القسم الاوّل من الجزأ الثّاني.
أبتدأ هذا الجزأ بالتّنبيه إلى استعمالي في كتابة مذكّراتي لبعض المصطلحات كأن أقول : أدركت أنّ أخي هو من كان وراء اختفاء مفاتحي ثمّ أقول أيظا في فصل أخر و أخبرني صديقي أنّه هو من أخذ مفاتحي, فعندما أقول أدركت فأنا أتحدّث عن فترة الحدث و أكتب عن فهمي و قناعاتي حسب حدود تلك الفترات و لا اُعبّر عمّا وصلت إليه الأن, كي يعيشها قارئ قصّتي كما عشتها و يفهمها كما فهمتها عبر فصولها و مراحلها.
يبدأ هذا القسم الأوّل من الجزأ الثّاني بعودة كابوس المخابرات من جديد؟.
و هو لغز سينكشف عند إكتمالي 40 عاما و اللّقاء بالشّيخ الغريب في القسم الثّاني من هذا الجزأ و يكتمل إنكشاف اللّغز في الجزأ الثّالث و الأخير.
و بعد انتهاء كابوس المخابرات الأوّل أمضيت فترة شهر في راحة و طمأنينة لا اُلاحظ أيّ مراقبة أو ملاحقة فظننت أنّ المحنة قد انتهت, و لكن فضّلت البقاء على حذر لفترة اُخرى و كنت أقضي معظم أوقاتي بين المسجد و البيت, و في البيت كنت أصرف أوقاتي على جهاز الكمبيوتر, و كان من هواياتي في البيت دراسة علوم البرمجة و انحرفت منها إلى البحث في ثغرات نظام التّشغيل و عيوبه, و كنت اُحبّ تجربة استغلال تلك الثّغرات في اختراق أجهزة عشوائيّة على شبكة الإنترنت, و نجحت تجربتي و تمكّنت من اختراق أجهزة لأناس حول العالم, و كنت أتصفّح أجهزتهم و أتحكّم فيها تحكّم كامل و كأنّها لي, و كان يدفعني التمويه إلى اختراق أجهزة النّاس لإظهار شخصية منحرفة لا تحكمها أحكام الشّريعة و لا تلتزم بمبادئ الإسلام و أخلاقه, و ذات يوم كعادتي في أوقات فراغي قمت باختراق جهاز لشخص فتبيّن لي من محتوياته أنّه عربيّ مسلم, و كنت اُلاحظ من خلال مراقبتي لشاشته أنّه يتعمّد التّحدّث و التعارف مع النّساء فقط رغم أنّه يبدو عليه شخص ملتح و ملتزم, فغاضني هذا الفعل منه و قرّرت تجربته باستدراجه باسم امرأة مستعار على برنامج البال تاك للمحادثة, و قام على الفور بمراسلتي و طلب منّي التعارف و بدأت أتحدّث معه و نجحت خطّتي في استدراجه إلى الفخّ كي أكشف له حقيقتي و اُواجهه بعيبه, و أثناء الحديث أخبرني أنّه مقيم في دولة الدّنمارك و أنّه يبلغ 53 عاما و أنّه يبحث عن امرأة للزّواج من خلال شبكة الإنترنت لأنّه مطلوبٌ أمنيّا خارج الدّنمارك و لا يستطيع مغادرتها و هو لاجئ فيها و له حصانة داخل الدّولة فقط, فأشفقت على حالته و أنهيت الحديث معه دون الكشف عن حقيقتي, و بعدها شدّني فضول شديد على معرفة سرّ ذلك الرّجل و اخترقت جهازه مرّة اُخرى و قمت بفحص كلّ محتوياته إلى أن دخلت على اُلبوم لصوره و صدمت بما رأيت, لقد و جدت صورا يظهر فيها صاحب الجهاز بصحبة الشّيخ الكفيف عمر عبد الرحمن المصري المتّهم في تفجيرات منهاتن, و تبدو تلك الصّور أنّها صُوّرت في بيت صاحب الجهاز, و أدركت أنّها ليست مجرّد صدفة بل هي محطّة جديدة لإنزلاق في قعر المحن, و الصّور تحمل علامة العمى, و العمى لغز في قصّة حياتي كلّها, تختلف هذه العلامة باختلاف المواقف و الأحداث, و دائما تذكّرني بقصّة طفولتي و حديث جدّي مع اُمّي عن الجنّ و العمى و النّسب, و دون شعور منّي تواصلت معه مرّة اُخرى و استدرجته بحديثٍ حتّى أخبرني أنّه كان بعلاقة مع الشّيخ عمرعبد الرّحمن المصري قبل أن يُعتقل, و كان الشّيخ عمر يزوره في الدّنمارك و أخبرني أنّه شارك في حرب البوسنة و بسبب ذلك أصبح مطلوبا أمنيّا في بلده فأنهيت الحديث معه و تناسيت هذه الصّدفة كي لا تعكّر صفو نفسي من جديد, لأنّي كنت أتوقّع أن يكون جهازي و شاشته تحت مراقبة أجهزة الأمن, فإن كان الأمر كذلك كيف سيكون فهمهم لما شاهدوه على شاشتي, هل سيعتبروا ذلك مجرّد صدفة غير مقصودة, أم سيعتبروه من الطرق التّمويهيّة للتواصل المشفّر.
و بعد فترة قرّرت الخروج من حذري و العيش بشكل طبيعيّ فبدأت ألتقي بأصدقائي و أخرج دون خوف و لا حذر إلاّ أنّني غيّرت من هيئتي و حلقت لحيتي فأحسست بحياة طبيعيّة و قرّرت أن أبقى على تلك الحال فترة من الزّمن تمويها لأيّ مراقبة جديدة إذا حصلت, فالموادّ الّتي ضُبطت معي تكمن خطورتها في معتقد الشّخص و انتمائاته و درجة تديّنه, لذا قرّرت تغيير هيئتي و تحديد علاقتي.
و ذات يوم كنت اُشاهد قناة الجزيزة ففاجأني فيلم وثائقيّ عن امرأة أمركيّة أنشأت شبكة خاصّة إستخبارتيّة تابعة لمركز الإستخبارات السي أي ئي الأمريكيّ, و جنّدت عربا في مساعدتها لصيد ضحاياها, و من أساليبها وضع ملفّات إلكترونيّة بعناوين تجذب الجهاديّين و غيرهم إلى تحميلها على أجهزتهم لقرائتها, و تلك الملفّات تمّ دمجها بسيرفرات لا تكشفها أنظمة الحماية تمكّنُ تلك المرأة و فريقها من اختراق كلّ جهاز يتمّ فتح تلك الملفّات عليه و فحص ما بداخله و تحديد مكان الضّحيّة و التّبليغ عنه في بلده إذا تبيّن أنّه يمكن أن يشكّل خطرا ما, و من الملفّات الّتي اُشير إليها في الفيلم الوثائقيّ أحد الملفّات الّتي قمت بتحميلها على جهازي.
و ذات يوم وصلني طلب إضافة من شخص على الماسنجر فقبلت الطّلب و بدأت التّحدّث معه و أخبرني أنّه من اليمن و يحبّ التعارف على العرب المقيمين في البلد الّذي اُقيم فيه و منطقته, و بدأ يسألني أسألة عاديّة و استمرّ التواصل بيننا لعدّة أيّام ثمّ فاجأني يوما بسؤال و قال : أوّد أن تعمل معي فسألته في أيّ شيء فأجابني في الذّهب, و أخبرني أنّ لديه كميّة كبيرة من الذّهب المختلط بالرّمل و يبحث لها عن زبائن, و سألته كيف الحصول عليه فقال : لدينا طرق مختلفة لإيصاله إلى زبائننا من الإيمارات إلى أيّ بلد عربيّ أخر, أعجبتني الفكرة رغم أنّي لا أعلم عن تفاصيلها شيء و وافقت و قلت سأفعل كلّ ما في وسعي للبحث عن زبائن ثمّ اُخبرك, و كان يسألني باستمرار هل وجدت شيئا فأردّ عليه ليس بعد, و ذات يوم سألني و قال : هل وصلت إلى شيء فقلت أمهلني مزيدا من الوقت فالموضوع يحتاج إلى أكثر من سفر و أنا كما تعلم مقيم في بلد خارج المنطقة الّتي يصلح فيها بيع بضاعتك, و فاجأني بعرض جديد و قال : ما رأيك في تجارة اُخرى تصلح أيظا في بلد إقامتك, فسألته في ماذا و أجابني بجواب صاعق و قال : في مادّة البلوتنيوم, قلت له و ما هذه ؟ فقال : الزّئبق الأحمر !, و قال عندي منه 30 غراما, فضربني الشّك في قلبي مباشرة أنّ موضوع الذّهب لم يكن سوى استدراج إلى هذا الّذي يتحدّث عنه, فأنهيت المحادثة معه دون استأذان و حذفت حسابه مع حضره, و بدأ الخوف يصحو من جديد في نفسي و أحسست أنّ خطبا ما قادم لا محالة, و لكن مرّت فترة لم يحدث فيها شيء فبدأت نفسي تهدأ من فزعها إلاّ أنّ هذا الهدوء كان الهدوء الّذي يسبق العاصفة.
و ذات يوم كان أحد ما يتّصل بي على الماسنجر و أنا أرفض الردّ عليه فكتب لي جملة كانت بداية الكابوس الجديد, كتب لي : هل تريد أن تُترك على راحتك, هذا ليس جميلا, أحسست بضيق في نفسي و حاولت أن أتناسى ملاحظاتي و لكنّها كانت تتكرّر دون توقّف.
و ذات يوم حدث معي أمر غريب, سافرت مع صديقي في سيّارته إلى بلد مجاور و أثناء الطّريق و الوقت كان وقت الغروب بينما كنّا نسير بسرعة تصل إلى 120 كيلو في السّاعة لاحظنا شيئا عجيبا على الطّريق, لاحظنا غرابا أسودا بحجم إنسان بالغ يطير فوق سيّارتنا مباشرة و بارتفاع منخفض لا يتعدّى 9 أمتار منّا, صرخت عند رُأيته و قلت لصديقي هل ترى هذا ؟ إنّه يطير فوقنا فقال يا إلاهي إنّه غُراب ضخم ثمّ انحرف إلى يمين السيّارة و كأنّها علامة أنّني أنا المقصود بظهوره, و كان يطير بنفس سرعتنا ثمّ انحرف إلى جهة اُخرى و اختفى, و كانت لهذه الحادثة علاقة بولادة الفتنة القادمة سيأتي ذكرها في الجزأ الثّالث.
و بعد تلك الحادثة بدأت محنتي تشتعل من جديد, و كأنّ ذلك الغراب كان نذير بلاء عظيم, و أثناء عودتنا بدأت اُلاحظ أنّني مُلاحق في كلّ مكان, صدف مع أشخاص و سيّارات تتكرّر بشكل رهيب ففتحت عليّ أبواب تسائلات أدّت إلى خلق وساوس في نفسي لا تتوقّف, لا أجد منطقا يساعدني على وقف تلك الوساوس و المخاوف بل كلّ الأحداث و الوقائع تؤيّدها و تغذّيها, و ذات يوم جلست في خلوة و قلت لابدّ أن أجد في نفسي منطق أحسم به الفصل بين وساوسي الكاذبة و الحقائق الّتي تستحقّ أن تجعلني في حالة حذر و ترقّب مستمرّ, و بحثت في مذكّراتي فوجدت أنّ قضيّتي تُثبت أنّه من الطبيعيّ أن تبقى أجهزة الأمن حذرة من شخصي, فالموادّ الّتي ضبطت عندي أثناء اعتقالي تفرض على المنطق الأمنيّ مراقبتي و لو كنت مريضا نفسيّا, و لكن ليس من المنطق في بلد إقامتي مواصلة المراقبة لسنين طوال دون إيقافٍ و تحقيق, فالمراقبة لابدّ أن تنتهي بتركي و إغلاق ملفّي أو إيقافي للتأكّد من شبهتي, و بينما أنا غارق في وساوسي و تساؤلاتي إذا بهاتفي يرنّ دون إظهارٍ لرقم المتّصل, ففتحت المكالمة و إذا بشخص يقول أنا أمريكا و يغلق المكالمة و كأنّه كان يتابع معي وساوسي فأراد أن يزيد في بعدها و يوسّع حدودها, و بدأت نفسي توسوس لي أنّ أجهزة الأمن المحليّة ليس من المستبعد أن تشارك جهة خارجيّة في ملفّ قضيّتي, فالقانون في بلد إقامتي لا يسمح بمراقبتي إلى أجل غير معلوم دون إيقافي و التّحقيق معي و خصوصا إذا ثبت للقاضي أنّ المتّهم مريض نفسيّ, لذا وجدت من المنطقيّ جدّا تحويل ملفّ قضيّتي إلى بلدي الأصل أو إلى أمريكا, هذا إن لم يكن ذلك الملفّ الّذي قمت بتحميله من شبكة الإنترنت على جهازي و تبيّن لاحقا أنّه طعم وضعته أجهزة الإستخبارات الأمريكيّة, أيّا يكن السبب فهو كابوس جديد و خطر وشيك.
قبل اعتقالي بفترة كنت أهتمّ كثيرا بدراسة التّشفير و التّمويه, و قمت باختراع أكواد تشفير خاصّة بي, و كتبتها في دفاتر و احتفظت بها في خزانة كتبي, و عند اعتقالي و مداهمة منزلي تمّ أخذ كلّ الدفاتر و الكتب و الأقراص, من بينها الدفتار الّذي يحتوي على الأكواد و التّشفير, و بها بدأت تصلني رسائل مشفّرة بأكواد تشفير أنا من وضعها و اخترعها, و كانت تحتوي تلك الرّسائل على تهديدي بالسّجن و من تلك التّهديدات : لا يمكنك الفرار من عدالة القضاء مهما طال الزّمن و إنّ يوم تحقيق العدالة فيك لقريب, بلغة بلد الإقامة و بالإنجليزيّة و العربيّة, و قلت في نفسي أوّل الأمر يجب أن اُبلّغ المحامي أو جهة حقوقيّة بهذه الرّسائل التّهديديّة و لكن ماذا سأقول لهم ؟ لابدّ أن يطلبوا رؤيتها بأعينهم في أماكنها و ليس نقلا, فإن كشفت لهم عن تلك الرّسائل و كيف وصلت سيسألونني عن تشفيرها و مفتاحه, هل أقول لهم أنّ التّشفير أنا من قام بوضعه بخطّي يدي و ضبط عندي و به وصلتني رسائل التّهديد, فأنا أنكرت أمام المحقّق النّفسيّ أنّ الدفاتر الّتي كتبت فيها تلك الأشياء ليست لي إنّما هي لشخص أخر, و المحقّق النّفسيّ صدّقني بسهولة و كذلك القاضي, و ذلك لسببين اثنين أوّلهما أنّ تلك الدفاتر كتبت باللّغة العربيّة الفصحى و يظهر فيها أنّ كاتبها لابدّ أن يكون قد درس اللّغة العربيّة في بلدٍ عربيّ ليحصّل ذلك المستوى الّذي كتبت به الدفاتر, و لم يثبت قطعا أنّني غادرت البلد أو منطقة سكني لمدّة طويلة فدّل هذا عند القاضي و المحقّق النّفسيّ أنّ الكاتب شخص أخر, و السّبب الثّاني هو عمليّة غسيل الأموال فقد تبيّن أنّني كنت واثقا تماما أنّها صحيحة و أنّني سأكسب منها أموالا طائلة و هي لم تكن سوى خدعة لشبكة نصب و احتيال و أنا صدّقتها فدّلت هذه القصّة لدى القاضي أنّني شخص ساذج و مريض نفسيّ يُمكن أن يستغّل من قبل النّاس إن لم يكن معه من ينبّهه و يرشده.
أدركت أنّ المهدّد ليس قصده التّهديد فقط إنّما الإستدراج إلى فخّ الإعتراف بمفتاح شفرة الرّسالة, فإن أبلغت جهة حقوقيّة أو قضائيّة و سيكون الغرض من ذلك تقديم شكوى و طلب فتح تحقيق في جهة المهدّد هل هو فعلا تابع لجهة أمنيّة أم لا, فإن حدث هذا التّحقيق سيكون كافيا لإصدار مذكّرة من القاضي لإيقافي, و لا يمكن إيقافي إلاّ بمذكّرة و المذكّرة لا يمكن أن تُبنى إلاّ على تهمة أو شبهة مقنعة, و أنا كما أسلفت كنت حذرا و متجنّبا لكلّ الشّبهات الّتي يمكن استغلالها من طرف الشّرطة لإصدار مذكّرة أو استدعاءٍ للتّحقيق معي في ما ضبط عندي سابقا, فالقضاء قد ألغى التّحقيق في ذلك بسبب مرضي النفسيّ حسب رؤية القاضي للقضيّة, و هذا هو السّبب المنطقيّ لرسائل التّهديد الّتي وصلتني فتجاهلتها, و لكنّها استمرّت فترة طويلة و استمرّ معها حذري و عزلتي في البيت حتّى بدأت نفسي تضيق من وضعي و تعبت أعصابي و بدأت اُحسّ بالغضب و برغبة في الإنتقام و خصوصا عندما تصلني رسائل تهديدٍ واستفزاز جديدة, و قلت في نفسي لا يدفع رجال الشّرطة إلى تهديدي و استفزازي إلاّ فشلهم في إيجاد شبهة تمكّنهم من اعتقالي, فوثقت أنّني عصيّ عليهم إمساك شيء عنّي بسبب عزلتي و حذري, و بما أنّني مُرغم على البقاء في هذا الوضع لا يمكنهم الوصول إليّ أبدا, و سأردّ على تهديداتهم واستفزازاتهم بالمثل, لعلّها تتعبهم و تغيضهم كما تغيضني رسائلهم.
و ذات يوم فتحت مواقع الأخبار و بدأت اُشاهد صور قتلى و دبّابات و عربات مدمّرة للأمريكان في العراق, فكتبت فوق المتصفّح : مُوتوا بغضيكم. و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين. و لعباده : الله خير حافظا و هو أرحم الراحمين. و بعد هذه الكتابات توقّفت تلك الرّسائل و الحركات الإختراقيّة على جهازي مرّة واحدة, فهدئت نفسي و ضيقي و بدأت أخرج من عزلتي مرّة اُخرى و ألتقي بأصدقائي و أخرج معهم, ثمّ بدأت اُلاحظ أشخاص يلاحقونني في كلّ مكان إلاّ أنّ تلك الرّسائل الإستفزازيّة لم تعد.
و ذات يوم خرجت مع أحد من اعتقلوا معي فأخبرني أنّه تمّ استدعائه من المخابرات و سألوه عدّة أسألة عاديّة ثمّ طلبوا منه أن يبلّغهم بالأماكن الّتي أرتدي عليها و بالأشخاص الّذين ألتقي بهم و أكّدوا له أنّهم على قناعة بمرضي النفسيّ و يريدون البحث في الأسماء الّتي يمكن أن تكون سبب في ما حدث لي, فهم يخشون أن يكون أحد ما يستغّل مرضي و يستعملني, فزاد يقيني أنّ الأمر لم ينتهي بعد و أنّ هذا الخبر محطّة جديدة لخريطة محنتي.
و بعد فترة ليست بالطّويلة زارني صديق قديم انقطع لقائي به منذ وقت بعيد و أخبرته ببعض ما اُعاني فطلب منّي أن أصحبه إلى مدينته و أمكث عنده عدّة أيّام كي أرتاح هناك و ينتبه معي إن كانت تلك الملاحظات الّتي أخبرته بها صحيحة أم لا, فذهبت معه و هناك لم اُلاحظ شيئا بتاتا و ارتاحت نفسي قليلا من كابوسي, و قبل عودتي إلى مدينتي بيوم واحد طلب منّي صديقي أن أصحبه إلى بلدنا الأصل كي أرتاح أكثر هناك من وساوسي, و لكنّي رفضت و كان يصرّ و يلحّ و حاول معي عدّة مرّات و كنت اُخبره أنّ نفسي ليست مطمأنّة لذلك السّفر, و أعادني بسيّارته إلى مدينتي و في الطّريق نصحني بتغيير هاتفي المحمول و رقمه ثمّ أخبرني أنّه يُتاجر في الهواتف المحمولة و أنّ لديه عدّة قطع منها وراء سيّارته, توقّف في الطريق وأراني بعضا منها و قال خذ واحدًا واعتبره هديّة منّي لك, رفضت و لكنّه أصرّ على ذلك فأخذت واحدا من تلك المجموعة و طلب منّي أن لا اُخبر أحدا.
و عند وصولي للبيت بدأت تهاجمني وساوس لا أقوى على إيقافها أينما كنت تلاحقني حتّى في الصّلاة لا أسلم منها, و بدأت أستسلم للإسترسال معها ثمّ بدأت التّسائلات في نفسي : قد تجرّأت الشّرطة على محاولة تجنيد أحد أصدقائي ففشلت في تجنيده, ألاَ يعني هذا أنّهم قد حاولوا مع غيره أو بالأحرى مع صديقي الأخر الّذي كنت في ضيافته, وإذا فعلوا؟, أيعقل أن يقبل و هو كأخي من أبي و اُمّي, و لم أعد اُميّز بين المنطق و الوساوس فقد جمعتهم المحن في خط واحد لا يمكن تعطيل الوساوس إلاّ بتعطيل المنطق و صاروا في نفسي صوتا واحدا, فاستسلمت لأفكاري و قلت في نفسي : للمخابرات ألف سبب إقناع من لا يقتنع, أنا على يقين أنّ صديقي سيرفض كما رفض صديقي الأوّل, و لكن لنفرض جدلا أنّ أجهزة الأمن المحليّة أخبروه أنّهم ليسوا وحدهم من يلاحقونني و أنّ المخابرات الأمريكيّة هي أيظا تريد التّحقيق معي بسبب ما ضبظ عندي من موادّ خطيرة, فإمّا أن يختلقوا سببا يسمح لهم بإصدار مذكّرة اعتقالٍ أو استدعاءٍ و إمّا أن يعلنوا فشلهم و يتصرّف الأمريكان بطرقهم الخاصّة باعتقالي في بلدان اُخرى إذا غادرت البلد الّذي اُقيم فيه أو بتصفيتي جسديّا إذا لم اُغادر و فشلوا في اختلاق شبهة ما, فهذه حجّة مقنعة يمكن أن تقنع أخي من أبي و اُمّي و ليس صديقا فقط, فحتما سيوافق و في نيّته مساعدتي بدفع مصيبة كبرى عنّي بمصيبة أصغر, فبدأت وساوسي تزيد و تفتح أبواب تساؤلات في نفسي : لِمَا طلب منّي صديقي أن أصحبه إلى بلدنا الأصل؟ أيكون تمّ تجنيده و طلِبَ منه ذلك كي يُسهّل اعتقالي في بلد لا يتقيّد بقوانين حقوق الإنسان, ألا يكون ذلك الهاتف المحمول الّذي أهداني إيّاه يحتوي بداخله على موادّ تكفي لإصدار مذكرة اعتقال بحقي إذا قمت بتشغيله و اسعماله.
و زادتني هذه الوساوس حذرا و عزلة, و تكرّرت معي مثل هذه المواقف كثيرا بأشكال مختلفة حتّى فقدت الثّقة في كلّ النّاس و اعتكفت في البيت و امتنعت عن الخروج فحكم عليّ أهلي بأنّي مصاب بوساوس قهريّة, و أنا لم أكن اُنكر ذلك و لكن لم تكن وساوسي إلاّ نتيجة لما يحدث أمامي من حقائق كإنسان حُكم بالإعدام و جلس ينتظر ساعة التّنفيذ الغير المحدّدة أو غير المُعلنة, فهل يكون هذا الإنسان في حالة نفسيّة طبيعيّة ؟ هكذا كانت حالتي, لا حُكم الإعدام أستطيع إنكار صدوره بحقّي, و لا تلك الوساوس الّتي تتحرّك مع كلّ حركات السّجّان و أصوات مفاتحه.
قرّرت يوما أن اُسجّل كلّ أرقام لوحات السّيّارات الّتي أشكّ فيها تلاحقني فقضيت فترة و أنا اُسجّل تلك الأرقام حتّى أحسست بأنّ أصحابها بدأوا يلاحظون عليّ ذلك, و بعدها بدأت تختفي تلك السيّارات و لا اُلاحظ إلاّ ملاحقة مشيا, و بعدها بأيّام قليلة حدثت معي حادثتين في فترة واحدة أكدّت لي أنّ بعضا من تلك السيّارات إن لم تكن كلّها ممّن كنت اُسجّل أرقام لوحاتها فعلا تابعة للشّرطة, و تلك الحادثتين هي : قمت بتسجيل تلك الأرقام على قرص و احتفظت به في البيت, و ذات يوم أصرّ عليّ والدي أن أخرج معهم فخرجت مع والديّ و لم نخلّف أحدا ورائنا, و تمّ اقتحام بيتنا و كُسرِ بابه تمويها و تلميحا إلى أنّ الفاعل سارق و ليس شرطيّ, و سُرق ذلك القرص مع جهاز الكمبيوتر و لكنّي كنت أحتفظ بتلك الأرقام في مذكّرتي و قمت بتسجيلها على قرص أخر و ذهبت إلى أحد أقاربنا و طلبت منه الإحتفاظ بذلك القرص في بيته, و بعد مرور بضعة أيّام فاجأني قريبي بأنّ بيته تعرّض للسّرقة, و كان قرصي أيظا من الأشياء الّتي اختفت, فأكّدت لي هذه الحادثتين صحّة التّهديدات الّتي تصلني على جهازي و بقيت مسجونا في بيتي إلى سنة 2007
و في أواخر سنة 2007 حدث معي أمر غريب أرغمني على السّفر رغم حذري و خوفي, لي اُخت عادت إلى بلدنا الأصل لتدرّس أطفالها هناك, لديها خمس بنات و ولد واحدٍ و تحمل في بطنها طفلها السّابع, و ذات يوم اتّصل بي أحد أقربائي و سألني : هل اتصلت باُختك فأجبته بلا, ثمّ أحسست بقشعريرة في جلدي كأنّ مصيبة ما حدثت هناك, و سألته ما اّلذي تعلمه ؟ هل حدث شيء في بيت اُختي فأجابني : إتّصل و ستعرف بنفسك, فأكّد لي اُسلوبه هذا أنّ أمر جلل قد حدث, و أسرعت بالإتّصال و ردّت عليّ اُختي و سألتها : هل أنت بخير, أجابتني نعم أنا و كلّ الأولاد بخير و الحمد لله, فهدأت نفسي و اتّصلت بقريبي و سألته لِمَا سألتني بذلك الأسلوب و أجابني : لا أدري فقط أحببت الإطمئنان على اُختك و هل وضعت طفلها أم ليس بعد, و بعد يومين كنت مضطجعا على ظهري مرتخيا بين اليقظة و النّوم فجأتني رؤية عجيبة رأيت فيها اُختي واقفة عند رأسي و كنت أشعر في نومي أنّه حلما, و العجيب أنّ إحساس في قلبي يقول : اُختك لم تعد على قيد الحياة, فسألتها هل أنتي بخير, إبتسمت و قالت : نعم ثمّ قالت أبنائي ينتظرونك إذهب إليهم بسرعة, و سألتها : هل سأراك إذا أسرعت ثمّ تغيّر وجهها و هزّت رأسها و كأنّها تلمّحُ : أنّك لن تراني, ثمّ جلست بجانبي و أنا أنظر في وجهها ثمّ بدأ يتغيّر تدريجيّا إلى وجه طفلها الّذي ما يزال في بطنها و انتهت الرؤية, منعني خوفي من الإتّصال باُختي مرّة اُخرى و ركبت أوّل طائرة إلى بلدي ليلة عيد الأضحى المبارك و كانت متجهة مباشرة إلى مطار مدينة إقامة اُختي, و قبل وصولها إلى وجهتها وصل تنبيه لطاقم الطائرة أنّ أجواء مدينة اُختي تسيطر عليها رياح شديدة تهدّد سلامة الهبوط لذا قرّرت قيادة الطائرة الهبوط في مطار يقرب لقرية صغيرة إسمها (رقم 7).
و عندما وصلت و دخلت بيت اُختي لم أجدها و نظرت في وجوه أطفالها و لاحظت عليها حُزنا و دموعا, فاتّضح لي معنى تلك الرؤية الّتي رأيتها, لقد فارقت اُختي الحياة بعد يوم واحدٍ من اتّصالي بها و تركت ورائها 7 أطفال, بعد أن تعسّرت عليها ولادت طفلها قرّر الطّبيب إجراء عمليّة قيصريّة للاستخراج الطّفل من بطنها, و لكن تمّ حقنها بحقنة تخدير أكثر ممّا يتحمّل قبلها فسبّبت لها سكتة قلبيّة و فارقت الحياة دون أن ترى طفلها و تمّ استخراجه بعد وفاتها مباشرة و دفنت في نفس القرية الّتي تقرب المطار الّذي اضطرّت طائرة رحلتي الهبوط فيه إنّها قرية (رقم 7) فيالها من صدفة من حيث العقول البشريّة لا من حيث التدابير الإهيّة, و زوجها اُصيب بصدمة زعزعت عقله و لم يعد بعدها قادرٌ على تحمّل مسؤوليّة أطفاله وحده, فاكتمل لي معنى الرؤية كاملا.
أمضيت في بلدي مع أطفال اُختي ما يقارب السّتة أشهر, و في الشّهر الأوّل كان الوضع طبيعيّا لم اُلاحظ أيّ حركات مشبوهة, و لكن بعد الشّهر الاوّل بدأت اُلاحظ نفس الحركات و سيّارات تقترب منّي كأنّ من فيها يريدون خطفي فأفرّ كمجنون و كنت دائما أحمل معي سلاحا إستعدادا لأيّ مواجهة إذا لاحظت أنّ القصد خطفي و ليس اعتقال قانونيّ, فقد سمعت عن حالات خطف كثيرة دون محاكمة, عشت حالة رعب هناك لا يستطيع تصوّرها إلاّ من ذاقها و جرّبها, و بقيت وسط أبناء اُختي في بيتها عالقا لا أستطيع الخروج و لا العودة إلى بلد إقامتي خوفا من الإعتقال بتهمة ما أثناء مغادرتي للبلد, فقرّرت كتابة مذكّراتي و سلّمتها لبعض المحامين و الصّحافيّين و طلبت منهم إذا تمّ اعتقالي أن يظهروا سرّ قضيّتي قبل جلسة المحكمة الأولى, و في الشّهر الخامس وقف رجل عند باب البيت و أخذ يدقّ على الباب, أرسلت ابن اُختي البكر لفتح الباب و حذّرته أن لا يخبره أنّي موجود إن كان يسأل عنّي فأنا لا أعرفه و قد ظهر لي وجهه من النّافذة, و عندما فتح له ابن اُختي الباب سلّم عليه و عرّف على نفسه و قال : أنا ضابط مخابرات جأت لمقابلة خالك, لديّ رسالة يجب أن اُسلّمها له, و ردّ عليه ابن اُختي : خالي ليس موجودا, فقال : بل هو موجود و أنا لم أأتي إلا ّو أنا أعلم أنّه في البيت أخبره أنّي اُريد رؤيته, فصعد ابن اُختي و كان مرعوبا و قال لي : إنّه يعرف أنّك في البيت إنزل إليه إنّه ضابط مخابرات و يريد أن يسلّمك رسالة, ففهمت أنّه عرّف عن نفسه كي يكسر الحذر في نفسي و يكسب ثقتي, فنزلت إليه وسلّمت عليه ثمّ أقسم لي أنّه لم يفعلها في حياته إلاّ معي, أيّ شخص يحتاج التحدّث معه يرسل له استدعاء أو يرسل له من يحضره و قال : وأنت جأتك بنفسي و تركتني عند بابك أنتظر, و أقسم أنّه ما جأني إلاّ في خير و لا يريد أذيّتي و طلب منّي الخروج معه إلى مقهى قريب لنشرب هناك فنجان قهوة ثمّ يسلّم لي الرّسالة و يذهب, فأخبرته أنّ اُختي قد توفّيت و أنّي لا أستطيع ترك البيت في ذلك الوقت فلديّ صبيّ أرعاه, و ألحّ أن يُسلّمني الرّسالة في المقهى و لكنّني أصررت أن يدخل هو معي للبيت فدخل مكرها وعندما جلس سألته : ما الرّسالة الّتي تريد تسليمها لي شخصيّا, و بدأ يتلعثم في الكلام ثمّ قال : لقد وصلتني رسالة من العاصمة تطلب منّي التّأكد من وجودك في هذه المدينة أم لا, لقد نزلت في مطار عند دخولك البلد و كتبت في استمارة الدّخول عنوانا لم نجدك هناك و بحثنا عنك فترة حتّى وصلنا لأحد أقربائك فدلّنا على مكانك هنا و جأت لأطمئنّ إن كنت فعلا هنا أم لا و نحن نخشى أن يكون قد حدث لك مكروه و وصلت وثائقك الثّبوتيّة إلى أحد 9 مجرمين سبعة منهم حكموا بالإعدام و قد فرّوا من السّجن و لم نعثرعليهم بعد فيستعملوها في الشّر, ثمّ قال قبل أن ينصرف : هل تحسّ بأحد ما يلاحقك و يضايقك, إذا كنت تعاني من أيّ مشكلة فأنا في خدمتك و أتمنّى أن تزورنا في مركز الشّرطة و تشرب معي هناك فنجان قهوة ونتحدّث قليلا, فقلت له سأفعل إن وجدت وقتا لذلك ثمّ انصرف, و بعد يومين عاد مرّة اُخرى و قال : أحسست في زيارتي السّابقة أنّك تتألّم بسبب مشكلة غير مشكلة أطفال اُختك, فقلت له صحيح و طلب منّي أن نخرج و نذهب إلى مقهًى و نتحدّث هناك أفضل من البيت, فقلت له اُفضّل أن نتحدّث هنا فكما ترى لديّ هنا من اُساعد, فقال لي لابأس وبدأ يسألني و اُجيب فقال : هل تلاحظ أحدا ما يلاحقك, فأجبته نعم و قال : أشخاص أم سيّارات فقلت له كلاهما و قال : هل سجّلت أرقام لوحات تلك السيّارات فقلت له نعم و سألني أسألة اُخرى و أنا كنت اُجيبه فقط بما يجعلني الأقوى في عينه, فهذا الرّجل ظاهره كاذب و غلب على ظني أنّه جاء فقط ليتحقّق من دفاعاتي إذا تجرّأوا على اعتقالي, و كانت من أسألته المريبة : هل اتّصلت بأيّ جهات حقوقيّة أو قضائيّة, هل كتبت أيّ مذكّرات و قمت بتسليمها إلى أيّ جهة كالصّحافة و المحامي, و في نهاية حديثه طلب منّي كتابة تقرير شامل بكلّ ملاحظاتي في عدّة صفحات و أنّه سيمرّ عليّ بعد خمسة أيّام و اُسلّمه التّقرير, ففهمت أنّهم على حذر و خوف من اعتقالي و أرادوا البحث في نقاط ضعفي و ثغراتها و استدراجي إلى الكتابة بخطي يدي كي يثبتوا أنّ كاتب الدفاتير الّتي ضبطت عندي أثناء اعتقالي أنا من كتبها و ليس غيري كما أنكرت ذلك أمام القاضي و المحقّق النّفسيّ, ثمّ عاد بعد خمسة أيّام و سألني إن كنت قد أتممت كتابة التّقرير فأجبته بأنّي قرّرت زيارة طبيب نفسيّ أوّلا لإستشارته في ملاحظاتي قبل كتابتها و تسليمها لأيّ جهات قانونيّة أو قضائيّة, و طلب منّي مرّة اُخرى أن أخرج معه إلى مقهى لنشرب فنجان قهوة فتعجّبت في نفسي من هذا الإلحاح منه على شرب القهوة في المقهى, و كأنّ الرّجل له غاية خفيّة في فنجان القهوة, فأوحت لي و ساوسي أنّ مخابرات بلدي هدفها محاولة اعتقالي بتهمة مزوّرة أو تسميمي إذا فشلوا قبل مغادرتي للبلد, و كانت هذه محطّة تحوّلٍ في مسار التّهديد, فتحوّل التّهديد بالإعتقال إلى تهديد بالإغتيال.