تأملات دلالية في أصول الفقه وحُرّية المعجم
- د . عبد السلام حامد(*)
التقسيم الثاني : تقسيم اللفظ باعتبار قوة دلالته على المعنى إلى قسمين كبيرين :
أ ـ الواضح الدلالة .
ب ـ غير الواضح الدلالة .
وكل واحد من هذين القسمين قسموه إلى أقسام أربعة بناءً على التفصيل الآتي :
أ ـ القسم الأول : الواضح الدلالة :
الواضح الدلالة عند الأصوليين هو اللفظ الذي يفهم المراد منه بصيغته نفسها من غير توقف على أمر خارجي . وقد استطاعوا بدقة أن يقسموا هذا النوع إلى أربعة أنواع، بناء على إدراك بعض الفروق الدلالية أو الملامح التمييزية في كل نوع، وهذه الفروق أو الأسس هي : قصد اللفظ أصالة من السياق، واحتماله التأويل، واحتماله النسخ . والأنواع الأربعة هي (7) : الظاهر، والنص، والمفسر، والمحكم .
1 ـ فالظاهر هو ما دل على المراد منه بنفس صيغته من غير توقف على أمر خارجي، ولم يكن المراد منه هو المقصود أصالة من السياق ويحتمل التأويل . ومثال ذلك معنى الحل والحرمة في قوله تعالى :" وأحل الله البيع وحرم الربا "[ البقرة : 275]، لأن المقصود أصالة من السياق نفي المماثلة بين البيع والربا .
2 ـ والنص هو ما دل بنفس صيغته على المعنى المقصود أصالة من سياقه، ولا يتوقف فهمه على أمر خارجي، ويحتمل التأويل والنسخ . فقوله تعالى :" وأحل الله البيع وحرم الربا " نص على نفي المماثلة بين البيع والربا، وقوله تعالى :" فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " [النساء : 3] نص على قصر أقصى عدد الزوجات على أربع .
3 ـ والمفسر هو ما دل بنفس صيغته على معناه المفصل تفصيلاً لا يبقى معه احتمال للتأويل ولكنه يقبل النسخ، ومثل ذلك قوله تعالى في قاذفي المحصنات :" فاجلدوهم ثمانين جلدة " [النور : 4] لأن العدد المعين لا يحتمل زيادة ولا نقصاناً، وقوله تعالى :" وقاتلوا المشركين كافة " [التوبة : 36]، فإن كلمة "كافة" تنفي احتمال التخصيص .
4 ـ والمحكم هو ما دل على معناه المقصود من السياق ولا يقبل التأويل ولا النسخ . ومنه قوله تعالى في قاذفي المحصنات :" ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً " [النور : 4]، وكذلك قوله تعالى :" وهو بكل شيء عليم " .
وثمرة هذه الدقة تظهر في ترتيب قوة هذه الأنواع واستنباط الأحكام منها سواء أكان هناك تعارض بين بعض النصوص أم لا . فأقواها المحكم ثم المفسر ثم النص ثم الظاهر، وحكم الظاهر والنص وجوب العمل بهما حتى يقوم دليل على تفسيرهما أو تأويلهما، وحكم المفسر وجوب العمل به حتى يقوم دليل على نسخه، وحكم المحكم وجوب العمل به قطعاً لأنه لا يحتمل غير معناه .
ومن أمثلة ترجيح القوي عند التعارض بينه وبين الأقل قوة منه التعارض بين نص ومفسر، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم :" المستحاضة تتوضأ لكل صلاة " فهذا نص على أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة سواء أصلت صلاة واحدة في الوقت الواحد أم عدة صلوات في الوقت الواحد، وهذا مفسر بقوله صلى الله عليه وسلم :" المستحاضة تتوضأ وقت كل صلاة"؛ إذ إن ذلك يدل على إيجاب وضوء واحد في الوقت الواحد حتى لو صلت عدة صلوات، وقد رُجِّح المفسر على النص لأنه أوضح دلالة منه .
ب ـ وأما القسم الثاني وهو غير الواضح الدلالة، فالمقصود به ما لا يدل على معناه بنفس صيغته، بل يتوقف تحديد المراد منه على أمر خارجي، وقد قسم ـ كما أشرنا ـ إلى أربعة أنواع أيضاً، بناءً على محددات دلالية مميزة هي : ألا يكون الخفاء في صيغة اللفظ، وأنه يزال بالاجتهاد، أو يزال من الشرع فقط، أو أن يستأثر الشارع بعلمه . والأنواع الأربعة هي (8) : الخفي، والمشكل، والمجمل، والمتشابه، وهي مرتبة بحسب الأقل خفاءً ثم الأكثر .
1 ـ فالخفي هو اللفظ الذي يدل على معناه دلالة ظاهرة فلا خفاء في صيغته، ولكن في انطباق معناه على بعض الأفراد نوع من الغموض والخفاء، تحتاج إزالته إلى فضل نظر وتأمل. ومثال ذلك لفظ "السارق" معناه ظاهر، وهو آخذ المال المتقوّم المملوك للغير خفية من حرز مثله، ولكن في انطباق هذا المعنى على بعض الأفراد نوع غموض، كالطرَّار (النشال) فهو آخذ المال من حاضر يقظان بنوع من المهارة وخفة اليد ومسارقة الأعين، وهذا يحتاج إلى فضل تأمل لجعله " سارقاً " وتطبيق حكمه عليه، ومثل ذلك "النباش" .
2 ـ وأما المشكل فهو اللفظ الذي لا يدل بصيغته على المراد منه، بل لا بد من قرينة خارجية تبين المراد منه، وهذه القرينة في متناول البحث، كأن يكون اللفظ مشتركاً، فيترجح أحد المعاني بقرينة خارجية، مثل قرينة تأنيث العدد التي تدل على تذكير المعدود وصرفِ معنى "ثلاثة قروء" في قوله تعالى :" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " [البقرة : 228] ـ إلى معنى : ثلاثة أطهار ـ كما ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي ـ أو صرف المعنى إلى أن "القَرْء" بمعنى : الحيض، بناء على قرائن أخرى كما رأى الأحناف .
3 ـ وأما المجمل فهو اللفظ الذي لا يدل بصيغته على المراد منه، ولا توجد قرائن لفظية أو حالية تبينه، فسبب الخفاء فيه لفظي لا عارض، ولا سبيل لإزالة خفائه إلا بالرجوع إلى الشارع نفسه . ومن ذلك الألفاظ التي نقلها الشارع من معانيها اللغوية إلى معانٍ شرعية اصطلاحية خاصة بينتها السنة العملية والقولية، كألفاظ الصلاة والزكاة والصيام والحج، وكذلك الألفاظ الغريبة التي فسرتها النصوص نفسها بمعانٍ خاصة كلفظ "القارعة" في قوله تعالى :" القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة " .
4 ـ وأما المتشابه فهو اللفظ الذي لا تدل صيغته بنفسها على المراد منه، ولا توجد قرائن خارجية تبينه، واستأثر الشارع بعلمه فلم يفسره . ولا توجد نماذج من المتشابه إلا في الحروف المقطعة في أوائل السور مثل : ألم، ألمر، كهيعص، طسم، ص، وغيرها، وكذلك في الآيات التي ظاهرها أن الله سبحانه وتعالى يشبه خلقه مثل :" يد الله فوق أيديهم " [الفتح : 10] وقوله تعالى :" واصنع الفلك بأعيننا ووحينا" [هود : 37] . ورأي السلف في مثل هذا الإيمان به وتفويض العلم به لله جل شأنه والتوقف عن البحث فيه وعدم تأويله، ورأي الخلف تأويله بما يتناسب مع ذاته وصفاته(9).
ï‚§ التقسيم الثالث : تقسيم اللفظ باعتبار طرق دلالته على المعنى :
هنا نجد أن الأصوليين قسموا طرق دلالة اللفظ على معناه إلى أربعة أنواع هي : دلالة " العبارة " وهي دلالة الصيغة على المعنى المتبادر فهمه منها وهو مقصود أصالة أو تبعاً، ودلالة " الإشارة " وتكون عن طريق اللزوم كما في دلالة قوله تعالى :" وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " [البقرة : 233] ـ على أن الأب لا يشاركه أحد في وجوب النفقة لولده عليه، لأن ولده له لا لغيره، وأن الأب عند الاحتياج يأخذ من مال ابنه ما يسد حاجته دون تعويض، والنوع الثالث في هذا التقسيم دلالة " النص " أو " الفحوى " وتفهم عن طريق الأَْولى وروح النص ومعقوله كما في قوله تعالى :" فلا تقل لهما أفٍ " [الإسراء : 67]، والنوع الرابع هو دلالة " الاقتضاء " كما في قوله تعالى :" حُرّمت عليكم أمهاتكم ...." [النساء : 23] أي زواجهن (10) . ومن صور طرق دلالة اللفظ على المعنى عندهم مفهوم " المخالفة " ومعناه : ثبوت نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه، ويكون في الوصف والغاية والشرط والعدد واللقب . ولكي يكون واضحاً فمثاله في الوصف قوله تعالى في المحرمات :" وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم " [النساء : 23] فالمخالفة هنا تتمثل في حلائل الأبناء الذين ليسوا من الأصلاب كابن الابن رضاعاً، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم :" في السائمة زكاة " فمفهوم المخالفة فيه المعلوفة التي ليست سائمة . وفي الاستدلال بالمخالفة عدم اتفاق بين الأصوليين، إلا في مخالفة الوصف أو الشرط أو العدد أو الغاية في غير النصوص الشرعية كالعقود وأقوال الناس ومصطلحات الفقهاء .
ï‚§ التقسيم الرابع : تقسيم اللفظ باعتبار وضعه للمعنى :
المشهور في هذا تقسيم اللفظ من هذه الناحية إلى ثلاثة أنواع : الخاص، والعام، والمشترك (11).
فأما الخاص فهو ما وضع للدلالة على فرد واحد شخصاً كان أو نوعاً أو جنساً أو معنى أو اعتباراً، وذلك مثل : محمد ورجل ونبات وعِلْم وثلاثة . وصور الخاص هي : المطلق والمقيد والأمر والنهي .
وأما العام فهو لفظ وضع للدلالة على أفراد غير محصورين على سبيل الشمول والاستغراق . وصيغه هي : الجموع المعرفة بأل الجنسية أو الإضافة، وأسماؤها، والمفرد المعرف بأل الجنسية، وأسماء الشرط، وأسماء الاستفهام، والأسماء الموصولة، والنكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط، وما أضيف إليه كل وجميع لفظاً .
وقد أثارت دراسة ألفاظ العموم عند الأصوليين قضايا دلالية مهمة تبين دقتهم في هذا الشأن، من ذلك قضية مدى دلالة صيغ العموم على الاستغراق وطبيعة هذه الدلالة، وقضية مدى شمول دلالة هذه الصيغ لأفراد الإناث، وقضية العموم في السياق الخاص، وقضية تخصيص العام (12).
وأما المشترك فهو اللفظ الذي يحمل أكثر من معنى، مثل "القرء" للحيض والطهر و"المولى" للسيد والعبد، و"العين" للباصرة والذهب والشمس وعين الماء والجاسوس، و"دَرَسَ" بمعنى عفا وتعلم . والمشترك ـ كما هو بيّن ـ يمكن أن يكون اسماً كالقرء والمولى والصلاة، ويمكن أن يكون فعلاً كما في " وترغبون أن تنكحوهن " [النساء : 127] حيث يمكن أن يكون المعنى : (وترغبون في) أو (وترغبون عن) وكقوله :" كلوا " وقوله :" ولا تأكلوا " في اشتراكه بين الوجوب والندب والإباحة وغيرها من المعاني .
ويرى الأصوليون أن المشترك إذا ورد في نص شرعي وكان متراوحاً بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي وجب حمله على المعنى الشرعي، وإن كان مشتركاً بين معنيين أو أكثر من المعاني اللغوية وجب حمله على معنى واحد منها بدليل يعينه، ولا يصح أن يراد بالمشترك معنياه أو معانيه معاً (13).
إن ما مر من الحديث عن دراسة الأصوليين للدلالة من خلال الوسائل الثلاث التي تحدثنا عنها خاصة (مراعاة المقاصد الشرعية للأحكام، ومراعاة السياق، ومراعاة علاقة المعنى باللفظ وتحليل هذا في أربعة أقسام رئيسة) ـ يبين ما قلناه من قبل من أن دراستهم للمعنى والدلالة تعد مثالاً لمحاولة ضبط الدلالة وتقعيدها وتوظيفها في مجال مهم هو استنباط الأحكام الشرعية. وذلك في مقابل ما نراه من حرية الألفاظ الخاصة بالدلالة والمعنى ـ وبالطبع غيرها ـ في مجال المعجم الحي الذي من أهم سماته التجدد والتطور والتغير والاتساع .
• ثانياً ـ حرية المعجم :
من أمثلة ما يدل على ما أسميناه بحرية المعجم في مجال لفظي المعنى والدلالة ومشتقاتهما، هذه الظلال الدلالية التي بينها القدماء ونجدها في بعض الأبواب والتقاسيم :
أ ـ ما تقارب لفظه واختلف معناه، مثل : التحسُّس (الاستماع لحديث القوم وطلب خبرهم) والتجسُّس (وهو طلب الخبر في الشر والبحث عن العورات)، والوعد يستعمل في الخير غالباً، أما الإيعاد والوعيد فلا يستعملان إلا في الشر، والأَكْل بالفتح مصدر والأُكُل بضمتين هو الثمر، ومنه قوله تعالى:" أكلُها دائم وظلُّها " [الرعد : 35]، والحَمل بالفتح مصدر لما تحمله الإناث في بطونها، والحِمل بالكسر ما يحمل على الظهر أو البطن .
ب ـ ما يستعمل للمعنى وضده، مثل "شرى" فهو يستعمل بمعنى (باع) كما في قوله تعالى :" وشروه بثمن بخس " [يوسف : 20 ]، ويستعمل بمعنى (اشترى)، وبالمعنيين وُجِّه قوله تعالى :" فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة " [النساء : 74] إن أريد المؤمنون فمعناه : يبيعون، وأما إذا أريد المنافقون فمعناه : يشترون، والوجه الأول هنا أشهر وأرجح (14) . ومثل ذلك "الجلل" يستعمل في الأمر العظيم والهين الحقير . ومن الواضح أن هذا النوع تطور معناه واتجه للتخصص في أحد المعنيين دفعاً للبس .
ج ـ ما يستعمل مخالفاً لمعناه الأصلي، مثل تأثّمّ وتهجّدَ، إذا كف عن الإثم ـ والأصل أثِمَ بمعنى وقع في الإثم ـ وتهجّدَ إذا امتنع عن الهجود وهو النوم ليلاً ؛ ولذا قيل لصلاة الليل التهجد، ومنه قوله تعالى :" ومن الليل فتهجد به نافلة لك " [الإسراء : 79] والمعنى الأصلي هَجَدَ إذا نام (15)
وأما في مجال الاستعمال المعاصر الواسع واللغة المستحدثة، فنجد أن من أوجه الاستعمالات الغالب حداثتها للفظ "المعنى" ومشتقاته هذه الاستعمالات :
بالمعنى الواسع/نظرات لها معنى/بكل معنى الكلمة، أي بكل ما في الكلمة من تعبير/رجل بمعنى الكلمة/العناية الإلهية/ حجرة العناية المركزة/ التعنية، وهي الحالة المرضية المعروفة .
ومن ذلك أيضاً : دفعة معنوية/ دعم معنوي/تقدير معنوي/رفعَ روحه المعنوية/المعنويات، جمع معنوية وهي موقف الفرد أو الجماعة من الثقة بالنفس، والتمسك بالمثل العليا عند مواجهة الخطر والتعب أو الصعوبات، كما في قولهم : معنويات الجنود عالية (16).
ومما يرتبط بذلك في مجال التصحيح اللغوي قول بعضهم :" انصرفتُ عن قراءة القصيدة لأن فيها معانٍ غامضة "؛ وذلك للخطأ في نصب المنقوص بفتحة مقدرة بعد حذف الياء . وقد وجّه هذا بأن الفصيح إثبات الياء في حالة النصب وظهور الفتحة، أي أن يقال : (لأن فيها معانيَ غامضة) لأن الاسم المنقوص تحذف ياؤه في حالتي الرفع والجر ويعرب فيهما بحركتين مقدرتين، أما النصب مع حذف الياء فيمكن توجيهه بأنه صحيح بناءً على تجويز بعض اللغويين إياه وورود نظائر له منها قول الشاعر(17) :
ولــو أنّ واشٍ باليـــمامة دارُه وداري بأعلى حضرموتَ اهتدى ليا
وأنا أرى أن يقصر هذا على ضرورة الشعر .
ومن أوجه الاستعمالات الغالب حداثتها للفظ "الدلالة" ومشتقاته هذه الاستعمالات :
اندلّ على الطريق، مطاوع دلّ أي أُرشدَ واهتدى إليه/ دلّل على المسألة، أي أقام الدليل على صحتها/دلل على السلعة، أي عرضها للبيع منادياً بصوت مرتفع/ الدالّ والدالة والجمع دالات ودوالّ، وهي صفة تطلق على الكلمات التي تشير إلى شيء بعينه مميزًا عن غيره مثل أسماء الإشارة والضمائر/اللحن الدال، وهو مقطع موسيقي له سمة مميزة أو عنصر مميز/المصباح الدال، وهو مصباح كهربائي صغير يستخدم ليدل على أن الكهربائية عاملة/ الدالّة في الجبر، وهي متغير تتوقف قيمته على متغير آخر، وفي الحاسوب، مؤشر يتحرك على شاشة العرض يبين موقع الرمز المطلوب إدخاله أو تصحيحه أو حذفه/انحطاط الدلالة في اللغة، وهو تغير معنى الكلمة على مر الزمن من دلالة مرغوب فيها إلى دلالة غير مرغوب فيها/ الدلاّل: السمسار الذي يتوسط ويجمع بين البائع والمشتري، ومن ينادي على السلعة لتباع بالمزاد أو بالمساومة/الدليل: ما يستدل به، ومن معانيه : كتاب يدل القارئ ويرشده إلى معلومات خاصة بموضوع ما، مثل دليل الفنادق والمطبوعات والجامعات والهاتف/ الدليل الإبهامي، وهو الثقوب النصفية في حافة المعجم ونحوه يستعين بها المرء للاهتداء إلى الصفحة الأولى من الحرف الذي يريد مراجعته/ الدليل الظرفي في القانون، وهو دليل متعلق بالعديد من الملابسات التي قد يستدل بها القاضي على حقيقة الواقعة التي هي موضع الجدل (18).
ويقال : دلدلَ رجليه في الماء، وهو استعمال معاصر مرفوض عند بعضهم؛ بناءً على الأصل : دلّى، وقد أجازه مجمع اللغة المصري مراعاة لكثرة التبادل بين مضعف الثلاثي ومضعف الرباعي عند قصد المبالغة، مثل دبَ ودبدب وفتّ وفتفت وكبّ وكبكب (19).
إن المقابلة التي ذكرناها كانت بين أمرين : الأول : رصد محاولة علم أصول الفقه ضبط مفاهيم المعنى والدلالة من أجل توظيفها في مجال استنباط الأحكام ـ وهو ما أسميناه "ضبط العلم" ـ والثاني : سعة الألفاظ والمفاهيم والاستعمالات المرتبطة بالمعنى والدلالة وانطلاقها، وهو ما أسميناه بـ" حرية المعجم ". ويكفي للدلالة على حرية المعجم، أنك تذكر الشاهد أو المثال من القرآن الكريم بقراءاته المختلفة ومن الحديث النبوي الشريف ومن الأمثال والشعر وغير هذه الأنواع، وتجمع بين القديم والحديث من المعاني، وتعرف ما اتسع وما ضاق منها وما استُحدث وما أُهمل، ولو كانت عندك فسحة أو دعت ضرورة لجُلت في العلوم والفروع المختلفة؛ لتعرف كيف توضع المصطلحات في معانيها، وكيف تنتقل من مجال إلى مجال، إلى آخر ذلك . وكل هذا يجسد لك حياة اللغة لتعرف منه طرفاً مهماً من ثقافة حياتك وأمّتك، ولتبني عليه موقفك من ماضيك وحاضرك كي تصنع مستقبلك .
وحرية المعجم بالفهم الذي ذكرته لا تعني انفلاته وخروجه عن الضوابط والقيود، بل هي تعني الاتساع والتشعب والتكاثر والامتداد، وتلبية حاجات العصر ومقتضيات الظروف، وذلك كله يجمعه وينظمه أمور كثيرة أهمها اتحاد جذور الكلمات وأصول المعاني .
وكلا الأمرين مطلوب : الضبط والحرية . فضبط العلم ـ كما عرضنا مثاله من علم أصول الفقه، وكما يمكن أن يُستلهم ويُدرك من أي علم أو أمر منضبط ـ مطلوب؛ لأنه يناط به التنظيم والعصمة من الفوضى، والحرية ـ كما عرضنا مثالها من المعجم ـ مطلوبة؛ لأنها تعني الحياة والتجدد ونبذ الجمود والاستبداد . وما دام الشيء بالشيء يُذكر، أيمكن أن تثير المقابلةُ السابقةُ مقابلةً بين" الأصولية " و"الحداثة"؟
--------------
الحواشي :
(*) أستاذ مشارك بقسم اللغة العربية بكلية الآداب والعلوم ـ جامعة قطر . وقد نُشر أصل هذا المقال في مجلة الدوحة ـ العدد 33 ـ يوليو 2010.
(1) البيان والتبيين للجاحظ ، تحقيق وشرح عبدالسلام هارون ( مكتبة الخانجي بالقاهرة ـ ط7- 1988 ) 1/75.
(2) علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف : 12 .
(3) اعتمدت في هذا على منهج عبد الوهاب خلاف وطريقة عرضه للمادة في كتابه " علم أصول الفقه " .
(4) راجع في هذا :" البحث الدلالي عند الأصوليين " للدكتور محمد حبلص (عالم الكتب ـ القاهرة ـ 1991 م )
(5) انظر : علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف 197 وما بعدها .
(6) المستصفى للغزالي ، نقلاً عن البحث الدلالي عند الأصوليين 58 .
(7) انظر : دراسة المعنى عند الأصوليين ، للدكتور طاهر سليمان حموده (الدار الجامعية ـ الإسكندرية) 129 وما بعدها .
(8) انظر : دراسة المعنى عند الأصوليين 136 وما بعدها .
(9) انظر : علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف 176 .
(10) انظر : دراسة المعنى عند الأصوليين 151 ـ 157 .
(11) انظر : السابق 23 .
(12) انظر : البحث الدلالي عند الأصوليين 126 وما بعدها .
(13) انظر : علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف 177 .
(14) انظر : أزاهير الفصحى في دقائق اللغة ، لعباس أبو السعود (دار المعارف بالقاهرة ـ ط 2) 272 ، والمحرر الوجيز لابن عطية 2/602 .
(15) انظر : أزاهير الفصحى في دقائق اللغة ، لعباس أبو السعود 265 ، 266 ، 272 ، 273 ، 343 .
(16) انظر : معجم اللغة العربية المعاصرة ، للدكتور أحمد مختار عمر (عالم الكتب بالقاهرة ـ 2008 م) 2/ 1566 ع ن يَ .
(17) انظر : معجم الصواب اللغوي ، دليل المثقف العربي ، للدكتور أحمد مختار عمر (عالم الكتب بالقاهرة ـ 2008 م) 1/711 .
(18) انظر : معجم اللغة العربية المعاصرة ، للدكتور أحمد مختار عمر 1/762 د ل ل .
(19) انظر : معجم الصواب اللغوي ، دليل المثقف العربي ، للدكتور أحمد مختار عمر 1/376 .