حقوق اليتيم
حقوق اليتيم (1) د. أمير بن محمد المدري الحمد لله رب العالمين، أعزنا بالإسلام، وجعلنا به خير أمة أُخرجت للناس، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو رب الناس، وملكهم، وإلههم، وأشهد أن محمداً عبدُ الله ورسوله، أرسله إلى جميع الناس، وجعل شريعته باقية وعامة لجميع الأجناس، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به واتبعوه، ونشروا دينه وبلغوه، وسلم تسليماً كثيراً. و بعد: نحن اليوم بحول الله ومدده على موعد مع لقاء من لقاءات هذه السلسلة المنهجية المباركة. سلسلة الحقوق، وحديثنا اليوم بإذن الله تعالى عن حقٍّ جليلٍ كبير عظيم ألا وهو حق اليتيم. أولاً: من هو اليتيم؟: قال ابن منظور في لسان العرب: اليتيم في الناس: من فقد أباه ولم يبلغ الحلم، واليتم في الحيوانات والطيور من فقد أمه، وأصل اليتم في اللغة الغفلة، وبه سُمّى اليتيم يتيماً، لأنه يُتغافل عن الإحسان إليه وبِرّه بعد موت أبيه. اليتيم وإن فقد أباه الذي يكفله، وفقد حنان الأب وعواطفه، لكنه لم يفقد الرحمة الإلهية من الرحمن الرحيم الذي وصى عبادة باليتامى إحسانا وإطعاما وإيواءً وكفالة. قال تعالى: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ﴾ [النساء: 36]. ألا فتأملوا كيف ربط الله بين الأمر بتوحيده والأمر بالإحسان إلى اليتامى وقال تعالى: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ [الإنسان: 8].، هذا هو الإسلام دين الرحمة دين العطف دين السماحة دين السلام. وقال تعالى: ﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ﴾ [البلد: 11].. تريد اقتحام العقبة.. تريد إرضاء رب الأرض والسماوات: اسمع ﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ﴾ [البلد: 11 - 16]. وقال تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ ﴾ [البقرة: 220]. ورعاية اليتيم والمحافظة عليه لا تقتصر على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بل كانت في الشرائع السابقة لشرعنا, فمن جملة بنود الميثاق الذي أخذه الله على بني إسرائيل: الإحسان إلى اليتامى قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83]. لقد أطل الإسلام بنوره على العرب وهم غارقون في ظلمات الظلم والقهر وسلب الحقوق. مجتمع يسطو فيه الغني على الفقير والقوي على الضعيف فما بالكم باليتيم. فجاء الإسلام دين العدل، والمساواة، ودين الرحمة، والعطف جاء ليأخذ بيد الضعفاء فيرفع بهم إلى المستوى الذي يجدون فيه حقوقهم كاملة غير منقوصة مهما كلف الثمن، فالقوي في الإسلام ضعيف حتى يؤخذ منه الحق، والضعيف في الإسلام قوي حتى يؤخذ له حقه. حث الإسلام على رعاية اليتيم ومعاملته بالحسنى، ليعيش حياة كريمة، ويكون له دوره الفاعل في المجتمع، ونهى عن احتقاره أو إهانته كما قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ﴾ [الضحى: 9]. قال ابن كثير في تفسيره: «فلا تقهر اليتيمأي: لا تذلهوتنهره وتهنه، ولكن أحسن إليه بلطف وكن له كالأب الرحيم». وقال تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ﴾ [الفجر: 17]. ويُفهم من هذا أنه لابد من إكرام اليتيم، وهذا الإكرام يشمل كل صور حفظ اليتيم من ناحية حقوقه الاجتماعية سواءً فيها الإيواء، أو الإنفاق، أو التربية. فمن إكرامه عدم تركه بلا تربية وتعليم، ومن إكرامه تهذيبه كما يهذب الشخص أولاده، فليس المراد بإكرامه إذًا هو الإنفاق عليه فقط بل المقصود كل ما يحقق إكرامه. بل جمع الله في كتابه بين من يُكذّب بالدين وبمن يدُعُّ اليتيم ويؤذيه ولا يحث على إطعامه، فقال تعالى: ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ﴾ [الماعون: 1 - 3]. روي البخاري رحمه الله أنه حصلت خصومة بين يتيم وصحابي على نخلة والناس على الدنيا تجد النزاع بينهم عظيما ولم يخل منه حتى عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم كان هناك بستان لهذا الصحابي وبستان آخر لهذا اليتيم وبينهما نخلة وهذا اليتيم ما زال لم يدرك حق الإدراك فقال هذا الصحابي هذه النخلة لي وقال هذا اليتيم الصغير هذه النخلة لي تشاجرا فذهب اليتيم فاشتكي هذا الصحابي إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم فأحضر هذا الصحابي وقال هذا الطفل أو هذا اليتيم يشكوك أو كما قال صلى الله عليه وسلم في نخلة أخذتها له قال والله ما كان ذلك لي يا رسول الله وما كنت لآخذ نخلته قال النبي صلى الله عليه وسلم إذًا نخرج ونُعاين خرج النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمد على كلام هذا ولا هذا وإنما خرج ليُعاين البستانين ويُعاين النخلة تواضعًا منه صلى الله عليه وسلم وعدلٌ في الحكم؛ لأنه يأخذ عن العدل سبحانه وتعالى خرج وذهب وعندما وصل إلى ذاك المكان فإذا بالنخلة في بستان الصحابي واضحة جلية، فهل يعطف على هذا اليتيم فيحكم بغير حكم الله؟ لا ما كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم بالنخلة للصحابي فذرفت دموع اليتيم على خديه فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجبر كسر قلب هذا اليتيم لأنه لم يدرك الحق فقال لهذا الصحابي: «أتعطيه هذه النخلة ولك بها عذقٌ في الجنة »عذق نخل في الجنة مقابل هذه النخلة، لكن الصحابي كان في وقت غضب إذ كيف يشكوه والحق له ويشكوه إلى من إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم فيذهب وكان في الجلسة رجل يتمنى مثل هذه الفرصة اسمه [أبو الدحداح] رضي الله عنه وأرضاه قال يا رسول الله: « إن اشتريت هذه النخلة وأعطيتها هذا اليتيم ألي العذق في الجنة» قال: «لك ذلك »فيلحق بهذا الصحابي ويقول: «أتبيعني هذه النخلة ببستاني كله خذ بستاني كله وأعطني هذه النخلة». قال: «أبيعكها لا خير في نخلة شُكيت فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم»، فباعه النخلة بالبستان كله وذهب إلى أهله ونادى فيهم: «يا [أم الدحداح] ويا أبناء [أبى الدحداح] قد بعناها من الله فاخرجوا منها»، خرجوا ومعهم بعض الرطب فقام يأخذه ويرميه فيها ويقول: «قد بعناها من الله جل وعلا بعذقٍ في الجنة» خرج هو وأهله وقد باع كل شيء واشترى عذق من نخلة عند الله جل وعلا. هل قال: خلاص انتهينا لنا نخلة في الجنة يكفي لا نصلي لا نصوم لا نعمل أي شيء؟ لا الذي بذل هذه سيبذل أعظم منها. بذل المال وبذل الأولاد وبذل كل نعيم في هذه الحياة ثم في الأخير يُقدّم نفسه لله جل وعلا. يخرج في معركة أُحد معركة أُحد الصادقة للصادقين والذي اُبتلي فيها المؤمنون ابتلاءً شديداً وربي فيها المؤمنون تربية عظيمة وكُسرت فيها رباعية المصطفى صلى الله عليه وسلم وشُج وجهه. يوم انتهت المعركة ذهب يفتش صلى الله عليه وسلم وهو في تلك الحالة عن أصحابه يتفقدهم ويأتي إلى صاحب العذق إلى [أبي الدحداح] وإذ به مدرج بدمائه فيرفعه ويمسح الدم عن وجهه ويقول: «رحمك الله أبا الدحداح كم من عذقٍ مذلل الآن لأبي الدحداح في الجنة» لا إله إلا الله ماذا خسر أبي الدحداح خسر تراب خسر شجيرات خسر نخيلات لكنه فاز بجنة عرضها كعرض الأرض والسماوات فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول من يأكل من ثمرة الجنة أبو الدحداح». [أخرجه الديلمي (1/34، رقم 57)]. أيها الأحباب: اليتيم إذا لم يجد من يؤويه ويرعاه هناك صنفٌ من الناس ضعفاء النفوس يستغلون فقر اليتيم وحاجة اليتيم فيُستخدم في السرقة والفواحش والعياذ بالله. أيها الأخوة: من تتبع كتاب الله عز وجل وما ورد فيه من الآيات الدالة على رعاية اليتيم وحفظ حقه في الحياة وجد أن كلمة (يتيم)وردت في كتاب الله في (22) آية كلها تحث على حفظ اليتيم ورعاية شؤونه وحفظ ماله. ولقد شاءت الحكمة الإلهية أن يذوق المنقذ الأول للإنسانية مرارة اليتم، فيفقد الحنان الأبوي فبشرى لليتامى لا تحزنوا لفقد الأب أو الأم فإن خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم كان يتيما. وليس هذا من قبيل المصادفة العمياء، فلا يوجد شيء في كون الله إلا بقدر ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49] شاء الله أن ينشأ المصطفى يتيماً ليتولاه الله وحده بالعناية والرعاية حتى