
30-03-2019, 04:52 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,689
الدولة :
|
|
رد: حريِة تداول المعلومات رؤيَة فقهيَة
حريِة تداول المعلومات رؤيَة فقهيَة
د. عُمَر بن صَالح عُمَر ([1])
ومن السنة:
قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لِيُبَلِّغ الشاهِدُ الغائِبَ؛ فإنّ الشاهدَ عَسَى أن يُبَلِّغَ مَن هُو أوْعى لهُ مِنهُ)) ([42])، و(أوعى) أي: أحفظ، من الوعي وهو: الحفظ والفهم ... وقوله : (ليبلغ الشاهد)، أي الحاضرً في المجلس الغائبَ عنه، والمراد منه إما تبليغ القول المذكور، أو تبليغ جميع الأحكام ... وقال ابن بطال: كل من خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ العلم من كان في زمنه فالتبليغ عليه متعين، وأما من بعدهم فالتبليغ عليهم فرض كفاية. قلت:فيه نظر, فقد ذكر أبو بكر بن العربي أن التبليغ عن النبي صلى الله عليه وسلم فرض كفاية إذا قام به واحد سقط عن الباقين([43]) .
وحديث محمد بن جبير بن مُطْعم عن أبيه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بِالْخَيْفِ من مِنًى فقال: ((نَضَّرَ الله امْرَأً سمع مقالتي فَوَعَاهَا، ثُمَّ أَدَّهَا إلى من لم يَسْمَعْهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهَ لا فقه له، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلى من هو أَفْقَهُ منه. ثَلاثٌ لَا يَغِلُّ عليهم قَلْبُ المُؤْمِنِ: إِخلاَصُ العًمًل، وَالنَّصِيحَةُ لِوَلِيَّ الأَمْر، وَلُزُومُ الْجَمَاعةِ، فإن دعْوَتَهُمْ تَكُونُ من وَرَائِهِ)) ([44])، ((ففي هذا الحديث دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم لمن سمع كلامه ووعاه وبلغه بالنضرة، وهي البهجة ونضارة الوجه وتحسينه. ولو لم يكن في فضل العلم إلا هذا وحده لكفى به شرفًا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لمن سمع كلامه ووعاه وحفظه وبلغه. وهذه هي مراتب العلم: أولها وثانيها سماعه وعقله، فإذا سمعه وعاه بقلبه أي عقله واستقر في قلبه كما يستقر الشيء الذي يوعى في وعائه ولا يخرج منه)) ([45]).
وحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: ((إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثاً، ثم يتلو: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة : 159-160]، إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون )) ([46]) .
وفي إطار التنديد باحتكار العلم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يحدث به كمثل الذي يكنز فلا ينفق منه)) ([47])
القسم الثاني: معلومات تتعلق بأمور العادات والمباحات الدنيوية، فهذه تنقسم إلى: ما كان وسيلة إلى عبادة وقربة لا تتم العبادة إلا به، فحكم تداوله حكم تلك العبادة، لأن ((ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)). ومعلومات ليست وسائل إلى العبادات؛ وهذه تنقسم إلى: ما تخدم المصالح الدنيوية ولا تلحق أضرارا بالناس أو بالبيئة المحيطة بهم، فهذه لا يحرم تداولها مثل: تداول المعلومات المتعلقة بالصنائع، ((والصنائع في النوع الإنساني كثيرة لكثرة الأعمال المتداولة في العمران ... كالفلاحة والبناء والخياطة والنجارة والحياكة ، والتوليد والكتابة والوِراقة والطب)) ([48]) . ومثل هذه الصنائع لابد من علم ، إذ ((الصناعة هي ملكة في أمر عملي فكري)) ([49]). وأما ما يلحق أضرارا بالناس أو بالبيئة المحيطة بهم، فهذا يحرم تداوله، مثل الكهانة والسحر ونحوهما مما نهى الشرع عنه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم ((من آتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)) ([50])، فسؤال العرافين لا يجوز، وتصديقهم يورث الكفر، قال صلى الله عليه وسلم : ((من آتى كاهنا فصدقه بما قال، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ([51]) ، وقال سبحانه وتعالى: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُون َ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُون َ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [البقرة : 102].
وخلاصة القول: إن الأصل في تداول المعلومات: الإباحة ما دامت المعلومة مشروعة لا تنجر عنها مفسدة، قال الله تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً) [الإسراء: 53]، ولا فرق بين المعلومة المتداولة مشافهة أو مكتوبة أو مسموعة، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالصدع بالحق فقال : (وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف: 29]، فليحرص المسلم على تبليغ الحق كحرصه على تحصيله، و((الساكت عن الحق شيطان أخرس)) واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم ((أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر)) ([52]).
المطلب الخامس
ضوابط تداول المعلومات
الإسلام دين الحرية والكرامة الإنسانية، وتشمل هذه الحرية: حرية التنقل، وحق الأمن، وحرية النقد، وحرية التعبير، وحرية تداول المعلومات جزء من حرية التعبير. وقد كفل الإسلام الحرية للناس جميعاً، ولا أدل على ذلك مما جاء في كتاب الله من إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران : 110]، فكثيراً ما كان أفراد الأمة يوجهون النصيحة (النقد) للخلفاء، وشتان بين فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبين ما ينادي به دعاة الحرية المطلقة؛ مما أدى إلى الفوضى وشيوع الفساد وتفكك العلاقات الأسرية. و(( الإسلام أعطى الإنسان الحرية وقيدها بالفضيلة؛ حتى لا تنحرف، وبالعدل حتى لا يجور، وبالحق حتى لا ينزلق مع الهوى، وبالخير والإيثار؛ حتى لا تستبد به الأنانية، وبالبعد عن الضرر؛ حتى لا تستشري فيه غرائز الشر)) ([53]). والحرية بدون ضوابط مثلها كمثل السيارة التي لا فرامل لها، لا يمكن التحكم فيها.
ومن الناس: من يرى فتح باب الحرية على مصراعيه بدون قيد ولا حجب. ومهم من يرى منع تداول المعلومات إلا فيما تراه الحكومات وتصرح به. وتقاس حرية تداول المعلومات في أي مجتمع بقدرة أفراده على الحصول على المعلومات والبيانات المطلوبة من المؤسسات الحكومية أو من غيرها من المؤسسات، ولكن هل هي حرية مطلقة أم حرية مقيدة؟ يقول (( ميريل)): ((إن الحرية غير المقيدة مستحيلة، ولا يمكن أن تكون الصحافة حرة من كل شيء ؛ من المسؤولية والأخلاقيات والشعب والعواطف، إنها بذلك تصبح لا شيء)) ([54]) ؛ ولذلك فقد تصاعدت الشكوى في المجتمع الأمريكي أكثر من غيره نتيجة التمادي الهائل في استخدام التكنولوجيا الحديثة في التهجم على خصوصيات المواطنين، وتزيد أحياناً في نشر وإذاعة أدق الأسرار الشخصية عبر الإذاعات والصحف؛ بحثاً عن الإثارة والانتشار، وبِاسْم حرية الصحافة والإعلام ([55]). وقال ابن عاشور: ((وقد تعرض أفراد البشر وجماعاته من جراء التصرف بالحرية دون اتزان إلى كوارث لحقت الأشخاص، وتشاجر حدث بين الجماعات، فاستيقظ جمهورهم لواجب تعديل استعمال صاحب الحرية حريته، وعلى التواضع بينهم على تمييز ما يُطلق عنانُه، وما يُشدٌ عقالُه، وتقدير ذلك)) ([56]).
والرؤية الفقهية في نظرتها إلى حرية تداول المعلومات وسط بين الإفراط والتفريط، وقد منّ الله على هذه الأمة بأن جعلها وسطا في كل شيء، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة : 143]، ولا أدل على هذه الوسطية من تحريمه كتم العلم – والمعلومات نوع من العلم – ومنع في المقابل إشاعته بدون ضابط لمن لا يستحقه، يدل على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ((من كتم علما ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار))([57])، وقوله صلى الله عليه وسلم ( كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما يسمع([58])))، ودعا إلى حرية تداول المعلومات حرية مقيدة بالأطر الشرعية التي وضعها الإسلام، ومنضبطة بتعاليمه التي لا يجوز للمسلم تجاوزها؛ ذلك بأن في تجاوزها مفسدة كبيرة تؤدي إلى الضياع والفوضى، وتؤلب الناس بعضهم على بعض، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم)) ([59]).
ومن الضوابط التي ينبغي مراعاتها في حرية تداول المعلومات ما يأتي: مشروعية المعلومات، المسؤولية، الدقة، التبين والتثبت ، واعتبار مآلات تداول المعلومات.
أولاً: مشروعية المعلومات:
إن المنهج الإسلامي حدد طرق المعرفة في ثلاث وسائل: الخبر الصادق والحواس الخمس، والعقل([60])، والخبر الصادق يكون فيما نقل من الأخبار نقلا صحيح الإسناد، كما يكون فيما أخبر به المصطفى صلى الله عليه وسلم من وحي من ربه: عقيدة وشريعة, وما يشمله من المغيبات التي لا تدرك بالعقول ولا الحواس. ولا خلاف في أن تداول المعلومات يدخل في إطار الخبر. وحتى يكون الخبر غير مخالف لتعاليم الشريعة الغراء ومبادئها السمحة، لا بد أن تكون المعلومات التي يخبر عنها صادقة لا تندرج فيما نهت الشريعة عن إذاعته وتداوله. فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يراعون الله فيما يتداولونه من أخبار، بل تعدى ذلك إلى خواطرهم، قال أبو هريرة رضي الله عنه : ((إن أناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال: أوَ قد وجدتموه؟ قالو: نعم. قال: ذلك صريح الإيمان) ([61]).
ووجد الدلالة من هذا الحديث: أنه ((لم يجرؤ أحد من الصحابة أن يصرح بأعيان تلك الخواطر التي اعترتهم، فكانوا يقيسون كل شيء بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا هو ميزانهم حتى فيما يتعلق بمشاعرهم التي قد لا ينفك عنها البشر إذا غفلوا عن ذكر ربهم، فأين أصحاب الأدب الرخيص الذين يعبرون فيه عن كل ضياع، ويروجون به للفسق والرذيلة ويطلقون عليه بعد ذلك اسم الأدب المكشوف أو أدب الجنس ([62])))!
ونعني بمشروعية المعلومة: أن تكون المعلومة المراد تداولها لا تخالف التعاليم الشرعية ولا القيم الأخلاقية، ترضي الرب – سبحانه – ولا تغضبه، ولا تخالف شرعه، لأن اللسان سفير القلب، وقديماً قيل ((المرء بأصغريه قلبه ولسانه)) فإذا صلح القلب صلحت بقية الجوارح، وإذا فسد فسدت، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ((... ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب ([63]))) وجاء في خطر اللسان قوله صلى الله عليه وسلم: ((.. وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم ([64]). وإذا كان اللسان سفير القلب، فإن القلم سفير اللسان والقلب، ولما للقلم من أهمية أقسم الله تعالى به في قوله: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) [القلم: 1]، وتبدو قيمة المكتوب فيما يحتويه من معاني الخير والفضيلة.
وعند انعدام الوازع الديني يتحول تداول المعلومات عند دعاة الباطل والانحلال إلى أداة للفتنة وبلبلة للرأي العام، وإشاعة للفساد تحت مسمى الحرية والتطور. ويشهد لذلك ما نلحظه في جرائدهم ومجلاتهم وكتابتهم وما يعرض في قنواتهم، وقد حذرنا الله من ذلك في عموم قوله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال : 25]، قال ابن عاشور: ((إن المسلمين إن لم يكونوا كلمة واحدة ... دبّ بينهم الاختلاف، واضطربت أحوالهم، واختل نظام جماعتهم باختلاف الآراء، وتلك الحال هي المعبر عنها بالفتنة ... وحاصل الفتنة يرجع إلى اضطراب الآراء، واختلال السير، وحلول الخوف والحذر في نفوس الناس ([65]))) ودعاة الفتنة والانحلال الذين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف عدَّهم القرآن من المنافقين، قال تعالى : (الْمُنَافِقُون� � وَالْمُنَافِقَا تُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ) [التوبة: 67].
ثانياً: مسؤولية الكلمة
مما لا شك فيه: أن الإسلام كفل الحرية للناس أجمعين ([66])، وجعلها حرية مسؤولة، بما منحه الله تعالى من عقل وإرادة تتيح له الاختيار، وعلى ضوء هذا الاختيار يحاسب الإنسان محاسبة فردية، ومحاسبة مجتمعة، ومحاسبة إلهية، يدل عليها قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال: 27]. فقوله : (لا تَخُونُوا اللَّهَ) هذه هي المسؤولية الدينية، (وَالرَّسُولَ) هذه المسؤولية أمام الناس، (وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ) هذه المسؤولية أمام الضمائر الحية التي تدفع صاحبها إلى أن يحاسب نفسه قبل أن يُحاسَب. وقريب من هذه الآية قوله تعالى: (وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون َ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة :105] ، (فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ) هذه هي المحكمة الفردية لأصحاب القلوب الحية، وفيها تنبيه من الله لعباده بأنه مطلع عليهم، فيحسنوا أعمالهم وجميع تصرفاتهم، ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق : 37]، (وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون َ) هذه هي المحكمة الإنسانية، (فَيُنَبِّئُكُم� � بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) هذه محكمة إلاهية نمر أمامها يوم القيامة (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى) [طه:15]، وقال تعالى: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً) [الإسراء: 13] ([67])، ومن هنا نادى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا)([68]). وعليه"تقوم المسؤولية علي أسس فردية واجتماعية وقضائية؛ فمن الناحية الفردية يراقب المرء نفسه, ويحاسبها بضميره ووازعة الديني عن كل ما تكسبه نفسه, بل عن كل ما توسوس به نفسه. فالإعلامي يتقي الله في ممارسته لحرية القول لحرية القول والتعبير لأنه يستشعر رقابة الله تعالى عليه لقوله تعالي إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ) "الانبياء:110"([69])
وإلى جانب وازع الضمير الإنساني الحي نجد رقابة المجتمع تحول دون الفرد والانحراف، ذلك أن المجتمع الإسلامي لا يسمح أبداً بتداول أقوال السوء أو رواية الشائعات الفاضحة أو نشر الفاحشة بين المؤمنين أو التجني على سمعة الناس وأعراضهم ظلماً وعدواناً... تطبيقاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) ([70]).
والمسؤولية أمام محاسبة الإنسان نفسه، والمسؤولية أمام المجتمع، والمسؤولية أمام الله سبحانه وتعالى من أهم ضوابط حرية تداول المعلومات. وإن الشعور بالمسؤولية تجاه تداول المعلومات لكفيل بتأمين المعلومة وحمايتها من التحريف والتشويه، ولا أدل على ذلك مما جاء في تأمين الشهادات والديون، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة : 282].
ومما يدل على مسؤولية الإنسان فيما يتداوله قولا أو سماعا، قول الله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً) [الإسراء: 36]. وقوله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) [النساء: 140] . وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالا، يرفع الله بها درجات. وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقى لها بالا، يهوي بها في جهنم) ([71])، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((كلكم راع، ومسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع، وهو مسؤول عنهم، والرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده، وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده ، وهو مسؤول عنه، ألا فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) ([72])، فمن يرد تداول معلومة فليعلم أنه مسؤول عن ذلك، ولينظر فيما يؤول إليه فعله من إشاعة فاحشة تؤدي إلى الدمار أو نشر فضيلة تسهم في ترقي العقول وتلاقح الأفكار.
وكما يحاسب الإنسان على كلامه يحاسب على ما يكتبه وما ينشره من معلومات، نستشف ذلك من قوله تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النور :24]، ويأبى أي شخص مستقيم أن ينشر أية معلومة تجر عليه إثماً، أو يكتب بقلمه معلومة تكون عليه يوم القيامة وزراً، وما ذلك إلا لأن المؤمن عفيف طاهر(( قلمه لسان عدل وحكمة، مجاله رحب، وأُفُقه واسع؛ لأنه يكتب باسم الله، ويستوحي معانيه من آيات الله المقروءة والمنظورة)) ([73]). يروي عن سيد قطب – رحمه الله – أنه قال لما طلب منه أن يكتب اعتذار من جمال عبد الناصر ليعفو عنه : ((إن أصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفا يًقِرّ به حكم طاغية)) ([74]).
ثالثا: دقة المعلومات
نعني بالدقة في تداول المعلومات أن تُقَدَّم المعلومة صحيحة، مرتكزة على الحقائق وموافقة للواقع، وبعيدة كل البعد عن الكذب والتلفيق، إذ أن المعلومات غير الصحيحة لا تخلو من الأهواء، وقد نهينا عن اتباع أهوائنا؛ وما أنزلت الشريعة إلا لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم ([75]). والأهواء هي منشأ الفوضى والفساد، قال صلى الله عليه وسلم: ((...فإياكم والشعاب...)) ([76])، والشعاب: الأهواء([77]). وقال صلى الله عليه وسلم: ((وأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه)) ([78])، وكل خصلة من هذه الخصال تُعَدّ عاملاً مهماً في تحريف المعلومة وعدم دقتها، إذ أن حرية تداول المعلومات لا ينبغي أن تقوم على الأهواء ورغبات الناس؛ لأنها غير منضبطة، ولا يمكن أن تتوافق، بل غالباً ما تتعارض؛ مما يؤدي إلى تنازع الناس وتقاتلهم.
وكما نهانا الله أن نتداول ما تمليه عليه أهواؤنا، نهانا أن نتداول ما ليس لنا به علم : (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً) [الإسراء: 36]، والمراد بقوله تعالى: (مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) هو ((الخاطر النفساني الذي لا دليل عليه ولا غالبية ظن به. ويندرج تحت هذا أنواع كثيرة، منها: الطعن في أنساب الناس، والقذف بالزنى وغيره من المساوي بدون مشاهدة، والكذب، وشهادة الزور ... وهذا أدب خلقي عظيم، وإصلاح عقلي جليل، يعلم الأمة التفرقة بين مراتب الخواطر العقلية؛ بحيث لا يختلط عندها المعلوم والمظنون والموهوم. ثم هو – أيضاً – إصلاح اجتماعي جليل يجنب الأمة من الوقوع والإيقاع في الأضرار والمهالك من جراء الاستناد إلى أدلة موهومة)) ([79]). وندد الله سبحانه وتعالى بمن ينشرون معلومة كاذبة فقال فيمن ادعوا أن لله ولداً : (وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً) [الكهف : 4-5] قال ابن كثير : ((أي ليس لها مستند سوى قولهم، ولا دليل عليها إلا كذبهم وافتراؤهم)) ([80]) ، وقال سبحانه في شأن من يفتي دون علم: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) [النحل : 116] . وقال صلى الله عليه وسلم: ((ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) ([81]). وأوضح صلى الله عليه وسلم أن حكم القاضي لا يغير من الحق شيئاً في الآخرة، وأنه في الدنيا إنما يأكل مال أخيه بالباطل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما أن بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، وأقضي على نحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذ، فإنما أقطع له قطعة من نار)) ([82]). وحُكْم النبي صلى الله عليه وسلم إنما يكون بناء على ما ظهر له من معلومات وبيانات ، فقد تكون المعلومة – سواء أكانت شهادة أم بينة – صحيحة دقيقة فلا يأثم صاحبها، وقد تكون كاذبة خاطئة فيأثم صاحبها، والرسول صلى الله عليه وسلم أوكل أمر هذه المعلومة لقائلها، ومدى إيمانه ومدة تحريه الصدق. ولا تتأتى الدقة إلا بالتثبت والتبين.
رابعاً: التبين والتثبت
مسؤولية تداول المعلومات ليست بالأمر الهين أو الأمر الشكلي، ولذا جاء الأمر بالتثبت والتبين قبل تداول أي خبر أو أية معلومات، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات :6]، و قال صلى الله عليه وسلم ((من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)) ([83]).((ومدلول الآية عام، و هو يتضمن مبدأ التمحيص والتثبت من خبر الفاسق )) ([84]) قال ابن عاشور (وإنما كان الفاسق معرضًا خبره للريبة والاختلاق؛ لأن الفاسق ضعيف الوازع الديني في نفسه، و ضعف الوازع يجرئه علي الاستخفاف بالمحظور، و بما يخبر به في شهادة أو خبر يترتب عليهما إضرار بالغير، أو بالصالح العام))([85]) . فالواجب - إذن - هو التثبت قبل إصدار حكم أو نشر كلمة أو تداول معلومة، ولا يخفي ما في هذا المنهج القرآني في تتبع الخبر و تداوله من حث علي التثبت و التبين؛ لأن تداول المعلومات في الرؤية الفقهية مقصده إنساني، إذ أنه يسعي إلي جلب المصالح للناس و تكميلها، و درء المفاسد عنهم و تقليلها، و يدعو إلي توحيد الناس و جمع كلمتهم فيما يمكن الاتفاق عليه، ويحث علي أن يعذر بعضهم بعضًا فيما اختلفوا فيه .
و في حالة عدم التبين أمر الله سبحانه برد المعلومة إلي أهل الخبرة، فقال: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ هُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء: 83]، ((والصورة التي يرسمها هذا النص هي صورة جماعة في المعسكر الإسلامي لم تألف نفوسهم النظام، ولم يدركوا قيمة الإشاعة في خلخلة المعسكر، و في النتائج التي تترتب عليها, وقد تكون قاصمة ؛ لأنهم لم يرتفعوا عن الأحداث ولم يدركوا جدية الموقف، وأن كلمة عابرة و فلتة لسان، قد تجر من العواقب علي الشخص ذاته، و علي جماعته كلها ما لا يخطر له ببال، و ما لا يتدارك بعد وقوعه بحال !)) ([86]) و يستشف من الآية أن الهدف العام هو: عدم تضليل الرأي العام فيما ينشر، وخداعه بتغيير الحقائق، و التلبيس علي الناس حتي ينقادوا لرأي معين تحت الترغيب أو الترهيب، و هو ما يُعبر عنه ((بالإعلام الاستمالي أو التطويعي لتسخير الجماهير لتنفيذ سياسات معينة )) ([87]) ومثاله ما ذكر الله لنا عن سحرة فرعون الذين: (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوه ُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) [الأعراف: 116] مقابل المال و الجاه حين قالوا لفرعون إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ (114)) [الأعراف: 113-114] وذلك للانقياد لآراء فرعون حين قال لقومه مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ) [غافر: 29].
خامسا: اعتبار مآلات تداول المعلومات
النظر في مآلات تداول المعلومات معتبر مقصود شرعًا ([88]) ، فلابد منه لمن أراد تداول المعلومة أن يكون فاهمًا لها وواعيًا بمآلاتها، وليس في الإسلام معلومة شرعية لا ينبغي تداولها، وليس في الإسلام رجال دين، و ما الناس إلا عالم أو متعلم أو جاهل, ولا ينبغي للمسلم أن يكون إمعة ينساق وراء كل ريح، أو أن يتكلم بما لا يعلم (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء: 36] وقال تعالي: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : 33] فإذا أحسن المسلم فهم دينه و مقاصده جاز له نشر ما تعلمه و تبليغه امتثالاً لقول الله تعالي : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل: 125] و قول رسوله صلى الله عليه وسلم: ((بلغوا عني ولو آية)) ([89]).
والمراد باعتبار مآلات تداول المعلومات: أن ينظر المسلم فيها سيؤول إليه تداول تلك المعلومات أَلِمصلحةٍ أنم لِمفسدةٍ؟ وما القصد من تداولها؟ فإذا أدت إلى مصلحة، وكان القصد من تداولها هو الإسهام في تشكيل وعي لدى الناس، والحصول على مرضاة الله، جاز له ذلك. ومما يستأنس به في هذا الشأن قوله تعالى: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ) [آل عمران : 152]، وقوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [الشورى :20] وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات)) ([90]) فلا يسعى المسلم إلى نشر معلومة وتداولها إلا وهو يراقب الله في ذلك؛ هل ترضي الله أم لا؟ شعاره في ذلك قوله صلي الله عليه وسلم: ((من التمس رضا الله بسخط الناس، كفاه الله مؤنة الناس. ومن التمس رضا الناس بسخط الله، وكله الله عليه وأسخط عليه الناس)) ([91])، فلا يتكلم إلا ابتغاء مرضاة الله، ولا يسكت إلا ابتغاء مرضاة الله، ولْيَستحضر قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور:63]، والناظر اليوم في بعض الجرائد يجدها قد خصصت مساحة لتتبع الفواحش ونشرها بين الناس تحت مسمى حرية الرأي والنشر وصدق الخبر، ومثل هذا في شرعنا لا يجوز لأن نشر الفواحش من شأنه أن يغري السامع أو القارئ على اقتراف مثل تلك الفاحشة والإقدام عليها. ولا يخفى مدى تأثير الأفلام الخليعة أو أفلام العنف على الناشئة، ومن هنا كانت العقوبة لمن ينشر ذلك شديدة في الدنيا ووزرها عند الله عظيم، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) [النور : 19]، وقد شرع الله حد القذف لمن اتهم شخصا في عرضه ولم يستطع إقامة الأدلة على ذلك، قال تعالى: (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) [النور: 4]، وشرع الله عدم تتبع عورات الناس وفضحهم بغرض إثارة الفتنة والبلبلة وبعث العداوات والأحقاد، ودعا إلى الستر فقال تعالي (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً) [النساء: 148]، وقال صلى الله عليه وسلم ( ... ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة ...) ([92]) . وأية معلومة يؤدي تداولها إلى إلحاق الضرر بالآخرين لا ينبغي تداولها، مثل: سب الأشخاص والهيئات وثلبهم، إذ (( لا ضرر ولا ضرار ))([93]). وما لا مصلحة في تداوله ينبغي الكف عنه وعدم تداوله، ولا أدل على ذلك من قوله صلى الله عله وسلم (( كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما يسمع)) ([94])، وحديث أبي هريرة ((حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم)) ([95]).
المطلب السادس:
التدابير الوقائية والعلاجية لحرية تداول المعلومات
وحتى يكون لضوابط حرية تداول المعلومات المكانة اللائقة به من حيث الاحترام والتنفيذ، حارب الإسلام كل ما من شأنه أن يؤدي إلي الفتنة أو إلي الإضرار بالغير, وشرع من الأحكام ما من شأنه أن يضمن احترام تشريعاته، ويساعد الناس على تنفيذها، والالتزام بها. ومثل هذه الترتيبات تعرف بالمؤيدات التشريعية؛ وهي (كل ما يشرع من التدابير لحمل الناس على طاعة أحكام الشريعة الأصلية)) ([96]). ومن هذه المؤيدات:
مؤيدات تربوية: وذلك بتربية الفرد تربية صالحة بغرس القيم النبيلة والأخلاق الفاضلة في نفسه، التي تقيه من تداول ما يلحق الضرر به أو بغيره عاجلا أو آجلا. وربطت ذلك برباط إيماني عقيدي بما له من قوة مؤثرة على الاستجابة والامتثال، قال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الانفال: 24] ، وذكرهم بأن الله لا يحب الفساد حتى يجتنبوه، فقال تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) [البقرة :205].
مؤيدات وقائية: وذلك بوضع جملة من الموانع التي تمنع الفرد من تداول ما يلحق الضرر به أو بغيره عاجلا أو آجلا، حيث أمر الناس أن يتبينوا (فَتَبَيَّنُوا)[الحجرات:6] وأن يقولوا حسناً (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) [البقرة :83] ، وألا يتجسسوا (وَلا تَجَسَّسُوا) [الحجرات:12].
مؤيدات رقابية: وذلك بجعل الرقابة واجبة على كل فرد من أفراد المجتمع فيما يتداوله من معلومات، حيث قال تعالى (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران: 104] ، وقال : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران:110]، والناظر في هذه النصوص الشرعية يلحظ عناية الشارع بالرقابة الخارجية دعما للرقابة الداخلية النابعة من ضمير المؤمن، لأن من الناس من يضعف عنده الوازع الديني، ولكنه يخشى محاسبة الناس وتوبيخهم، وفي ذلك منع لإشاعة الفاحشة، وسبيل لإيجاد مجتمع الفضيلة. وقد سبق الحديث عن مسؤولية الكلمة.
مؤيدات تأديبية: وذلك بفرض عقاب عادل دنيوي وأخروي يتلاءم مع عظم المفسدة التي يسببها تداول المعلومات، فقد شرع الله تعالى – على سبيل المثال – عقوبة القذف، وهو نوع من تداول معلومات تتعلق بأعراض المسلمين دون إثبات، قال تعالى (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ) [النور: 4] وجعل التفوه بالكلمة لمضرة سببا في دخول جهنم ((.. وهل يكب الناس في النار علي وجوههم ، أو على مناخرهم ، إلا حصائد ألسنتهم))([97])
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|