حرص الصحابة رضي الله عنهم على اقتران العلم بالقرآن بالعمل به
حرص الصحابة رضي الله عنهم على اقتران العلم بالقرآن بالعمل به الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي لَما تلقَّى الصحابة رضوان الله عليهم الإيمان قبل القرآن، أثَّر ذلك في صلاح قلوبهم، وحرَصوا على اقتران العلم بالقرآن بالعمل به، ولم يَفصِلوا بينهما بفاصلٍ، وفي نحو ذلك يقول ابن عمر (ت: 73هـ) - رضي الله عنهما-: كان الفاضِلُ من أصحابِ النبيِّ في صَدْرِ هذه الأُمَّةِ لا يحفظُ من القرآنِ إلا السورة أو نحوها، ورُزِقوا العملَ بالقرآن، وإنَّ آخرَ هذه الأُمَّةِ يُرْزَقُون القرآنَ منهم الصبي والأعمى، ولا يرزقون العملَ به"[1]. ومما يصوِّر تلك المعاني العظيمة في نفوس الصحابة - رضي الله عنهم - وحرصهم على اقتران العلم بالعمل قصة بَيْرُحَاءَ - حديقة - أبي طلحة الأنصاري - رضي الله عنه - فقد ثبت في الصحيحين واللفظ للبخاري منْ حديث أنس - رضي الله عنه - من طريق إِسْحَاقَ بْنِ عَبْد ِاللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رَضِي اللَّه عنه - يَقُولُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92]، قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ"[2]. وكان حرصهم الشديد - رضي الله عنهم- على أن ينتقل علمهم بالقرآن إلى حيِّز وواقع العمل به، وعلى أن يعيش حامل القرآن ويحيى به، وأن تظهر وتتجلى أخلاق القرآن في فعاله كلها، وهم كما كانوا كذلك قولًا وعملًا، فقد كانت وصيتهم لأهل القرآن كذلك، وفي نحو هذا المعنى يوصي علمٌ من أعلام الصحابة من السابقين الأولين، يوصي أهلَ القرآن بتلك الوصايا الجامعة المانعة، ألا وهو ابن مسعود (ت: 32هـ) - رضي الله عنه - حيث يقول: "ينبغي لحاملِ القرآنِ أَنْ يُعرفَ بليلِه إذا الناسُ ينامون، وبنهارِه إذا الناسُ يُفطرون، وبحزنِهِ إذا الناس يَفرَحون، وببكائِه إذا الناسُ يَضحكون، وبِصَمتِه إذا الناسُ يَخُوضُون، وبخشوعِه إذا الناس يختالون، وينبغي لحاملِ القرآن أَنْ يكونَ مُستكينًا لَيِّنًا، ولا ينبغي له أن يكونَ جَافيًا ولا مماريًا ولا صَيَّاحًا ولا صَخَّابًا ولا حديدًا"[3]. ويقول - رضي الله عنه - أيضًا: "لا تَهُذُّوا القرآنَ هذ الشِّعْر، وتَنثروه نَثْرَ الدَّقَل، وقِفُوا عند عجائبِه، وحَرِّكوا به القلوب، ولا يكن هَمُّ أحدِكم مِن السورة آخرَها" [4]. لذا كان تأثير الصحابة -رضي الله عنهم - في جيل التابعين - رحمهم الله - تأثيرًا عظيمًا، فقد غرزوا في نفوسهم ما تلقَّوْه من نبيهم - صلى الله عليه وسلم - من حب القرآن وحب العمل به، وامتثال ما ورد فيه، وتدبُّر آياته وإجلاله، ولننظر بعين الاعتبار والاتعاظ لكلماتِ سطَّرها يراع رجل هو واحد من طليعة جيل التابعين، إنه الحسنُ بن يسار البصري - رحمه الله - (ت: 110هـ)؛ حيث يقول في ذلك المعنى: "إنَّ هذا القرآنَ قَرَأَه عبيدٌ وصبيانٌ لم يأخذوه مِن أوَّله، ولا عِلْمَ لهم بتأويلِه، إنَّ أَحقَّ الناسِ بهذا القرآنِ مَن رُئِي في عملِه، قال اللهُ عز وجل في كتابه: ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، وإنَّما تَدبُّرُ آياتِه اتّباعُه بعملِه، أَمَا واللهِ ما هو بحفظِ حروفِهِ وإِضاعةِ حدودِهِ! حتى إنَّ أحدهم لَيقول: قد قَرَأْتُ القرآنَ كلَّه فما أَسْقَطتُ منه حرفًا، وقد واللهِ أَسقَطَه كلَّه! ما يُرَى له القرآنُ في خُلُقٍ ولا عمل! حتى إنَّ أحدَهم لَيقول: إني لأقرأُ السورةَ في نَفَسٍ واحدٍ، واللهِ ما هؤلاءِ بالقُرَّاءِ ولا العلماءِ ولا الحكماءِ ولا الوَرَعةِ! متى كانت القُرَّاءُ تقولُ مثل هذا؟ لا أَكْثَرَ اللهُ في الناسِ مثلَ هؤلاء"[5]. وهذا المنهجُ الرباني هو الذي خَرَّجَ تلك الأجيال وصَنَعَها، ولو عاد الخَلَفُ لما كان عليه السلف من تَلَقي القرآنَ على نفس منهْجم في تلقِّيه، لسادوا الدنيا وفتحوا البلاد، وما قَصرت بهم هِممُهم عن إزلال القياصرة، ولنهَضت بهم قوتُهم فكسَّروا وحطَّموا ظهور الأكاسرة. ومن أبين مظاهر حرصهم - رضي الله عنهم - على اقتران العلم بالقرآن بالعمل به: ما ثبت في الصحيحين من موقف ثابت بن قيس بن شمَّاس (ت: 12هـ) - خطيب الأنصار - والذي كان من عادته أنه يرفَع صوته أثناء الكلام، فلما نزلت هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾[الحجرات: 2] - جلس ثابت بن قيس في بيته وقال: "أنا من أهل النار". واحْتَبَس عن النبي - صلى اللهم عليه وسلم - فسأل النبي - صلى اللهم عليه وسلم - سعدَ بن معاذ فقال: ((يا أبا عمرو، ما شأن ثابت، أَشتكى؟!))، قال سعد: إنه لَجاري، وما علمت له بشكوى، قال: فأتاه سعدٌ، فذكر له قول رسول الله - صلى اللهم عليه وسلم - فقال ثابت: أُنْزِلَتْ هذه الآية، ولقد علمتم أنِّي من أرفعكم صوتًا على رسول الله - صلى اللهم عليه وسلم - فأنا من أهل النار، فذَكَرَ ذلك سعدٌ للنبيِّ - صلى اللهم عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى اللهم عليه وسلم -: ((بل هو من أهل الجنة)) [6]. [1] الجامع لأحكام القرآن: (1 /30). [2] أخرجه البخاري: (1461) واللفظ له، ومسلم: (998). [3] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 8 /305. [4] مختصر قيام الليل للمروزي: (ص:132). [5] الزهد والرقائق لابن المبارك ت: أحمد فريد ج6/ 610 رقم 742 ط دار المعراج. [6] رواه البخاري (4846)، ومسلم: (119). |
رد: حرص الصحابة رضي الله عنهم على اقتران العلم بالقرآن بالعمل به
حرص الصحابة رضي الله عنهم على اقتران العلم بالقرآن بالعمل به (2) الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي كثرة ترغيب النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم وحثهم على تعلمه لقد وردت أحاديث كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرغبهم في ذلك، ويَحثهم عليه ويبيِّن لهم فضائله، منها على سبيل المثال لا الحصر: 1- ما ثبت عند البخاري من حديث عُثْمَان بن عَفَّان - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم-: "خَيركُمْ من تعلم الْقُرْآن وَعلمه"[1]. وفي رواية عند البخاري من حديث عثمان أيضًا: "أفضلكم من تعلَّم القرآن وعلمه"[2]. 2- ومنها ما ثبت عند مسلم من حديث عُقْبَةَ بْنِ عَامِر[3] - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ فِي الصُّفةِ، فَقَالَ: "أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ إِلَى بُطَحَانَ أَوِ الْعَقِيقِ، فَيَأْتِيَ كُلَّ يَوْمٍ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ زَهْرَاوَيْنِ، فَيَأْخُذَهُمَا فِي غَيْرِ إِثْمٍ وَلاَ قَطْعِ رَحِمٍ؟ قَالَ: "قُلْنَا: كُلُّنَا يَا رَسُولَ اللهِ يُحِبُّ ذَلِكَ"، قَالَ: فَلأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَتَعَلَّمَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلاَثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلاَثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الإِبِلِ"[4]. 3- ومنها ما ثبت عند مسلم كذلك من حديث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم-: "مَا اجْتمع قوم فِي بَيت من بيُوت الله يَتلون كتاب الله وَيَتَدَارَسُونَهُ بَينهم، إِلَّا نزلت عَلَيْهِم السكينَة، وَغَشِيَتْهُم الرَّحْمَة، وَحَفَّتْهُم الْمَلَائِكَة، وَذكرهمْ الله فِيمَن عِنْده"[5]. 4- ومنها ما ثبت عند مسلم أيضًا من حديث أبي هُرَيْرَة (ت: 57هـ) - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُحِبُّ أحدكُم إِذا أرجع إِلَى أَهله أَن يجد فِيهِ ثَلَاث خلفات عِظَام سمان؟ "قُلْنَا: نعم، قَالَ: "فَثَلَاث آيَات يقرأهنَّ أحدكُم فِي صلَاته، خيرٌ لَهُ من ثَلَاث خلفات سمان عِظَام"[6]. 