لا ينشأ المصطفى يقول: أبي أبي وإنما يقول: ربي ربي. نشأ المصطفى صلى الله عليه وسلم يتيما ليتولاه ربه وحده بالرعاية- انتبه- ومن تولاه الله برعايته أحسن بدايته وأكرم نهايته، فوالله ثم والله ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسا هي أكرم عليه من نفس محمد وإنه لمكتوب عند الله خاتم النبيين، وإن آدم لمجندل في طينته- وآدم في طينته- ورسول الله مكتوب عند الله خاتم النبيين، فوالله ما أحب الله مخلوقا كما أحب رسولنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم فلقد خلق الله الخلق واصطفى من الخلق الأنبياء، واصطفى من الأنبياء الرسل. واصطفى من الرسل أولى العزم الخمسة: نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً، واصطفى من أولى العزم الخمسة: الخليلين الحبيبين إبراهيم، ومحمداً، ثم اصطفى محمداً فكرمه على جميع خلقه فرفع ذكره، وشرح صدره، وأعلى قدره، ووضع وزره وزكاه في كل شيء. تدبر معي قوله تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ﴾ [الضحى: 6 - 8].... ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ﴾. لقد ولدت يتيماً فأواك الله جل وعلا وأحاطك بعنايته ورعايته ) ﴿ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ﴾ووجدك تائها تبحث عن الحق والحقيقة في بيئة جاحدة بين نفوس شاردة في هاجرة قاحلة فهدى الله قلبك للإيمان: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى: 52]، ﴿ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ﴾ كنت فقيراً فأغنى الله نفسك بالقناعة والرضا ثم من عليك بالرزق الحلال الطيب الواسع. وقد جاء في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله «خير بيتٍ من المسلمين بيتٌ فيه يتيم يُحسن إليه، وشر بيتٍ من المسلمينبيتٌ فيه يتيم يساء إليه» [ أخرجه: البخاري في الأدب المفرد بسند فيه ضعف]. ولذلك كان ا لصحابة والتابعين والصالحين على مر الأزمان يتنافسون على كفالة اليتامى وإسعادهم، فعن جابر رضي الله عنه أنه كان يقول: «لأن أتصدق بدرهم على يتيم أو مسكين أحب إلى من أن أحج حجة بعد حجة الإسلام». وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «من ضمّ يتيماً فكان في نفقته وكفاه مؤونته كان له حجاباً من النار يوم القيامة، ومن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة». وجاء في بعض الآثار: «إنَّ اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن، فيقول الله تعالى: يا ملائكتي؛ مَن أبكى هذا اليتيم الذي غيبتُ أباه في التراب؟ فتقول الملائكة: ربنا أنت أعلم، فيقول الله تعالى: يا ملائكتي فإني أُشهدكم أنَّ لمن أسكته وأرضاه أنْ أُرضيه يوم القيامة». ومن هذا المنطلق يأمر الله جل وعلا أولياء اليتامى أن يتقوا الله في أموال اليتامى وألا يقربوا أموالهم إلا بالتي هي أحسن، وحذرهم من تبديدهم وتبديدها بالخبيث أو المتاجرة بها في الحرام فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 34]. وقال سبحانه: ﴿ وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ﴾ [النساء: 2]. بل وأوجب الله في آية واحدة جامعة أوجب على ولي اليتامى: أولا: ألا يسرف في الإنفاق من أموالهم حتى يبلغ اليتامى الرشد وسن النكاح وصاروا قادرين على تدبير شؤونهم والمحافظة على أموالهم. ثانياً: أن يردوا أموالهم إليهم كاملة غير منقوصة. ثالثاً: إن كان غنيا ألا يأكل من مال اليتيم فإن كان فقيراً أكل بالمعروف من غير إسراف ولا تبذير. رابعاً: ألا يسارع بأكل أموال اليتامى قبل أن يكبر أصحابها ليأخذوا حقهم. خامساً: أن يرد إليهم أموالهم وأن يشهد على ذلك إبراءاً لذمته ودرءاً للشبهة عنه. فتدبروا كل هذه المعاني التي ذكرت في آية واحدة في آية فذة جامعة بأوجز لفظ وأعجز أسلوب يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ [النساء: 6]، ومن ثم يأتي هذا التحذير الرهيب والوعيد الشديد لمن يأكلون أموال اليتامى، تدبر معي قوله سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10]. مشهد مرعب مشهد النار وهى تتأجج في البطون، لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب المصطفى كانوا وقافين عند كلام الله كان القرآن يتنزل على رسول الله فيتلوا الرسول القرآن عليهم فترتجف القلوب شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. انتبه معي أيها الفاضل فانطلق كل ولي لليتامى فعزل طعامه عن طعام اليتامى وعزل شرابه عن شراب اليتامى فكان الطعام يُقدّم لليتيم حتى يشبع فإن تبقى شيء من طعام اليتيم لا تمتد إليه حتى يأكله اليتيم مرة أخرى أو يفسد فشق ذلك على أصحاب المصطفى فذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فرفع الله الحرج والعنت وأنزل على حبيبه قوله تعالى: ﴿ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [البقرة: 220]، ﴿ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ ﴾ في الطعام والشراب لا حرج في ذلك بغير ظلم. ولقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر رضي الله عنه بقوله: «يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنينولا تولين مال يتيم» [رواه مسلم برقم 6281]. هذه بعض آيات القرآن التي تبين مكانة اليتيم ويأتي اليتيم الذي كان يتمه تشريفا لكل يتيم ليكرم اليتامى، ففي السنة الشريفة المطهرة هل تدبرتم هذا الحديث ماذا لو أخبرتك أخي الحبيب بأنك ستكون في منزلة عليا في الجنة؟ ثم ماذا لو أخبرتك أخي الحبيب بأنك ستكون في منزلة عمر في الجنة؟ ماذا لو أخبرتك أخي الحبيب بأنك ستكون في منزلة عثمان في الجنة؟ ثم ماذا لو علمت يا أخي الحبيب بأن منزلتك ستكون في منزلة صديق الأمة في الجنة؟ ثم ماذا لو أخبرتك أخي الحبيب بأنك ستكون في الجنة مع الحبيب المصطفى هل فكرت فيها؟ في الصحيحين من حديث أبى هريرة رضي الله عنه أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى.. انظروا إلى تقارب السبابة والوسطى هذه منزلة كافل اليتيم في الجنة مع المصطفى صلى الله عليه وسلم وفى لفظ مسلم: «كافل اليتيم له أو لغيره»... يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: « أنا أول من يفتح باب الجنة فأرى امرأة تبادرني...» يرى الحبيب امرأة تسابقه لتدخل معه الجنة في منزلته العالية يقول المصطفى: «فأقول لها: ما لك من أنت؟.. فتقول هذه المرأة: أنا امرأة قعدت على أيتام لي».. أنا امرأة قعدت على أيتام لي.. امرأة ربّت يتامى مات زوجها وهى في ريعان الصبا والشباب فأبت إلا أن تُفرّغ نفسها لتربية أولادها تربية ترضى الرب سبحانه هذه هي منزلها تركت كل لذة واستعلت على كل شهوة ورفضت الخُطّاب وتفرّغت لتربية أولادها اليتامى هذه هي منزلتها مع الحبيب صلى الله عليه وسلم. الإمام أحمد بن مسكين من علماء القرن الثالث الهجري في البصرة، يقول عن نفسه: "إني امتحِنت بالفقر سنة تسع عشرة ومائتين، وانحسَمت مادتي وقحط منزلي، فلم يكن عندنا شيء، ولي امرأة وطفلها، وقد طوينا على جوع يخسف بالجوف خسفا، فجمعت نيتي على بيع الدار والتحوّل عنها، فخرجت أتسبب لبيعها فلقيني أبو نصر، فأخبرته بنيتي لبيع الدار فدفع إلى رقاقتين من الخبز بينهما حلوى، وقال أطعمها أهلك. ومضيت إلى داري فلما كنت في الطريق لقيتني امرأة معها صبي، فنظَرَت إلى الرقاقتين وقالت: يا سيدي، هذا طفل يتيم جائع، ولا صبر له على الجوع، فأطعمه شيئًا يرحمك الله، ونظر إليّ الطفل نظرة لا أنساها، وخيّل إليّ حينئذٍ أن الجنة نزلت إلى الأرض تعرض نفسها على من يشبِع هذا الطفل وأمه، فدفعت ما في يدي للمرأة، وقلت لها: خذي وأطعمي ابنك. والله ما أملك بيضاء ولا صفراء، وإن في داري لمن هو أحوج إلى هذا الطعام، فدمعت عيناها، وأشرق وجه الصبي، ومشيت وأنا مهموم، وجلست إلى حائط أفكر في بيع الدار وإذ أنا كذلك إذ مرّ أبو نصر وكأنه مستطار فرحًا، فقال: يا أبا محمد، ما يجلسك ها هنا وفي دارك الخير والغنى؟! قلت: سبحان الله! ومن أين يا أبا نصر؟! قال: جاء رجل من خراسان يسأل الناس عن أبيك أو أحد من أهله، ومعه أثقال وأحمال من الخير والأموال، فقلت: ما خبره؟ قال: إنه تاجر من البصرة، وقد كان أبوك أودَعه مالاً من ثلاثين سنة، فأفلس وانكسر المال، ثم ترك البصرة إلى خراسان، فصلح أمره على التجارة هناك، وأيسَر بعد المحنة، وأقبل بالثراء والغنى، فعاد إلى البصرة وأراد أن يتحلّل، فجاءك بالمال وعليه ما كان يربحه في ثلاثين سنة. قال أحمد بن مسكين: حمدت الله وشكرته، وبحثت عن المرأة المحتاجة وابنها، فكفيتهما وأجرَيت عليهما رزقا، ثم اتجرت في المال، وجعلت أربه بالمعروف والصنيعة والإحسان وهو مقبل يزداد ولا ينقص، وكأني قد أعجبني نفسي وسرني أني قد ملأت سجلات الملائكة بحسناتي، ورجوت أن أكون قد كتبت عند الله في الصالحين، فنمت ليلة فرأيتُني في يوم القيامة، والخلق يموج بعضهم في بعض، ورأيت الناس وقد وسعت أبدانهم، فهم يحملون أوزارهم على ظهورهم مخلوقة مجسمة، حتى لكأن الفاسق على ظهره مدينة كلها مخزيات، ثم وضعت الموازين، جيء بي لوزن أعمالي، فجعلت سيئاتي في كفة وألقيت سجلات حسناتي في الأخرى، فطاشت السجلات، ورجحت السيئات، كأنما وزنوا الجبل العظيم بلفافة من القطن، ثم جعلوا يلقون الحسنة بعد الحسنة مما كنت أصنعه، فإذا تحت كل حسنه شهوة خفية من شهوات النفس، كالرياء والغرور وحب المحمدة عند الناس، فلم يسلم لي شيء، وهلكت عن حجتي وسمعت صوتًا: ألم يبق له شيء؟ فقيل: بقي هذا، وأنظر لأرى ما هذا الذي بقي، فإذا الرقاقتان اللتان أحسنت بهما على المرأة وابنها، فأيقنت أني هالك، فلقد كنت أحسن بمائة دينار ضربة واحدة فما أغنَت عني، فانخذلت انخذالاً شديدًا فوضِعَت الرقاقتان في الميزان، فإذا بكفة الحسنات تنزل قليلاً ورجحت بعضَ الرجحان، ثم وضعت دموع المرأة المسكينة، حيث بكت من أثر المعروف في نفسها، ومن إيثاري إياها وابنها على أهلي، وإذا بالكفة ترجح، ولا تزال ترجح حتى سمعت صوتًا يقول: قد نجا، فلا تحقرنّ من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلق، واتقوا النار ولو بشق تمرة. أسأل الله أن يوفقنا لطاعته، وأن يجنبنا معصيته،، إنه خير مسؤول، وصلى الله وسلم على الرسول وعلى آله وصحبه أجمعين. |
رد: حقوق اليتيم
حقوق اليتيم (2) د. أمير بن محمد المدري الحمد لله الذي أسبغ علينا نعمه الباطنة والظاهرة، وجعل الدنيا لنا مزرعة للآخرة، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث للناس كافه المؤيد بالمعجزات الباهرة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. و بعد: لا زلنا مع اليتيم وحق اليتيم، عرفنا في اللقاء الماضي أهمية رعاية اليتيم في الإسلام، وان الإسلام ليس دين شعائر فقط وإنما دين مشاعر وشرائع، فالساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، و من كفل يتيماً حجز مقعداً بجوار النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم في الجنة. ألا فلنعلم أن كفالة اليتيم من أعظم أعمال البر، جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: »من عال ثلاثة منالأيتام كان كمن قام ليله وصام نهاره« [رواه ابن ماجه في باب الآداب برقم 863.]. ورعاية وكفالة الأيتام من صفات الأبرار، قال بذلك العزيز الغفار: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ ﴾ [البقرة: 177]. أخي الحبيب: هل تعاني من قسوة في القلب ووحشة في حياتك؟ تريد العلاج اسمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية البيهقي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي - يشكو قساوة قلبه قالصلى الله عليه وسلم: «أَدْنِ اليتيمَ منك وأَلْطِفْه وامسحْ برأسه وأَطْعِمْه من طعامك فإن ذلك يُلَيِّن قلبَك وتُدْرِك حاجتَك »[ أخرجه البيهقي (4/60، رقم 6887) والخرائطي في مكارم الأخلاق (ص 218 رقم 661)]. إن الصدقة في الإسلام ليست مقصورة على المال فقط فالكلمة الطيبة صدقة والمعروف صدقة وفعل الخير صدقة والابتسامة صدقة وفي الحديث الصدقة بالمشاعر والأحاسيس حين لا تجد ما تعطي اليتيم والمسكين ترحمه تعطف عليه تمسح على رأسه فهذا العمل يزيل سواد القلب وينظف ما بداخله من مرض، ويخلصه مما شابه من سوء الفعل والقول، وروى البخاري ومسلم من حديث أبى هريرة رضي الله عنه أن المصطفى صلى الله عليه وسلم: «الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وكالذي يصوم النهار ويقوم الليل».. وروي أن عيسى بن مريم عليهم السلام مر بقبرٍ يعذب صاحبه، ثم مر به من قابل، فإذا هو ليس يعذب فقال: يا رب مررت بهذا القبر عام أول فكان صاحبه يعذب، ثم مررت به العام، فإذا هو ليس يعذب فأوحى الله عز وجل إليه: يا روح الله... أنه أدرك له ولد صالح، فأصلح طريقاً، وأوى يتيماً، فغفرت له بما عمل ابنه. أيها الأخوة: ربوا أولادكم علموهم فعل الخير نشؤهم على الصلاة والقران وحب الصالحين. وها هو نبي الله موسى يمر ومعه العبد الصالح الخضر حيث وجدا في سفرهما ﴿ جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ ﴾ [الكهف: 77] وأصلحه الخضر بدون أجر يأخذه على ذلك العمل؛ لذلك كان هذا المنظر غريباً على موسى عليه السلام. ﴿ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ [الكهف: 77]. وتمر لحظات ينتظر فيها موسى الجواب الشافي من الخضر فإذا به يكشف الحقيقة قائلاً: ﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 82]. لقد حفظ الله بعنايته لهذين اليتيمين كنزهما المدخور جزاءً لصلاح أبيهما وقد ذكرت كتب التفسير أنه كان ذلك جزاء صلاح أب لهما بينهما، وبينه سبعة آباء. وهكذا كان صلاح الآباء مثمراً في حفظ حقوق الذرية ورعاية ما أودع لهما من كنز مالي، أو علمي. أيها الأب الكريم: أفضل وأحسن وأجمل ما تقدمه لأولادك من بعدك صلاحك أنت وتقوى الله تعالى كيف تؤمن مستقبل ولدك بعد موتك؟ سؤال قد يبدو غريبا للوهلة الأولى لكن ستزول الغرابة فوراً بعد ترتيلي لقول الله عز وجل وعلا: ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾ [النساء: 9]. حقِّق التقوى ليحفظ الله لك أولادك بعد موتك، هذا وعد ربى قُل قولا سديداً، ليتول الله أولادك بالرعاية والعناية بعد موتك، دخل مسلمة بن عبد الملك على عمر بن عبد العزيز رحمه الله وهو على فراش الموت فقال مسلمة وهو ابن عم عمر: يا أمير المؤمنين ألا توصى لأولادك بشيء من المال فلقد تركت أولادك فقراء فقال عمر بن عبد العزيز «يا مسلم وهل أملك شيئاً من المال لأوصى به لأولادي أم تريد أن أمنحهم من مال المسلمين ما ليس لهم؟! لا يكون ذلك، فإنهم أحد رجلين: إما أن يكونوا صالحين فالله يتولى الصالحين وإما أن تكونوا غير ذلك ولا أدع لهم ما يستعينون به على معصية الله، وأسأل أنا عنه بين يدي الله». ثم قال عمر: أدخلوا أولادي على فدخلوا عليه وهو على فراش الموت فنظر إليهم وبكى وقال: يا بني إن أباكم قد خُيّر بين أمرين: بين أن يترككم أغنياء ويدخل النار، وبين أن يترككم فقراء ويدخل الجنة ولقد اختار أبوكم الجنة إن شاء الله، وإما أن تكونوا صالحين فالله يتولى الصالحين وإما أن تكونوا غير صالحين فلا أدع لكم ما تستعينون به على معصية الله، وأسأل أنا عنه بين يدي الله أخرجوا عنى فخرجوا عنه وظل يردد قول الله تبارك وتعالى: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: 83]. حتى توفاه الله جل وعلا والله ما مضى وقت كبير وقد جاء ولد من أولاد عمر بن عبد العزيز يحمل الصدقة على بعير، ليتصدق بها على الفقراء والمساكين وقد تركهم عمر لا يملكون من حطام الدنيا شيئاً، إنه وعد الله سبحانه ولا تعارض بين أن تحقق التقوى لولدك وبين أن تكدح وتسعى وأن تترك لهم مالا، ولا تعارض بين هذا وذاك. ففي صحيح مسلم من حديث سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل عليه، ليزوره في مرض الموت قال له سعد: يا رسول الله أريد أن أتصدق بثلثي مال قال: «لا» قال: أتصدق بنصف مالي؟ قال: « لا» قال: أتصدق بالثلث قال: «والثلث كثير». ثم قال صلى الله عليه وسلم: «إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة- أي فقراء- يسألون الناس » لا حرج فهذا من التوكل على الله. وعن مالك بن عمرو القشيري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ضم يتيمًا من بين أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله وجبت له الجنة ». [أخرجه: أحمد (4/344 رقم 19052)]. إنَّ الإحسان إلي الأيتام هدي النبي المختار، وطريق الأبرار.. فقد قُتل جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة وكان وراءه صبية صغار، فجاءت أمهم تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُتم أطفالها وحالتهم فقال: «أتخافين عليهم وأنا وليهم في الدنيا والآخرة»؟! [ أخرجه أحمد (1/204)، والطبراني في الكبير (2/105)، وابن عبد البر في التمهيد (22/139) من حديث عبد الله بن جعفر، وصححه ابن الجارود (9/162)، وقال الهيثمي في المجمع (6/157): "رواه أحمد والطبراني ورجالهما رجال الصحيح".]. أيها الأخوة: كم من أم لأيتام يحوم حولها صبيتها وعينهم شاخصة نحوها، لعلهم يجدون عندها ما يسد جوعتهم ويشبع بطنهم. من المسؤول عن أمثال هؤلاء أليس المسلمين، ولله در عمر بن الخطاب رضي الله عنه روى الإمام أحمد بإسناد حسن في الفضائل، قال: عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: « خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى حرة واقم، حتى إذا كنا بمرتفع إذ بنار بعيدة فقال عمر: يا أسلم إني لأرى هناك ركْبًا حبسهم الليل والبرد فانطلق بنا، قال: فخرجنا نُهَرْوِلُ حتى دنونا منهم، فإذا هي امرأة معها صبية صغار، وإذا بِقِدْر منصوبة على النار، وصبيانها يتضاغون، فقال: السلام عليكم يا أهل الضوء - وقد كره أن يقول: يا أهل النار- قالت: وعليكم السلام، قال عمر: أأدنو؟ قالت: ادْنُ بخير أو دع. فدنا فقال: ما بكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد، قال: فمالِ لهؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع. قال: فأي شيء في هذا القدر؟ قالت: ماء أُسْكِتهُم به حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر -كلمات يهتز لها قلب وجنان كل مؤمن، فما بالك بـ عمر؟ - يقول: أي رحمك الله، وما يدري عمر بكم؟ قالت: يتولى أمرنا، ثم يغفل عنا، الله بيننا وبينه. قال أسلم: فأقبل عليَّ عمر به ما به، يقول: انطلق. فأتينا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عِدلاً من دقيق، وكبَّة من شحم، ثم حملها عمر على ظهره، فقلت: أحملها عنك يا أمير المؤمنين! قال: لا أمَّ لك، أتحمل عني وزري يوم القيامة؟! قال: فانطلقنا حتى أتيناها، فألقى العِدْل عندها، وأخرج من الدقيق شيئًا، وجعل يقول: ثرِّي عليّ وأنا أُحرِك، وجعل ينفخ تحت القدر، والدخان يتخلل لحيته، فلو رأيته لرأيت عجبًا، ثم أنزل القدر فأتته بصحفة فأفرغ فيها الطعام. ثم جعل يقول لها: أطعميهم وأنا أسطح لهم؛ فلم يزل كذلك حتى شبعوا، ثم ترك عندها فضل ذلك الطعام، ثم قام وهي تقول: جزاك الله خيرًا. كنت أولى بهذا الأمر من عمر. ولأهمية اليتيم في الإسلام وعظم حقوقه جاء التهديد والوعيد لمن تسول له نفسه المساس بحق اليتيم فقد جعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات. فعن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبعَ المُوبِقَات الشركُ بالله والسِّحْرُ وقتلُ النفسِ التي حرم الله إلا بالحق وأكلُ الربا وأكلُ مالِ اليتيم والتولي يومَ الزَّحْف وقذفُ المحصنات الغافلات المؤمنات ». [أخرجه: البخاري (3/1017، رقم 2615)، ومسلم (1/92، رقم 89)]. وعن أبى برزة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم « يبعث الله يوم القيامة قوما من قبورهم تأجج أفواههم نارا ألم تر أن الله يقول: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10] [أخرجه: أبو يعلى (13/434، رقم 7440)، وابن حبان (12/377، رقم 5566)]. وعن أبى شريح رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى مانع الزكاة ولا إلى آكل مال اليتيم ولا إلى ساحر ولا إلى غادر». [أخرجه الديلمي (5/132، رقم 7720)]. عن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أربعٌ حقٌّ على اللهِ أن لا يدخلَهم الجنةَ ولا يُذِيقَهم نعيمَها مدمنُ خمرٍٍ وآكلُ الربا وآكلُ مالِ اليتيمِ بغيرِ حقٍّ والعاقُّ لوالديه ». [أخرجه: الحاكم (2/43، رقم 2260)، وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي في شعب الإيمان (4/397، رقم 5530). قال المنذري (3/4): رواه الحاكم ]. وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: اتقوا دمعة اليتيم ودعوة المظلوم فإنهما يسيران بالليل والناس نيام. أخي المسلم: لا يفوتك أجر كفالة اليتيم وابتعد عن هذه العقوبات بكفالة اليتيم ولو جزئياً: قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 215]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا ﴾ [النساء: 8]. وزيارة ودعم جمعيات دار وكفالة الأيتام، وإدخال السرور والبهجة على الأيتام، و لا يشعرهم بفقد أبويهم، والحنو عليه والمسح على رأسه. هناك بيننا أيتام رغم وجود آباءهم نعم يتيم رغم وجود الوالدين: إنه اليُتم التربوي، فقد يشعر كثير من أولادنا باليُتم التربوي ورغم وجود الوالدين، لأن الوالدين قد انشغلا عن الأولاد، لأن الوالد انشغل بتجارته ووظيفته لا يجد وقتاً يلتقي بأولاده أو يسال عنهم ومن يصاحبون ومع من يجلسون وتزداد المصيبة إذا انشغلت الأم هي الأخرى بالوظيفة أو بمجالس النساء أو الجري وراء الأسواق أو الزيارات وتركوا أولادهم يربيهم الشارع يربيهم قرناء السوء يربيهم التلفاز وشبكات الانترنت. فليس اليتيم من انتهى أبواه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وخلفاه في هم الحياة ذليلا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إن اليتيم هو الذي ترى له https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أما تخلت أو أبا مشغولا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قال جلا وعلا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]، وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبن عمر رضي الله عنهما: « كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته». وفى الصحيحين من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة». وما دام الحديث عن اليتيم وحقوق اليتيم في الإسلام فلا بد ولابد أن لا ننسى أيتام فلسطين هل ينسى مسلم صادق في هذا الوقت الحرج يتامى فلسطين؟. أيها المسلم: تصور أخي الفاضل، تصور إنك تجلس مع أولادك على مائدة الطعام وبدون مقدمات سقط صاروخ على البيت فحول البيت إلى ركام ثم توفى الوالد وتمزقت أشلاؤه وسالت دماؤه وقتلت الأم وتمزقت أشلاؤها وسالت دماؤها وربما قتل بعض الأطفال وبقى طفل أو طفلان، بقى طفل ليرى هذا المشهد المروع رأى بيتاً يسقط ويرى والداً يمزق، ويرى أماً تقتل، ويرى إخوانه تتمزق أشلاؤهم لتتطاير هنا وهناك فيصرخ هذا اليتيم، وتنقل صرخته على مرأى ومسمع من العالم الخائن، والعالم الإسلامي الهزيل المهزوم، لكن من يسمع صرخته بل ربما نراه على شاشات التلفاز فينظر أحدنا إلى هذا المشهد المروع ثم يقوم بعد ذلك يهز كتفيه، وكأن الأمر لا يعنيه، وكأن هذا الطفل الذي فقد بيته وفقد والديه ليس منه في شيء وتصرخ هذه اليتيمة الصغيرة على أرض فلسطين تصرخ بأعلى صوتها وتنادى على ألف مليون وتقول: أنا لا أريد طعامكم وشرابكم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فدمى هنا يا مسلمون يراق https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif عرضي يُدنس أين شيمتكم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أما فيكم أبٌ قلبه خفاق https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وصدق ربى إذ يقول: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾ [إبراهيم: 42]. أخي المسلم: لا تنس أيتام فلسطين ونساء فلسطين ومجاهدي فلسطين ومرابطي فلسطين من دعائك ومالك فهم يدافعون عن شرفنا وعز أُمتنا ومقدساتنا. لا تنس أيتام الأمة في كل بلدٍ مكلوم ولا تنس المظلومين في العالم من دعائك ومالك. أسأل الله بمنه وكرمه أن يقوي إيماننا وأن يرفع درجاتنا إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. |
الساعة الآن : 08:14 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour