يا أبتي: إني أشكو إليك من نفسي التي ما قدرت على مقارعة الخطوب ولا مواجهة الحياة. فهي مطيتي في حال الرخاء، لكنها عدوتي في حال الشدة.
وأجدني أسير بدونك- يا أبتي- في مضمار الدنيا كمقاتل يحارب في ساح المعركة بدون سلاح، أو كهشيم تذروه الرياح، أو كقارب صغير يعاني من لطم الأمواج وفقد الملاح.
وأعود بالذاكرة للوراء قليلاً وأفتش في صفحات الماضي، فأجد السبب في هذا الضعف الذي أعيشه وهذا الخور الذي أعاني منه هو: تدليلك الزائد لي .
فقد عودتني على أن تكون طلباتي مجابة ورغباتي محققة، فالقول الجميل قولي، والفعل الحسن فعلي، والزلل مني في عينك حسنة، والخطأ مني في نظرك صواب.
تعودت أن أكون مخدوماً لا خادماً، وآخذاً لا معطياً، وآمراً وناهياً، وحين فقدتك- يا أبتي- فقدت كل شيء.. وأصبحت بعدك لا شيء.!!
عشت على كلمات المدح والثناء، فمن لي بتحمل الكلام النقيض؟!
ترعرعت على احتياجاتي الملباة، فكيف بي إذا واجهت الحرمان البغيض؟!
نشأت في السراء، فكيف أطيق صبراً على الضراء؟! تعودت على كلمات الحب والإطراء، فكيف أغفل الطرف عن كلمات الكره والبغضاء؟!
ألفت ركوب قوارب السعادة، فكيف أركب ملزماً قوارب الشقاء؟!
تربيت على اليسر، فمن لي بقلب يتحمل العسر؟!
تعودت أن يطرق سمعي نسيم (نعم)، فماذا أقول إذ تفجر في مسمعي بركان (لا)؟!
حسن قول (نعم) من بعد (لا) وقبيح قول (لا) بعد (نعم)
إن (لا) بعد (نعم) فاحشة فبـ(لا) فابدأ إذا خفت الندم
فيا ليتك إذ أعطيتني حرمتني، وإذ رغبتني رقبتني..
فعشت متزن الشخصية سوي النمو، ما بين قسوة مغقفة بالرحمة وغلظة ممزوجة بحنان.
فقسا ليزدجروا ومن يك راحماً فليقس أحياناً على من يرحم
يا أبتي: سمعت أن شاباً صغيراً مر بجواره شيخ كبير، فوجده يبكي. فقال الشيخ للشاب: ما لك- يا بني- رحمك الله تبكي؟!
فقال الشاب: رأيت أمي تشعل التنور بصغير الحطب، فخشيت أن يشعل الله بي وبأمثالي من الصغار نار جهنم يوم القيامة، فذلك الذي أبكاني..!!
يا أبتي: لماذا لا أحس بما يحس به هذا الشاب؟! ولماذا لا أعيش كما يعش؟!
لأنك يا أبتي- وبكل صراحة- ما ربيتني كما تربى ولا علمتني كما تعلم..
واسمح لي- يا أبتي- أن أقسو في العبارة قليلاً، يشجعني على ذلك حلمك بي وعطفك علي واستماعك الجميل لي..
إنك ربيتني لأكون عبداً للدنيا فعليها أعيش، ومن أجلها ألهث وفي سبيلها أغالب، فهي محط آمالي ومحور اهتمامي ومنتهى أحلامي، ولم تربني لأكون عبداً لله كما يحب الله، أستعد للقائه وأومن بقضائه، وألتزم بأمره، وأقف مذعناً عند نهيه.. وهل خلقت الدنيا إلا من أجل الآخرة؟!
إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يحي ديناً
ومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء له قرينا
وسأبرهن لك على ذلك بمثال، وإن كانت الأمثلة على ذلك كثيرة ووفيرة..
فأنت تذكر- أيها الحبيب- عندما تأخرت عن المدرسة يوماً بدون عذر، ولم أصل لله تعالى ركعة واحدة في ذلك اليوم، وأنت على علم بهذا واطلاع عليه.
أسائلك بالله- يا أبتي- علام وقع لومك وعتابك؟ وعلام كان عقابك؟
إنك- يا أبتي- عاقبتني على تأخري عن المدرسة ولكنك لم تعاقبني ولم تلمني- مجرد اللوم- على عدم صلاتي، ووقوفي موقف العز بين يدي خالقي ومولاي..
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
فهل تريدني أن أهتم بالدنيا أكثر من الدين؟!
وهل ترغب أن أخاف منك أكثر من خوفي من الله؟!
وهل تبتغي أن أعمر دنياي وأخرب آخرتي، فأنتقل من العمار إلى الخراب عندما ينتهي زمن المهلة ويأتي زمن النقلة؟!
لماذا حذرتني- يا أبتي- من سخطك وعقابك؟ ولم تحذرني وتنذرني من سخط الله وعقابه وأليم عذابه؟!
أكانت الدنيا أحب إليك من الآخرة؟!
أم كان الحطام الفاني العاجل خيراً عندك وأحب إلى نفسك من النعيم الباقي الآجل؟!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له " .
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة) .