الافتراء والبهتان
الافتراء والبهتان د. عطية بن عبدالله الباحوث الخطبة الأولى المقدمة:الحمد لله، أعظمَ للمتقين العاملين أجورَهم، وشرح بالهدى والخيرات صدورَهم، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وفَّق عباده للطاعات وأعان، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدالله ورسوله خيرُ من علَّم أحكام الدين وأبان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، أهل الهدى والإيمان، وعلى التابعين لهم بإيمان وإحسانٍ ما تعاقب الزمان، وسلم تسليمًا مزيدًا؛ أما بعد: فإن الكلام له مقام، وله حساب، وله عظيم الأثر في الناس؛ دعوةً وبيانًا وسلوكًا سواء لطريق الحق أو طريق الانحراف، وإن من أعظم آفات الكلام الافتراءَ والبهتان، والمعنى في الافتراء والبهتان: اختلاق أمر ليس له واقع، ولا حقيقة، ثم مواجهة الشخص بهذا الافتراء بصورةٍ يفزَع لها قلبه لقوة الفرية، فلا يحرك ساكنًا دهشة مما قيل. وإن أعظم الفرى الافتراءُ على الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ﴾ [العنكبوت: 68]. لا أحد أظلم ولا أشنع ذنبًا، ولا أقبح مكانًا من الافتراء في دين الله؛ فإن القول على الله بغير علم خاصة ممن يسمع له الناس، طريقُ غوايةٍ وإضلال للخلق، وخسارتهم في دنياهم وآخرتهم. وانظر إلى ترتيب الآثام، أين يقع الافتراء على الله؟ قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 33]، فجعل القول على الله بغير علم أعلى المراتب؛ لأنه هو القائد لجميع الموبقات التي سبقته، وما من معصية ولا عاصٍ، إلا وفيه نوع جهل بمقام الله تعالى. ويأتي الافتراء على الأنبياء في مقام عظيم؛ لأنه ردٌّ لدين رب العالمين، وكفر بالتنزيل، وغواية عن الصراط المستقيم؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ﴾ [الفرقان: 4]. عن مسروق قال: قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ((ثلاث من تكلم بواحدة منهن، فقد أعظم على الله الفرية، قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية... ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئًا من كتاب الله، فقد أعظم على الله الفرية... ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غدٍ، فقد أعظم على الله الفرية...))[1]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ كذبًا عليَّ ليس ككذب على أحد، من كذب عليَّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار))[2]. ولم يسلم الصحابة الأجلَّاء من داء الافتراء؛ فهذا سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، خاصمته أروى في حقٍّ زعمت أنه انتقصه لها، إلى مروان، فقال سعيد: أنا أنتقص من حقها شيئًا؟! أشهد لَسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا، فإنه يُطوقه يوم القيامة من سبع أرضين))، اللهم إن كانت كاذبةً فأعمِ بصرها، واجعل قبرها في دارها، قال: فرأيتها عمياء تلتمس الجدُر، تقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد، فبينما هي تمشي في الدار مرت على بئر في الدار، فوقعت فيها، فكانت قبرها![3] وإن ذكر الناس في غيبتهم بعيبٍ يكرهونه، أو وصف ينبذونه، أو حال لا يرضون بذكره هو مقام الغيبة، فإن لم يكن فيهم ما وصف، فهي درجة البهتان؛ قال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: "البهتان: أن تقول ما ليس فيه"[4]. وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبتَه، وإن لم يكن فيه فقد بهتَّه))[5]. فكل مغتاب لا يسلم من البهتان؛ قال سهل بن عبدالله: "من سلِم من الغيبة سلِم من الزور، ومن سلم من الزور سلم من البهتان"[6]. والبهت صفة أهل الكفر والطغيان ملازمٌ لعبَّاد الهوى والشيطان؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ﴾ [الأحزاب: 69]. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن موسى كان رجلًا حييًّا ستِّيرًا، لا يُرى من جلده شيء استحياءً منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده: إما برص، وإما أدرة، وإما آفة، وإن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى، فخلا يومًا وحده، فوضع ثيابه على الحجر، ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجرُ، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عريانًا أحسنَ ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ بثوبه فلبسه، وطفِق بالحجر ضربًا بعصاه، فوالله إن بالحجر لَندبًا من أثر ضربه، ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا؛ فذلك قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ﴾ [الأحزاب: 69]))[7]. أقول ما سمعتم، واستغفروا الله، إن الله كان غفورًا رحيمًا. الخطبة الثانية الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه سبحانه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدالله ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه؛ أما بعد:فإن من عظيم آثار الافتراء والبهتان ثلاث قضايا: الأولى: الافتراء والبهتان سمة أهل الكفر وسائر أهل البدع؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ [النحل: 105]؛ قال ابن تيمية: "الشرك وسائر البدع مبناها على الكذب والافتراء"[8]. الثانية: الافتراء والبهتان سبب في حرمان المرء الهدايةَ وعدم الفلاح، واللعنة والذل؛ قال تعالى: ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنعام: 144]. الثالثة: شدة المحاسبة يوم القيامة، وعظيم المناقشة، وضيق وذل المقام؛ قال تعالى: ﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [العنكبوت: 13]. احفظ - أخي الكريم - لسانك من القول في دين الله بغير علم، وصُنه من أعراض الناس، تكُن من خيرهم وأبرهم، والله يتولانا برحمته وفضله. الدعاء: اللهم طهِّر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة؛ إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. ﴿ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 53]، ﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 23]. اللهم آمنا في أوطاننا، واحفظ اللهم ولاة أمورنا، ووفِّق بالحق إمامنا وولي أمرنا. اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار. ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 - 182]. [1] أخرجه البخاري (4855)، ومسلم (177) واللفظ له. [2] صحيح البخاري (1291). [3] أخرجه البخاري (3198)، ومسلم (1610) واللفظ له. [4] أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت (209). [5] أخرجه مسلم (2589). [6] أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (6783). [7] أخرجه البخاري (3404) واللفظ له، ومسلم (339). [8] اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 281، 282). |
الساعة الآن : 06:19 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour