تفسير سورة التكاثر
تفسير سورة التكاثر أ. د. كامل صبحي صلاح الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد: فإن سورة التكاثر من السور المكية، وهي من سور المفصَّل، وآياتها (8) آيات، وترتيبها في المصحف (102)، في الجزء الثلاثين من المصحف الشريف، وسُميت سورة التكاثر بهذا الاسم؛ لافتتاحها بانشغال الناس بالتكاثر؛ وهو التفاخر بكثرة الأموال والأولاد. قال الله تبارك وتعالى: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر: 1 - 8]. تفسير السورة: قال الله تعالى: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴾ [التكاثر: 1]؛ أي: يقول تعالى موبخًا عباده عن اشتغالهم عما خُلقوا له، ومن أجله؛ من عبادته وحده لا شريك له، ومعرفته، والإنابة والتوجه إليه سبحانه وتعالى، وتقديم محبته وطاعته سبحانه على كل شيء: ﴿ أَلْهَاكُمُ ﴾ عن ذلك المذكور ﴿ التَّكَاثُرُ ﴾، ولم يذكر المتكاثَر به، ليشمل ذلك كل ما يتكاثر به المتكاثرون، ويفتخر به المفتخرون، ويتمسك به المتمسكون من أشياء الدنيا وملذاتها وملهياتها، مما يشغل عن طاعة الله تبارك وتعالى؛ من التكاثر في الأموال، والأولاد، والأنصار، والجنود، والخدم، والجاه، وغيرها مما يقصد منه مكاثرة كل واحد للآخر، وليس المقصود به الإخلاص لله تبارك وتعالى. وقال الإمام القرطبي عند تفسير الآية: "شغلَكم حبُّ الدنيا ونعيمها وزهرتها عن طلب الآخرة وابتغائها، وتمادى بكم ذلك حتى جاءكم الموت وزرتم المقابر، وصرتم من أهلها". قال الله تعالى: ﴿ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾ [التكاثر: 2]؛ أي: واستمر اشتغالكم بذلك إلى أن صرتم إلى المقابر، ودُفنتم فيها، ودخلتم قبوركم؛ حيث استمرت غفلتكم ولهوتكم وتشاغلكم، ﴿ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾ [التكاثر: 2]، فانكشف لكم حينئذٍ الغطاء، ولكن بعدما تعذَّر عليكم استئنافه. ويدل قوله تبارك وتعالى: ﴿ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾ [التكاثر: 2]، أن حياة البرزخ دار مقصود منها النفوذ إلى الدار الباقية والآخرة؛ لأن الله تبارك وتعالى سمَّاهم زائرين، ولم يسمِّهم مقيمين. وعن قتادة قال: "كانوا يقولون: نحن أكثر من بني فلان، ونحن أعدُّ من بني فلان، وهم كل يوم يتساقطون إلى آخرهم، والله ما زالوا كذلك حتى صاروا من أهل القبور كلهم". ويُستنبط من هذه الآية صحة القول بعذاب القبر؛ لأن الله تعالى ذِكرُه، أخبر عن هؤلاء القوم الذين ألهاهم التكاثر، أنهم سيعلمون ما يلقَون إذا هم زاروا القبور، وعيدًا منه لهم وتهديدًا. قال الله تعالى: ﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [التكاثر: 3]؛ أي: ما هكذا ينبغي أن يشغلكم ويلهيكم التكاثر والتفاخر بالأموال عن طاعة الله تبارك وتعالى، وسوف تعلمون عاقبة ذلك الانشغال، وتتبينون أن الدار الآخرة خير لكم. قال الله تعالى: ﴿ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [التكاثر: 4]؛ أي: لو تعلمون ما أمامكم علمًا يصل إلى القلوب، لَما ألهاكم التكاثر، ولَبادرتُم إلى الأعمال الصالحة، فاحذروا؛ فسوف تعلمون سوء عاقبة انشغالكم. قال الله تعالى: ﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ﴾ [التكاثر: 5]؛ أي: حقًّا لو أنكم تعلمون يقينًا أنكم مبعوثون إلى الله تبارك وتعالى، وأنه سيجازيكم ويحاسبكم على أعمالكم وتصرفاتكم، لَما انشغلتم بالتفاخر بالأموال