«الإحسان الشامل».. المفهوم الإداري الغائب والمشروع الحضاري الواجب
https://al-forqan.net/wp-content/upl.../11/فكرة-ة.jpg «الإحسان الشامل».. المفهوم الإداري الغائب والمشروع الحضاري الواجب
في عالم الإدارة المعاصر، أصبحت مفاهيم الجودة، والكفاءة، والأداء العالي كلمات السر في نجاح المؤسسات، ومع ذلك، فإن تلك المفاهيم - رغم أهميتها العملية والإدارية والإنتاجية- تبقى ناقصة إذا انفصلت عن بعدها الإيماني والإنساني؛ فالإتقان في الرؤية الإسلامية لا يقف عند حدود (الامتثال للمعايير)، بل يتجاوزها إلى جوهر (الإحسان)، الذي يُعطي للجهد معنى عبادة، وللجودة روحاً تتجاوز المكاسب المادية إلى تحقيق الرقي الأخلاقي والقيمي، ومن هنا تأتي أهمية إعادة النظر في مفهوم الإتقان عبر منظور الإحسان، لاستكشاف كيف يمكن أن يتحول الأداء المهني من مجرد مقياس موضوعي إلى قيمة وجودية ترتبط بعلاقة الإنسان بربه. بين المصطلح والمفهوم: الإتقان في اللغة هو إحكام العمل وجودته حتى لا يشوبه نقص، بينما الإحسان مأخوذ من الحُسن، وهو بلوغ أقصى درجات الجودة في العمل مع استحضار نية القرب من الله، وقد جاءت النصوص الإسلامية متكاثرة في تأكيد هذا المعنى: فقد أمر الله -تعالى- بالإحسان في كل شيء، وربط بين الإيمان والإحسان في نصوص كثيرة؛ لأن الإحسان يعبّر عن أعلى درجات الوعي الوجداني في أداء الأعمال. الإتقان والإحسان في المنظور الإسلامي: «الإتقان» و»الإحسان» في التصور الإسلامي، ليس مجرد كفاءة مهنية، بل هو حالة قلبية وسلوكية تنبع من استشعار رقابة الله عز وجل؛ فالإحسان كما عرّفه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الشريف: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك». يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الشريف: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء»، ويقول أيضًا: «إن الله يحبّْ إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه»، وبين هذين النصين تتشكل منهجية إسلامية متكاملة، تجعل من الإتقان قيمة عُليا لا ترتبط بجودة الأداء فحسب؛ بل بجوهر الإنسان نفسه؛ إذ يتحوّل العمل إلى عبادة، والإدارة إلى رسالة، والإنتاج إلى صورة من صور الشكر العملي لله -تعالى- على نعمه، وتوجيه يجعل الإحسان ليس خياراً أخلاقيا فحسب؛ بل واجباً حضاريا ودينيا، يمتد ليشمل كل مهنة وحرفة وإدارة ومؤسسة. من هنا يمكن القول: إن الإتقان يمثل (الجانب الفني) بينما الإحسان يمثل (الروح والقصد)، وهما معاً يشكلان توازناً بين التقنية والقيم، ولعل من أهم القيم التي تحقق ذلك في بيئة العمل (الصدق والأمانة والإيثار والتعاون والتراحم ). الإحسان منهج إداري قيادي راقٍ: حين يرتقي القائد إلى مستوى الإحسان في إدارته، تتغير منهجية القيادة نفسها؛ فبدل أن تكون القيادة تحكمًا أو إشرافًا، تصبح رعاية وتزكية وتمكينًا تحت قاعدة: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته».. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان الأسوة الحسنة ونموذج القائد المحسن؛ فكان يُحسن إلى من حوله، ويهتم بتدريبهم، ويمنحهم الثقة، ويغرس فيهم حب الإتقان لا خوف المساءلة. وفي الإدارة بالإحسان، لا يسعى المدير إلى (ضبط الأداء) فحسب؛ بل إلى تنمية الإنسان الذي يؤدي العمل وفق منظومة قيمية أخلاقية؛ فالإحسان يعيد صياغة العلاقة بين الرئيس والمرؤوس على قاعدة المودة والعدالة، لا المراقبة والجزاء فقط. الإحسان منهج إداري يرفع معايير الجودة: تقاس الجودة -عادة في ميدان الإدارة- بمعايير قابلة للقياس مثل: الإنتاجية، وزمن الإنجاز، ورضا العملاء، وكفاءة الموارد. غير إن مفهوم الإحسان يقدّم بُعداً مكملاً لا يمكن قياسه بالمؤشرات المادية فقط، وهو بُعد الرقابة الذاتية والمسؤولية الوجدانية تجاه العمل. فحين يُتقن المدير أو الموظف عمله بنية «أن الله يراه»، فإنه في الحقيقة يستبدل مفهوم الرقابة الخارجية برقابة ذاتية داخلية، وهي الرقابة التي لا تحتاج إلى نظام مساءلة بقدر ما تحتاج إلى يقظة ضمير. وفي الإدارة الحديثة أيضا نجد مفاهيم تتحدث عن(القيادة بالقدوة) و(التحفيز الذاتي) و(الوعي المؤسسي)، و(التميز المؤسسي)، وكلها تتقاطع في جوهرها مع مبدأ الإحسان؛ فالمُحسن في عمله لا ينتظر المكافأة بل يستمد دافعه من الإيمان بأن كل جهد محسوب عند الله وله ثوابه الدنيوي والأخروي، ولايمنع ذلك من تفعيل مبدأ الثواب والعقاب في العمل الإداري.. ولذلك، نجد أن كثيرًا من بيئات العمل التي ترفع شعارات الجودة الصارمة تعاني أحيانا من غياب الرضا، وارتفاع معدلات الاحتراق الوظيفي، وتراجع الولاء المؤسسي؛ لأن الإتقان فيها تحوّل إلى معيار إداري جامد، لا إلى قيمة معنوية متجذّرة. وإذا كنا في الإدارة الحديثة نتحدث عن (مؤشرات الأداء الرئيسة) (KPIs)، فإن الإحسان يقدم (مقاصد الأداء الإيماني)، وهي مقاصد تجمع بين الدنيا والآخرة، وبهذه الرؤية الشاملة، يتحول الموظف إلى (قدوة فاعلة ومؤثرة) وليس مجرد أداة إنتاج، وتتحول المؤسسة إلى فضاء أخلاقي يعيش فيه الجميع معاني الإخلاص والتعاون والإنجاز الحقيقي؛ فالغاية هنا ليست فقط في تحقيق أهداف المؤسسة، بل أداء الأمانة التي استخلف الله الإنسان فيها. الإحسان والثقافة التنظيمية: الثقافة التنظيمية هي ما يحدد سلوك الأفراد داخل أي مؤسسة، وعندما تُبنى هذه الثقافة على أساس الإحسان، يتبدل منطق الأداء نفسه؛ إذ يصبح الإتقان هدفاً قيمياً قبل أن يكون مطلباً إدارياً؛ فبدلاً من أن تدور الأسئلة حول: (هل أنجزت في الوقت المحدد؟) تصبح حول: (هل أديت عملي بما يرضي الله ويخدم الناس بإخلاص؟). إن إدخال الإحسان في بنية الثقافة المؤسسية يفرز ثلاثة تحولات مهمة: 1- التحول في البوصلة: من السعي وراء المكافأة إلى السعي نحو رضا الله. 2- التحول في نوعية العلاقات: من علاقات نفعية تنافسية إلى علاقات تعاون وتكافل مهني. 3- التحول في الرؤية الاستراتيجية: من الإنجاز اللحظي إلى الاستدامة الأخلاقية للعمل. وهذه التحولات لا تُقاس بالأرقام فحسب؛ بل بالاستقرار النفسي، والولاء المؤسسي، وانخفاض معدلات الفساد الإداري، وهي نتائج ملموسة في الإدارات التي تتبنى منظوراً قيميا في تطوير أدائها. من أدوات الإحسان الإداري:
الإحسان رافعة الابتكار والإبداع: الابتكار لا يولد إلا في بيئة يشعر العامل فيها بالكرامة والغاية النبيلة؛ فعندما يتحول الإتقان إلى إحسان، يصبح العمل مساحة للإبداع لا مجرد وظيفة مكررة. إن العامل المُحسن يرى في كل مهمة فرصة لتجويد ذاته قبل أن يجوّد منتجه، وهذا الوعي الروحي يدفعه للتفكير خارج الأُطر الجامدة بحثاً عن الأفضل والأكمل. والإدارة التي تُربّي على الإحسان ستشجع المبادرات الفردية، وستؤمن أن الخطأ المدروس جزء من طريق الإبداع؛ فالإحسان لا يعني الجمود عند معايير الجودة الجافة؛ بل يعني السعي المستمر نحو التحسين والتطوير، تماماً كما يشير مفهوم (الكايزن) في الثقافة اليابانية، ولكن بفارق أن الإحسان يحمل دافعاً إيمانيا لا دنيويا. مقاصد الإحسان في العمل الإداري والمؤسسي: لعل من أبرز المقاصد التي يضيفها الإحسان إلى مفهوم الجودة في العمل المؤسسي ما يلي: 1- البُعد الإيماني: العمل المتقن وسيلة للتقرّب إلى الله -تعالى-، وليس غاية مادية بحتة. 2- البُعد الأخلاقي: الإحسان يضبط النية، فيجعل الدقة والأمانة نابعة من الضمير لا من الرقابة. 3- البُعد الإنساني: الإحسان في الإدارة يعيد الاعتبار للعامل بوصفه إنسانا، لا رقما في منظومة الإنتاج. 4- البُعد المجتمعي: الجودة المتقنة في الرؤية الإحسانية تثمر عدلاً واستقرارًا ونهوضًا بالمجتمع. القيم الإيمانية محرك للتميز المؤسسي: تؤكد الدراسات في علم النفس التنظيمي أن الشعور بالمعنى هو المحرك الأقوى للأداء المتفوّق، ومفهوم الإحسان والإتقان يمنح العمل معنىً سامياً؛ إذ يربط الجهد اليومي بمقصد عبادي؛ فالذي ينظف الشارع، والذي يدير مؤسسة، كلاهما يمكن أن يكون في عبادة إن أخلص النية لله وأتقن الأداء. وقد جسدت الإدارة الإسلامية على مدار التاريخ هذا المبدأ في نماذج خالدة، مثل ديوان عمر بن الخطاب الذي أقام الإدارة على العدل والمساءلة والإحسان، وليس فقط على الكفاءة التقنية؛ فالقيم الإيمانية - كإخلاص النية والصدق والعدل - كانت جزءاً لا يتجزأ من ذلك النظام الإداري، وأثبتت أن الإحسان لا يتعارض مع التطور، بل هو الذي يضمن استدامته الأخلاقية. الإحسان في إدارة الموارد البشرية: في إدارة الموارد البشرية الحديثة، تعدّ مفاهيم مثل التحفيز، والرضا الوظيفي، والقيادة التحويلية، والإدارة بالقدوة عناصر أساسية لنجاح المؤسسات، ومع ذلك، يبقى الإحسان هو الإطار الذي يمنحها الحياة؛ فالإحسان في القيادة يعني أن القائد لا يرى المرؤوسين أدوات تنفيذ؛ بل أمانة ومسؤولية، وأن التعامل معهم ليس سوى انعكاس لعلاقته بالله، وهذه الرؤية تجعل العدالة والرحمة والشفافية ركائز حقيقية في إدارة الناس, كما إن تدريب العاملين على الإحسان يخلق ثقافة الإتقان الطوعي؛ لأن الموظف المحسن لا يحتاج إلى رقابة صارمة؛ بل يعمل بدافع الإخلاص الداخلي، وبهذا المعنى، يتحقق جوهر ما تسعى إليه الإدارة الحديثة من تحقيق (الرقابة الذاتية). من الإحسان الفردي إلى التفعيل المؤسسي: لعل التحدي الأكبر هو كيف نترجم الإحسان الفردي إلى منظومة مؤسسية تُدار وفق مبادئ الأخلاق والجودة! ولتحقيق ذلك، يمكن تفعيل مجموعة من السياسات التي يمكن تلخيصها فيما يلي:
الإحسان في مواجهة أزمات الإدارة المعاصرة: إن كثيرًا من الأزمات الإدارية الحديثة - مثل الفساد الوظيفي، وضعف الالتزام، والاحتراق الوظيفي - قد تعود إلى فقدان المعنى في العمل؛ فحين يفقد الإنسان الإحساس بقيمة ما يفعل، تصبح المعايير شكلية والأداء آلياً، وتفعيل مبدأ الإحسان والإتقان يمكن أن يعالج هذا الخلل من الجذور؛ لأنه يعيد وصل الإنسان بمصدر القيمة والأمانة والإخلاص؛ فهو لا ينظر للإدارة بوصفها مجرد علم للإنتاج؛ بل كمنظور يحمل رسالة إنسانية تُصلح الفرد والمجتمع. الإدارة بوصفها عبادة ومسؤولية: المدير أو القائد في التصور الإسلامي ليس متحكماً، بل مسؤولاً أمام الله ثم الناس عن ذلك العمل، ومؤتمنا على حسن إدارته وقيادته، وهذه النظرة تجعل كل قرار إداري عملاً عباديا إذا قصد به الخير والعدل والإصلاح؛ فالإتقان هنا لا يصبح معياراً فنياً فقط؛ بل صورة من صور الشهادة على الأمانة. ومن هذا المنطلق، فإن كل ما يدخل في التخطيط، والتنظيم، والمتابعة، والرقابة، والحوكمة يمكن أن يكون مجالاً للإحسان إذا اقترن بالنية الصادقة ومقصد الإتقان. من مجرد الأداء إلى إحداث الأثر: لعل جوهر الفرق بين الجودة والإحسان أن الأولى تُقاس بالأداء، والثاني يُقاس بالأثر؛ فالمؤسسة قد تحقق نتائج مبهرة على الورق، لكن الإحسان يجعلنا نسأل: ما أثر هذا الأداء على الإنسان والمجتمع؟ هل يصنع العمل قيماً أم يستهلكها؟ هل يضيف عدلاً أم يكرّس الأنانية؟ الإحسان يحوّل مؤشرات الأداء إلى مؤشرات أثر، فيصبح النجاح الحقيقي هو ما يترك بصمة بناء في حياة الناس. نحو نموذج إداري «إحساني»: يمكن أن نرسم ملامح نموذج إداري مستمد من مفهوم الإحسان، يقوم على أربعة أبعاد رئيسة: 1- البعد القيمي: تأسيس ثقافة مؤسسية تربط العمل بالعبادة، وتعزز الصدق والأمانة والرحمة. 2- البعد القيادي: إعداد قيادات واعية بأن الإحسان قيمة قيادية قبل أن تكون إدارية. 3- البعد المؤسسي: تحويل مفاهيم الجودة والتميّز إلى ممارسات تستمد مشروعيتها من الإخلاص لله وخدمة الناس. 4- البعد المجتمعي: ربط الأداء المؤسسي بالتنمية المستدامة والإسهام في إعمار الأرض بما يرضي الله. من ثمار منهج الإحسان الشامل:
الإتقان الإحساني في زمن الذكاء الصناعي يُخشى - في عصر الذكاء الصناعي والتحول الرقمي- أن تفقد القيم الإنسانية موقعها أمام سرعة التقنية ودقتها؛ لكن تفعيل مبدأ «الإحسان الشامل» يمكن أن يقدم (الإنسانية المفقودة) و»البعد الإيماني» في المنظومة الرقمية؛ ففي الوقت الذي تضمن فيه الآلة الكفاءة، يضمن الإحسان النية والرحمة والعدل، وهكذا، يكون الإحسان هو ما يحافظ على إنسانية الإدارة في عالم يتجه نحو الأتمتة، فيضمن أن تبقى القيم الروحية هي البوصلة التي توجه التقنية نحو الخير العام. الإحسان.. المعنى الغائب في مفاهيم الإدارة! إن الإتقان في مجتمعاتنا لن يبلغ تمامه إلا إذا استعاد معناه الإنساني والإيماني؛ فالإدارة بلا روح يصبح الإنسان فيها مجرد آلة، والجودة بلا إحسان تتحول إلى تنافس مادي باهت. وعندما نربط كل جهد - مهما صغر - بنية التعبد لله، فإننا بذلك نصنع ثقافة عمل جديدة تنهض بالأفراد والمؤسسات والأمم؛ فالإحسان ليس مجرد خلق فردي؛ بل مشروع حضاري يعيد التوازن بين المادة والروح، وبين المصلحة والمعنى القيمي. ومن هنا ندرك أن الحديث عن (الجودة الشاملة) لا يكتمل إلا بضمّ (الإحسان الشامل)، فالإدارة حين تُدار بروح الإحسان تتحول إلى عبادة جماعية، وإلى طريق لإعمار الأرض بما يرضي الله ويخدم الإنسانية. الخاتمة: الإتقان في الرؤية الإسلامية ليس مهارة مهنية فحسب؛ بل حال إيمانية وسلوكية شاملة تُحوّل العمل إلى عبادة، والإدارة إلى رسالة، والجودة إلى طريق نحو الإحسان؛ وإننا حين نعيد تعريف الإتقان بوصفه إحسانا، فإننا ننتقل من منطق (الإنجاز من أجل التقييم) إلى (العمل من أجل الله)، وهكذا نصنع إدارات متقنة لأنها مؤمنة، ومؤسسات رائدة لأنها محسنة، ومجتمعات راقية لأنها ترى في الإتقان صورة من صور الإيمان. لقد آن الأوان لإدماج (الإحسان) في قاموس الإدارة الحديثة، لا بوصفه شعارا تعبّديا فحسب؛ بل منهجا عمليا يجعل الجودة أكثر إنسانية، ويجعل الإتقان عبادة لا مجرّد أداء. اعداد: ذياب أبو سارة |
| الساعة الآن : 06:12 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour