامية والدين الإسلامي عبر الخطاب الديني الحضاري المؤثر, (فالتعامل الإسلامي مع الإنسان –مهما يكن دينه وجنسه ولغته-ومع مستقبل الحضارة, لابد أن يكون أيضاً من خلال صفة أخرى, وهي أنه دين العقل والعلم.
وهذان هما –مع السماحة- مدخلنا الحقيقي للتأثير في الخطاب الحضاري العالمي, وتقديم المعالجات والمفاهيم لقضايا الإنسان التي تشمل قضايا: التعددية, والشورى, والأقليات, والمرأة, والشباب, والطفولة, ومواقف الاعتدال والوسطية, بأساليب علمية موضوعية تقنع الآخرين, مجردة من الانفعال والخطابية. وهذا كله يتطلب منا فهماً لقضايا العصر ومشكلاته, وإدراكاً لموقع الأمة وما تعاني منه, في خضم العلاقات والتكتلات الدولية القائمة على المصالح المحدودة والأهواء النفعية, بعيداً عن الاهتمامات الضيقة, والقضايا الشكلية, والمعالجات السطحية.ففهم المسلمون لذلك جعل علومهم حلقة أساسية في سلسلة الحضارة الإنسانية)([86]).
إن فكرة بناء حوار الحضارات على أساس ديني صرف دون النظر إلى ما سواه من عوامل مؤثرة هو حكم استباقي على فشل هذا المسعى, ذاك أن كل نظرية حضارية قائمة على أصل ديني ترى في ذاتها الأصالة المطلقة وتسعى بناء على هذا لإقصاء الآخر, أيّاً كان هذا الآخر, من هنا ينبع لدينا ضرورة المناداة لحوار حضارات قائم على أصل التثاقف المشترك, ومبدأ التطور الثقافي, ونزعة التحول في مجرياته.
إلا أن لقائل أن يقول: أن حوار الحضارات المبني على أصول الديانات السماوية الرئيسية الثلاثة ممكن لأنها تستقى من معين واحد! وهذا صحيح إذا تجاوزنا قناعة أنها متناسخة متطورة, إن منطلق وأساس الحوار هو الاعتراف بالآخر وحقه في الحياة. فإذا انتفى هذا البعد انتفى معه أي دعوة للحوار, كما أن فشو مبعث الندية في الطرفين سبيل إلى تحقيق أهداف الحوار ومقاصده, وفي غياب هذا الاتجاه فلا قيمة لحوار بين حضارتين متباعدتين.
وهذا يدعونا إلى أهمية احترام الآخر من قبل قوى الهيمنة والاستلاب, ويتحتم علينا تكرار أن القرآن الكريم كتاب دعوة للحوار المنظم (فالدارس للقرآن المجيد يستطيع أن يتبين في كل صفحة أنه كتاب حوار مع المؤمنين ومع الكافرين, وأنه ضم أشنع مقولات الملاحدة وافتراءات أعداء الله ومناقشتها والرد عليها, كما أرخ لمعظم الرسالات السماوية وكيف أنها قامت على الحوار والموعظة الحسنة من الله)([87]).
و(تحكم العلاقة بين الحضارات قوانين, يمكن لقارئ التاريخ وتطور الإنسانية أن يجد أنها:
الاستمرار: سلسلة لا انقطاع فيها ولا توقف.
التراكم: لا حضارة تبدأ من الصفر.
التماثل: أي استيعاب الحضارات السابقة وتمثيلها.
الإحلال: أي تحديد فعالية الحضارة السابقة, وإحلال عناصرها الإيجابية في مكونات الحضارة الجديدة.
العموم: أي لا تحصر إنجازاتها في إطار مكاني أو زماني معين).([88])
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.16 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 46.53 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.33%)]