5- ومنها ما ثبت عند البخاري من حديث أبي موسى الأشعري (ت: 44هـ) - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (مثل الذي يقرأ القرآن كالأُترجة طعمها طيبٌ، وريحها طيبٌ، والذي لا يقرأ القرآن كالتمرة طعمها طيبٌ، ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب، وطعمها مرٌّ، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مرٌّ، ولا ريح لها)[7]. والأحاديث الواردة في هذا الصدد أكثر من أن تُحصى. [1] صحيح البخاري: ج4/ ص1919 ح4739. [2] رواه البخاري: (4667). [3] عقبة بن عامر بن عبس بن عمرو بن عدي بن عمرو بن رفاعة بن مودوعة بن عدي بن غنم بن الربعة بن رشدان بن قيس بن جهينة الجهني، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا، روى عنه جماعة من الصحابة والتابعين، كان قارئًا عالِمًا بالفرائض والفقه، فصيح اللسان، شاعرًا، كاتبًا، وهو أحد من جمع القرآن، مات عقبة في خلافة معاوية؛ يُنظر: الاستيعاب (ص: 561 ترجمة 1898)، والإصابة (4/ 520 ترجمة 5605). [4] أخرجه مسلم:كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل قراءة القرآن في الصلاة وتعلمه (803). [5] جزء من حديث أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، برقم (2699). [6] أخرجه مسلم: حديث/ 802، 1/ 552. [7] أخرجه البخاري: حديث/ 4731، 4/ 1917، ومسلم: حديث/ 797، 1/ 549. |
رد: حرص الصحابة رضي الله عنهم على اقتران العلم بالقرآن بالعمل به
بيان حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على العمل بكل ما أنزل من القرآن (3) الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي لقد فَهِمَ الصحابة - رضي الله عنهم - أن الهدف الأسمى من إنزال القرآن ليس مجرد تلاوته باللسان فحسب، بل فقِهوا وفهِموا أن التلاوة لابد أن تكون تلاوة بحقٍّ، وأن تلاوته حقَّ تلاوته هي اتباع أوامره واجتناب نواهيه؛ قال تعالى:﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ﴾ [البقرة: 121]، وقد فسر قتادة أن الصحابة هم الذين كانوا يتلونه حق تلاوته [1]. قال القرطبي (ت: 671هـ) - رحمه الله-: يتَّبعونه حق اتباعه، باتباع الأمر والنهي، فيُحلون حلاله، ويُحرمون حرامه، ويعملون بما تضمنه [2]. وحول معنى حق التلاوة يقول عبد الله بن مسعود (ت: 32هـ) - رضي الله عنه -: (والذي نفسي بيده، إن حقَّ تلاوته أن يُحِلَّ حلالَه، ويحرِّم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأوَّل منه شيئًا على غير تأويله[3]، وتفسير عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - لمعنى حق تلاوته، يدل على أن الصحابة - رضي الله عنهم - فهِموا أن القرآن أُنزل للعمل به، لا لمجرد تلاوته باللسان فحسب. ويدل على ذلك قوله: لا يَغْرُرْكم مَن قرأ القرآن، إنما هو كلام نتكلم به، ولكن انظروا من يعمل به[4]. قال أبو عبد الرحمن السلمي الكوفي (ت: 74هـ) - رحمه الله -: حدثنا الذين كانوا يُقرِئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما - أنهم كانوا إذا تعلَّموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات، لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا [5]. روى الطبري بسنده عن عبد الله بن مسعود (ت: 32هـ) - رضي الله عنه - قال: كان الرجلُ منَّا إذا تعلمَ عشر آيات لم يجاوزهنَّ حتى يعرفَ معانيهنَّ والعمل بهنَّ [6]. والصحابة - رضي الله عنهم - أخذوا عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لفظ القرآن ومعناه[7]. ونسوق مثالين يدلان على حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على العمل بالقرآن: المثال الأول: موقفهم - رضي الله عنهم - عن نزول خواتيم سورة البقرة: ثبت عند مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لَمَّا نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾[البقرة: 284], قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم بَرَكُوا على الرُّكب، فقالوا: أي رسول الله، كلِّفنا من الأعمال ما نُطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة, وقد أُنزلت عليك هذه الآية، ولا نُطيقها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سَمِعنا وعصينا، بل قولوا: سمعنا وأطعَنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتُهم، فأنزل الله في إثرها: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾[البقرة: 285], فلما فعلوا ذلك نَسخها الله تعالى، وأنزل الله عز وجل: ﴿ ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286]، قال: نعم، ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ﴾ [البقرة: 286]، قال: نعم،﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ [البقرة: 286]، قال: نعم، ﴿ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 286]، قال: نعم [8]. وفيه بيانُ فضل الصحابة - رضي الله عنهم - وإذعانهم وانقيادهم، وتسليمهم لأمر الله تبارك وتعالى، وامتثالهم لأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وذلك لما أمرهم بالتسليم والانقياد، فلما انقادوا للأمر كان من بركة ذلك الانقياد والإذعان مُجازاتهم بالتخفيف، والثناء عليهم من ربهم بقوله سبحانه في وصف استجابتهم وصبرهم على طاعة ربهم بأن قالوا: ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنا ﴾، فجاءتهم بشارة ربهم بنسخ ما سبق. وذلك من دلائل سَعة رحمة الله لَما رأى صبرهم على الطاعة مع ما فيها من مَشقة، فجزاهم ربهم بأنه لم يُحملهم فوق قدرتهم واستطاعتهم. ولم يكن منهج الصحابة - رضي الله عنهم - مع القرآن تلقِّي آياته بالحفظ والتدبر، واستنباط ما فيها من أحكام فحسبُ، بل تلقَّوا آياته على أنها رسائلُ من الله إليهم، فسارعوا للعمل بما تقتضيه سورُه وآياته، ولذا كان يشق عليهم أن تنزل آيات لا يُمكنهم العمل بها، فهم هنا قد راجعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما شقَّ عليهم من العمل بتلك الآيات، وهذه الواقعة ليست الوحيدة من نوعها، فدواوين السنة قد سطَّرت العديد مِن أمثالها، ولكن سُقناها هنا واحدةً من الأمثلة التي تُبرهن عمليًّا على حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على العمل بكل ما نزل من القرآن[9]. المثال الثاني: موقف أبي طَلْحَةَ الأنْصَاريِّ (ت: 34هـ) - رضي الله عنه - مع أرض بَيْرُحَاءَ، وقد سبق ذكر خبر تلك القصة في ثنايا البحث[10]، وحديثها مخرَّج في الصحيحين[11]. والأمثلة الدالة على حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على العمل بالقرآن أكثر مَن يُحصيها مقال، ولعل في قليل من الإشارة ما يغني عن كثير من العبارة. [1] تفسير القرطبي: (1/ 91)؛ رواه القرطبي عن عكرمة. [2] المرجع السابق: (1/ 92). [3] تفسير ابن كثير: (1/ 175). [4]رواه الخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل: (71). [5] رواه الإمام أحمد بن حنبل في المسند: (5/ 410) ومداره على عطاء بن السائب عن أبي عبدالرحمن السلمي، وعطاء بن السائب كان قد اختلط، لكن من جملة من رواه عنه حماد بن زيد وهو ممن روى عنه قبل الاختلاط، وروايته عند ابن سعد في الطبقات: (6/ 172). [6] تفسير الطبري: 1/ 35. [7] الصواعق المرسلة، لابن القيم: (ص: 44). [8] أخرجه مسلم حديث (125)، وتفرد به عن البخاري، وأخرج الترمذي بنحوه في " كتاب التفسير" باب ومن سورة البقرة، حديث (2992). [9] يُنظر: عَرَفةُ بْنُ طَنْطَاوِيِّ، الشُّفْعَةُ بَيِنَ الجَمْعِ العُثْمَانِيِّ وَالأَحْرُفِ السَّبْعَةِ: (161-163)، بحث مجاز للنشر من مجلة: البحوث والدراسات الشَّرْعِيةِ: ( مجلة محكمة) برقم: (143179/ 1)، بتاريخ: 2/ 3/ 1443هـ. [10] وذلك في المطلب الثالث: حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على اقتران العلم بالقرآن بالعمل به. [11] رواه البخاري: (1461)، ومسلم: (998). |
| الساعة الآن : 01:34 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour