· المستوى الثالث: مناطق شرق آسيا في الفلبين وأندونيسيا ومؤخرا جزر المالديف[11] "، ودول آسيا الوسطى خاصة تركستان الشرقية وطاجكستان وأوزباكستان، وتضم هذه البلدان جماعات جهادية تمرَّس بعضها على القتال في مراحل الجهاد الأفغاني وكذلك في بلدانها.
· المستوى الرابع: لبنان: "حركة فتح الإسلام وعصبة الأنصار" وقطاع غزة: "جيش الأمة وجيش الإسلام وفتح الإسلام وسيوف الحق"، وجميع هذه القوى فلسطينية الطابع ما عدا حركة فتح الإسلام التي تعرضت لحرب استئصالية شنها الجيش اللبناني على معقلها في مخيم نهر البارد شمال لبنان، بالإضافة إلى سوريا حيث تنشط بعض المجموعات بين الحين والآخر تحت مسمى: "جند الشام" أو "قاعدة الجهاد في بلاد الشام"
لكنها غير واضحة المعالم حتى الآن، وكذلك في مصر: "قاعدة الجهاد في أرض الكنانة".
· المستوى الخامس: يشمل خلايا المبادرة الذاتية أو ما يطلق عليه أمنيا بـ "الخلايا النائمة"، وهذا النوع ينشط عبر العالم من خلال أفراد لا تربطهم صلات تنظيمية مباشرة بالقاعدة أو جماعات الجهاد العالمي.
هذه المستويات الخمسة من الأدوات الضاربة تخص الجبهات الساخنة للجهاد العالمي، وفيما عدا المستوى الأول ذو الجبهات المفتوحة وإلى حد ما المستوى الثاني يمكن بيسر أن نلاحظ، حينا ما، تَقدُّم إحدى الأدوات على ما عداها أو ارتقائها إلى مستويات أكثر فاعلية حينا آخر كما حصل في المحاكم الإسلامية في الصومال والتي خرجت من رحمها حركة الشباب المجاهدين لتحسم الموقف وتشكل إحدى أقوى الأدوات الضاربة ضد القوات الأثيوبية المحتلة، وهذا يؤشر على مخاض متواصل لفعاليات الجهاد العالمي يتخذ شكلا طارئا (نشاط الخلايا النائمة) أو ثابتا لكنه ضعيف (غزة) أو ساعيا لتأسيس انطلاقة قوية كـ (فتح الإسلام في لبنان) أو تشكيلات قوية جدا لكنها مغمورة إعلاميا كما هو حال الحركات الإسلامية في آسيا الوسطى خاصة في أوزباكستان وبدرجة أقل في تركستان الشرقية.
لكن هناك مستوى سادس أشرنا إليه في سياق جبهة الأنصار وهو مستوى هلامي غير محدد المعالم لكنه مرشح لِأنْ يلعب الدور الأخطر مستقبلا على صعيد الجهاد العالمي كونه يتعلق بجماعات إسلامية تتمتع بالعالمية لكنها ذات توجهات سلمية، على الأقل في الوقت الحاضر، كالإخوان المسلمين والتبليغ والدعوة وحزب التحرير وحتى جماعات الصوفية.
فلم يعد خفيا القول أن بعض هذه الجماعات تشهد صراعات باطنية تمس صميم أطروحاتها العقدية تجاه بعض القضايا الخلافية كالديمقراطية والمشاركة السياسية والجهاد والحاكمية والتحالفات غير المفهومة لبعض أجنحتها خاصة في أفغانستان والعراق فضلا عن التنكر لظاهرة الجهاد العالمي (الإخوان المسلمين) أو تعليق فريضة الجهاد بانتظار الخليفة حتى في البلدان المحتلة (حزب التحرير) أو التعهد بهجرة العمل السياسي وتحريمه (الدعوة)، كما أن المخازن البشرية لهذه الجماعات تتعرض إلى هجمات متواصلة من قادة الفكر الجهادي العالمي وأنصاره، وقد يؤدي هذا، في مراحل لاحقة، إلى إحراجها وتحقيق اختراقات في أطروحاتها الشرعية والأيديولوجية بما يسمح باستنزاف في مواردها البشرية التي قد تجد نفسها مخدوعة ومدفوعة إلى تبني أطروحات الفكر الجهادي العالمي بدلا من الدخول في مماحكات سياسية وأيديولوجية وتنظيمية عقيمة.
ولا ريب أن رموز السلفية الجهادية وروادها يعلمون أن تحقيق أية اختراقات لا تعني بشكل أو بآخر السعي إلى هدم ما تعتبره أصلا رصيدا للجهاد العالمي بقدر ما يعني هدم الأطروحة التنظيمية التي تعتبرها سياسية بالدرجة الأساس وإنْ تلبست باجتهادات شرعية، وهي رؤية باتت تجد لها قبولا لدى الكثير من أفراد الجماعات إياها وتبعث على الاطمئنان في نفوسهم من أن الهدف هو الحرص عليهم من أن يجاهدوا أو يقضوا تحت "رايات عميَّة" كما تصفها السلفية الجهادية.
المحور الثاني: السلفية الجهادية والجماعات الأخرى
من المثير حقا أن تستقر السلفية الجهادية فاعلا استراتيجيا نشطا على الساحة الدولية في بضع سنين خلت خاصة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، لذا، لكن، وفي ضوء ما سبق بيانه من هوية وتيارات ضاربة،
ينبغي التأكيد على أن الظاهرة لا يمكن لها أن تكون فعالة على المستوى الدولي وهي تقارع الولايات المتحدة الأمريكية خاصة وقوى الغرب عامة ولا تكون كذلك على المستوى الإسلامي في موازاة الجماعات الإسلامية الأخرى ذات الصبغة العالمية، ذلك أن هذه الجماعات تمثل بالنسبة لها الاحتياط الاستراتيجي الذي تنهل منه وستنهل منه لاحقا ولو على المستوى الفردي، كمرحلة أولى، بسبب جاذبية الخطاب السلفي.
فالسلفية لا تعنيها كثيرا الجماعات الإسلامية المغمورة أو التي حشرت نفسها في أطر جغرافية أو خدمية ضيقة لم تتجاوزها منذ عشرات السنين مثلما تعنيها الجماعات ذات الانتشار العالمي الذي لا يخلو منه بلد إسلامي أو غير إسلامي، وهذا يعني أن السلفية تعمل بموجب نظام العولمة الذي يحقق لها تواصلا مع الرصيد في مختلف البلدان والمناطق. لكن كيف يمكن التمييز بين السلفية الجهادية وغيرها من الجماعات الأخرى؟ وأية فائدة قد تجنيها السلفية من "قريناتها"؟
الحقيقة أن الإجابة تكمن في الفهم الدقيق لـمضمون "الشمولية" التي يطرحها المقدسي، وهو مضمون عقدي بالدرجة الأساس، فقد عاش العالم الإسلامي ردحا من الزمن اختلط فيه التوحيد بالشرك عبر تقديس الأولياء والزوايا والقبور، وتسببت الكثير من الفرق الضالة والتخلف في شيوع ظاهرة التمائم والترانيم والأساطير والخرافات والبدع وكأنها جزء من العقائد وطرائق للعبادة فيما هي شرك من حيث يعلم المعتقدون بها أو يجهلون، لذا استهدفت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، في جانب منها، وكذا أئمة الدعوة محاربة هذه الانحرافات وتصحيح الاعتقاد، بل أن الدعوة السلفية اشتهرت عالميا باعتبارها دعوة للتوحيد بشقيه عبر محاربة: "شرك القبور" و "شرك الحاكمية"، وبصيغة أخرى فالدعوة استهدفت تحقيق "التوحيد الاجتماعي" و"التوحيد السياسي"، إذ ما من معنى لمحاربة مظاهر الشرك لتحقيق التوحيد دون استكماله بإقامة الحاكمية.
لكن مع مرور الوقت ثبتت الأولى "محاربة شرك القبور" تدريجيا فيما سقطت الثانية "شرك الحاكمية" كليا إلا حين يكون ثمة حاجة لتنزيلها في موضع معين. ومثل هذا الأمر يشمل، مثلا، بعض علماء "السلفية العلمية" أو النظرية التي تقول بكفر الشرائع الوضعية التي لا تحكم بما أنزل الله، ولكنها عاجزة عن تنزيل الحكم على الواقع. لذا ترى السلفية الجهادية أن المعنى الشمولي للتوحيد، كالذي تحدث عنه المقدسي، يتطلب تحقيق شقي التوحيد الاجتماعي والسياسي في آن واحد، ولا يجوز "إقامة" أحدهما و "تأجيل" الآخر إلى يوم الحساب. هذا مع العلم أن المصادر والمرجعيات الشرعية للسلفية العلمية والجهادية واحدة بحيث لو قارنا مثلا بين الشيخ صالح الفوزان والشيخ علي الخضير أو أحمد الخالدي لما وجدنا خلافات تذكر فيما يتعلق بفقه التوحيد.
وفي ضوء هذا الفهم، فالإشكال واقع ليس في اختلاف مصادر التشريع ومرجعياته بقدر ما هو واقع في تنزيل الحكم الشرعي، أو بمعنى آخر بين النظرية والتطبيق. فكيف يمكن تفسير ما ذهب إليه بعض العلماء من تشريع للجهاد الأفغاني والشيشاني، في مرحلة ما، ثم نبذه في مراحل لاحقة فضلا عن إنكاره في العراق؟ فهل تغيرت المصادر والمرجعيات؟ وإلا فبأية مشروعية جاهدوا ونزّلوا الحكم؟ وبأية مشروعة نقضوا ما سبق وأجمعوا عليه؟ وبأية مشروعية يكون الجهاد في مكان ما ولحظة ما من الزمن مشروعا؟ وبأية مرجعية يكون "قذارة" أو قتالا في سبيل الطاغوت؟ وفي ضوء هذا الفهم أيضا، وعبر المنهج والعقيدة، يمكن بسهولة ملاحظة ذات الإشكاليات والاختلافات بين السلفية الجهادية والجماعات الأخرى.
فقد تمتعت جماعة الإخوان المسلمين، في بداية النشأة، بنهج سليم فيما يتصل بالدعوة إلى حاكمية الشريعة
والسعي لإقامة الخلافة الإسلامية، لكنهم، فيما بعد، "أرجؤوا"[12]، وصار لهم اجتهادات وتأويلات تبرر وتشرِّع لمفاهيم الديمقراطية والشرعية الدولية والقوانين والعمل بموجب الدساتير الوضعية، فشاركوا في الانتخابات ومجالس النواب وأعلنوا "احترامهم" للقوانين والمعاهدات وما شابهها، وتبرؤوا حتى من هدف إقامة الدولة الإسلامية ناهيك عن اللبس الذي يرافق شعار "الإسلام هو الحل" وما إذا كان ما يزال صالحا للعرض أم لا؟ ورغم أن الجماعة هي الأقرب للسلفية الجهادية، بالنظر إلى تاريخها وخروج الكثير من العلماء وقادة الجهاد العالمي من رحمها أمثال سيد قطب وعبد الله عزام، إلا أنها تبدو اليوم أقرب إلى كونها جماعة اقتصادية كبرى تنشط في تنمية الرأسمال ومصادره أكثر بكثير مما هي جماعة دينية، ولا شك أن هذا التوجه دفع الجماعة إلى البحث عن الاستقرار والأمن وتدعيمه كي يتسنى لها الاستثمار في السوق وتنمية مواردها عبر بناء الجمعيات والمؤسسات والمصانع والدخول في الصفقات التجارية والمالية وسائر النشاطات الاقتصادية، وفي هذا السياق بالضبط يجري توصيف الجماعة من قبل السلفية الجهادية باعتبارها إحدى أدوات ومنتجات سايكس – بيكو. إذ لا فرق بينها وبين أي حزب أو مؤسسة أو جماعة، وهو ما يفسر أغلب مواقفها السياسية وتحالفاتها، ولأنها لا يمكن أن تكون معادية، فهي إما مشاركة في السلطة أو حليفة لها أو ساعية إليها بقطع النظر عن هويتها سواء كانت محلية أو قوة احتلال أجنبية كما هو الحال في العراق وأفغانستان.
إذن فالجماعة على مستوى المنهج لم يعد الجهاد حتى إحدى وسائل التغيير لديها، بل أنها بتوجهاتها الجديدة، الباحثة عن الأمن والاستقرار، يبدو من غير المنطقي مطالبتها بإعلان الجهاد أو دعم السلفية في جهادها على الأقل ضد "طواغيت العجم"، بل أن التصريحات "الشخصية" لمرشد الجماعة محمد مهدي عاكف من الجرأة بحيث تصل إلى حد إنكار وجود القاعدة: "أنا شخصيا لا اعتقد أن هناك تنظيم القاعدة" واعتبار الفكر السلفي الجهادي: "فكر منحرف يسري بين شباب الأمة بتحريض من العدو الصهيوني والأمريكي وتصرفاته ضد العرب والمسلمين"[13]، والأكيد أن مثل هذه التصريحات منسجمة إلى حد بعيد مع توجهات الجماعة، ولو كان الأمر غير ذلك لتوجب على المرشد العام والجماعة أن يردا على تساؤلات رموز السلفية الجهادية التي باتت تدرك أن توجيه الخطاب للقواعد أجدى من توجيهه إلى قيادات "تخلت عن الحاكمية" وأخرى "باعت دينها"[14].
أما حزب التحرير الرديف المحتمل للسلفية الجهادية بوصفه حركة عالمية، فلا يقل وضعه حرجا عن غيره من الجماعات بنظر السلفية. فهو حزب سياسي أكثر منه جماعة إسلامية، وهو يشكو تاريخيا من غياب العلماء وطلبة العلم، بل أنه لا يهتم لا بالعلم ولا بالعلماء، وبالتالي فتراثه المعرفي أو الفقهي يكاد يكون موقوفا على مؤسسه الشيخ تقي الدين النبهاني، وهي مسألة تضع عقيدة الحزب برمتها تحت المساءلة ليس فقط من قِبَل السلفية الجهادية بل ومن أية جماعة جهادية أو حركة مقاومة وطنية، أما من حيث المنهج فالجهاد موقوف عنده على ظهور الخليفة بما يشبه انتظار المهدي المنتظر حتى في أحلك الظروف سواء تعرضت البلاد لاحتلال مباشر أو حكم مستبد[15]، وهذا يعني تعطيلا تاما للجهاد سواء حضرت السلفية أو غابت، والغريب في الحزب أنه يحتجب عن ساحات الإعلام طويلا ثم يظهر فجأة عبر حشود بشرية مفاجئة[16] كمن يغيب دهرا ويحضر شهرا.
ومع ذلك فالمسافة بينه وبين السلفية الجهادية ليست صوفية الطابع، فهو يلتقي معها، نظريا، في مسألة إقامة الخلافة والحاكمية إلا أنه يبتعد عنها واقعيا في إعلان الجهاد، ولا شك أن وقائع التصدعات في الحزب تشابه إلى حد كبير مثيلاتها لدى الإخوان المسلمين. فمنذ نشأته كانت له صولات وجولات في عديد الدول العربية أملا في تحقيق انقلاب ما يتيح له إعلان الدولة والخلافة لينطلق في مجاهدة "الكفار"، وكانت أبرز محاولاته في الأردن والعراق ومصر وتونس ثم توقف بعد حرب العام 1967، والآن ينشط في دول آسيا الوسطى خاصة في وادي فرغانه، والسؤال: هل يخرج الحزب من عزلته؟ أم سيشهد تصدعات على خلفية مواقفه كما حدث في حالة عمر بكري، الذي قاد الحزب في بريطانيا حتى عام 1996 ثم انشق عنه ليؤسس ما عرف بجماعة المهاجرين ذات التوجه المناصر للجهاد العالمي؟
وإذا كانت الصوفية موقوفة على مظاهر الشرك والبدع والضلالات مما لا يخفى على أحد، وهذه لا تنفع السلفية الجهادية لا بالسياسة ولا بالجهاد، فالأمر، منهجا وعقيدة، أبعد ما يكون عن تمني السلفية ِلأنْ يكون لمثل هذه الجماعة دور يذكر في شأن الأمة إنْ لم تكن، أصلا، خارج حسابات الإسلام والمسلمين.
لكن فيما يتعلق بجماعة الدعوة والتبليغ ذات النشأة الآسيوية (الهند وباكستان) فالمسألة فيها نظر[17]. فقد قيل الكثير في الجماعة إنْ سلبا أو إيجابا، وعلى كل مستوى بدء من نشأتها الصوفية مرورا بنقد فتاواها ومناهجها وعقائدها رغم تنوعها واختلافها من بلد لآخر وانتهاء بـ "جهودهم الدعوية الحسنة". أما منهج الجماعة، التي يصفها البعض بالعزلة عن العالم، فهو سلمي تجاه كافة المكونات الاجتماعية والسياسية، فلا هي تهاجم السلطة ولا تدخل في أية صراعات سياسية أو حزبية، بل هي ممن ينأى بدعوته عن السياسة بفصلها الدين عنه وعن الدولة، الأمر الذي يعرِّض دعوتها للطعن خاصة وأن الإسلام هو "دين ودولة" ولا يجوز "تبعيضه"، وهي بهذا أقرب ما تكون إلى "التوحيد الاجتماعي" من قربها إلى "التوحيد السياسي". والحقيقة أن أكثر الطعون الموجهة لها تقع في مسألة التوحيد وما يسميه البعض بـ "الخروج" عند الجماعة ذلك المصطلح الذي جعلت منه "الركن الأساسي الذي لا تصح الدعوة دون القيام به" بينما "الخروج" عند السلفية الجهادية هو تعبير مرادف للجهاد[18] وفق النص القرآني. ولعل السبب في ذلك نشأتها الصوفية، لكن مصدر الطعون بالدرجة الأساس تمس الجماعة من حيث الجهل في طلب العلم الشرعي وتركها للفقه، فرغم أنها تدعو إلى طلب العلم وأخذه عن العلماء[19] إلا أنها غالبا ما توصف بالجهل كلما رأت في العلم "طاغوتا" وكلما تمسكت أكثر بكتاب "رياض الصالحين" كواحد من أهم المراجع الذي "يتداوله الأعضاء كل يوم خميس حتى يتوفاهم الله" على ذمة أحدهم.
في المحصلة لا وجود لسياسة شرعية أو غير شرعية عند الجماعة، وبالتالي لا جود لأي تراث جهادي لا في عقائدها ولا في مناهجها، فضلا عن أن الصفات الست[20] التي تعمل بموجبها لإصلاح الناس أُنكرت من قبل العلماء لا من حيث الطعن بمحتواها بل من حيث النقص في تعبيرها عن شقي التوحيد. والثابت عن الجماعة أنها لم تزعم يوما أنها تمثل الإسلام أو المسلمين، ولأن كل ما تفعله هو"الهداية"، فليس للجماعة أية نوازع أو طموحات تذكر في العمل السياسي وغيره، وحتى النشاط الدعوي الذي تمارسه يلخصه البعض بعبارات لا تخلو من دلالة وهو يرى أن الجماعة تستطيع إدخال الشبان إلى المساجد لكنها قلما تستطيع الاحتفاظ بهم، ومثل هذا الوضع يجعل من الجماعة غير المحصنة سياسيا أو عقديا أو أيديولوجيا أو تنظيميا وجبة دسمة يسهل افتراسها أمنيا.
لكن ما لا تستطيع أية جماعة أن تجاريهم فيه، ويشهد لهم فيه العامة والخاصة، هو تمتعهم بأخلاق رفيعة وأدب جم* واستهدافهم، في دعوتهم، العامة من الناس، فيخرِّجون شبانا على الفطرة ليسوا مؤدلجين ولا هم حزبيين ولا منتمين لأي فكر إسلامي، وهو أفضل ما يخدم السلفية الجهادية التي تبحث عن أنصار ومتطوعين لم تلوثهم الأيديولوجيات العلمانية و "ثقافة سايكس – بيكو". وهنا بالضبط يمكن أن نفهم لماذا تبدو الجماعة في غزة، مثلا، منأقرب الجماعات إلى السلفية الجهادية، ولماذا التحق المئات منهم بساحات الجهاد العالمي. وفي هذا السياق لما سئل خطاب قائد المجاهدين العرب في الشيشان من قبل إبراهيم الداغستاني عضو جماعة التبليع عن رأيه في الجماعة أجاب: "إن الجهاد والدعوة جناحان لطائر واحد"[21]، وهي إجابة كافية ليطير بها "الداغستاني" فرحا إلى بلاده وجماعته كي ينشط في تصدير عشرات الشبان منها إلى الجهاد الشيشاني. أما الشيخ عبد الله عزام فكانت شهادته عن أخلاق الجماعة تزكية غير مسبوقة وهو يقول: "رأيت أحسن المجاهدين أخلاقاً الذين كانوا قبل جهادهم في جماعة التبليغ"[22].
إلى هنا يمكن القول أن الجماعة التي يراها البعض "صوفية بثوب جديد" وهي تفترض على العضو المبايع أن يدلي بقَسَم يمتنع بموجبه عن الاشتغال بالسياسة الشرعية بما يصل إلى درجة التحريم، ليست سيئة بالنسبة للسلفية الجهادية كما هو الحال تجاه أغلب رموز السلفية العلمية ناهيك عن الكثير من الفرق كالمدخلية والجامية.
[1] قارن مع تصريحات محمد مهدي عاكف مهدي عاكف، منتدى حوار موقع الـ BBC: "مرشد جماعة الإخوان المسلمين مهدي عاكف يرد على أسئلتكم "، شباط / فبراير 2007.
http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/talking_point/newsid_6370000/6370217.stm.
[2] أطرف ما قيل في مايكل شوير رئيس الوحدة المكلفة بملف أسامة بن لادن في وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، حين كان يمازحه أصدقائه: "لعل شيطان أسامة قد ركبك!"، ذلك أن الرجل أدرك بعضا من عقل أسامة وخطاب السلفية وبات يتحدث بلغتها، ومع ذلك فقد فشل في القبض على غريمه وتم حل الوحدة وإقالته من منصبه.
[3] لاحظ ردود الفعل العنيفة على خطاب بن لادن لـ: "أهل العراق - 23/10/2007 " وكيف تعرضت قناة الجزيرة إلى نقد مرير وإعلان حرب عليها بسبب ما اعتبرته السلفية الجهادية تلبيسا للخطاب وتحويرا له عن مقاصده وإغفالا للقضايا الأخرى حين ركزت ومعلقيها على ما اعتبرته انتقاد بن لادن لأخطاء القاعدة في العراق بينما النقد وجه لجميع الجماعات وحتى الأفراد وعلى الخصوص منهم القاعدة باعتبار بن لادن زعيما لها. راجع: رد مؤسسة السحاب الذراع الإعلامية للقاعدة والصادر عن مركز الفجر للإعلام (23/10/2007)، وكذلك الهجمة التي قادها العضو "محب الإرهاب" نائب المشرف العام على شبكة الإخلاص، وكذا انتقادات د. أيمن الظواهري لأداء الجزيرة الانتقائي تجاه خطابات القاعدة في لقائه الرابع مع مؤسسة السحاب (17/12/2007).
[4] في الدراسة موضع النظر سنعتمد مصطلح "السلفية الجهادية" إجرائيا بديلا عن أية مصطلحات أخرى لسلاسة المفهموم وشيوعه وسهولة استعماله في البحث.
[5] حتى سقوط كابول بيد المجاهدين الأفغان سنة 1991 كان عدد المتطوعين العرب القادمين من السعودية قد بلغ قرابة الـ 20 ألف متطوع. راجع: أبو مصعب السوري (عمر عبد الحكيم)، دعوة المقاومة الإسلامية العالمية، طبعة ذي القعدة 1425هـ/ ديسمبر 2004م، ص 896. واستشهد من المتطوعين العرب 1000 مقاتل من العدد الإجمالي خلال المرحلة الأولى من الجهاد الأفغاني.
[6] أنظر رأي الشيخ عطية الله، لقاء خاص مع مركز اليقين، وبحسب المركز فقد [أنجز اللقاء عبر المراسلة في العشر الأواخر من جمادى الأولى 1428 هـ/ يونيو2007 م]، وكذلك حوار أجرته صحيفة الأيام (12/1/2007) مع "أحد القادة البارزين لجيش الأمة في قطاع غزة"، منشور على موقع الجيش:
http://www.al-amanh.net/arabic/modules.php?name=News&file=article&sid=32
[7] حوار مع الشيخ أبي محمد المقدسي أجراه معه مندوب مجلة العصر الإلكترونية وصحيفة المرآة، 1423هـ، وبحسب منبر التوحيد والجهاد فقد "نشر أجزاء من هذا الحوار في مجلة المرآة في الأردن ونشر في مجلة العصر الإلكترونيةثم سحب بعد دقائق!!". على الشبكة: http://www.tawhed.ws/r?i=83&a=p&PHPSESSID=6e7cd3991ebce2b89175bbbacb81c a16
[8] نفس المصدر.
[9] نفس المصدر.
[10] في الحقيقة ثمة بعض المحاولات كالتي قام بها أبو مصعب السوري، وحتى هذه اعتذر فيها عن التأريخ لتجربة القاعدة في مرحلتي الجهاد الأفغاني. ومما يلفت الانتباه أن الكثير من الأسئلة التي وجهت للظواهري في اللقاء المفتوح الذي أعلن عن تنظيمه مؤسسة السحاب بالتنسيق مع مركز الفجر التابعين لقاعدة الجهاد (16/12/2007) عبر أربع شبكات جهادية تتولى تلقي الأسئلة هي: "الحسبة والإخلاص والفردوس والبراق" تساءل أصحابها عن غياب التأريخ للتجارب الجهادية.
[11] صدر شريط مرئي (17/11/2007) مدته أقل من دقيقتين عن "أنصار المجاهدين" يعرِّف بجماعة جهادية في جزر المالديف على وشك الظهور.
[12] واقع الأمر أن الإخوان لم يفلتوا من خطابات أي من رموز السلفية الجهادية ابتداء من أسامة بن لادن والظواهري وأبو الليث الليبي وأبو يحيى الليبي وعطية الله مرورا بأبي عمر البغدادي وانتهاء بأبي حمزة المهاجر الذي وصفهم، في أحد خطاباته، بذوي"التاريخ النكد" وتعميمهم لـ "منهج الإرجاء" على نطاق الأمة. لكن مع ذلك يمكن استثناء حركة حماس الفلسطينية بوصفها حركة جهادية مع أن قيادتها لم تسلم من النقد الشديد الذي طالها من كافة رموز الجهاد العالمي على خلفية مشاركتها في العمل السياسي بموجب إفرازات اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل سنة 1994 فضلا عن مواقف قيادتاها وتحالفاتها السياسية على المستوى الفلسطيني والعربي والدولي.
[13] محمد مهدي عاكف، منتدى الـ BBC، مصدر سابق.
[14] التخلي عن الحاكمية وردت في أغلب خطابات ولقاءات د. أيمن الظواهري، أما بالنسبة للشيخ أسامة فأول نقد وجهه لقيادة حركة حماس ورد في خطابه"السبيل لإحباط المؤامرات"، شريط صوتي، مؤسسة السحاب، 29/12/2007.
[15] لا أظن أن هناك حاجة لإثبات توجها الحزب في فلسطين كمثال لشعب واقع تحت الاحتلال أو أوزباكستان كمثال لنظام حكم مستبد تمتلئ سجونه بعشرات الآلاف من أعضاء الحزب دون أن يكون له موقف إلا انتظار الخليفة ليعلن الجهاد. حبذا لو تمت مراجعة مقالة أبو بصير الطرطوسي: "حزب التحرير وسياسة تسمين الخراف" عن مواقف الحزب من الجهاد عامة وموقفه من نظام حكم الرئيس الأوزبكي إسلام كريموف خاصة إثر أحداث أنديجان (13/5/2005) التي ذهب ضحيتها مئات القتلى، واتهم النظام حزب التحرير الأوزبكي بالوقوف وراءها. على الشبكة:
http://www.tawhed.ws/r?i=3557&PHPSESSID=6e7cd3991ebce2b89175bbbacb81ca1 6
[16] في مسيرات ذكرى انهيار الخلافة، مرة في رام الله (12/2/2007) ومرة في أندونيسيا (12/8/2007).
[17]بالنسبة لأجهزة الاستخبارات الأوروبية فالجماعة "تشجع أتباعها على انتهاج "الإرهاب"، لكنهم أقروا في الوقت نفسه بعدم وجود أدلة على ذلك"، وبحسب مسؤول استخبارات فرنسي فالجماعة:"تعد أرضاً خصبة لنشر الإرهاب"، ونقلا عن صحيفة "نيويوك تايمز - 28/4/2005" فإن: "عدة إرهابيين خرجوا من تحت عباءة هذه الجماعة" من بينهم زكريا الموسوي أحد المتهمين بصلته في هجمات 11 سبتمبر. راجع: فكري عابدين، "أوروبا تفتح النار على "التبليغ والدعوة"، نقلا عن موقع "إسلام أن لاين":http://www.islamonline.net/Arabic/news/2005-04/28/article08.shtml
[18] {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} التوبة46 ... لهذا يتهمها أغلب العلماء بالبدع والشطط في فتاواها كموقفها من الجهاد مثلا.
[19] لمزيد من الاطلاع على عقائدها، يفضل تفحص موقع الجماعة على الشبكة: http://binatiih.com/go/.
[20] الصفات الست هي: (1) تحقيق لا إله إلا الله محمد رسول الله (2) الصلاة ذات الخشوع والخضوع (3) العلم مع الذكر (4) إكرام المسلمين (5) إخلاص النية (6) الدعوة إلى الله والخروج في سبيله.
* من المثير حقا أن لجماعة الدعوة ما يشبه منظومة "إيتيكيت" بالغة اللطف وهي تتجلى في سلوك الأعضاء خلال زياراتهم للمرضى أو حين تجولهم في الحارات وطرق أبواب البيوت ودعوتهم الشبان لحضور دروس "الهداية" والنصح والإرشاد في المساجد.
[21] أبو عبيدة المقدسي، شهداء في زمن الغربة، ص 18.
[22] نفس المصدر، ص49.