آثر تخصيص العام
بالمصلحة المرسلة
د. حسن محمد عبدالله المرزوقي ([*])
المطلب الرابع
ضوابط العمل ي بالمصلحة المرسلة
دعت الشريعة الإسلامية إلى تحصيل المصالح والمحافظة عليها، ونهت عن إضاعتها والتفريط بها سواء تمثلت المصالح بجلب المنافع أو دفع المفاسد، حتى تكون المصالح شرعية وحقيقية ينبغي أن تضبط بضوابط تميزها وهي:
1- أن لا تخالف المصلحة دليلا من أدلة الشرع القطعية : أي أن تكون المصلحة ملائمة لمقاصد الشارع فلا تخالف أصلا من أصوله ولا تنافي دليلا من أدلة أحكامه بل تكون من جنس المصالح التي قصد الشارع تحصيلها أو قريبة منها، فإن خالفت المصلحة دليلا من هذه الأدلة لم يصح العمل بها ([67])، وعلى هذا لا يصح اعتبار المصلحة التي تقتضي مساواة البنت والابن في الميراث لتساوي الابن والبنت في القرابة، وذلك لقيام الدليل الشرعي على إلغائها وهو قوله تعالى: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ)([68]).
هذا وقد يرد على هذا الشرط انه لا يتمشى على أصول الحنفية، بان دلالة العام قطعية فكيف نخصص العام ؟
والجواب : إن المشهور عن الحنفية انهم لا يأخذون بدليل المصلحة أصلاً، ولكن المتتبع لاجتهاداتهم يرى انهم يخصصون العام بالمصلحة المرسلة أحياناً، وذلك إذا كانت المصلحة في مستوى الضرورة ، لأنها حينئذ تكون في حكم القطعية، كقبولهم شهادة التسامع في عشرة مواضع مبينة في كتبهم ، وخصصوا بها قول النبي صلى الله عليه وسلم للسائل لما سئل عن الشهادة: "هل ترى الشمس؟" قال: نعم. قال: " على مثلها فاشهد وإلا فدع"([69])0 الذي يوجب العيان في تحمل الشهادة في جميع الشؤون عامة، مثل: الشهادة على ثبوت الوقف ([70]).
2- أن تكون المصلحة محققة : أي يتحقق جلب المنفعة أو دفع المفسدة قطعا أو غالبا، إذا كانت المصلحة متوهمة أو مظنونة فلا يجوز العمل بها؛ لأن جلب المنفعة ودفع المضرة أمر متوهم غير متحقق، وإذا كان الأمر كذلك فلا يصح بناء الحكم عليها، كالمصلحة التي تتوهم في سلب الزوج حق طلاق زوجته وجعل الطلاق بيد القاضي في جميع الحالات، فإن الضرر الذي يترتب على ذلك يفوق المنفعة المترتبة على اعتبارها، وهو تجريد الرجل من القوامة وسلب سلطاته ([71]).
3- أن تكون المصلحة عامة: أي أن يكون بناء الحكم عليها يحقق المنفعة لأكبر عدد من الناس أو يدفع المضرة عنهم كالمصلحة التي تترتب على التسعير لمحاربة غلاء الأسعار الناشيء من الاحتكار وتحكم التجار، أما إذا كانت المصلحة خاصة وتريب على بناء الحكم عليها جلب مصلحة أو منفعة لفرد معين أو أفراد مخصوصين ودفع مفسدة عنهم – كطائفة العمال أو الرأسماليين دون باقي الأمة فلا يعمل بها ولا يصح تشريع الحكم بناء عليها.
4- أن تكون المصلحة معقولة في ذاتها: أي أن تكون جارية على الأوصاف المناسبة المعقولة التي تتلقاها أصحاب العقول بالقبول، فإن كانت المصلحة غير معقولة فلا يصح اعتبارها وبناء الحكم عليها ([72]).
المبحث الثالث
تخصيص العام بالمصلحة المرسلة
المطلب الأول
علاقة المصلحة المرسلة بالنصوص الشرعية
تنقسم النصوص الشرعية إلى قسمين:
1- نصوص عامة: وهي القواعد الكلية العامة التي استنبطت من استقراء النصوص كقاعدة: (الأمور بمقاصدها) ([73])، وقاعدة : (المشقة تجلب التيسير) ([74])، وقاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات) ([75]) وغير ذلك من القواعد، فالمصالح المرسلة يجب أن تكون ملائمة للنصوص العامة، وإلا فلا يؤخذ بها.
2 - نصوص خاصة: وهي نصوص القران الكريم والسنة، وعلاقة المصالح المرسلة بهما تتوقف على نوعية دلالة هذه النصوص :
أ- إذا كان النص قطعي الثبوت والدلالة: وهو القران والسنة المتواترة، فيجب أن تكون المصلحة المرسلة موافقة للنص، فإن عارضت المصلحة النص، تكون مصلحة باطلة ملغاة؛ لأن النص القطعي مقدم على النص الظني؛ لأن المشرع إذ شرع النص القاطع في مسألة معينة، فقد أشار إلى أن المصلحة التي تتعلق به حقيقة دائمة، لا تتغير بتغير الظروف، أو البيئة، أو العصر؛ لأنها في جوهرها من صميم مفهوم العدل، أو تنطوي عليه قيمة إنسانية خالدة، حرص الشارع الحكيم على ترسيخها في المجتمع بنص قطعي صريح واضح محكم، فاستبعده بذلك من مجال التخصيص والتأويل والاجتهاد بالرأي ([76]).
وكل مصلحة مرسلة تعارض نصا قطعيا، ليس في الواقع مصلحة حقيقية، بل وهمية لا تقوم على أساس؛ ولذا أطلق عليها الأصوليون اصطلاح: المصلحة الملغاة، فمثلا: جلد الزاني في قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ والزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) ([77]) معارض لمصلحة كلية ، وهي حفظ النفس؛ لأن حفظ النفس مقدم على حفظ النسل، ولكن هنا قدم حفظ النسل على حفظ النفس، وأوجب الجلد الذي فيه إيلام للنفس، وقد يؤدي إلى ذهابها كليا من الوجود.
المصلحة الكلية - وهي حفظ النفس - مصلحة غير معتبرة هنا؛ لمعارضتها لنص قطعي، وهو وجوب الجلد؛ لأن المصلحة في إثبات العقوبة، وليس في تركها زجر عن إتيان الفاحشة؛ لما يترتب عليه من مفاسد: كقطع النسل والنسب وفساد المجتمع؛ لأن الزاني إن ترك بلا عقوبة تمادى في الزنا، فيؤدي ذلك إني انتشاره بين المجتمع من غير نكير، فتشيع الفاحشة، وتظهر الأمراض كمرض الإيدز ونحوه.
والانتحار وقتل النفس قد يجلب لصاحبه مصلحة تتمثل في التخلص مما يعانيه المنتحر من ألم مرض مزمن، أو ألم حرمان ، أو خوفا من فضيحة ، أو ظلم حاكم ، ولكن هذه المصلحة وهمية ملغاة غير معتبرة ، تعارض النصوص القطعية كقوله تعالى: (ولا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا)([78])، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بحديدة ، فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه، فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا" ([79])؛ ولأنها تفوت مصلحة اكبر منها، تتمثل في القضاء على العنصر البشري، وحرمان المجتمع من نفعه، لا سيما إذا كان ذا مكانة علمية عالية.
ب - إذا كان النص قطعي الثبوت ظني الدلالة : كما في قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وبَنَاتُكُمْ)([80]) والمصلحة المترتبة على هذا التحريم تآلف الأسر المؤدي إلى الترابط والتناصر، ولفظ (البنات) في الآية لفظ عام؛ لأنه ورد بلفظ الجمع، وهو مضاف، والجمع المضاف يفيد العموم. ظني الدلالة؛ لأنه يحتمل أن يكون قوله: (بناتكم) بناتكم لغة، فتدخل فيه بنت الزنا، أو بناتكم شرعا فلا تدخل فيه بنت الزنا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر"([81]). وهذا مجال للاجتهاد للوصول إلى مقصود الشارع.
جـ - إذا كان النص ظني الثبوت : وهو خبر الآحاد، وعارض ما استندت عليه المصلحة المرسلة من قواعد كلية أو قريبة منه، فهذا ينقسم إلى قسمين:
1 - أن يكون النص الظني مستندا إلى أصل قطعي: فيعتبر مطلقا، ويقدم على المصلحة المرسلة، وعليه عامة أخبار الآحاد؛ لأنه وان كان ظنيا في ثبوته فإن رجوعه إلى الأصل القطعي يقويه.
2 - أن يكون النص الظني معارضاً لأصل قطعي، ولا يشهد له أصل قطعي، وهو على قسمين:
أ- أن تكون مخالفته للأصل قطعية ومفوتا للمصلحة: وهذا يجب رده؛ لأنه مخالف لأصول الشريعة، فمثلا حديث: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله" ([82]) يعارض المصلحة الكلية المترتبة على النعيم والفوز والنجاة من الجحيم، وفي نفس الوقت معارض لأصل قطعي، وهو قوله تعالى: (أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى (38) وأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى). ([83])
ولهذا ردت عائشة رضي الله عنها هذا الحديث فقالت : رحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه"، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه"، وقالت: حسبكم القرآن ([84]): (أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى).
ب - أن تكون مخالفته للأصل ظنية : وهذا الظن إما أن يتطرق من جهة الدليل الظني ، وإما من جهة كون الأصل لم يتحقق كونه قطعيا، وهذا الموضع مجال للبحث والاجتهاد في ترجيح أحدهما على الآخر([85]).
المطلب الثاني
أقوال الفقهاء في تخصيص العام بالمصلحة المرسلة
المصالح المرسلة التي اختلف الفقهاء في تخصيصها للعام ليست مجردة عن الدليل، فهي وإن لم تشهد النصوص الخاصة لعينها، فإن مجموع النصوص والقواعد الكلية قد شهد لجنسها، وهذا وحده كاف لإلحاقها بقسم المعتبر، كما أشار إلى ذلك الشاطبي رحمه الله تعالى حين قال: (كل أصل شرعي لم يشهد له نص معين، وكان ملائما لتصرفات الشرع ومأخوذا معناه من أدلته، فهو صحيح يبنى عليه، ويرجع إليه، إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع أدلته مقطوعا به ... ويدخل تحت هذا الضرب الاستدلال المرسل الذي اعتمده مالك والشافعي، فإنه وان لم يشهد للفرع اصل معين فقد شهد له اصل كلي، والأصل الكلي إذا كان قطعيا قد يساوي الأصل المعين، وقد يربو عليه، بحسب قوة الأصل المعين وضعفه، كما انه قد يكون مرجوحا في بعض المسائل ...)([86]).
وقال العز بن عبدالسلام رحمه الله تعالى: (ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان، بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وان هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها إجماع ولا نص ولا قياس خاص، فإن فهم الشرع يوجب ذلك) ([87]).
لقد اختلف العلماء في تخصيص العام بالمصلحة المرسلة على قولين:
1 - ذهب جمهور الفقهاء ([88]) وبعض المعاصرين كالشيخ الزرقا ([89])، والدريني([90])، وشلبي([91]) والدواليبي([92]) وغيرهم إلى جواز تخصيص العام بالمصلحة المرسلة المستندة إلى كلي الشرع وما تفرع عنه من قواعد كلية، واستدلوا بما يلي:
أ- أن المصلحة المرسلة هي التي لم تشهد النصوص الخاصة باعتبارها أو إلغائها، ولكن القاعدة الكلية المستنبطة من مجموع النصوص تشهد لجنسها، وبناء على ذلك فالمصلحة المرسلة في حقيقة الأمر ما هي إلا إجراء للقاعدة الكلية على عمومها، فهي فرد من أفرادها؛ لأن العموم يثبت من جهة الصيغ. ومن جهة استقراء مواقع المعنى حتى يحصل منه في الذهن أمر كلي عام، فيجري في الحكم مجرى العموم المستفاد من الصيغ([93]).
فالتعارض بين النص العام والمصلحة المرسلة الملائمة لمقصود الشارع، هو في حقيقة الأمر تعارض بين عامين، عام مستفاد من الصيغ وهو النص العام - قرانا كان أو سنة - وعام مستفاد من استقراء مجموع النصوص، وهو القاعدة الكلية التي تعتبر المصلحة المرسلة جزئية من جزئياتها ([94]).
ب - المصلحة قاعدة كلية : فعند القول بتخصيصها بالأدلة فإن ذلك يكون بعد النظر في المصلحة المخصصة للدليل الثابت أصلاً، ثم النظر في المصلحة الناتجة عن الدليل، فإذا كانت المصلحة المرسلة راجحة على المصلحة المترتبة على الدليل، فإنها تقدم عليها بطريق التخصيص، هذا إنما تكون المصلحة المرسلة راجحة على المصلحة الناتجة عن الدليل إذا لم تتحقق شروط العمل بالدليل ، أو لم توجد أسبابه، أو كانت هناك موانع ([95]).
ج - إن رعاية المصلحة المرسلة أمر متفق عليه ، والأمر المتفق عليه يكون حجة، وإذا كان حجة فهو حجة قاضية، والحجة القاضية إذا اتفقت مع المصلحة فإنها تخصص الدليل العام، وتكيدا لذلك فإن الإمام الغزالي رحمه الله تعالى أشار إلى ما يفهم منه أن المصلحة المرسلة المجمع عليها تخصص العموم، حيث قال: (فالزنديق المتستر إذا تاب فالمصلحة في قتله، وأن لا تقبل توبته ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله"([96])، فماذا ترون ؟ قلنا: هذه المسألة في محل الاجتهاد، ولا يبعد قتله إذا وجب بالزندقة قتله، وإنما كلمة الشهادة تسقط القتل في اليهود والنصارى؛ لأنهم يعتقدون ترك دينهم بالنطق بكلمة الشهادة، والزنديق يرى التقية عين الزندقة، فهذا لو قضينا به فحاصله استعمال مصلحة في تخصيص عموم ، وذلك لا ينكره أحد) ([97]).
د - أن تخصيص العام بالمصلحة المرسلة الملائمة لمقصود الشارع وما تفرع عنه من قواعد كلية، رفعا للحرج، وجلبا للتوسعة على الأمة، مأخوذ من قاعدة اعتبار المآل: ذلك أن النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا سواء أكانت الأفعال موافقة أو مخالفة ([98]).
وينبني على هذا الأصل قواعد ذكرها الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى منها: (قاعدة الاستحسان ، وهو مذهب مالك الأخذ بمصلحة جزئية في مقابل دليل كلي، ومقتضاه : الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس، فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة، كالمسائل التي يقتضي فيها القياس أمراً، إلا أن ذلك الأمر يؤدي إلى فوت مصلحة من جهة أخرى، أو جلب مفسدة كذلك) ([99]).
يفهم من كلامه رحمه الله تعالى: أن استثناء فرد من أفراد العموم بالمصلحة الملائمة لمقصود الشارع - إنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة - جائز شرعا، فلا مانع إذا من تخصيص العام بالمصلحة المرسلة ([100]).
2 - ذهب بعض المعاصرين كالبوطي ([101]) وحسين حامد ([102]) وخليفة با بكر ([103]) إلى منع التخصيص بالمصلحة المرسلة؛ لأن مفهوم المصلحة هو المحافظة على مقصود الشارع، ومقصود الشرع هو ما عرف بالدليل، أي أن المصلحة هي ما كانت ناتجة عن دليل شرعي ، واستدلوا بما يلي:
أ- من شروط اعتبار المصلحة المرسلة أن تكون ملائمة لمقصود الشارع، وألا تعارض وتصادم النصوص الشرعية، فإذا تعارضت معها تكون ملغاة، وبالتالي ليست هي بدليل شرعي ، والتخصيص مصادمة للنص، والمصادمة تخرجها عن الإرسال، فلا تكون مخصصة للنص الشرعي ([104]).
وأجيب عنه: أن القول: بأن المصلحة لا يمكن أن تخصص النص؛ لأن بمجرد معارضتها ومصادمتها له تعتبر ملغاة غير صحيح؛ لأن شرط الملاءمة وعدم تعارض ومصادمة النص حتى تعتبر، هي في الصريحة، أما المحتملة فيمكن من خلالها الجمع بين الدليلين، وبخاصة إذا كانت جزئية، كتعارض العام والخاص، وهي في حقيقة الأمر لا تعد مصادمة ؛ لأن دلالة العام على جميع أفراده ظنية ، ودلالة الخاص قطعية ، والقطعي يخصص الظني ([105]).
ثم إن القياس القطعي يخصص العام ، مع العلم أن من شروط اعتباره: ألا يصادم نصا أو إجماعا، والمصلحة داخلة في باب القياس؛ لأن المصلحة ما هي إلا مرتبة من مراتب المناسب المعتبر في باب القياس .
ب- لم ينقل عن واحد من الأئمة انه يجيز التخصيص بها، لا في أصوله ولا في فروعه، وفي هذا يقول البوطي: (والواقع ان أحدا من الأئمة الأربعة لم يقل - لا في أصوله وقواعده، ولا في جزئيات فتواه واجتهاداته: بأن المصلحة المرسلة تخصص عاما، وتقيد مطلقا، وكل ما تلقفه بعضهم مما أوهم ظاهره أنه تخصيص، أو تقييد للنص بالمصلحة، هو في الحقيقة قائم على أساس غير الذي توهموه) ([106]).
وأجيب عنه: بأن جمهور الأئمة لم يجعلوا المصلحة المرسلة دليلا مستقلا، وإنما أدرجوها تحت باب القياس أو الاستحسان.
قال الإمام القرافي رحمه الله تعالى: (وأما المصلحة المرسلة فالمنقول أنها خاصة بنا، واذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا وجمعوا وفرقوا بين المسألتين ، لا يطلبون شاهدا بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا وفرقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة ، وهذا هو المصلحة المرسلة ، فهي حينئذ في جميع المذاهب) ([107]).
فكلام القرافي رحمه الله تعالى صريح في عمل جميع المذاهب بالمصلحة المرسلة، وإنها داخلة في باب القياس، عندما تكون العلة مستنبطة بطريق مسلك المناسبة.
وقال الشوكاني نقلاً عن ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: (الذي لاشك فيه أن لمالك ترجيحا على غيره من الفقهاء في هذا النوع – المصلحة المرسلة - ويليه احمد بن حنبل ، ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة، ولكن لهذين ترجيح للاستعمال لها على غيرهما) ([108]).
فابن دقيق العيد رحمه الله تعالى يثبت القول بالمصلحة المرسلة عند الجميع على سبيل التفاوت في العمل بها.
والبوطي نفسه اثبت أن جمهور الأئمة من شافعية وحنابلة وحنفية يحتجون بالمصالح المرسلة لا كدليل خاص، وإنما تحت باب القياس ([109]).
أما المالكية فقد جعلوا المصلحة المرسلة دليلا مستقلا، كما صرح بذلك الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى عندما قال: (قاعدة الاستحسان – وهو مذهب مالك - الأخذ بمصلحة جزئية في مقابل دليل كلي، ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس ...) ([110])، والإمام ابن العربي رحمه الله تعالى عندما قسم الاستحسان إلى أربعة أقسام، وعد من أقسامه ترك مقتضى الدليل في بعض أفراده للمصلحة فقال: (فمنه ترك الدليل للعرف، كرد الأيمان إلى العرف، وتركه إلى المصلحة، كتضمين الأجير المشترك ...) ([111]).
وقال أيضاً: (الاستحسان عندنا وعند الحنفية، هو العمل بأقوى الدليلين، فالعموم إذا استمر والقياس إذا اطرد، فإن مالكا وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان، من ظاهر أو معنى، ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة ...) ([112]).
جـ- عدم إمكان تخصيص المصلحة للنص الناشئ عن الشروط التي وضعها الأصوليون في المخصص، فأصوليو الحنفية يشترطون في المخصص المقارنة لما يخصصه ، بينما أصوليو المتكلمين يشترطون في المخصص عدم التراخي، ومع وجود احد الشرطين لايمكن للمصلحة أن تخصص النص؛ لأنها دائما تكون مستمدة تبعا لما يستمد من أحداث ([113]).
أجيب عنه: بأن اشتراط المقارنة وعدم التراخي إنما يكون للدليل الجزئي الخاص، سواء أكان من الكتاب أم السنة، أما مثل القياس والمصلحة فيكفي أن يكون داخلاً تحت دليل كلي، بمعنى متى تحققت فيه شروطه المطلوبة، وتوافرت أسبابه الداعية، وانتفت امتناعاته المرجوة اصبح كأنه مقارن، والقول بغير ذلك يلزم منه أن لا يوجد تخصيص بكثير من المخصصات التي عدها الأصوليون ([114]).
د- المخصص في حقيقة الأمر هو مجموع النصوص، أو القاعدة الكلية التي استندت إليها هذه المصلحة المرسلة ، وليس هو المصلحة المرسلة المجردة؛ لأنها لا تقوى على التخصيص ([115]).
أجيب عنه : بأن المصلحة التي تخصص العام ليست مجردة عن الدليل والقواعد العامة، بل تستند إلى مجموع النصوص والقواعد الكلية، وهذا وحده كاف لإلحاقها بقسم المعتبر وتخصيصها للعام .
ثم إن القياس الذي هو محل اعتبار عند الجميع ليس هو المخصص بحد ذاته للعام، وإنما المخصص هو ما استند إليه من نص، ومثله سائر الأدلة التبعية، كالعرف، فالنصوص التي اعتبرت هذه الأدلة هي المخصصة، فالقياس والمصلحة المرسلة لا يعتبر كل منهم إذا تجرد عن المستند والدليل ([116]).
قال الإمام القرافي رحمه الله تعالى : (واذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا وجمعوا وفرقوا بين المسألتين، لا يطلبون شاهدا بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا وفرقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة ، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي إذن في جميع المذاهب) ([117]).
وقال الدكتور حسين حامد - وهو من الذين لا يقولون بتخصيص العام بالمصلحة - في مسألة ضرب المتهم وسجنه عند المالكية : (واذا كان الأمر كذلك، فإن الذي خصص نص الحديث ليس هو المصلحة المجردة التي راها المجتهد، بل هي النصوص التي شهدت للأصل الكلي والقاعدة العامة، وتقديم المصلحة العامة على الخاصة) ([118]).
وقال في مكان أخر: (وعلى فرض أن هذه النصوص تدل على عدم قبول شهادة الصبيان مطلقا، فإن المخصص لها ليس هو المصلحة المجردة، وإنما المصلحة الملائمة لجنس تصرفات الشرع التي تدخل تحت اصل اعتبره الشارع بجملة نصوص ومجموع أدلة، هذا الأصل هو اصل حفظ الدماء...) ([119]).
وهذا عين ما نقول به، من ان المصلحة المجردة عن الدليل لا تخصص العام، بل لابد ان تستند إلى دليل كلي.
الترجيح:
الراجح في هذه المسألة هو: جواز تخصيص النص العام بالمصلحة المرسلة المستندة إلى مجموع النصوص والقواعد الكلية؛ لقوة الأدلة التي استدل بها القائلون بجواز ذلك؛ ولأن الاستقراء دل على ذلك، فكثير من العلماء قد خصصوا العمومات بالمصلحة.
المبحث الرابع
تطبيقات على تخصيص العام
بالمصلحة المرسلة
بعد ذكر الخلاف في تخصيص العام بالمصلحة المرسلة ، نبحث في هذا المبحث بعض المسائل الفقهية التي اخذ بها الفقهاء تخصيصا للعام .
المسالة الأولى: عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال عام الفتح وهو بمكة: "إن الله حرم بيع الخمر والخنزير والأصنام"([120]).
وتحريم الأصنام عام في كل صنم، وعلة التحريم - كما ذكرها الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى -: أنها لا منفعة فيها مباحة ([121])، فعدم وجود المصلحة في الصنم هي التي منعت من بيعه ، فهذا نص عام يخصص بالمصلحة، وهي ما إذا وجد في بيع الأصنام منفعة ومصلحة ، كبيع بعض الأصنام التي تساعد على معرفة تاريخ الأمم السابقة التي يستفاد منها في دراسة التاريخ، وكذلك مثل بيع الدمى للأطفال .
المسالة الثانية: امتناع عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن توزيع الأراضي المفتوحة على الفاتحين:
إن الأراضي التي فتحها المسلمون تعتبر غنيمة للمسلمين ، كالغنائم المنقولة من ذهب وفضة وسلاح وأنعام وغيرها، وتلك الغنائم يكون الخمس منها لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وأربع أخماسها للغانمين، لقوله تعالى: (واعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ ولِذِي القُرْبَى والْيَتَامَى والْمَسَاكِينِ وابْنِ السَّبِيلِ)([122])، فقوله تعالى: " من شيء" لفظ عام، يشمل الأراضي وغيرها، والذي يؤكد هذا العموم فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث امضى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحكم موافقا لما بينه الله تعالى في الآية المذكورة، فكان صلى الله عليه وسلم إذا غنم شيئا اخذ الخمس ، وقسم الباقي على المسلمين ، ولم يؤخر منه شيئا، مثل ما فعل بخيبر، حيث قسم أرضها على المقاتلين المسلمين ([123]).
وفي عهد عمر رضي الله عنه قسم المنقولات دون الأموال الثابتة كالأراضي، حيث رأى المصلحة في عدم تقسيم الأموال الثابتة؛ لزيادة موارد الدولة، لسد حاجيات البلدان التي ستفتح في المستقبل، ولحماية أمنها وثغورها، ولعدم حرمان بقية المسلمين حاضرهم، أو من يأتي بعدهم من هذه النعمة، وهذه المصالح هي التي جعلت عمر رضي الله عنه يخصص عموم الآية بالأراضي المفتوحة عنوة، فلا يقسمها على الفاتحين، وإنما يجعلها فيئا لجميع المسلمين ([124]).
قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: (لم يختلف العلماء أن قوله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء" ليس على عمومه، وانه يدخله الاختصاص ... ومما خص به أيضا: الأرض ، والمعنى : ما غنمتم من ذهب وفضة وسائر الأمتعة والسبي، وأما الأرض فغير داخلة في عموم هذه الآية ) ([125]).
وقال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى: (وظاهر مذهب أحمد وأكثر نصوصه على أن الإمام مخير فيها تخيير مصلحة، لا تخيير شهوة، فإن كان الأصلح للمسلمين قسمتها قسمها، وإن كان الأصلح أن يقفها على جماعتهم وقفها، وان كان الأصلح قسمة البعض ووقف البعض فعله) ([126]).
فهذا مثال على تخصيص العام بالمصلحة المرسلة ، ولم يستند التخصيص إلى نص خاص من الكتاب أو السنة، وإنما استند إلى جلب المصالح ودرء المفاسد.
المسالة الثالثة : استثناء المرأة الشريفة من الإرضاع عند المالكية:
يجب علي المرأة إرضاع ولدها، لقوله تعالى: (والْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ)([127])، وهذا خبر في معنى الأمر المؤكد، والتقدير: والوالدات يرضعن أولادهن في حكم الله الذي أوجبه، وهذا الأمر ليس أمر إيجاب، وإنما هو أمر ندب واستحباب، لأن تربية الطفل بلبن الأم أصلح له من لبن غيرها، ولكمال شفقتها عليه.
والذي يدل على الندب قوله تعالى: (فَإنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) ولو وجب عليها الرضاع لما استحقت الأجرة ، ويكون واجبا إذا لم يقبل الصبي إلا ثدي أمه، أو لم توجد له ظئر، أو كان الأب عاجزا عن الاستئجار([128]).
وقوله : "والوالدات " لفظ عام، يستغرق جميع أفراده ، يشمل الوالدة الشريفة وغيرها، لكن المالكية ([129]) خصصوا عموم هذه الآية بالمرأة الشريفة بالمصلحة؛ لأن في إرضاعها مخالفة لما اعتيد في قومها، فلو فعلت لحقها أذى من تعيير، أو أنفة زوج، أو غير ذلك، أي: إذا كانت تتأذى بالإرضاع لعلو منزلتها، ولجريان عرف قومها عملا بعدم الإرضاع، فلا يجب ذلك عليها، دفعا للضرر عنها، ودفع الضرر مصلحة.
جاء في المدونة : قال : وسألت مالكا عن المرأة ذات الزوج أيلزمها إرضاع ابنها؟ قال: نعم يلزمها إرضاع ابنها على ما أحبت أو كرهت، إلا أن تكون ممن لا تكلف ذلك، فقلت لمالك: ومن التي لا تكلف ذلك؟ قال: المرأة ذات الشرف واليسار الكثير، التي ليس مثلها ترضع وتعالج الصبيان ، فأرى ذلك على أبيه وإن كان لها لبن) ([130]).
وقال ابن العربي رحمه الله تعالى : (ولمالك في الشريفة راي خصص به الآية ، فقال: إنها لا ترضع إذا كانت شريفة ، وهذا من باب المصلحة) ([131]).
فهذا المثال دليل على تخصيص العام بالمصلحة المرسلة التي تستند إلى دليل كلي، وهو هنا العرف القولي.
المسالة الرابعة: شهادة الصبيان:
يشترط في الشهادة العدالة، ومن شروط العدالة : البلوغ ، لقوله تعالى: (واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ)([132])، وقوله تعالى : (وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ)([133]).
قوله: "من رجالكم" أي: من رجال المؤمنين، والحرية والبلوغ شرط مع الإسلام، فلا تقبل شهادة الصبيان عند جمهور الفقهاء([134])، وأجاز المالكية ورواية عن الإمام احمد وابن أبي ليلى شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراح في أماكنهم الخاصة قبل أن يتفرقوا أو يعلموا ([135])؛ مراعاة لمصلحة حفظ الدماء.
وقبول شهادتهم يعتبر تخصيصا لقوله تعالى: (واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ)، وقوله: (وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ)؛ لأنه إذا لم تقبل شهادتهم ضاع حق بعضهم ، طالما انه لا يوجد من تقوم بهم البينة، والغالب من حالهم في لعابهم واجتماعهم انهم لا يحضرهم الكبار، فهي مصلحة لا يشهد لعينها نص خاص، ولكن شهد لجنسها مجموع النصوص التي اعتبرت صون الحقوق، خاصة إذا تعلقت بالدماء ([136]).
قال ابن رشد رحمه الله تعالى : (وإجازة مالك لذلك هو من باب قياس المصلحة) ([137]).
وقال الإمام الباجي رحمه الله تعالى : (والدليل على ما ذهب إليه علي ومن تابعه، ما احتج به شيوخنا من أن الدماء يجب الاحتياط لها، والصبيان في غالب أحوالهم ينفردون في ملاعبهم، حتى لا يكاد أن يخالطهم غيرهم، ويجري بينهم من اللعب والترامي ما ربما كان سببا للقتل والجراح ، فلو لم يقبل بينهم إلا الكبار وأهل العدل لأدى ذلك إلى هدر دمائهم وجراحهم، فقبلت شهادتهم بينهم على الوجه الذي يقع على الصحة في غالب الحال) ([138]).
المسالة الخامسة : ميراث المسلم من الكافر:
اتفق الفقهاء على أن الكافر لا يرث المسلم شيئا، إذا كان السبب المقتضى للإرث هو الزوجية، أو القرابة، وقد بقي الكافر على كفره حتى قسمت التركة على مستحقيها، واخذ كل وارث نصيبه منها، فالزوجة الكافرة لا ترث من زوجها المسلم ، والابن الكافر لا يرث من أبيه المسلم ، والقريب الكافر - سواء كانت القرابة أخوة، أو عمومة، أو نحو ذلك - لا يرث من قريبه المسلم ([139]). لقوله صلى الله عليه وسلم: "لايرث المسلم من الكافر، ولايرث الكافر من المسلم "([140]).
واختلف الفقهاء في إرث المسلم من الكافر، فذهب جمهور الفقهاء إلى أن المسلم لا يرث من الكافر شيئا مطلقا، سواء أكان قريبا، أم زوجا، أو حربيا، أو ذميا، أو مرتدا ([141])، واستدلوا بأدلة، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم من الكافر، ولا يرث الكافر من المسلم " حيث دل الحديث على منع ميراث المسلم من الكافر، والكافر من المسلم مطلقا، وهذا حكم عام لا يجوز أن يخص منه شيء إلا بدليل ([142]).
وذهب بعض الفقهاء إلى أن المسلم يرث من الكافر، ولا يرث الكافر من المسلم ([143])، وقالوا: إن عموم الحديث خص بالمصلحة، فإن المصلحة توجب تخصيص العموم، والمصلحة في توريث المسلمين منهم ترغيبا في الإسلام، لمن أراد الدخول فيه من أهل الكفر، فإن كثيرا منهم يمنعهم من الدخول في الإسلام، خوف أن يموت أقاربهم، ولهم أموال فلا يرثون منهم شيئا، فإذا علم أن إسلامه لا يسقط ميراثه ضعف المانع من الإسلام، وصارت رغبته فيه قوية، وهذا وحده كاف في التخصيص.
وهذه المصلحة ظاهرة يشهد لها الشارع بالاعتبار في كثير من تصرفاته، وقد تكون مصلحتها اعظم من مصلحة نكاح نسائهم ، وليس في هذا ما يخالف الأصول ([144]).
والقول بتخصيص عموم الحديث بالمصلحة هو الأرجح ، خصوصا ما نراه في البلاد الغربية في هذا الزمان، فإن كثيرا ممن يدخل في الإسلام يكون بحاجة إلى المال؛ نظرا لفقرهم، فإذا منعناهم من الميراث فقد يؤدي إلى رجوعهم عن التمسك بالإسلام ، وقد يكون القول بعدم الميراث مانعا من الدخول في الإسلام في بعض الحالات، وقياسا على فعل النبي صلى الله عليه وسلم من العطاء للكفار أحيانا، ولحديثي العهد بالإسلام كثيراً؛ بقصد ترغيب الناس في هذا الدين ([145])، ولعل هذه هي الغاية من تشريع إعطاء الزكاة للمؤلفة قلوبهم في قوله تعالى: ( إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ والْمَسَاكِينِ والْعَامِلِينَ عَلَيْهَا والْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وفِي الرِّقَابِ والْغَارِمِينَ وفِي سَبِيلِ اللَّهِ وابْنِ السَّبِيلِ)([146]).
المسالة السادسة: قتل الزنديق المستتر إذا تاب:
الزنديق هو الذي يظهر منه على كفر يسره، وهو مع ذلك يدعي الإسلام، والأصل في حكمه انه لا يقتل إذا تاب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم"، فمعنى الحديث: أن الكفار المحاربين بجميع أنواعهم مأمور بقتالهم، ولا يكف القتل عنهم إلا بقولهم: لا إله إلا الله ، فهذا الحديث عام.
وقد اختلف في قتل الزنديق ، فذهب بعض الفقهاء كالمالكية وأبو يوسف وبعض الشافعية إلى أنه يقتل ولا تقبل توبته إن ظهر عليه ، إلا أن يجيء قبل الإظهار عليه تائبا، فتقبل توبته ولا يقتل؛ لأن توبة الزنديق جزء من صلب عمله يمارس بها مبدأه الذي اخذ نفسه به ([147]).
قالوا : إن عموم الحديث مخصوص بغير الزنادقة ، فالمصلحة تقتضي قتله ودفع أذاه عن المسلمين، وهي مصلحة ضرورية تتعلق بحفظ الدين، وحفظ الدين مقصود للشارع، فرجحت هذه الكلية؛ لأنها كليته، لأن ضرر الزنديق عام يقع على جميع المسلمين، وفي قتله إزالة لهذا الضرر، فهو مصلحة ضرورية؛ لجميع المسلمين، لأنها متعلقة بإحدى الضروريات الخمس، بل أهمها وهو حفظ الدين، وقطعية؛ لأننا نقطع أن بقتله يأمن المسلمون من غائلته.
والحديث فيه عصمة دم الكافر إذا تشهد، والزنديق قد فعل ذلك لم يعصم دمه، لأن وصف الزندقة لم يرتفع بالنطق بالشهادة ، بل لايزال ملازما له؛ لأن قول الزنديق: لا إله إلا الله، هو عين الزندقة، وإظهار خلاف ما يبطن ([148]).
قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: (فإن قيل: فالزنديق المتستر إذا تاب فالمصلحة في قتله، ولا تقبل توبته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله " فماذا ترون ؟ قلنا: هذه مسألة في محل الاجتهاد، ولا يبعد قتله، إذ وجب بالزندقة قتله، وإنما كلمة الشهادة تسقط القتل في اليهود والنصارى؛ لأنهم يعتقدون ترك دينهم بالنطق بكلمة الشهادة، والزنديق يرى التقية عين الزندقة، فهذا لو قضينا به فحاصله استعمال مصلحة في تخصيص عموم ، وذلك لا ينكره احد) ([149]).
المسالة السابعة: استخدام العقاقير الطبية التي يدخلها المخدر
يتبع