وتوبوا إلى الله جميعاً
الكاتب : فيصل بن علي البعداني
7 - الاغترار بكثرة العاصين: بمشاركتهم في المعصية ثم العقوبة، والظن بأن ذلك ينفع، وقد نفى الله ذلك، فقال :{ وَلَن يَنفَعَكُمُ اليَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي العَذَابِ مُشْتَرِكُونَ }(الزخرف: 39).
* علامات صحة التوبة :
هناك علامات كثيرة لصحة التوبة، من أبرزها :
1 - أن يكون العبد بعد التوبة خيراً منه قبلها؛ بحيث يكثر من عمل الصالحات، ومصاحبة أهل العلم والخير والصلاح، ويحرص جداً على ترك المعاصي والسيئات، والابتعاد عن أهل الزيغ والانحراف.
2 - أن لا يزال الخوف مصاحباً له لا يأمن من مكر الله طرفة عين، فخوفه مستمر إلى أن يسمع قول الرسل لقبض روحه :{ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ }(فصلت: 30).
3 - عظم ندمه وتحسر قلبه على ما فَرَط منه وخوفه من سوء عاقبته؛ لأن من لم يتحسر قلبه ويندم على ما فرط في الدنيا تحسر في الآخرة إذا حقت الحقائق وعاين ثواب المطيعين وعقاب العاصين، فلا بد من تقطُّع القلب إما في الدنيا وإما في الآخرة.
* بواعث التوبة :
هناك دوافع كثيرة تساعد العبد على الإسراع في التوبة والتعجيل بها، ومن ذلك :
1 - عموم الأمر بالتوبة والحث على تعجيلها:ومن ذلك قوله تعالى :{ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }(النور: 31). وقوله عز وجل :{ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى }(طه: 82)، وقال صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها " [31].
2 - معرفة الإنسان لعلاقته بالزمن:
أ - الزمن هو الحياة : قال الحسن البصري : " يا ابن آدم : إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضك، وإنما أنت بين راحلتين تنقلانك، ينقلك الليل إلى النهار، وينقلك النهار إلى الليل، حتى يسلمانك إلى الآخرة " [32].
ب - أهمية استثمار العبد للحياة ليسعد : قال صلى الله عليه وسلم : " اغتنم خمساً قبل خمس : شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك " [33].
ج - الزمن الماضي لا يعود، ولكن يمكن محاسبة النفس على تفريطها فيه؛ بحيث يتذكر العبد أخطاءه وذنوبه في ماضيه، ليورثه ذلك ذلاً وانكساراً بين يدي الله عز جل، فيندفع في مستقبله لاستثمار أيامه في طاعة الله عز وجل، والابتعاد عن الذنوب والمعاصي التي يقع فيها؛ حتى لا يكون مستقبله شبيهاً بماضيه.
3 - الحياء من الله تعالى:باستشعار نعمه وعظيم فضله وجزيل عطاياه، ثم مقارنتها بتقصير العبد وتفريطه في حق الله تبارك وتعالى، وهذه المعاني لما اجتمعت في دعاء استحق أن يسمى (سيد الاستغفار )، وهو أن يقول : " اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " [34].
4 - الموت والمستقبل:يمكن للعبد أن ينوي استثمار مستقبله فيما يرضي الله عز وجل، لكن تلك الإمكانية تبقى أمراً يمكن تحققه ويمكن عدم تحققه؛ لاعتبارات كثيرة؛ أهمها : إمكانية مفاجأة الموت للعبد في أي لحظة؛ إذ قد يصبح ولا يمسي، ويمسي ولا يصبح، وحين يدرك العبد ذلك فإن ذلك يحثه على المسارعة إلى تنفيذ ما عزم عليه من توبة وتصحيح لواقع حياته. وفي هذا المعنى يقول الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : " إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك " [35].
5 - التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم:غفر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومع هذا فقد كان صلى الله عليه وسلم يقول : " يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرة " [36].
ويقول : " والله ! إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة " [37]، ويقول صلى الله عليه وسلم : " إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة " [38]. وللعبد في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، قال الله تعالى :{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } (الأحزاب: 21). وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعدون له صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد قبل أن يقوم : " رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور " مائة مرة [39]. وما صلى صلاة قط بعد إذ أنزلت عليه سورة :{ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ }(النصر: 1) إلا قال فيها صلى الله عليه وسلم : " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي " [40].
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لن ينجي أحداً منكم عملُه. قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " [41].
6 - مرافقة الأخيار: إذ المرء على دين خليله، ولذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " اجلسوا إلى التوابين فإنهم أرق أفئدة " [42]. وقال محمد بن كعب القرظي : " التوبة يجمعها أربعة أشياء : الاستغفار باللسان، والإقلاع بالأبدان، وإضمار ترك العَود بالجَنان، ومهاجرة سيء الإخوان " [43].
7 - الاقتداء بالسلف الصالح: نظراً لعظم الذنب وشناعته فقد أدرك السلف أهمية التوبة، وقد روي عن الصحابة الكرام الشيء الكثير، ومن ذلك :
أ - عن خالد اللجلاج أن اللجلاج أباه أخبره : " أنه كان قاعداً يعمل في السوق، فمرت امرأة تحمل صبياً فثار الناس معها وثرت فيمن ثار، فانتهت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : " من أبو هذا معك ؟ " فسكتت، فقال شاب حذْوَها :أنا أبوه يا رسول الله. فأقبل عليها فقال : " من أبو هذا معك ؟ " قال الفتى : أنا أبوه يا رسول الله. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض من حوله يسألهم عنه، فقالوا : ما علمنا عنه إلا خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له : " أحصنت ؟ " قال : نعم. فأمر به فرُجم، قال : فخرجنا به فحفرنا له حتى أمكنا، ثم رميناه بالحجارة حتى هدأ، فجاء رجل يسأل عن المرجوم، فانطلقنا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا : هذا جاء يسأل عن الخبيث. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لهو أطيب عند الله من ريح المسك " ، فإذا هو أبوه ! فأعنَّاه على غسله وتكفينه ودفنه وما أدري قال : والصلاة عليه أم لا " [44].
ب - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إني عالجت امرأة في أقصى المدينة، وإني أصبت منها دون أن أمسها، فأنا هذا فاقض فيَّ ما شئت. فقال له عمر : لقد سترك الله لو سترت نفسك. قال فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فقام الرجل فانطلق، فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً دعاه، وتلا عليه هذه الآية :{ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ }(هود: 114)، فقال رجل من القوم : يا نبي الله ! هذا له خاصة قال : " بل للناس كافة " [45].
ج - قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا عن غزوة تبوك، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم عن سبب تخلفهم، فصدقوا في قولهم وأنهم لا عذر لهم، فقاطعهم النبي صلى الله عليه وسلم خمسين يوماً، ونهى المسلمين عن كلامهم حتى زوجاتهم، حتى أنزل الله توبتهم، ونزل فيهم قوله عز وجل :{ لَقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِي نَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } (التوبة: 117-118) [46].
د - عن سليمان بن بريدة عن أبيه، قال : جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! طهرني. فقال : " ويحك، ارجع فاستغفر الله وتب إليه " قال : فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال : يا رسول الله ! طهرني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فيم أطهرك ؟ " فقال : من الزنا، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبِهِ جنون ؟ " فأُخبر أنه ليس بمجنون. فقال : " أشرب خمراً ؟ " فقام رجل فاستنكهه، فلم يجد منه ريح خمر.قال : فقال رسول الله : " أزنيت ؟ " فقال : نعم. فأمر به فرُجم، فكان الناس فيه فرقتين : قائل يقول : لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئته. وقائل يقول : ما توبة أفضل من توبة ماعز؛ أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده في يده، ثم قال : اقتلني بالحجارة ! قال : فلبثوا بذلك يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال : " استغفروا لماعز بن مالك " قال : فقالوا : غفر الله لماعز بن مالك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم " [47].
وختاماً : إن هذا الواجب الكبير ليس يستغنى عنه عبد، ولا يعذر في تركه فرد، ولن يقوم شأن الأمة ما لم يبادر الأفراد إلي أداء واجباتهم، والتوبة مما فرطوا فيه في حق الله تعالى، بدلاً من التلاوم وإلقاء التبعات على الآخرين؛ تهرباً من المسؤولية، وهل الأمة إلا مجموع أفرادها ؟! نسأل الله سبحانه بمنِّه وكرمه العون والسداد، وأن يجود علينا بالنصر لدينه والمؤمنين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1) البخاري، رقم 6502 .
(2) البخاري، رقم 3470 .
(3) مدارج السالكين، ابن القيم، 1 / 199 .
(4) ابن ماجه، رقم 4250، وحسنه الألباني .
(5) الترمذي، رقم 1987، وقال : حسن صحيح، وحسنه الألباني .
(6) أحمد، رقم 21487، وقال محققه : حسن لغيره .
(7) مسلم، رقم 1890 .
(8) المعجم الكبير، للطبراني، رقم 7235، وقال عنه المنذري في الترغيب والترهيب، 4 / 113، وهذا إسناد جيد قوي .
(9) الترمذي، رقم 3334، وقال حسن صحيح، وحسنه الألباني .
(10) مسلم، رقم 2759 .
(11) مسلم، رقم 758، ابن ماجه، رقم 1367، واللفظ له .
(12) الطبراني في الكبير، رقم 7383، وصححه النووي في شرحه لمسلم : 17 / 40 .
(13) مسلم، رقم 2747 .
(14) ابن ماجه، رقم 4248، وحسنه الألباني .
(15) ابن ماجه، رقم 4251، وحسنه الألباني .
(16) مسلم، رقم 2985 .
(17) مسلم، رقم 1718 .
(18) جامع العلوم والحكم : 1 / 59 .
(19) الإبانة الكبرى، لابن بطة : 1 / 333 .
(20) ابن ماجه، رقم 4252، وصححه الألباني .
(21) الطبراني في الأوسط، رقم 8689، وقال الهيثمي في المجمع : (10 / 200)، إسناده جيد .
(22) البخاري، رقم 7507، مسلم، رقم 2758، واللفظ له .
(23) الترمذي، رقم 3537، وقال : حسن غريب، وحسنه الألباني .
(24) مسلم، رقم 2703 .
(25) الطبراني في الكبير، رقم 10478، وذكر المنذري في الترغيب والترهيب : (4 / 89) بأن إسناده جيد .
(26) الترمذي، رقم 2307، وقال : حسن صحيح، ووافقه الألباني .
(27) البخاري، رقم 6308 .
(28) الترمذي، رقم3540، وقال : حسن غريب، وصححه الألباني .
(29) مسلم، رقم 1695 .
(30) مسلم، رقم 1696 .
(31) أحمد، رقم 19619، وقال محققه : إسناده صحيح على شرط الشيخين .
(32) مختصر منهاج القاصدين، للمقدسي، 60 .
(33) الحاكم في مستدركه، رقم 8688، وصححه الألباني .
(34) البخاري، رقم 3606 .
(35) البخاري، رقم 6416 .
(36) مسلم، رقم 2702 .
(37) البخاري، رقم 6307 .
(38) مسلم، رقم 2702 .
(39) الترمذي، رقم 3434، وقال (حسن غريب)، وصححه الألباني .
(40) البخاري، رقم 4968، وأحمد، رقم 3745 .
(41) البخاري، رقم 6463، وأحمد، رقم 10614، واللفظ له .
(42) إحياء علوم الدين، للغزالي، 4 / 15 .
(43) مدارج السالكين، لابن القيم، 1 / 310 .
(44) أبو داود، رقم 4435، وحسن الألباني إسناده .
(45) مسلم، رقم 2763 .
(46) مسلم، رقم 2769 .
(47) مسلم، رقم 1695 .