عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 29-07-2019, 03:51 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,861
الدولة : Egypt
افتراضي تأملات دلالية في أصول الفقه وحُرّية المعجم

تأملات دلالية في أصول الفقه وحُرّية المعجم
- د . عبد السلام حامد(*)

بين يدي المقال :
رُوي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال :" نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، ثم أدّاها إلى من لم يسمعها، فرُبّ حاملِ فقهٍ لا فقهَ له، وربّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقهُ منه ... " (ورد في مسند أحمد، والمستدرك على الصحيحين للحاكم : كتاب العلم)

الحديث عن المعنى يثير أفكاراً ومقولات كثيرة، منها قول المتنبي مادحاً أبا العشائر ومشبّهاً إياه بالمعنى :
الناس ما لم يرَوْك أشبــاهُ والـدهر لفظ وأنت معنـاهُ
والجـودُ عينٌ وأنت ناظرُها والبأسُ بـاعٌ وأنـت يُمنـاهُ
ومنها ما ذكره الجاحظ على لسان بعضهم عن المعاني المجردة في الذهن :" المعاني القائمة في صدور الناس المُتصوَّرة في أذهانهم، والمتخلِّجة في نفوسهم والمتصلة بخواطرهم، والحادثة عن فِكَرهم، مستورة خفية، وبعيدة وحشية، ومحجوبة مكنونة، وموجودة في معنى معدومة، لا يعرف الإنسان ضمير صاحبه ولا حاجة أخيه وخليطه، ولا معنى شريكه والمعاون لـه على أموره، وعلى ما لا يبلغه من حاجات نفسه إلا بغيره. وإنما يحيي تلك المعاني ذكرهم لها وإخبارهم عنها واستعمالهم إياها. وهذه الخصال هي التي تقربها من الفهم وتجلّيها للعقل، وتجعل الخفي منها ظاهراً والغائب شاهداً، والبعيد قريباً "(1) . ومعنى هذا الكلام أن اللفظ له قيمته أيضاً؛ لأنه هو الذي يبين عن المعاني ويكشفها .
ولسنا هنا بسبيل الحديث عن قضية اللفظ والمعنى أو الشكل والمضمون والمفاضلة بينهما على النحو المعروف في النقد، وإنما سنشير إلى هذه القضية من زاوية أخرى لغوية أصولية ربما يغيب صداها عن البعض، بالرغم من أن الوقوف عندها لتأملها يضيء جوانب مهمة .
وبيان ذلك أن المعنى والدلالة من أهم الأسس التي يقوم عليها علم "أصول الفقه" كما سنبين، والجمع بين هاتين الكلمتين أو هذين المصطلحين وعلم أصول الفقه، أمر طبيعي ومألوف لدى الدارسين والعلماء المشتغلين بالدلالة وأصول الفقه . وأما غير المألوف الذي أود أن ألفت الانتباه إليه هو : كيف يكون الأمر، لو وسعنا دائرة هاتين الكلمتين وتناولنهما من زاوية معجمية أوسع تضم في جنباتها أهم الاستعمالات القديمة والحديثة المعاصرة ؟ ما الذي سنخرج به؟ وما ذا عسانا نجد ؟
أتساءل هذا السؤال لأن طريق الإجابة عنه الرئيس أو مدخله الأول، هو السياحة المعجمية في معاجمنا القديمة والمعاصرة، بالإضافة طبعاً إلى الرجوع إلى علم أصول الفقه. وهذه السياحة أراها ـ كما يراها المعجميون ـ واجبة لعدة أسباب أهمها : أن المعجم هو الطريق الأساس للإلمام بثقافة ما، وكون الاطلاع على المعاني والاستعمالات المختلفة يبين لنا جانباً من تطور العربية وتجدد شبابها وحياتها. ومعنى هذا أنني أتساءل هذا السؤال؛ لأن المقارنة بين بحث الدلالة في علوم الأصول وبحثها في المعجم تكشف لنا ما يمكن أن نسميه بضبط العلم وحرية المعجم، وأعني "بضبط العلم" رصد محاولة علم أصول الفقه ضبط مفاهيم المعنى والدلالة من أجل توظيفها في استنباط الأحكام، وأما "حرية المعجم"، فأعني بها : سعة الألفاظ والمفاهيم والاستعمالات المرتبطة بالمعنى والدلالة وانطلاقها، خاصة مع تطور الزمن واستحداث الجديد والرغبة في التعبير عنه، وتراكم القديم مع الجديد، بالإضافة إلى كثرة الشواهد والأمثلة وتتابع ما تثيره وتعكسه . وسأبدأ أولاً بعرض المعنى والدلالة عند الأصوليين، ثم أردفه بالحديث عن حرية المعجم .
أولاً ـ مثال من ضبط العلم، مبحث المعنى والدلالة عند الأصوليين :
"معنى الكلام" ومعناته مقصده والمراد منه، والفعل من ذلك : عنَى يعني، وقد جاء في المثل :" إياكِ أعني واسمعي يا جارة "، ويقال أيضاً : عناه الأمرُ يَعنيه وأعناه يُعنيه بمعنى شغله وأهمّه، وقد ورد في الحديث :" من حسن إسلام المرء تركه ما لا يَعنيه " . أما عنِيَ يعنَى فمن معانيه : تعِبَ (والمصدر عناء) واهتمَّ بالأمر (والمصدر عناية)، قال الأعشى :
لَعمرُك ما طولُ هذا الزمنْ على المرء إلا عَناءٌ مُعنّْ
و"الدّلالة"(بفتح الدال وكسرها) هي ما يفهم من اللفظ عند إطلاقه، والعلم المختص بدراسة هذا هو "علم الدلالة"، والفعل من ذلك دلّ يدُلّ . أما دلّ يدِلّ، فالمشهور فيه معنى الدلال وهو تغنج المرأة وجرأتها على الرجل في تكسر وملاحة، قال الشاعر :
اليـومَ عندكَ دَلُّها وحديـثُها وغدًا لغيرك كفُّها والمِعصمُ
وأدلَ الشخص بكذا : افتخر به، وأدلّ على فلان : وثق بمحبته فتجرأ عليه وعامله بلا تكلف، ومن هذا قولهم في المثل :" أدلّ فأملّ " .
والفرق في المعنى بين لفظ "المعنى" ولفظ "الدلالة" في مجال بيان المراد والقصد من الكلام، أن الدلالة أعم لأنها تطلق على ما كان عن طريق اللغة وغيرها، كدلالة الكون وما فيه على الخالق سبحانه، وأما "المعنى" فلا يكون إلا عن طرق الألفاظ واللغة .
وأصل الشيء أساسه؛ فالذي لا أصل له لا أساس له . وبذلك فضلت الكلمة الطيبة الكلمة الخبيثة كما بيّن المولى ـ عز وجل ـ في قوله :" أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء 24 تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ 25 وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ 26 (سورة إبراهيم 24 ـ 26) . ولذا قالوا : رجل أصيل الرأي أي محكمه، وقال الطُّغرائي في مطلع قصيدته اللامية المشهورة المسماة بلامية العجم :
أصالةُ الرأي صانتني عن الخطلِ وحِليةُ الفضلِ زانتني لدى العَطَلِ
ولأهمية الأصل أو الأساس كان للعلوم والآداب والمعرفة والفنون وغيرها عناية خاصة بالأصول؛ فهناك أصول النحو وأصول اللغة وأصول البحث العلمي وأصول التفكير وأصول النَّظْم وأصول النقد . ومن أهم العلوم التي اعتنت بالأصول نظرًا لما يترتب عليها من أحكام شرعية عملية، الفقه الإسلامي، وقد ظهر هذا في علم "أصول الفقه" .
وعلم أصول الفقه هو " العلم بالقواعد والبحوث التي يُتوصَّل بها إلى استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية "(2)، أي هو العلم الذي تؤدي المعرفة بقواعده إلي استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة الخاصة بها كالقرآن والسنة والإجماع والقياس وغيرها . ونظراً لاتصال هذا العلم بالنصوص التي هي من أهم ما يستنبط منه الأحكام، كان لعلماء أصول الفقه مباحث مستفيضة في دلالة الألفاظ والعبارات والجمل والنصوص التي هي جزء من اللغة، وكان ينبغي معرفة سننه في الاستخدام والفهم لدى العرب الذين خاطبهم القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم، ولدى من جاءوا بعده .
وهذا الجانب الدلالي عند الأصوليين، هو ما نريد أن نبينه عندهم لنؤكد محاولتهم ضبطه وتقعيده وتنظيمه . ونستطيع أن نعرض هذا، من خلال زاويتين : الأولى : تحديد مقدار البحث الدلالي بالقياس لمباحث علم أصول الفقه، والثانية : وسائلهم لتحديد المعنى .
الزاوية الأولى ـ تحديد مقدار البحث الدلالي بالقياس لمباحث علم أصول الفقه :
وفي هذا السياق نذكر أن مباحث هذا العلم أربعة أقسام (3) هي : القسم الأول في الأدلة الشرعية (وهي عشرة على وجه الإجمال وفيها مباحث لغوية دلالية كالبحث في خصائص القرآن وإعجازه)، والقسم الثاني في الأحكام الشرعية (كالواجب والمكروه وغيرهما)، والقسم الثالث في القواعد الأصولية اللغوية ( وهي سبعة أنواع من القواعد ترجع في الحقيقة إلى أربعة فقط، وهذا يمثل أهم مبحث دلالي عند الأصوليين وفي التراث العربي بصفة عامة)، والقسم الرابع والأخير: في القواعد الأصولية التشريعية، وهي خمس قواعد، ما يتعلق منها بالدلالة هو القاعدة الأولى : وهي أن المقصد العام من التشريع تحقيق مصالح الناس بتحقيق ضرورياتهم وحاجياتهم وتحسينياتهم وحفظها، وكذلك القاعدة الخاصة بالتعارض والترجيح .
إذن نستطيع أن نحدد مقدار البحث الدلالي عند الأصوليين من خلال النظر إلى هذه المحاور أو الأقسام الأربعة لمباحث العلم، وبناءً على ذلك سندرك أن البحث الدلالي لا يقتصر على القسم الثالث الخاص بالقواعد الأصولية اللغوية الذي هو من أهم مباحث الدلالة في التراث العربي والعلوم العربية ؛ على النحو الذي سنراه من خلال عرض تقاسيم علاقة اللفظ بالمعنى عندهم ـ بل مواضعُ الدرس الدلالي مبثوثةٌ ومتفرقة بصور مختلفة، في المباحث والأقسام الثلاثة الأخرى وخاصة القسم الرابع . والمسألة الآتية تبين ذلك وتؤكده .
الزاوية الثانيةـ وسائل تحديد المعنى عند الأصوليين :
لتحديد المعنى عند الأصوليين وسائل ثلاث هي (4) : مراعاة المقاصد الشرعية للأحكام، ومراعاة السياق، ومراعاة علاقة المعنى باللفظ، وفي هذه النقطة، أي مراعاة العلاقة بينهما، ترد أربعة تقاسيم عامة للفظ : باعتبار استعماله، وباعتبار قوة دلالته على المعنى، وباعتبار طرق دلالته عليه، وباعتبار وضعه له .
فأما الوسيلة الأولى وهي ـ مراعاة المقاصد الشرعية للأحكام ـ فنجد أن الأصوليين وهم يتحدثون عن القواعد الأصولية الشرعية ذكروا وبينوا قاعدة في المقصد الأساسي من التشريع، وحصروا ذلك في تحقيق مصالح الناس بكفالة ضرورياتهم وتوفير حاجيّاتهم وتحسينيّاتهم .
"فالضروريات" هي التي لا تستقيم الحياة من دونها، وتختل وتعم الفوضى ويسود الفساد بغيرها، و"الحاجيات" ما يحتاج إليه الناس لتحقيق اليسر والسعة ورفع الحرج والمشقة عنهم ولا تختل الحياة إذا فقد، و"التحسينيات" هي الأمور الكمالية وما تقتضيه المروءة والآداب وما لا يتحقق بتركه اختلال نظام الحياة، ولا ينتج عن فواته حرج ولا مشقة . والضروريات خمسة أشياء هي : حفظ الدين والنفس والعقل والمال والعرض . ومن أمثلة الحاجيات الرُّخص في العبادات، وفي المعاملات شرع البيوع والعقود المختلفة، والطلاق للخلاص من الزوجية عند الحاجة، والصيد وميتة البحر وأكل الطيبات من الرزق . ومن أمثلة التحسينيات شرع طهارة البدن والثوب والمكان وستر العورة، وندب أخذ الزينة عند كل مسجد وغير ذلك في العبادات، وكذلك النهي عن الغش والتدليس والتغرير والإسراف والتقتير في المعاملات، وتحريم قتل الرهبان والصبية، وقتل الأعزل وإحراق حي أو ميت في الجهاد والعقوبات، وغير ذلك من أمهات الأخلاق والفضائل .
ومن دقة العلماء في هذا الشأن أنهم رتبوا الأحكام الشرعية بحسب المقصود منها، وأنهم جعلوا الأولوية للأهم إذا كان سيؤدي المهم إلى ضياعه والإخلال به، وبناء على ذلك لا يراعى حكم تحسيني إذا كان في مراعاته إخلال بحكم ضروري أو حاجي، ولا يراعى حكم حاجي إذا كان في مراعاته إخلال بحكم ضروري . وبناء على قاعدة مراعاة المقاصد الأساسية من التشريع هذه، وضعت المبادئ الشرعية الخاصة بدفع الضرر، مثل : الضرر يُرفع شرعاً، والضرر لا يُزال بالضرر، ويُرتكب أخف الضررين لاتقاء أشدهما، والضرورات تبيح المحظورات، وكذلك وضعت الأحكام المتعلقة برفع الحرج، كقاعدة المشقة تجلب التيسير وفروعها (5). ومن القواعد المرتبطة بفلسفة القصد كما بينها الأصوليون قاعدتان هما : الأمور بمقاصدها، والعبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني .
وأما الوسيلة الثانية وهي مراعاة السياق، فلهم في ذلك باع طويل يتعلق بجميع أنواع السياق اللغوية والمقامية . ومن ذلك حديثهم عن المعنى المقصود من سياقه فيما يسمى "بعبارة النص"، وكذلك المعنى الذي يتبادر من اللفظ ولا يكون مقصوداً من سياق الكلام فيما يسمى "بالظاهر"، وهو من أقسام "واضح الدلالة"، وحديثهم كذلك عن المعنى المستفاد من صيغة الكلام وهو مقصود من السياق فيما يسمى "بالنص" وهو من أقسام "واضح الدلالة" أيضاً .
ومن ذلك اتساع مفهوم السياق اللغوي ليشمل نص القرآن كله حيث نجد بعضه يفسر بعضاً، كما في قوله تعالى في سورة البقرة [الآية 234]:" والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً " وقوله تعالى في سورة الطلاق [الآية :4] :" وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " ؛ فقد دفع العلماء التعارض البادي بين الآيتين بأن الثانية مخصصة لعموم الأولى واستدلوا على ذلك بأدلة أخرى . بل إن السياق اللغوي اتسع أكثر من ذلك ليشمل أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم باعتبارها مكملة لنص القرآن ومخصصة لعمومه وموضحة لمجمله، ومن ذلك بيان قوله تعالى " وأقيموا الصلاة " بقوله صلى الله عليه وسلم " " صلوا كما رأيتموني أصلي "، وتحديد الحكم في قوله تعالى :" كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده " [الأنعام : 141] بقوله عليه الصلاة والسلام :" فيما سقت السماء العُشر "، وتخصيص قوله تعالى :" حرمت عليكم الميتة " [المائدة : 3] بقوله عليه الصلاة والسلام :" هو الطهور ماؤه الحِل ميتتُه ". ومن صور وعيهم بالسياق استقصاء دلالات الأمر والنهي التي وجدوها متعددة ومتنوعة بتعدد السياقات وتنوعها، كدلالة الأمر على الوجوب أو الندب أو الإرشاد أو الإهانة أو الإنذار، ودلالة النهي على التحريم أو الكراهة أو التحقير وغير ذلك .
ومن أمثلة قرائن المقام أو الحال عندهم تقديمهم خبر عائشة ـ رضي الله عنها ـ على خبر أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ في قوله :" إنما الماء من الماء "، وتقديمهم ما روت عن النبي عليه الصلاة والسلام، من أنه " كان يصبح جنباً وهو صائم " ـ على ما رواه أبو هريرة أيضاً من قوله عليه الصلاة والسلام " من أصبح جنباً فلا صوم له " ؛ لكونها أعرف بحال النبي صلى الله عليه وسلم . وكذلك سكوته صلى الله عليه وسلم على عدم الأذان والإقامة لصلاة العيد ؛ إذ يعد إقراراً لهذا الفعل . وقد اتسعت قرائن المقام لتشمل بيئة النص، وهو ما جعل الأصوليين يعدون عمل أهل المدينة من الأمور المرجحة لأحد الدليلين لأنهم أعرف بالتنزيل وأخبر بمواقع الوحي والتأويل .
ونستطيع أن نقول إن السياق عند الأصوليين يكاد يكون من أوسع صور السياق في التراث العربي؛ لأنه يشمل نص القرآن كاملاً، ونصوص السنة القولية والفعلية بما فيها من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وحركاته وسكناته وأدائه، وأحوال الصحابة رضوان الله عليه أيضاً وبيئتهم، يقول الغزالي :" أما الصحابة رضوان الله عليهم فقد عرفوه بقرائن أحوال النبي عليه السلام وتكريراته، وعاداته المتكررة، وعلم التابعون بقرائن أحوال الصحابة وإشاراتهم ورموزهم وتكريراتهم المختلفة " (6).
وأما الوسيلة الثالثة من وسائل الأصوليين في تحديد المعنى ـ وهي مراعاة علاقة المعنى باللفظ ـ ففي هذا الإطار يأتي باب أصولي لغوي مهم، يعد شقه اللغوي من أكثر أبواب دراسة الدلالة طرافة ودقة وإمتاعاً ولملمة لنظرات وجهود متفرقة هنا وهناك ؛ حيث بذل الأصوليون فيه جهداً غير عادي لاستقصاء دراسة المعنى وجمع أقسامه ووضع قواعد منضبطة لذلك، من أجل فهم النصوص فهماً دقيقاً يؤدي إلى الاستنباط الصحيح للأحكام منها، وقد انتهى ذلك في شكل وضع أقسام محددة للمعنى، هي كما يأتي ـ وسنكتفي بتفصيل بعضها دون بعض باعتبارها نماذج، لعدم اتساع المقام لتفصيلها جميعاً ـ :
التقسيم الأول : تقسيم اللفظ باعتبار استعماله إلى قسمين : لفظ حقيقي ولفظ مجازي .
وفي هذا الصدد قسمت الحقيقة اللغوية إلى : حقيقة لغوية وضعية، وحقيقة لغوية عرفية تكون باعتبار تخصيص العام ليدل على بعض مسمياته كتخصيص الدابة بذوات الأربع، أو باعتبار نقل اللفظ بالمجاز لغير ما وضع له ثم موت المجاز ونسيان أصل الوضع، كاستعمال الغائط في الخارج المستقذر من الإنسان . ويظهر أثر التفريق بين الحقيقة والمجاز في استنباط الحكم في مثل قوله تعالى :" أو لامستم النساء " [النساء :43، والمائدة : 6] بين كون الملامسة تنقض الوضوء؛ لأنها بمعناها الحقيقي ـ وهذا هو رأي بعض الفقهاء والمالكية ـ وكونها لا تنقض الوضوء؛ لأن المقصود بها المعنى المجازي وهو الجماع، وهذا هو رأي الحنفية .

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 26.76 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 26.14 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.35%)]