والأولاد وسائر المُلهيات. قال الله تعالى: ﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر: 5 - 8]؛ أي: ما هكذا ينبغي أن يلهيكم التكاثر بالأموال، ولكن عدم العلم الحقيقي، صيَّركم إلى ما ترَون، فلو تعلمون حقَّ العلم لانزجرتم، ولبادرتم إلى إنقاذ أنفسكم من الهلاك، لتبصِرُنَّ (رؤية بصرية) ولترَوُنَّ الجحيم التي أعدها الله تبارك وتعالى للكافرين، ثم لتبصرُنَّها دون شك وريب، ثم لتسألُن يوم القيامة عن كل أنواع النعيم الذي تنعَّمتم به في دار الدنيا، هل قمتم بشكره سبحانه وتعالى، وأديتم حق الله تعالى فيه، ولم تستعينوا به على معاصيه، فينعمكم نعيمًا أعلى منه وأفضل، أم اغتررتم به، ولم تقوموا بشكره سبحانه وتعالى؟ بل ربما استعنتم به على معاصي الله تعالى فيعاقبكم على ذلك؛ قال الله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ﴾ [الأحقاف: 20]؛ الآية. من مقاصد السورة: 1- توبيخ الناس على غفلتهم عن الآخرة وإيثار الدنيا، وعدم الإقلاع عن ذلك إلى أن يصيروا في القبور. 2- والزجر والتهديد على تلك الغفلة بالتذكير بما في الآخرة من العذاب، وبما يكون من الحساب على إهمال شُكر المنعم العظيم، جلَّت قدرته، وتعالت أسماؤه وصفاته. 3- شغلكم عن طاعة الله تبارك وتعالى، والتفاخر بكثرة الأموال والأولاد، وعموم الملهيات والمشغلات. 4- تذكير المنشغلين بالدنيا بالموت المحتَّم والحساب. 5- التحذير من جمع المال وتكثيره، مع عدم شكره، وترك طاعة الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم من أجله. 6- إثبات عذاب القبر وتأكيده بقوله: ﴿ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [التكاثر: 2، 3]؛ أي: في القبر. 7- تقرير عقيدة البعث، وحتمية الجزاء بعد الحساب، والاستنطاق والاستجواب. 8- حتمية سؤال العبد عن النعم التي أنعم الله تبارك وتعالى عليه بها في الدنيا، فإن كان شاكرًا لها فاز، وإن كان كافرًا لها أُخذ، والعياذ بالله تبارك وتعالى. هذا ما تم إيراده، نسأل الله العليَّ الأعلى أن يُعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن ينفع بما كُتب، وأن يجعله من العلم النافع والعمل الصالح، والحمد لله رب العالمين. المصادر والمراجع: 1- جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري)، للإمام محمد بن جرير الطبري. 2- الجامع لأحكام القرآن، (تفسير القرطبي)، للإمام محمد بن أحمد بن أبي بكر شمس الدين القرطبي. 4- معالم التنزيل (تفسير البغوي)، للإمام أبي محمد الحسين بن مسعود البغوي. 5- فتح القدير، للإمام محمد بن علي بن محمد بن عبدالله الشوكاني. 6- تفسير القرآن العظيم، (تفسير ابن كثير)، للإمام عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير. 7- التسهيل لعلوم التنزيل، أبو القاسم، محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله، ابن جزي الكلبي الغرناطي. 8- التحرير والتنوير، للمفسر محمد الطاهر بن عاشور. 9- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الشيخ عبدالرحمن السعدي. 10- أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، الشيخ جابر بن موسى بن عبدالقادر، المعروف بأبي بكر الجزائري. 11- المختصر في التفسير، مركز تفسير. 12- التفسير الميسر، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف. |
| الساعة الآن : 06:10 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour