فصل
في النهي عن تولية أهل الذمة
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118]
قال الألوسي:
(والبطانة خاصة الرجل الذين يستبطنون أمره مأخوذ من بطانة الثوب للوجه الذي يلي البدن لقربه وهي نقيض الظهارة ويسمى بها الواحد والجمع والمذكر والمؤنث و ( من ) متعلقة ب {لا تتخذوا }أو بمحذوف وقع صفة لبطانة، وقيل: زائدة،
و ( دون ) إما بمعنى غير أو بمعنى الأدون والدنيء، وضمير الجمع المضاف إليه للمؤمنين والمعنى: لا تتخذوا الكافرين كاليهود والمنافقين أولياء وخواص من غير المؤمنين أو ممن لم تبلغ منزلته منزلتكم في الشرف والديانة، والحكم عام وإن كان سبب النزول خاصاً فإن اتخاذ المخالف ولياً مظنة الفتنة والفساد) [تفسير الألوسي - (3 / 186)].
وقال القرطبي:
(أكد الله تعالى الزجر عن الركون إلى الكفار. وهو متصل بما سبق من قوله: {إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} والبطانة مصدر، يسمى به الواحد والجمع. وبطانة الرجل خاصته الذين يستبطنون أمره، وأصله من البطن الذي هو خلاف الظهر. وبطن فلان بفلان يبْطُن بُطونا وبِطانة إذا كان خاصا به. قال الشاعر:
أولئك خلصائي نعم وبطانتي ... وهم عيبتي من دون كل قريب
نهى الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء، يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أمورهم.
ويقال: كل من كان على خلاف مذهبك ودينك فلا ينبغي لك أن تحادثه.
قال الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ...فكل قرين بالمقارن يقتدي
ثم بين تعالى المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} يقول فسادا. يعني لا يتركون الجهد في فسادكم، يعني أنهم وإن لم يقاتلوكم في الظاهر فإنهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة، على ما يأتي بيانه) [تفسير القرطبي - (4 / 179)].
وروى ابن أبي شيبة في المصنف و ابن أبي حاتم في تفسيره: عن أبي الدهقانة، قال:
قيل لعمر بن الخطاب: إن هاهنا غلاما من أهل الحيرة، لم ير قط أحفظ منه، ولا أكتب منه، فإن رأيت أن تتخذه كاتبا بين يديك، إذا كانت لك الحاجة شهدك، قال: فقال عمر: قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين.
قال ابن كثير:
(ففي هذا الأثر مع هذه الآية دلالة على أن أهل الذَّمَّة لا يجوز استعمالهم في الكتابة، التي فيها استطالة على المسلمين واطِّلاع على دَوَاخل أمُورهم التي يُخْشَى أن يُفْشوها إلى الأعداء من أهل الحرب؛ ولهذا قال تعالى: { لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ } .
وقد قال الحافظ أبو يعلى:
حدثنا إسحاق بن إسرائيل، حدثنا هُشَيم، حدثنا العَوَّام، عن الأزهر بن راشد قال: كانوا يأتون أنَسًا، فإذا حَدَّثهم بحديث لا يدرون ما هو، أتَوا الحسن -يعني البصري-فيفسره لهم. قال: فحدَّث ذات يوم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تَسْتَضِيؤوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ، ولا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيا فلم يدروا ما هو، فأتوا الحسن فقالوا له: إن أنسا حَدّثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَسْتَضِيؤوا بِنَارِ الشِّركِ ولا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيا فقال الحسن: أما قوله: "ولا تَنْقُشُوا فِي خَوَاتِيمِكُمْ عَرَبيا: محمد صلى الله عليه وسلم. وأما قوله: "لا تَسْتَضِيؤوا بِنَارِ الشِّركِ" يقول: لا تستشيروا المشركين في أموركم. ثم قال الحسن: تصديق ذلك في كتاب الله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ }) [تفسير ابن كثير] .
وفي هذا دليل بين على حرمة استعمال أهل الذمة في أعمال المسلمين لما جبلوا عليه من بغض الإسلام وكراهيته، فكل من ولاهم أمرا من أمور المسلمين فهو ساع في هدم الإسلام .
وقد نبه القرافي في الفروق على أهمية استحضار ما في أهل الذمة من خصال ذميمة فقال:
(وينبغي لنا أن نستحضر في قلوبنا ما جبلوا عليه من بغضنا وتكذيب نبينا صلى الله عليه وسلم وأنهم لو قدروا علينا لاستأصلوا شأفتنا واستولوا على دمائنا وأموالنا وأنهم من أشد العصاة لربنا ومالكنا عز وجل ثم نعاملهم بعد ذلك بما تقدم ذكره امتثالا لأمر ربنا عز وجل وأمر نبينا صلى الله عليه وسلم لا محبة فيهم ولا تعظيما لهم ولا نظهر آثار تلك الأمور التي نستحضرها في قلوبنا من صفاتهم الذميمة لأن عقد العهد يمنعنا من ذلك فنستحضرها حتى يمنعنا من الود الباطن لهم والمحرم علينا خاصة ) [أنوار البروق في أنواع الفروق - (4 / 400)].
ثم ذكر قصة الشيخ أبي الوليد الطرطوشي مع الخليفة بمصر فقال:
(ولما أتى الشيخ أبو الوليد الطرطوشي رحمه الله الخليفة بمصر وجد عنده وزيرا راهبا وسلم إليه قياده وأخذ يسمع رأيه وينفذ كلماته المسمومة في المسلمين .
وكان هو ممن يسمع قوله فيه فلما دخل عليه في صورة المغضب والوزير الراهب بإزائه جالس أنشده:
يا أيها الملك الذي جوده … يطلبه القاصد والراغب
إن الذي شرفت من أجله … يزعم هذا أنه كاذب
فاشتد غضب الخليفة عند سماع الأبيات وأمر بالراهب فسحب وضرب وقتل وأقبل على الشيخ أبي الوليد فأكرمه وعظمه بعد عزمه على إيذائه فلما استحضر الخليفة تكذيب الراهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سبب شرفه وشرف آبائه وأهل السموات والأرضين بعثه ذلك على البعد عن السكون إليه والمودة له وأبعده عن منازل العز إلى ما يليق به من الذل والصغار.
ويروى عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول في أهل الذمة أهينوهم ولا تظلموهم وكتب إليه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن رجلا نصرانيا بالبصرة لا يحسن ضبط خراجها إلا هو وقصد ولايته على جباية الخراج لضرورة تعذر غيره فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ينهاه عن ذلك وقال له في الكتاب مات النصراني والسلام أي افرضه مات ماذا كنت تصنع حينئذ فاصنعه الآن ) [أنوار البروق في أنواع الفروق - (4 / 401)].
وقد كان أهل الجور والفساد من الأمراء يستعينون بأهل الذمة في أمورهم ولا شك أن في ذلك إعلاء لمنزلتهم ورفعا لهم على المسلمين بما يتنافى مع الصغار الذي أخذوا به الأمان.
وقد بلغت مكانة اليهود في زمن الدولة العبيدية أن قال القائل-في وصف ما هم عليه من العز والسؤدد:
يهود هذا الزّمان قد بلغوا ... غاية آمالهم، وقد ملكوا
العزّ فيهم والمال عندهم ... ومنهم المستشار والملك
يا أهل مصر إنّي قد نصحت لكم ... تهوّدوا قد تهوّد الفلك.
وحدث الأمر نفسه في دولة غرناطة حتى تحكم اليهود وصار الحكم كأنه بأيديهم
وفي ذلك يقول القائل:
تحكمت اليهود على الفروج ... وتاهت بالبغال وبالسروج
وقامت دولة الأنذال فينا ... وصار الحكم فينا للعلوج
فقل للأعور الدجال هذا ... زمانك إن عزمت على الخروج.
وفي ذلك يقول أيضا أبو إسحق الألبيري الصنهاجي:
وإني احتللت بغرناطة ... فكنت أراهم بها عابثين
وقد قسموها وأعمالها ... فمنهم بكل مكان لعين
وهم يقبضون جباياتها ... وهم يخضمون وهم يقضمون
ورخم قردهم داره ... وأجرى إليها نمير العيون
فصارت حوائجنا عنده ... ونحن على بابه قائمون
ويضحك منا ومن ديننا ... فإنا إلى ربنا راجعون
ولا شك أن هذا كله مناف لما ينبغي أن يكون عليه أهل الذمة من الصغار، فما دام الكفار على هذه الهيئة من الاستعلاء ورفض الصغار فليسوا أهل ذمة .
ولهذا كان أهل العلم يفتون بانتقاض عهد الذمي وإباحة دمه متى تولى المناصب وظهر منه عدم التزام بالصغار، وفي ذلك يقول ابن القيم:
(قال القاضي أبو يعلى وفي هذا دلالة على أن هؤلاء النصارى الذين يتولون أعمال السلطان ويظهر منهم الظلم والاستعلاء على المسلمين وأخذ الضرائب لا ذمة لهم وأن دماءهم مباحة لأن الله تعالى وصفهم بإعطاء الجزية على وجه الصغار والذل .
وهذا الذي استنبطه القاضي من أصح الاستنباط فإن الله سبحانه وتعالى مد القتال إلى غاية وهي إعطاء الجزية مع الصغار فإذا كانت حالة النصراني وغيره من أهل الجزية منافية للذل والصغار فلا عصمة لدمه ولا ماله وليست له ذمة ومن ها هنا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تلك الشروط التي فيها صغارهم وإذلالهم وأنهم متى خرجوا عن شيء منها فلا عهد لهم ولا ذمة وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل الشقاق والمعاندة ) [أحكام أهل الذمة - (1 / 121)].