ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القصة والعبرة (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=32)
-   -   قصة الرجال الثلاثة الذين أغلق عليهم الغار (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=319024)

ابوالوليد المسلم 27-09-2025 02:38 PM

قصة الرجال الثلاثة الذين أغلق عليهم الغار
 
قصة الرجال الثلاثة الذين أُغلق عليهم الغار

عبدالستار المرسومي

هذه قصة ثلاثة رجال من الأمم السابقة، كانوا يسيرون في طريقهم، فاضطرهم نزول المطر إلى أن يختبئوا في غار بجبل، فسقطت صخرة كبيرة أغلقت عليهم الغار، فظنوا أنهم لن ينجوا وأنهم هالكون، ولكنهم اهتدَوا واتفقوا فيما بينهم على أن يدعوا الله جل جلاله بأعمالهم الصالحة، فدعا كل واحد منهم دعاءً، فتقبل الله جل جلاله منهم أدعيتهم، وأزاح جل جلاله الصخرة ونجَوا، والقصة بتمامها في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((بينما ثلاثة نفر يتماشون، أخذهم المطر، فمالوا إلى غار في الجبل، فانحطت على فم غارهم صخرةٌ من الجبل، فأطبقت عليهم، فقال بعضهم لبعض:
انظروا أعمالًا عمِلتموها لله صالحةً، فادعوا الله جل جلاله بها، لعله يفرجها.


فقال أحدهم:
اللهم إنه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار كنت أرعى عليهم، فإذا رُحت عليهم فحلبت؛ بدأت بوالديَّ أسقيهما قبل ولدي، وإنه ناء بي الشجر، فما أتيت حتى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحِلاب، فقمت عند رؤوسهما[1]، أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغَون[2] عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك؛ فافرج لنا فرجةً نرى منها السماء، ففرج الله لهم فرجةً حتى يرون منها السماء.


وقال الثاني:
اللهم إنه كانت لي ابنة عمٍّ، أحبها كأشد ما يحب الرجال النساءَ، فطلبت إليها نفسها، فأبت حتى آتيها بمائة دينار، فسعيت حتى جمعت مائة دينار فلقيتها بها، فلما قعدت بين رجليها، قالت:
يا عبدالله؛ اتقِ الله ولا تفتح الخاتم، فقمت عنها، اللهم فإن كنت تعلم أني قد فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها، ففرج لهم فرجةً.


وقال الآخر:
اللهم إني كنت استأجرت أجيرًا بفَرَقِ[3] أرُزٍّ، فلما قضى عمله قال:
أعطني حقي، فعرضت عليه حقه فتركه ورغب عنه، فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقرًا وراعيها، فجاءني فقال:
اتقِ الله ولا تظلمني وأعطِني حقي، فقلت:
اذهب إلى ذلك البقر وراعيها، فقال:
اتقِ الله ولا تهزأ بي، فقلت:
إني لا أهزأ بك، فخذ ذلك البقر وراعيها، فأخذه فانطلق بها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك؛ فافرج ما بقي، ففرج الله عنهم))[4].

المسائل المستنبطة من القصة:
المسألة الأولى: قد يغلق الله جل جلاله عليك الأبواب، ويقطع عنك أسباب فتحها، فلا نجاة ولا خلاص إلا عن طريقه جل جلاله، كل ذلك من أجل أن تقترب منه بعد غفلتك وابتعادك عنه جل جلاله، ومن أجل أن تدعوه وتناجيه، وتتضرع وتتوسل إليه جل جلاله، بعد أن شغلتك الدنيا وما فيها عنه جل جلاله، فإن دعاءك وتضرعك أمر يحبه الله جل جلاله ويريده جل جلاله من عبده، وإنه مَجلبة لرضاه جل جلاله عن عبده، فمهما شاكس وابتعد العبد عن الله جل جلاله، وهرب منه وعصاه، فهو في النهاية ليس له سواه، وسيتخلى عنه يومًا ما كل المقربين والأحباب والأصدقاء، وسيكتشف العبد أنه لن يقف معه وينجيه من المصائب، إلا الله جل جلاله.


المسألة الثانية: لقد فرج الله جل جلاله عن هؤلاء الرجال بالدعاء، والدعاء سلاح فعَّال للمسلم للخلاص من مصائب الدنيا، وهو ركن وأساس في العبادة؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يسأل الله يغضب عليه))[5]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((الدعاء هو العبادة))[6]، وهذا الحديث يعبر عن قيمة الدعاء في الإسلام، فالله جل جلاله أمر عباده بالدعاء ووعدهم بأن يستجيب لهم؛ فقال تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60]، وتعني ﴿ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي [غافر: 60] في الآية أي: عن دعائي، والدعاء هو الطلب من الله جل جلاله بمعنى الرجاء الذي هو ركن من أركان العبادة، ويكون الدعاء برفع الصوت وخفضه؛ جاء في الفروقات اللغوية: "الفرق بين النداء والدعاء: أن النداء هو رفع الصوت بما له معنًى، والعربي يقول لصاحبه: نادِ معي ليكون ذلك أندى لصوتنا؛ أي أبعد له، والدعاء يكون برفع الصوت وخفضه يُقال: دعوته من بعيد، ودعوت الله جل جلاله في نفسي، ولا يقال: ناديته في نفسي، وأصل الدعاء: الطلب، من الفعل (دعا يدعو)"، وينبغي أن يدعو الإنسان ربه جل جلاله وهو موقن من أن الله جل جلاله سيجيبه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوجه الأتباع على حضور القلب في الدعاء: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاهٍ))[7].

المسألة الثالثة: يدعو المسلمون في كل الأوقات، ولكنهم يتحرَّون أوقاتًا بعينها، بيَّنتها الشريعة عند دعائهم مظنة الاستجابة، ومن هذه الأوقات:
عند التقاء الجيوش.
أثناء إقامة الصلاة.
عند نزول الغيث.

فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اطلبوا استجابة الدعاء عند التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث))[8].

في الثلث الأخير من الليل، وهو وقت السَّحَرِ أو جوف الليل.

دُبُر الصلوات المكتوبات؛ أي: بعدها؛ حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول جل جلاله: من يدعوني فأستجيبَ له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟))[9].

وقد سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الدعاء أسمع؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات))[10].

بين الأذان والإقامة؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يُرَد الدعاء بين الأذان والإقامة))[11].

عند نزول الغيث.

عند سماع الأذان؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء: ((لا يُرد عند النداء، وعند البأس، وتحت المطر))[12].

آخر ساعة من نهار يوم الجمعة.

وتكون هذه الساعة بين العصر والمغرب على الراجح من أقوال العلماء، فقد ذُكر يوم الجمعة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((فيه ساعة لا يوافقها عبدٌ مسلم وهو قائم يصلي، يسأل الله تعالى شيئًا إلا أعطاه إياه، وأشار بيده يقلِّلها))[13].

كما أن هناك أشخاصًا يستجيب الله جل جلاله لدعواتهم؛ ومن هؤلاء:
الإمام العادل.

فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يرد الله دعاءهم: الذاكر الله كثيرًا، ودعوة المظلوم، والإمام المقسط))[14].

المسلم إذا دعا لأخيه بظهر الغيب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملَك موكَّل، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل))[15].
المظلوم.
الصائم.
المسافر.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال في ذلك: ((ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم))[16]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق المظلوم خاصة: ((اتقِ دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب))[17]، وقال صلى الله عليه وسلم كذلك: ((اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحمل على الغمام، يقول الله جل جلاله: وعزتي وجلالي لأنصرنَّكِ ولو بعد حين))[18].

ودعوة المظلوم يستجيب الله جل جلاله لها وإن كان هذا المظلوم فاجرًا؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرًا؛ ففجوره على نفسه))[19].

دعوة الآباء الصالحين؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم))[20]، ودعوة الوالد هنا سواء كانت إيجابية لصالح الولد أم سلبية عليه، ستكون مستجابة[21].

المسألة الرابعة: من الأدعية المستجابة هو الدعاء والتضرع إلى الله جل جلاله مقترنًا بالأعمال الصالحة، وهو محور قصتنا هذه، والتي يكون العبد قد فعلها وكانت نيته خالصة لوجه الله جل جلاله، وابتغاء مرضاته، والعمل الصالح له قيمة عظيمة في الإسلام وهو قرين الإيمان؛ ولذلك فإن القرآن العظيم يقرن الإيمان بالعمل الصالح دائمًا؛ وذلك في قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، الذي تكرر عشرات المرات في آيات القرآن الكريم وفي مواضع مختلفة منه، والعمل الصالح يرفعه الله جل جلاله إليه، قال تعالى: ﴿ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10]، فالمؤمن العاقل لا بد له أن يجعل بينه وبين الله جل جلاله خبيئة من عمل صالح، يدخرها لأيام الشدائد يدعو بها ربه جل جلاله.


المسألة الخامسة: كان عمل ودعاء الرجل الأول في برِّ الوالدين، وبر الوالدين من أعظم أعمال الفرد المسلم قدرًا وأحبها إلى الله جل جلاله؛ فإن بر الوالدين أعظم الأعمال بعد توحيد الله جل جلاله؛ وقد جاء ذلك في قوله تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء: 23]، فقد قرنت هذه الآية عبادةَ الله جل جلاله ببر الوالدين، وقد جاء أن بر الوالدين أحب العمل إلى الله جل جلاله بعد الصلاة؛ وذلك بحديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد سأل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أي العمل أحب إلى الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: الصلاة على وقتها، قال: ثم أيٌّ؟ قال صلى الله عليه وسلم: ثم بر الوالدين، قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله))[22].


وما يلفت النظر أن بر الوالدين جاء قبل الجهاد في سبيل الله جل جلاله، على أهمية الجهاد وعلو قدره، ورفعة شأنه، وذلك لما في بر الوالدين من الخير والأهمية والأجر؛ وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله، قال صلى الله عليه وسلم: ((فهل من والديك أحد حيٌّ؟ قال: نعم؛ بل كلاهما، قال صلى الله عليه وسلم: فتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم، قال صلى الله عليه وسلم: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما))[23].


وحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين من التقصير أو الإهمال في بر الوالدين؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف، قيل: من يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: من أدرك أبويه عند الكِبَرِ أحدهما أو كليهما، فلم يدخل الجنة))[24].


ولم يكتفِ الإسلام ببر الوالدين وهم أحياء، بل ذهب لأبعد من ذلك ببرهم وهم أموات، وذلك بصلة أصدقائهما وأحبابهما؛ قال رسول الله: ((إن أبر البر صلة الولد أهلَ ودِّ أبيه))[25].


وفي القصة كذلك أن بر الوالدين مقدَّم على كل عمل، بما في ذلك السعي على رزق الأولاد وإطعامهم، وإن كانوا صغارًا، وبان ذلك في قول الرجل الأول: (وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، والصبية يتضاغون عند قدمي، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتى طلع الفجر).


ومن بر الوالدين الدعاء لهما في حياتهما وبعد موتهما، وكان الأنبياء عليهم السلام الذين هم صفوة البشر يدعون لوالديهم؛ فكان من أشهر الأدعية الواردة على الألسن دعاء خليل الله إبراهيم عليه السلام: ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم: 41]، وكان من دعاء نوح عليه السلام: ﴿ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا [نوح: 28].


المسألة السادسة: كان دعاء الرجل الثاني بعمله في ترك الزنا، وكان قادرًا أن يفعله، وترك الفعل السيئ هو فعل يُثاب عليه المرء، وما منعه إلا الخوف من الله جل جلاله، والزنا هو الجماع المحرم، وهو اسم لوطء الرجل امرأةً لا تحل له في فرْجِها، من غير زواج شرعي؛ ففي المعجم الوسيط: "زنا وزناء؛ أتى المرأة من غير عقد شـرعي، ويُقال: زنى بالمرأة فهو زانٍ)[26]، ووردت كلمة الفاحشة تعبيرًا عن الزنا في القرآن الكريم زيادة في الاستقباح؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء: 32].


والفحش: كل شيء جاوز حده فهو فاحش، ولما كان الزنا ليس فيه تجاوز فهو فاحشة قليله وكثيره؛ جاء في أساس البلاغة للزمخشري: "أفحش فلان في كلامه، وفحش وتفحَّش، وهو فحَّاش، وتفاحش الأمر: تزايد في القبح"[27]، وفي الصحاح للجوهري رحمه الله: "الفحشاء: الفاحشة، وكل شيء جاوز حده فهو فاحش، وقد فحُش الأمر بضم الحاء فحشًا، وتفاحش، ويسمى الزنا فاحشة"[28].


وحكم الزنا أنه حرام في كتاب الله عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء: 32]، والذي يلفت النظر أن الله جل جلاله لم يقل: لا تزنوا، بل قال: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا [الإسراء: 32]؛ أي: لا تقعوا في مقدمات الزنا من النظر، أو الخلوة، أو الاختلاط بين الرجال والنساء، أو القُبلة أو أفعال وأقوال الإغراءات المؤدية للزنا.


قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره: "قال العلماء: قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا [الإسراء: 32] أبلغ من أن يقول: ولا تزنوا، فإن معناه: لا تدنوا من الزنا، والزنا يمد ويقصَـر لغتان، قال الشاعر:
كانت فريضةً ما تقول كما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كان الزنا فريضة الرجم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وسبيلًا (في الآية) نصب على التمييز، التقدير وساء سبيله سبيلًا؛ أي: لأنه يؤدي إلى النار، والزنا من الكبائر، ولا خلاف فيه وفي قبحه، لا سيما بحليلة الجار"[29].


ومن هنا فإن مقدماته ووسائله تؤديها بعض الجوارح؛ كاليد والرِّجل، والعين واللسان والأذن، فكلها يمكن أن تشارك في التقديم للجريمة القبيحة؛ لذلك فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كُتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة؛ فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرِّجل زناها الخُطى، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفَرْجُ ويكذبه))[30].


ولعل من أهم الأسباب والحِكم في تحريم الزنا ومقدماته كونه يؤدي إلى عاقبة مؤلمة؛ وهي تحطيم الأواصـر الأسـرية، وبالتالي تحطيم الأسـرة، التي هي النواة والأساس التي تقوم عليها المجتمعات، وإن المجتمعات التي تحب أن تعيش بأمان، بعيدًا عن التردي والانحلال وانتهاك الأعراض، كان لزامًا عليها أن تتبع كل السبل لتطهر جماهيرها من مثل هذا المرض العضال، الذي لا يؤدي وجوده فيها إلا إلى هلاكها.


ومن ناحية أخرى فالزنا يؤدي إلى اختلاط الأنساب، وهدم ما يتبعه من الالتزامات الاجتماعية؛ كالانتساب للعائلات، وحقوق المواريث وغيرها، كما أن الزنا أمر مستقبح حتى قبل الإسلام من حيث إثبات النسب؛ ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتخر شخصيًّا بأنه لم يتلوث نسبه بشيء من آثار الزنا؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، فلم يصبني من سفاح الجاهلية شـيء))[31].


وعندما نتكلم عن هذا الموضوع، فلا بد من أن نذكر روائع القصص التي ذكرها القرآن الكريم، وتحدث عنها بتفاصيل لافتة للنظر، وتناول أحداثها ببلاغة منقطعة النظير، هي قصة نبي الله يوسف عليه السلام، وموقفه الثابت والرائع تجاه قضية الزنا، والامتناع والرفض الشديد، والمدافعة الشديدة عن الخوض فيه، على الرغم من أن الدوافع والدواعي لفعل الإثم كبيرة وكثيرة، وإن الإغراءات الناتجة عنه ذات تأثير عميق في النفس البشرية بشكل واضح وصريح، إلا أن نبي الله يوسف عليه السلام امتنع ودافع كل تلك الأسباب، فحصَّن نفسه.


وذكر العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه الجواب الكافي تفصيلًا حول هذا الموضوع؛ حيث وصف الذي ابتُلي به النبي يوسف عليه السلام بأنه أمر لا يصبر عليه إلا من صبره الله جل جلاله؛ لأن الداعي إلى الوقوع في الزنا في قصة يوسف عليه السلام غاية في القوة؛ وذلك من وجوه[32]:
الأول: ما ركبه الله سبحانه وتعالى في طبع الرجل من ميله إلى المرأة، كما يميل العطشان إلى الماء، والجائع إلى الطعام، حتى إن كثيرًا من الناس يصبر على الطعام والشراب، ولا يصبر على النساء، وهذا لا يُذم إذا صادف حلالًا.


الثاني: أن النبي يوسف عليه السلام كان شابًّا، وشهوة الشاب وحِدته أقوى.


الثالث: أنه كان عزبًا، ليس له زوجة ولا سـرية تكسـِر قوة الشهوة.


الرابع: أنه كان في بلاد غربة، يتأتى للغريب فيها من قضاء الوطر، ما لا يتأتى له في وطنه بين أهله ومعارفه.


الخامس: أن المرأة كانت ذات منصب وجمال، بحيث إن كل واحد من هذين الأمرين يدعو إلى مواقعتها.


السادس: أنها غير ممتنعة ولا أبية، فإن كثيرًا من الناس يزيل رغبته في المرأة إباؤها وامتناعها، لما يجد في نفسه من ذل الخضوع والسؤال.


السابع: أنها طلبت وأرادت، وراودت وبذلت الجهد، فكفته مؤونة الطلب وذل الرغبة إليها، بل كانت هي الراغبة الذليلة، وهو العزيز المرغوب فيه.


الثامن: أنه في دارها تحت سلطانها وقرارها، بحيث يُخشى إن لم يطاوعها مِن أذاها له باجتماع داعي الرغبة والشهوة.


التاسع: أنه لا يخشى أن تنمَّ عليه هي ولا أحد من جهتها؛ فإنها هي الطالبة الراغبة، وقد غلَّقت الأبواب وغيَّبت الرُّقباء.


العاشر: أنه كان في الظاهر مملوكًا في الدار، بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها، ولا ينكَر عليه، وكان الأنس سابقًا على الطلب، وهو من أقوى الدواعي، كما قيل لامرأة شريفة محصنة ومن أشراف العرب: ما حملك على الزنا؟ قالت: قرب الوساد، وطول السواد[33].


يعني: قرب وساد الرجل من وسادتي، ومسارَّته لي، والسواد المسارَّة، وساوده: إذا سارَّه.


الحادي عشـر: أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال، فأرته إياهن وشكت حالها إليهن؛ لتستعين بهن عليه، فاستعان هو بالله جل جلاله عليهن؛ فقال: ﴿ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف: 33].


الثاني عشـر: أنها توعدته السجن والصَّغار، وهذا نوع إكراه، إذ هو تهديد من يغلب على الظن وقوع ما هدد به، فيجتمع داعي الشهوة، وداعي السلامة من ضيق السجن والصغار.


الثالث عشـر: أن الزوج لم يُظهر من الغَيرة والنخوة ما يفرِّق به بينهما، ويبعد كلًّا منهما عن صاحبه، بل كان غاية ما قابلها به أنه قال ليوسف: (أعرض عن هذا)، وللمرأة: (استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين)، وشدة الغيرة للرجل من أقوى الموانع.


المسألة السابعة: إن العمل الصالح للرجل الثالث ضمَّ مجموعة من الأعمال الصالحة في حالة واحدة، صحيح أن ظاهر الأمر أنه رد الحق لأصحابه، ولكنه في الواقع قام بذلك عبر مجموعة من المواقف؛ وهي:
1- لقد قام هذا الرجل بإعطاء الأجير حقه بعد إنجازه العمل مباشرة ولم يماطل معه، وهذه خصلة حسنة كان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم قد أوصى بها؛ فقد قال: ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه))[34]، فالرجل كان قد وافق مراد الشرع؛ لأن نكران حق الأُجراء وظلمهم عواقبه وخيمة عند الله جل جلاله، وسيكون فاعل ذلك في مقام خصومة الله جل جلاله التي لا يطيقها أحد؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: ((قال الله جل جلاله: ثلاثة أنا خَصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطِ أجره))[35].


2- عدَّ الرجل ما عنده من المال للأجير أمانة، وهو قد حفظ تلك الأمانة، وحفظُ الأمانة عمل صالح، وكانت الأمانة في بداية الخلق شائعة وفطرة عند الناس؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن، فعلِموا من القرآن، وعلِموا من السنة))[36]، ثم بدأت تتداعى وتقل شيئًا فشيئًا، وستُفقد الأمانة يومًا ما، وسيكون ضياع الأمانة من علامات قيام الساعة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة))[37]، فسيأتي زمان على الناس يُفتقد فيه الأمناء؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((حتى يُقال: إن في بني فلان رجلًا أمينًا))[38].


3- قام الرجل باستثمار أجر الأجير، فقد تعامل مع الأمر بمروءة، ولو كان ترك المال على حاله لضاعت قيمته مع الوقت، ولكن مروءته دفعته لاستثماره وإكثاره، لينمو هذا المال ويصبح أضعافًا مضاعفة.


4- صدقه وجديته في إعادة الحق لأهله، على الرغم من أنه قام بإكثاره بنفسه، ولم يماحك ولم يساوم حتى على جهده الذي بذله في إنماء هذا المال لغيره، ففي العادة أن المال يحلو بعين المرء، فيبدأ بالمجادلة ليأخذ ذلك المال أو يأخذ جزءًا منه على الأقل مقابل أتعابه، ولكن الرجل ضحى بذلك، وكان صادقًا وشجاعًا، وقاوم هوى نفسه، وفعل ذلك لوجه الله جل جلاله، فتقبل الله جل جلاله منه ذلك العملَ، وجزاه جل جلاله عنه خيرًا في الدنيا قبل الآخرة.

[1] الأصل أن يقول: عند رأسيهما، ولكن قد يعبر عن المثنى بالجمع كما هو هنا؛ وكما قال تعالى: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [المائدة: 38]، والمراد (يديهما).

[2] يتضاغون: يصيحون ويستغيثون من الجوع.

[3] الفرق: إناء يسع ثلاثة آصع، والصاع أربعة أمداد.

[4] صحيح البخاري 5974.

[5] سنن الترمذي 3373.

[6] سنن أبي داود 1481.

[7] سنن الترمذي 3479.

[8] معرفة السنن والآثار للبيهقي 2090.

[9] صحيح البخاري 1145.

[10] سنن الترمذي 3499.

[11] سنن أبي داود 521.

[12] معرفة السنن والآثار للبيهقي 2090.

[13] صحيح البخاري 935.

[14] شعب الإيمان للبيهقي 588.

[15] صحيح مسلم 7105.

[16] شعب الإيمان للبيهقي 3594.

[17] صحيح مسلم 1290.

[18] المعجم الكبير للطبراني 3630.

[19] مسند الإمام أحمد بن حنبل 8795.

[20] سنن أبي داود 1538.

[21] ملة أبيكم إبراهيم، عبدالستار المرسومي، ص 426، 467.

[22] متفق عليه.

[23] صحيح مسلم 6.

[24] صحيح مسلم 9.

[25] صحيح مسلم 11.

[26] المعجم الوسيط، مجموعة من المؤلفين، ج1، ص 403.

[27] أساس البلاغة، الزمخشـري، ج1، ص465.

[28] الصحاح، إسماعيل بن حماد الجوهري، ج4، ص151.

[29] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، ج10، ص253.

[30] صحيح مسلم 6925.

[31] المطالب العالية للحافظ ابن حجر العسقلاني - كتاب السيرة والمغازي، ج17، ص 198.

[32] الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ابن قيم الجوزية، ص 483.

[33] جمهرة الأمثال، أبو هلال العسكري، ج2، ص127.

[34] المعجم الصغير للطبراني 34.

[35] صحيح البخاري 2114.

[36] صحيح مسلم 384.

[37] صحيح البخاري 59.

[38] صحيح مسلم 384.







الساعة الآن : 08:51 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 37.31 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.21 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (0.25%)]