همسة
دعوني أعيش.. صرخة أقذفها في وجه من أحب.. لا تتركوني أسيراً للهموم.. غريقاً في المخاوف.. صريعاً للضياع..!!
خريطة الإهتمام
يا أبتي: من حقي أن يكون لي أب أفتخر به وبوجوده وبانتمائي إليه..
فإذا كنت في المدرسة تمنيت أن يسأل عني فأفتخر به وتنتصب به قامتي أمام أساتذتي وصحبتي.
وإذا كنت في المسجد تلهفت أن يسأل عن مقدار حفظي من كتاب الله وكيف يكون سلوكي مع الله في شعائره ومع الناس في معاملتهم، فيستعز هو بما يسمع و أفتخر أنا بما يعلم.
وإذا كنت خارج البيت رجوت أن يسأل عن أولئك الذين أصاحبهم وألهو معهم فيختار لي جليسا صالحا أزداد به كرامة في الدنيا وسعادة في الآخرة، ويحذرني من جليس السوء ورفيق المعصية وزميل الخطيئة ممن يعدي كما يعدي السليم الأجرب و"الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " (صحيح الجامع).
عن المرء لا تسأل وسئل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي (عدي بن زيد)
وإذا كنت في داخل البيت تمنيت أن يعلمني كيف أقضي وقتي؟ وكيف أمارس هوايتي؟ وكيف أعامل والدتي وإخوتي؟
وإذا كنت في السوق رغبت أن يثق بي من غير تفريط فيرشدني في بيعي وشرائي وأخذي وإعطائي وبذلي ومنعي. فأين التوجيه والإرشاد لسبيل الخير والسداد؟
وأين المتابعة والمراقبة؟ ثم أين الحساب والعتاب والعقاب؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة" (رواه البخاري ).
همسة
يا أبتي: المدرسة تشتكي، والمسجد يحن، والبيت يئن، والرفاق يتنافسون.
فأين موقعي في خريطة اهتمامك وأعمالك؟
وماذا أنت صانع معي ولي؟!
خطأ الأمس
يا أبتي:إني أفتش في صدور القوم المحيطين بي عن حب لي وعطف علي، فلا أجد سوى قلوب ملئت حقداً وبغضاً، وأبحث عن السبب في صفحات الماضي التي طواها الزمن فأجدني قد أذقتهم مر الإساءة والأذى.
فما زالت يدي تعبث في بيوتهم، فتهشم ممتلكاتهم، وتتلف مقتنياتهم..
وما فتئ لساني يقدح فيهم وينتقصهم ويلمزهم ويسخر منهم..
وما برحت أضرب أبناءهم وفلذات أكبادهم، وأتعدي عليهم أمام أسماعهم وأبصارهم فتنهشني أعينهم، وتهطل علي وابل لعنات قلوبهم وتكاد تسقط عين أحدهم أمامه لفرط دهشته منك عندما لا يراك تحرك ساكناً أو تسكن متحركاً.
فإذا قام قائمهم ليعنفني بكلمة، أو ليقومني بضربة نظرت إليه شزراً، وقمت معاتباً وذهبت مغاضباً.
حرص بنيك على الآداب في الصغر كيما تقر بهم عيناك في الكبـر
وإنما مثــل الآداب تجمعـها في عنفوان الصبا كالنقش في الحجر
يا أبتي: كان الخطأ مني مصدر لطافة ودعابة وشقاوة في مبتداه. ثم صار طبعاً يسري في عروقي ويخالط سجيتي في منتهاه، فكيف أصلح اليوم خطأ الأمس؟ وقد ترسب في النفس؟ قد ينفع الأدب الأحداث في صغر وليس ينفعهم من بعده الأدب
إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت وليس يلين إذا قومته الحطب
فهلا قومت أخطائي، وعاقبتني على زلاتي، وألزمتني حدودي، حتى لا تعظم خطيئتي، ويكبر عدواني، ويزداد أعدائي.
بين مشرق ومغرب
يا أبتي: يهتز قلبي فرحاً ويمتلىء وجداني سروراً عندما أكون طوع أمرك وأمر والدتي، فأمتثل أمركما وألتزم بما يصدر عنكما ومنكما في غير معصية الله تعالى.
ولكن الحيرة تمتلكني، والدهشة تسكنني، وأقف مذهولاً عندما تتنازعني رغباتكما المتباينة، وآراؤكما المختلفة، وأقوالكما المتضاربة وأوامركما المتضادة.
سارت مشرقة وسرت مغرباً شتان بين مشرق ومغرب
فأنت تأمرني بأمر والدتي تنهاني عنه..
وأنت تحثني على عمل والدتي تحذرني منه..
وأنت ترغبني في شأن والدتي تتوعدني عليه..
وأصبحت أعيش بين مشرق ومغرب، فرضاك مقرون بسخطها ورضاها ملزوم بسخطك.
فمن أرضي منكما؟ ومن أسخط؟
ولماذا أخسر الأول لأكسب الآخر؟!
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (29) سورة الزمر
أرجوك- يا أبتي- لا تجعلني نهباً للصراع، ووقوداً للنزاع.
أرجوك يا أبتي لا تتركني أسيراً للتناقضات ورهيناً للخلافات.
كن مع الحق، وتمسك به بصدق، وأصلحه برفق.
وتراجع في الخطى عن الخطأ، وأحسن مداراة الأمور مع والدتي، ووحد وجهات النظر ومسار التوجيه.
طفل الأمس رجل اليوم
يا أبتي: لقد امتطيت ظهر الزمن، وعبرت ميدان الحياة.. فما عدت ذاك الذي يتدهده في مشيته ويتعثر في خطوته..
إني مضيت في مضمار العمر ربيعاً بعد ربيع.. ألتهم
لأيام وأبتلع السنين..
كان يكبر جسمي فينمو معه عقلي وفكري ومكتسباتي.. وكان يمتلىء بدني فتربو معه مداركي وقدراتي..
وأصبحت- يا أبتي- أحس بدم الرجولة يسري في عروقي، ويمضي في أوردتي.. وأنت- ويا للأسف- مازلت تنظر لي كطفل خداج لا يحسن إلا أن يكون كلاً على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير..
لا تحقرن صغيرأ في تقلبه إن البعوضة تدمي مقلة الأسد
يا أبتي: كنت أرتضيك أباً رحيماً واليوم أتمناك أباً شفيقاً وأنيساً صديقاً وأخاً رفيقاً.
فمتى تجالسني فأسكب في سمعك كل ما يؤرقنى ويعتريني..؟!
متى نفتح بوابة الصراحة، ونمد جسور الثقة بيني وبينك؟ متى أخلع عن وجهي قناع الماضي، فتراني بصورة الحاضر، فتعاملني كما أنا الآن لا كما كنت في ماضي الزمان؟!
متى أغرس يدي في يديك؟ وأزرع عيني في مقلتيك؟ ثم أبثك ما عندي بكل صدق وتجرد، بلا تزين ولا تلون ولا تملق؟!
همسة
يا أبتي: أنا لا أريد أن أشكو منك..
بل أرجو أن أشكو عليك..!
فمتى تغمض بصرك عن طفل الأمس، لتفتح عينك لترى رجل اليوم؟!!