(بيعة العقبة الأولى) قراءة دعوية لبنود البيعة
(بيعة العقبة الأولى) قراءة دعوية لبنود البيعة شريف عبدالعزيز الاستراتيجة الجديدة: كان لتغير أسلوب عرض الدعوة الإسلامية على القبائل أثر فعال في كسر الحصار المفروض من قبل المشركين والذي عطل كثيرا ً من انتشار الدعوة في القبائل العربية بالجزيرة, وكانت أولى ثمار هذا التغيير دخول مجموعة صغيرة من أهل يثرب في الإسلام. [*] قال جابر بن عبدالله الأنصاري - رضي الله عنهما -: " مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم بعكاظ ومجنة وفي المواسم بمنى يقول: " من يؤوني ؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة ؟ حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو مصر " فيأتيه قومه فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك, ويمشي بين رجالهم وهم يشيرون إليه بالأصابع, حتى بعثنا الله إليه من يثرب فأويناه وصدقناه. [*] وكان من أولى ثمرات دخول الإسلام في يثرب في مواسم الحج والعمرة اسلام سويد بن الصامت وكان من سادات الأوس ويلقب بالكامل لشرفه سوؤده في قومه, وقد تصدى له رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - - وعرض عليه الإسلام, فلم يبعد ولم يعلن, وأثنى على ما جاء به رسول الله, ثم انصرف إلى المدينة وهناك أسلم ولكنه ما لبث أن قتل في صراع مع الخزرج وقد شهد رجال مسلمون من قومه الأوس على أنه قد قتل وهو مسلم يهلل ويكبر, ومن الذين أسلموا في تلك المرحلة المبكرة أيضا ً إياس بن معاذ من الأوس وكان غلاما ً قد جاء مع قومه بني عبد الأشهل يلتمسون الحلف مع قريش ضد الخزرج, وقد سمع كلام الرسول - - صلى الله عليه وسلم - - وصدقه ولكنه كتم إسلامه وأظهره عند موته. ثمرات يثرب الطيبة: [*] في موسم العام الحادي عشر من النبوة كانت البداية المثمرة للدعوة في قبائل العرب بالمواسم, إذ جاء وفد صغير من خزرج المدينة للحج ونزلوا عند عقبة منى, وكانت منازل أهل المدينة بها, وكان الوفد مكون من ستة أفراد كلهم من الخزرج وهم أبو أمامة أسعد بن زرارة, وعوف بن الحارث, ورافع بن مالك, وقطبة بن عامر, وعقبة بن عامر, وجابر بن عبدالله. [*] وقد صادفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الموسم عند عقبة منى فقال لهم: من أنتم ؟ قالوا: نفر من الخزرج, قال: " أمن موالي يهود ؟ ", قالوا: نعم, قال: " أفلا تجلسون أكلمكم ؟ " قالوا: بلى, وجلسوا معه, فدعاهم الى الله - عز وجل - وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. [*] كان هذا اللقاء بترتيب رباني, ومما صنعه الله – - عزوجل - - لأهل يثرب لما أراد تشريفهم بالإسلام, وذلك لعدة أسباب بعد توفيق الله - تعالى - لهم, منها: أن يهود يثرب كانوا يتوعدون الأوس والخزرج بالقتال تحت راية نبي قد أظل زمانه, وكان الأوس والخزرج أهل شرك وأوثان, في حين أن اليهود أهل كتاب, وكان الأوس والخزرج رغم المشاحنات المتبادلة مع اليهود يثقون في كلامهم ويصدقونه. أن دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة جاءت في وقت قد أنهك الصراع المحتدم قواهم وسفك دماءهم وقتل أشرافهم, وبلغت الكراهية في القلوب منتهاها بحيث يستحيل التوفيق بينهما والجمع بين أفرادهما إلا تحت قيادة خارجية لا تنتمي إلى أحد من الفريقين, وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - القيادة المثلى لمثل المنصب الخطير. إن وفد المدينة كان من الخزرج وكانوا من بني النجار أي من أخوال النبي - صلى الله عليه وسلم -, أي أنهم أكثر استعدادا ً للسماع والقبول من غيرهم, وقد حفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم هذا الأمر, وكان يثني عليهم ويقول: " بنو النجار خير دور الأنصار ". [*] فلما كلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولئك النفر ودعاهم إلى الله - عزوجل - قال بعضهم لبعض يا قوم اعلموا والله أن هذا النبي الذي تواعدكم به اليهود فلا تسبقنكم إليه, فأجابوه لما دعاهم إلى الله - عزوجل - وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا له: إن قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم وعسى الله - عز وجل - أن يجمعهم الله بك وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك و ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين, فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك. [*] أنصرف هذا الوفد المبارك بعد أن تشرف بدخول الإسلام وإعتناق الإيمان على يد الرسول - صلى الله عليه وسلم -, وقد امتلأت صدورهم بالإيمان واليقين والرغبة الحقيقية في نشر الدين وتبليغ هذا الخير لإخوانهم في المدينة, يقول ابن اسحاق معلقاً على هذه الحادثة: " فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعوهم إلى الإسلام, حتى فشا فيهم, فلم يبقى من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". [*] والناظر لما قام به الستة نفر الذين أعلنوا إسلامهم في نشر الإسلام وخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة, والحيوية والنشاط الذي قاموا به في الدعوة الإسلامية على الرغم من إفتقارهم لأدوات الدعوة, وكيف تحول هؤلاء المشركين والوثنيون إلى أنصار الدين الجديد وجنود للحق مخلصين ودعاة نشطين محنكين كأنهم يمارسون الدعوة منذ عشرات السنين وكان ذلك كله من صنع الله - عزوجل - لدينه وسوله - صلى الله عليه وسلم - ولأهل المدينة الذين سيتشرفون بدخول الدين وحماية الدعوة ونصرة الرسول. بيعة العقبة الأولى: [*] مر عام كامل على المقابلة المباركة الأولى بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووفد الخزرج, وفي الموسم من العام الثاني عشر من النبوة جاء وفد من أهل يثرب مكون من اثنى عشر رجلا؛ عشرة من الخزرج, اثنان من الأوس في مشهد تألفي نادر بين الاوس والخزرج ما كان له أن يتم لولا دخولهم في الإسلام. [*] هذا الوفد الجديد جاء إلى مكة بهدف مبايعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتعرف على مستجدات الدين فقد أخرج البخاري في كتاب مناقب الأنصار, ومسلم فى الحدود من حديث عبادة بن الصامت قال: " بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة العقبة الأولى ونحن اثنى عشر رجلا, أنا أحدهم, فبايعناه بيعة النساء على: ألا نشرك بالله شيئا ً, ولا نسرق, ولا نزني, ولا نقتل أولادنا, ولا نأتي ببهتان بفتريه بين أيدينا وأرجلنا, ولا نعصيه في معروف, وذلك قبل أن نفترض الحرب, فإن وفيتم بذلك فلكم الجنة وإن غشيتم شيئا ً فأمركم إلى الله إن شاء غفر وإن شاء عذب ". [*] هذه البيعة التي عرفت ببيعة النساء لخلوها من أي تعهدات قتالية أو إي ذكر للحرب, وقيل سميت ببيعة النساء لأن بنودها هي نفس بنود بيعة النساء المذكورة في سورة الممتحنة آية 12. وقد يسأل سائل لماذا أخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - البيعة على هذا الوفد دون أي التزامات دفاعية أو حربية, على الرغم من تركيزه في دعوته بين القبائل خلال تلك المرحلة على الجانب الأمني والدفاعي ؟. أولا ً الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقدم على أمر من أمور الدعوة إلا بوحي من الله - عز وجل -, فهو لم يكن ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى, ولكن قد نلمس حكمته - صلى الله عليه وسلم - في هذه البيعة في عدة امور منها: [*] أن الوفد الذي أقبل لمبايعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان مكون من اثنى عشر رجل فقط, ولا يمثلون إلا أنفسهم وبالتالي أي تعهدات أمنية أو حربية ستكون محدودة الأثر, قليلة النفوذ, والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يطلب الحماية والمنعة من زعماء القبائل وسادة العشائر. [*] إن الدعوة الإسلامية لم تكن قد ثبتت أقدامها داخل المجتمع اليثربي بحيث أنها تتطالب أتباعها بالتزامات أمنية وتعهدات قتالية. [*] إن المجتمع اليثربي كان محتقنا ً بصراعات تاريخية طويلة وعنيفة بين عنصري المجتمع – الأوس والخزرج – بل أن أشد فصول الصراع هو يوم بعاتي قد وقع في العام الثاني عشر من النبوة أي بعد دخول الإسلام إلى يثرب, ولو أخذ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أي تعهدات أمنية أو قتالية على المسلمين لازداد القتال إضطرابا ً وتوترا ً وإشتعالا ً في يثرب وخسرت الدعوة الإسلامية كثيرا ً. [*] وقد أختلف أهل العلم في مسألة إرسال مصعب بن عمير معلما ً لأهل يثرب وداعيا ً ومقرئا ً, فذهب فريق على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بعث مصعب بن عمير مع المبايعين ليعلمهم فرائض الإسلام وأحكامه ويقرؤهم القرآن ويدعو سائر أهل يثرب للإسلام, وقد ذهب لذلك الزهري وموسى بن عقبة والبخاري وغيرهم في حين ذهب فريق آخر مثل ابن اسحاق وأبي عبدالله الحافظ وغيرهما أن مسلمي يثرب قد كتبوا إلى رسول الله صلى اله عليه وسلم يقولون: إن الإسلام قد فشا فينا, فأبعث إلينا رجلا ً من أصحابك يقرئنا القرآن ويفقهنا في الإسلام ويقيضا لسنته وشرائعه, ويؤمنا في صلاتنا, فبعث مصعب بن عمير. استراتيجية سفير الإسلام: [*] كان اختيار مصعب بن عمير كسفير وداعية ومعلما ً لأهل المدينة في غاية الذكاء والحكمة من جانب النبي - صلى الله عليه وسلم -, فلقد كان من السابقين للإسلام, الذين صبروا وتحملوا المشاق والإبتلاء من أجل دينهم, كما كان من علماء الصحابة وحفاظهم, وقد نتدبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتعليم المسلمين في البيوت والمراكز الدعوية الصغيرة خلال الفترة المكية, وغير الخصال الإيمانية والمواهب الدعوية, كان مصعب بن عمير من ذووي الحسب والجاه في قريش, وكان طويلا ً وسيما ً جسيما ً ذا طلعة بهية, وحسن المنطق وعذوبة الكلام, وبالتالي قد اجتمعت لدى مصعب بن عمير كل أدوات النجاح الدعوي في مهمته بيثرب. [*] وخلال أشهر معدودة استطاع مصعب بن عمير أو المقرئ كما كان يلقبه أهل المدينة أن يحقق نجاحات دعوية كبيرة وانتشر الإسلام بصورة واسعة في سائر بيوت أهل يثرب, ونجح مصعب أيضا ً في جذب العديد من زعماء وقادة يثرب من الجانبين – الأوس والخزرج – مثل سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير وسعد بن عبادة, ولإسلام هؤلاء قصة بها العديد من الفوائد والدروس للدعاة في حسن العرض وسعة الصدر وتجنب مواطن الخلاف والسماحة و الخلق الحسن والإنصات والتركيز على الأساسيات وبث روح الإيمان في قلوب المسلمين الجدد. قصة إسلام أسيد بن حضير وسعد بن معاذ - رضي الله عنهما - كان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدي قومهما من بني عبد الأشهل وكانا مشتركين على دين قومهما, فلما سمعا بمصعب بن عمير ونشاطه في الدعوة إلى الإسلام قال سعد لأسيد: لا أبا لك, انطلق إلى هذين الرجلين الذين أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما, وانههما أن يأتيا دارينا, فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك, هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما ً وفأخذ أسيد حربته ثم أقبل عليهما, فلما رآه أسعد بن زرارة قال: هذا سيد قومه وقد جاءك فاصدق الله فيه, قال مصعب: أن يجلس أكلمه, فوقف عليهما متشتما ً فقال: ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة, فقال له مصعب بلسان المؤمن الهادئ الواثق من سماحة دعوته: أو تجلس فتسمع, فإن رضيت أمرا ً قبلته, وإن كرهته كف عنك ما تكره ؟ قال أسيد: أنصفت, ثم ركز حربته, وجلس إليهما, فكلمه مصعب بالإسلام, وقرأ عليه القرآن, فقالا فيما يذكر عنهما: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم فى إشراقه وتسهله, ثم قال: ما أحسن هذا الكلام وأجمله ! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين ؟ قالا له: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك, ثم تشهد شهادة الحق ؟ ثم تصلي, فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهد شهادة الحق, ثم قام فركع ركعتين, ثم قال لهما: إن ورائي رجلا ً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكم الآن: سعد بن معاذ. ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم, فلما نظر إليه سعد مقبلا ً قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بن حضير بغير الذي ذهب به من عندكم !! فما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت ؟ قال: كلمت الرجلين فو الله ما رأيت بهما بأسا, وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت, وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك. فقام سعد مغضبا ً مبادرا ً مخوفا ً للذي ذكر له من أمر بني حارثة وأخذ الحربة في يده ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا, ثم خرج إليهما, ثم خرج إليهما سعد فوجدهما مطمئنين, فعرف أن أسيدا ً إنما أراد أن يسمع منهما, فوقف متشتما ً, ثم قال لأسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني ,أتغشانا في دارنا بما نكره وكان أسعد قد قال لمصعب: لقد جاء والله – سيد من وراءه من قومه, إن يتبعك لا يتخلف منهم اثنان, فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع ؟ فإن رضيت أمرا ً ورغبت فيه قبلته, وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره, فقال سعد: أنصفت, ثم ركز الحربة وجلس فعرض عليه الإسلام, وقرأ القرآن, وذكر موسى بن عقبة أنه قرأ عليه أول سورة الزخرف, قالا: - والله – في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله. ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم, ودخلتم في هذا الدين ؟ قالا: تغتسل, فتطهر وتطهر ثوبيك, ثم تشهد شهادة الحق, ثم تصلي ركعتين, فقام فاغتسل, وطهر ثوبيه, ثم تشهد شهادة الحق, ثم ركع ركعتين, ثم أخذ حربته فأقبل عائدا ً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير, فلما رآه قومه مقبلا ً قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم, فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأيا ً وأيمننا نقيبة, قال فإن كلام رجالكم ونساءكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله, قال: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما ً أو مسلمة. ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم تبقى دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال مسلمون ونساء مسلمات, إلا ما كان من الأصيرم, وهو عمرو بن ثابت بن وقش, فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد فأسلم, واستشهد بأحدً, ولم يصل لله بسجدة قط, وأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه من أهل الجنة. وقد روى ابن إسحاق بإسناد حسن عن أبي هريرة أنه كان يقول: " حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصل صلاة قط, فإذا لم يعرفه الناس قال هو أصيرم بني عبد الأشهل ". بالجملة استطاع سفير الإسلام ومبعوث النبي - صلى الله عليه وسلم - لشئون الدعوة الإسلامية في يثرب أن يحقق في أقل من عام مالم يحققه بعض الأنبياء والمرسلين في عشرات الأعوام, وذلك بتوفيق وفضل من الله - عزوجل - أولا ً, ثم توافر عدة عوامل ساعدت على انتشار الإسلام في أهل المدينة: طبيعة أهل يثرب حيث كانوا ينحدرون من أصول يمنية, وقد أثنى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في عدة أحاديث على أهل اليمن ووصفهم برقة القلوب وسلامة الصدور, والحكمة والإيمان, وقد طبع الله - عزوجل - أهل اليمن بصفات جبلية راقية مع عدم المغالاة والتواضع وقبول الحق, وهي خصال وطباع سهلت كثيرا ً من مهمة سفير الإسلام. القتال الداخلي العنيف والطويل بين عنصري المجتمع اليثربي – الأوس والخزرج – وقد أتت الحروب الأهلية الطاحنة مثل يوم بعاث وغيره على زعماء يثرب وأكابرها من الذين يتوقع منهم أن يقفوا حجر عثرة في وجه الدعوة الإسلامية كما فعل نظراؤهم في مكة والطائف وقد أخرج البخاري في كتاب المناقب, باب مناقب الأنصار, قول جابر بن عبدالله " كان يوم بعاث أمرا ً قدمه الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم, فقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد إفترق ملؤهم, وقتلت ثرواتهم وجرحوا, فقدمه الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في دخولهم الإسلام ". والمتتبع لأحداث السيرة خاصة في مرحلتها المكية يرى الأثر الكبير والدور الكبير الذي لعبه كبار قادة قريش و أشياخها وساداتها, لذلك قال الله - عزوجل - في محكم التنزييل ذاكرا ً حال الكفرة وندمهم يوم القيامة وذكر بعض حجج كفرهم وضلالهم الواهية, ( وقالوا ربنا إن أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل ربنا أتاهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا ً كبيرا ً ) [الأحزاب: 67 – 68], وقد ذكر عمرو بن العاص عن سبب تأخر اسلامه اتباعه لأراء الشيوخ والأكابر من قومه, وأنه لما هلك معظم هؤلاء الشيوخ والأكابر في بدر ثم أحد والخندق بدأ الإسلام يدخل في قلوب الشباب والصف الثاني للقيادات الشابة في قريش. تأثر أهل المدينة باليهود أهل الكتاب الذين كانوا مستوطنين بالمدينة منذ فترة, مما جعل أهل المدينة على اطلاع ولو يسير عن الوحي والرسالات السماوية, وكان هذا السبب تحديدا ً من أهم أسباب إسلام الأوس والخزرج, ذلك أن اليهود كانوا دائما ً ما يهددون الأوس والخزرج متشبعين بفكرة ظهور نبي جديد في نفس الزمان. ولعل هذا أيضا ً يفسر إعراض أهل قريش عن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم, فقريش قد غاب عنها أثر النبوات ووحي السماء منذ فترات طويلة ودهور مديدة. --------- المراجع والمصادر:
|
رد: (بيعة العقبة الأولى) قراءة دعوية لبنود البيعة
(بيعة العقبة الثانية) قراءة تنظيمية و سياسية في بنود البيعة شريف عبدالعزيز بين العقبة الأولى والثانية: كانت بيعة العقبة الأولى في العام الثاني عشر من النبوة, وقد أرسل بعدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصعب بن عمير - رضي الله عنهما - سفيراً للإسلام في يثرب يدعوا أهلها ويعلمهم ويقرئهم القرآن, فاستطاع مصعب بفضل الله – تعالى – أن يحقق في أقل من عام مالم يفعله غيره في عشرات الأعوام, وكان داعية موهوباً بمعنى الكلمة بذل مجهودات كبيرة من أجل تهيئة البيئة الداخلية للمدينة لإنتقال الدعوة الإسلامية بقائدهال وأتباعها إلى مقرها الجديد. حقق مصعب بن عمير ومن أسلم من أهل بيعة العقبة الأولى توسعاً دعوياً كبيراً بانضمام الكثير من أهل يثرب للدعوة الإسلامية, حتى أنه لم يبق بيت في يثرب إلا ودخله الإسلام, وأصبحت سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - على كل لسان بين معجب ومتشوق ومتوجس. قبل أن يحول الحول على مصعب في يثرب عاد إلى مكة قبيل الموسم الثالث عشر للبعثة, وذلك من أجل إطلاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مستجدات الأوضاع في يثرب, والإنجازات الكبيرة التي حققها مصعب في مهامة الدعوية, وأن الجبهة الداخلية في يثرب أصبحت مهيئة لقبول بيعة جديدة بشروط وبنود أشد قوة وكفة وأوسع دائرة والتزاما, ومن ثم كانت بيعة العقبة الثانية, أو ما يصح أن يقال عنه بيعة القتال أو بيعة الرجال. بيعة العقبة الثانية: نجحت التعبئة الإيمانية القوية والبناء العقدي الراسخ في نفوس وقلوب من أسلم من أهل يثرب في جعل بادرة السبق تأتي من هؤلاء المسلمين الجدد, كما جاء في مسند الإمام أحمد في حديث جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - الطويل وفيه: " ثم بعثنا الله - عز وجل - وئتمرنا واجتمعنا سبعين رجلاً منا فقلنا: حتى متى نذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف في جبال مكة ويخاف فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم. ....... ". لقد وردت عدة روايات في حادثة بيعة العقبة الثانية أشهرها رواية جابر بن عبدالله - رضي الله عنهما - في مسند الإمام أحمد و ورواية كعب بن مالك الأنصاري - رضي الله عنهما - في سيرة ابن هشام بإسناد حسن, كلا الروايتان تكملان بعضهما البعض, وبذكرهما تتضح الصورة كاملة عن ليلة البيعة وما جرى فيها من تفاصيل هامة. أولاً: حديث جابر بن عبدالله: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبث عشر سنين يتبع الحاج في منازلهم في المواسم: مجنة, وعكاظ, ومنازلهم بمنى من يؤويني وينصرني حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة ؟ فلا يوجد أحداً يؤويه ولا ينصره, حتى أن الرجل يرحل صاحبه من مصر أو اليمن فيأتيه قومه أو ذوو رحمة فيقولون: احذر فتى قريش لا يفتنك ! يمشي بين رحالهم يدعوهم إلى الله - عز وجل -, يشيرون إليه بأصابعهم, حتى بعثنا الله - عز وجل - له من يثرب, فيأتيه الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن, فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه, حتى لم يبق دار من يثرب إلا وفيها رهط من المسلمين, يظهرون الإسلام. ثم بعثنا الله - عز وجل - وائتمرنا واجتمعنا سبعين رجلاً منا فقلنا: حتى متى نذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف في جبال مكة ويخاف, فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم, فواعدنا شعب العقبة فاجتمعنا فيه من رجل ورجلين, حتى توافينا عنده فقلنا: يا رسول الله ! على ما نبايعك فقال بايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل, وعلى النفقة في العسر واليسر, وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم فيه لومة لائم, وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبنائكم, ولكم الجنة. فقمنا بنايعه, وأخذ بيده أسعد بن زرارة, وهو أصغر السبعين رجلا إلا أنا, فقال: رويداً يا أهل يثرب ! إنا لم نضرب إليه أكبار المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله, إن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة, وقتل خياركم, وإن تعضكم السيوف, فإما أنتم قوم تصبرون على عض السيوف إذا مستكم, وعلى قتل خياركم, وعلى مفارقة العرب, كافة فخذوه وأجركم على الله, وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو أعذر لكم عند الله - عز وجل - , قلنا: أمط يدك يا أسعد بن زرارة, فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقبلها, فقمنا إليه نبايعه رجلاً رجلاً, يأخذ علينا شرطه, ويعطينا على ذلك الجنة ". ثانيا: حديث كعب بن مالك: ثم قد واعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العقبة أوسط أيام التشريق, ونحن سبعون رجلاً للبيعة, وومعنا عبدالله بن عمرو بن حرام أبو جابر, وإنه لعلى شركه, فأخذناه فقلنا يا أبا جابر: والله إنا لنرغب بك أن تموت على ما أنت عليه فتكون لهذه النار غدا حطبا, وإن الله قد بعث رسولاً يأمر بتوحيده وعبادته, وقد أسلم رجال من قومك, وقد واعدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للبيعة, فأسلم وطهر ثيابه وحضرها معنا, فكان نقيباً. فلما كانت الليلة التي واعدنا فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنى أول الليل مع قومنا فلما استثقل الناس في النوم تسللنا من قريش تسلل القطا, حتى إذا اجتمعنا بالعقبة, فأتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعمه العباس ليس معه غيره, أحب أن يحضر أمر ابن أخيه, فكان أول متكلم, فقال: " يا معشر الخزرج – وإنما كانت العرب تسمي هذا الحي من الأنصار أوسها وخزرجها -: إن محمداً منا حيث قد علمتم, وهو في منعة من قومه وبلاده قد منعناه ممن هو على مثل رأينا فيه, وقد أبى إلا الانقطاع إليكم وإلى ما دعوتموه إليه, فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه فأنتم وما تحملتم, وإن كنتم تخشون من أنفسكم خذلانا فاتركوه في قومه فإنه في منعه من عشيرته وقومه. فقلنا قد سمعنا ما قلت, تكلم يا رسول الله, فتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, ودعا إلى الله – عزوجل -, وتلا القرآن, ورغب في الإسلام, فأجبناه بالإيمان به والتصديق له, وقلنا له: يا رسول الله ! خذ لربك ولنفسك, فقال: إني أبايعكم على أن تمنعوني مما منعتم منه أبنائكم ونسائكم ". فأجابه البراء بن معرور فقال: نعم والذي بعثك بالحق مما تمنع منه أزرنا, فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحرب, وأهل الحلقة, ورثناها كابراً عن كابر. فعرض في الحديث, أبو الهيثم بن التيهان, فقال يا رسول الله أن بيننا وبين أقوام حبالاً, وإنا قاطعوها, فهل عسيت إن الله أظهرك أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " بل الدم بالدم, والهدم الهدم أنا منكم, وأنتم مني: أسالم من سالمتم, وأحارب من حاربتم ". فقال له البراء بن معرور: ابسط يدك يا رسول الله الله نبايعك, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أخرجوا إلي منكم اثني عشر نقيباً ", فأخرجوهم له. فكان نقيب بني النجار: أسعد بن زرارة. وكان نقيب بني سلمة: البراء بن معرور, وعبدالله بن عمرو بن حرام. وكان نقيب بني ساعدة: سعد بن عبادة, والمنذر بن عمرو. وكان نقيب بني زريق: رافع بن مالك بن العجلان. وكان نقيب بني الحارث بن الخزرج: عبدالله بن رواحة, وسعد بن الربيع. وكان نقيب القوافل بني عوف بن الخزرج: عبادة بن الصامت, وفي الأوس من بني عبد الأشهل: أسيد بن حضير, وأبو الهيثم بن التيهان. وكان نقيب بني عمرو بن عوف, سعد خيثمة, فكانوا اثنى عشر نقيباً: تسعة من الخزرج, وثلاثة من الاوس. قال فأخذ البراء بن معرور بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضرب عليها, وكان أول من بايع, وتتابع الناس فبايعوا, فصرخ الشيطان على العقبة بأبعد – والله – صوت ما سمعته قط: فقال يا أهل الجباجب هلا لكم في مذمم ما يقول محمد والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " هذا أزب العقبة, هذا ابن أزيب أما والله لأفرغن لك, ارفضوا إلى رحالكم ". فقال العباس بن عبادة بن نضلة أخو بني سالم: يا رسول الله ! والذي بعثك بالحق إن شئت لنملين غداً على أهل منى بأسيافنا, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنا لم نؤمر بذلك, ارفضوا إلى رحالكم ", فرجعنا إلى رحالنا فاضطجعنا على فرشنا. دروس التخطيط والتنظيم من بيعة العقبة الثانية: يظهر التخطيط العظيم في بيعة العقبة حيث تمت في ظروف غاية في الصعوبة, وكانت تمثل تحدياً خطيراً وجريئاً لقوى الشرك في ذلك الوقت, ولذلك كان التخطيط النبوي لنجاحها في غاية الإحكام والدقة, على النحو التالي: أ – سرية الحركة والانتقال لجماعة المبايعين, حتى لا ينكشف الامر فقد كان وفد المبايعة المسلم سبعين رجلاً وامرأتين, من بين وفد يثرب قوامه نحو خمسمائة, مما جعل حركة هؤلاء السبعين صعبة, وانتقالهم أمراً غير ميسور, وقد تحدد موعد اللقاء في ثاني أيام التشريق بعد ثلث الليل, حيث النوم قد ضرب أعين القوم, وحيث قد هدأت الرجل, كما تم تحديد المكان في الشعب الأيمن, بعيداً عن عين من يستيقظ من النوم لحاجة. ب – الخروج المنظم لجماعة المبايعين إلى موعد ومكان الاجتماع, فخرجوا يتسللون مستخفين رجلاً رجلاً, أو رجلين رجلين. جـ - ضربة السرية التامة على موعد ومكان الاجتماع, بحيث لم يعلم به سوى العباس بن عبد المطلب الذي جاء مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتوثق له, وعلي بن أبي طالب الذي كان عيناً للمسلمين على فم الشعب, وأبو بكر الذي كان على فم الطريق وهو الآخر عيناً للمسلمين, أما من عداهم من المسلمين وغيرهم فلم يكن يعلم عن الأمر شيئاً, وقد أمر جماعة المبايعين أن لا يرفعوا الصوت وأن لا يطيلوا في الكلام, حذراً من وجود عين تسمع صوتهم, أو يحبس حركتهم. د – متابعة الإخفاء والسرية, حين كشف الشيطان أمر البيعة, فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرجعلوا إلى رحالهم ولا يحدثوا شيئاً, رافضاً الاستعجال في المواجهة المسلحة التي لم تتهيأ لها الظروف بعد, وعندما جاءت قريش تستبرىء الخبر موه المسلمون عليهم بالسكوت, أو المشاركة بالكلام الذي يشغل عن الموضوع. هـ - اختيار الليلة الأخيرة من ليالي الحج, وهي ليلة الثالث عشر من ذي الحجة, حيث سينفر الحجاج إلى بلادهم ظهر اليوم التالي وهو يوم الثالث عشر, ومن ثم تضيق الفرصة أمام قريش في اعتراضهم أو تعويقهم إذا انكشف أمر البيعة وهو أمر متوقع وهذا ما حدث. و – أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعين النقباء إنما ترك طريق اخيارهم إلى الذين بايعوا, فإنهم سيكونون عليهم مسئولين وكفلاء, والأولى أن يختار الإنسان من يكفله ويقوم بأمره, وهذا أمر شوري وأراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يمارسوا الشورى عملياً من خلال اختيار نقابائهم. ع – التمثيل النسبي في الاختيار, من المعلوم أن الذين حضروا البيعة من الخزرج أكثر منالذين حضروا البيعة من الأوس, ثلاثة أضعاف من الاوس بل يزيدون, ولذلك كان النقباء ثلاثة من الأوس وتسعة من الخزرج. ى – جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النقباء مشرفين على سير الدعوة في يثرب, حيث استقام عود الإسلام هناك, وكثر مثقفوه, وأراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يشعرهم أنهم لم يعودوا غرباء لكي يبعث إليهم أحداً من غيرهم, وأنهم غدوا أهل الإسلام وحماته وأنصاره. القراءة السياسية لبنود البيعة: ـ لا يخفى أن الإنسان مدني بالطبع؛ فهو مفطور على الاجتماع ببني جلدته، تَحْدُوه بذلك دوافع الحصول على الكساء والغذاء والدفاع عن نفسه ضد الأخطار، والإنسان خاضع لضرورة ثانية هي إقامة الجماعة السياسية لضبط آلية النظام والحركة؛ فالسلطة السياسية ظاهرة اجتماعية في المقام الأول، ولا يمكن تصور وجودها خارج الجماعة، كما أنه لا قيام للجماعة دون نظام سياسي. ذلك أن هنالك سنتان ربانيتان تتقاسمان الوجود الإنساني، هما: سنة التعاون ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى ) [ المائدة: 2 ]، ثم سنة الصراع أو التدافع ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ) [ البقرة: 251 ]، ومن ثم فإذا ما تصورنا هذا الوجود كائناً حياً، كان لا بد له من ناظم يضبط ويكبح رغباته الفردية ونزواته الشخصية، وينمي بالمقابل الإحساس بالتضامن الاجتماعي، وهذا ما عبر عنه الخليفة الراشد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بقوله: « لا بد للناس من إمارة بارَّة كانت أم فاجرة، فقيل: يا أمير المؤمنين ! هذه البارَّة قد عرفناها؛ فما بال الفاجرة ؟ فقال: تقام بها الحدود، وتؤمن بها السبل، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء » فالرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - الرائد كان يرى ضرورة السلطة والتنظيم كضرورة الماء للكائن الحي، بل كان يرى ذلك حتى في أبسط شكل من أشكال الاجتماع السياسي، كخروج ثلاثة نفر في سفر، كما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وذلك حين قال: « إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم » وفي رواية أحمد قال - صلى الله عليه وسلم -: « لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة الأرض إلا أمَّروا عليهم أحدهم » يقول ابن تيمية - - رحمه الله - - في فهم هذه الأحاديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قد: « أوجب تأمير الواحد في الاجتماع العارض في السفر منبهاً في ذلك على سائر أنواع الاجتماع » ويقول في موضع آخر: « وكل بني آدم لا تتم مصلحتهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالاجتماع، والتعاون، والتناصر، فالتعاون على جذب منافعهم، والتناصر لدفع مضارهم " لقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - مدركاً تمام الإدراك للدور الذي تلعبه السلطة في عملية النهوض التاريخي، والتغيير الحضاري الضخم، ولكنه لم يدرك ذلك مقولة ذهنية فحسب، بل مارس تلك الحقيقة ممارسة الواعي بخطه الاستراتيجي، المدرك لتقلبات النظم السياسية، الراصد للتحولات العرفية والإنسانية، العارف بالضرورة الإنسانية والحاجة الفطرية لذلك؛ حيث إنه كان حريصاً على إقامة السلطة السياسية، وبناء الدولة الإسلامية قبل هجرته للمدينة، وذلك أثناء بيعة العقبة الأولي التي ركزت علي الجانب الإيماني والعقدي، والثانية التي ركزت على تأسيس مقومات الدولة، وقيام أركان الاجتماع السياسي بصورة لم يسبق لها مثيل ولا نظير في تاريخ التحول البشري، والاجتماع السياسي. ــ لا يخفى أن البيعة الأولى كانت تدور في فلك ضرورة الإيمان بهذه الدعوة الجديدة وحمايتها ونشرها بين أوساط قبائل الأوس والخزرج تمحيصاً لتحقيق أبعاد المشروع السياسي، وذلك بإقامة دولة الإسلام بأركانها الاعتبارية ( دار وأنصار وسلطان ). وهذا البعد السياسي فيما يبدو كان واضحاً في أذهان الخزرج، وبرهان ذلك حين أشاروا على الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - أن يتريث في القدوم عليهم إلى أن يتمكنوا من ترتيب الأوضاع في بلادهم من الناحية السياسية والأمنية وغير ذلك مما هو لازم لذلك التحول التاريخي. ثم أرسل الرسول القائد - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه البيعة مصعب بن عمير - رضي الله عنه - لتحقيق هذه المقدمات الضرورية لقيام الدولة الإسلامية، فانطلق مصعب بن عمير ومن أحاط به من رجال الأنصار رضوان الله عليهم يقصدون كسب سادة المدينة إلى الإسلام، فأسلم حينئذ عدد من زعماء المدينة، منهم أسيد بن الحضير، و سعد بن معاذ. وحين أصبح عدد الزعماء الذين أسلموا من أهل المدينة كافياً لتقديم النصرة إلى الدعوة بمعنى تسليم السلطة السياسية إلى الرسول القائد - صلى الله عليه وسلم - هنالك عقد الأنصار في المدينة مقر الدولة الإسلامية الجديد مؤتمراً فيما بينهم قرروا فيه إعطاء النصرة للرسول - صلى الله عليه وسلم - لكي يتسلم مقاليد الحكم والسلطان في المدينة، وعلى إثر هذا المؤتمر قدم وفد من هؤلاء الأنصار والزعماء يتألف من ثلاثة وسبعين رجلاً، وامرأتين وذلك في موسم الحج وتم عقد بيعة العقبة الثانية التي أعطي فيها زمام الحكم والدعوة لصاحبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وذلك في الموعد نفسه الذي ضربه رسول الله للاجتماع بهم. فقد ورد نص هذا المؤتمر الذي انعقد في المدينة على لسان جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - حين قال: « فائتمرنا، واجتمعنا سبعين رجلاً منا، فقلنا: حتى متى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطرد في جبال مكة، ويخاف ؟ فرحلنا حتى قدمنا عليه، قال: تبايعوني قلنا: نبايعك.. الحديث » وهذا يعني: أن هذا الاجتماع مع الرسول القائد - صلى الله عليه وسلم - في هذا الوقت إنما كان فقط من أجل البيعة والتناصر على شيء قد تقررت الموافقة عليه من قبل هذا اللقاء؛ وذلك بإعطاء النصرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالمفهوم السياسي. يدل على ذلك عدة أمور تفهم من حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه - بشأن هذه البيعة وهي: أن العباس بن عبد المطلب وكان أول من تكلم في الاجتماع بادر الأنصار قائلاً: « إن محمداً قد أبى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم » إذن، فالأمر مبتوت فيه، وليس هذا الاجتماع من أجل الدخول في مباحثات حوله من أجل تقريره أو لا، وإنما كان الاجتماع من جهة الرسول القائد - صلى الله عليه وسلم - للتثبت من تسلم زمام السلطة وأن يسمعوا له ويطيعوا على كل أحوالهم « أبايعكم على السمع والطاعة في النشاط والكسل » هذا من جانب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أما من جهة الأنصار فقد كان التأكيد على قبولهم للدعوة والدولة الإسلامية، وأنهم على أتم الاستعداد للتضحية من أجل سلامة هذا المشروع، وتحقيقه على أرض الواقع، وتأمين أهدافه في مختلف مراحل التمكين والتأمين، « لن نقيل ولا نستقيل ». ــ أما عن البعد العسكري فلا ريب أنه لا يستقيم أمر عقيدة، وفكر سياسي، وكيان دولة تتجلى على أرض الواقع؛ إلا بقوة عسكرية تحميها في مراحل تأسيسها وتمكينها؛ فكم من حق ضاع ودهسته الأقدام لعدم وجود قوة تحميه ! وكم من باطل قام وانتفخ ليس بأفكاره وعدالة مبادئه، وإنما للقوة المدججة التي تحميه وتنافح عنه ! والواقع خير شاهد على ذلك قال تعالى لنبيه: [ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ">( النساء: 8 جاء في رواية الزهري فيما قاله أسعد بن زرارة - رضي الله عنه - أحد رجالات الأنصار في هذا الاجتماع، قال: « يا رسول الله ! إن لكل دعوة سبيلاً إنْ لينٌ وإنْ شدةٌ ! ! وقد دعوتنا اليوم إلى دعوة متجهمة للناس، متوعرة عليهم ! ! دعوتنا إلى ترك ديننا واتباعك إلى دينك، وتلك مرتبة صعبة فأجبناك إلى ذلك ! ودعوتنا إلى قطع ما بيننا وبين الناس من الجوار، والأرحام، والقريب والبعيد، وتلك مرتبة صعبة فأجبناك إلى ذلك ! ودعوتنا ونحن جماعة في عز ومنعة، ولا يطمع فينا أحد أن يرأس علينا رجل من غيرنا، قد أفرده قومه، وأسلمه أعمامه، وتلك رتبة صعبة فأجبناك إلى ذلك ! وكل تلك الرتب مكروهة عند الناس إلا من عزم الله على رشده، والتمس الخير في عواقبها، وقد أجبناك إلى ذلك بألسنتنا، وصدورنا، نبايعك على ذلك، ونبايع الله ربك، يد الله فوق أيدينا، ودماؤنا دون دمك » [. ثم قام العباس بن نضلة - رضي الله عنه - أحد زعماء الأنصار الذين حضروا البيعة، فألقى كلمة توضيحية قال فيها: « هل تدرون علامَ تبايعون هذا الرجل ؟ قالوا: نعم ! قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس ». ثم قام أبو الهيثم بن التيهان - رضي الله عنه - أحد زعماء الأنصار الذين حضروا البيعة، فألقى كلمة أكد فيها على أهمية البعد العسكري لهذه البيعة المباركة، فقال لهم: « يا قوم ! هذا رسول الله، أشهد أنه لصادق، وأنه اليوم في حرم الله وأمنه، وبين ظهري قومه وعشيرته، فاعلموا أنه إن تخرجوه رمتكم العرب عن قوس واحدة ! فإن طابت أنفسكم بالقتال في سبيل الله، وذهاب الأموال، والأولاد فادعوه إلى أرضكم؛ فإنه رسول الله حقاً، وإن خفتم خذلاناً فمن الآن. فقالوا عند ذلك: قبلنا عن الله، وعن رسوله ما أعطيانا، وقد أعطينا من رسول الله الذي سألتنا يا رسول الله » يقول ابن حجر - رحمه الله - وهو بصدد حديثه عن بيعة الحرب، بيعة قيام الدولة الإسلامية، مؤكداً فيها على أهمية البنود الواردة بخصوص الأمن والتأمين للدعوة والدولة في مراحل تأسيسها والتمكين لها: إنما كان ليلة العقبة ما ذكر ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمن حضر من الأنصار: « أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم، وأبناءكم، فبايعوه على ذلك، وعلى أن يرحل إليهم، هو وأصحابه ». وفي رواية أحمد: « وعلى أن ننصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا، وأزواجنا، وأبناءنا » وينبغي ألا يعزب عن بالنا أن طلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار في هذه البيعة بيعة الدولة الإسلامية التأمين الشامل والكامل بشقيه الوقائي والإيجابي في إطار ( الأنفس، والأزواج، والأولاد، والأصحاب ) ما هي إلا سنة من سنن قيام الدولة الإسلامية التي تساعد على انطلاق الدعوة الإسلامية وحمل رسالتها السامية إلي العالمين. ---------- المراجع والمصادر:
|
الساعة الآن : 01:23 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour