وقفات ودروس من سورة آل عمران
وقفات ودروس من سورة آل عمران (1) ميسون عبدالرحمن النحلاوي بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين؛ أما بعد: مقدمة: فإن القرآن الكريم من أكبر النعم التي منَّ بها رب العالمين على عباده المسلمين، فيه الرحمة، وفيه الهدى، وفيه العلم والحكمة والبيان، فيه القصص والعِبر والعِظات. هو نور ورحمة وشفاء لكل مسلم على أي حال كان، القرآن الكريم فيه الخير كله، من تمسك به فاز، ومن حُرمه خاب وخسر آخرته ودنياه، اللهم إنا نعوذ بك من الخيبة والخسران. يقول تعالى في سورة يونس: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 57، 58]. جاء في تفسير القرطبي: "قوله تعالى: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ ﴾ [يونس: 58] قال أبو سعيد الخدري وابن عباس رضي الله عنهما: فضْلُ الله القرآن، ورحمته الإسلام، وعنهما أيضًا: فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله"؛ [انتهى]. وقد ذمَّ الله في كتابه العزيز من يقرأ القرآن بلا تدبر ولا فَهم لمعانيه ومقاصده؛ فقال عز من قائل: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]. قال ابن كثير: "﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]؛ أي: بل على قلوب أقفالها، فهي مطبقة لا يخلص إليها شيء من معانيه". فالمؤمن مأمور أن يبحث ويتقصَّى، ويحاول ويجتهد في فهم معاني القرآن الكريم، ليكون ممن ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ﴾ [البقرة: 121]، فيُكتب ممن ﴿ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ [البقرة: 121]؛ يقول تعالى في سورة البقرة: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ [البقرة: 121]. قال ابن مسعود: "والذي نفسي بيده، إن حق تلاوته أن يُحِل حلاله، ويُحرِّم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئًا على غير تأويله"، وكذا رواه عبدالرزاق، عن معمر، عن قتادة ومنصور بن المعتمر، عن ابن مسعود، وقال السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس في هذه الآية، قال: "يُحلون حلاله ويحرمون حرامه، ولا يحرفونه عن مواضعه". قال القرطبي: "وروى نصر بن عيسى، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ﴾ [البقرة: 121] قال: ((يتبعونه حق اتباعه))"؛ [انتهى]. والعمل بالقرآن واتباع ما جاء به يقتضي تدبره، ويتطلب منا فهم مقاصده ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا. وقد ورد عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه قال: "لقد عُشنا بُرهةً من دهرنا، وأحدنا يُؤتَى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فنتعلم حلالها وحرامها، وآمِرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، كما تعلمون أنتم اليوم القرآن، ثم لقد رأيت اليوم رجالًا يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه، فينثره نثر الدَّقَل". اللهم نسألك إيمانًا صادقًا، وفهمًا وتدبرًا لكتابك العزيز، ودعوانا أن تكتبنا من أهل القرآن وخاصته، دون رياء ولا نفاق، اللهم آمين. وبعدُ: فهذه الدراسة البسيطة لسورة آل عمران، والتي تمتد على عدد من الحلقات، هي محاولة لتدبر وتعلم ما شاء الله لنا أن نتعلم منها، وإلا فإن أسرار القرآن ومقاصده وإعجازه لا يحيط به إلا مُنزله جل وعلا، ولا نحيط نحن البشر من علم الله بشيء إلا بما شاء؛ كما قال عز وجل في آية الكرسي: ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ﴾ [البقرة: 255]، وفي سورة الكهف: ﴿ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ﴾ [الكهف: 109]. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، واجعل أعمالنا خالصةً لوجهك لا يشوبها من الرياء شائبة، اللهم آمين. تعريف بسورة آل عمران: آل عمران سورة مدنية من السور الطِّوال، نزلت بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وعدد آياتها مائتا آية، وهي من السور التي بدأت بالحروف المتقطعة "الم"، وتغطي بعضًا من الجزء الثالث والجزء الرابع من أجزاء المصحف الشريف، ومن حيث الأحزاب، فهي في الحزب السادس والسابع والثامن. وسورة آل عمران ليست من أوائل ما نزل في المدينة، بل نزلت بعد فترة طويلة من حياة المسلمين بها، وبعد أن تقلَّبت عليهم فيها أحوالٌ من النصر والهزيمة في غزوات متعددة، واختلطوا اختلاطًا واضحًا بأهل الكتاب من يهود ونصارى، وجرى بينهم من الحِجاج والنِّقاش ما يتصل بالدعوة المحمدية وفروعها، وقد ذُكرت فيها غزوات بدر وأُحُدٍ وحمراء الأسد. نزلت سورة آل عمران بعد سورة الأنفال التي تكفَّلت بالكلام على غزوة بدر، وبعدها في أواخر السنة الخامسة للهجرة نزلت سورة الأحزاب. الأجواء التي نزلت فيها سورة آل عمران: سورة آل عمران تحكي عن فترة من حياة الجماعة المسلمة في المدينة المنورة، تمتد من بعد غزوة بدر، وحتى ما بعد غزوة أحد. تكمن أهمية هذه الفترة في عدة نقاط: كانت الدولة فتيَّة ما زالت في بداياتها، وكان الإسلام غضًّا في قلوب المؤمنين لم يتجذر بما يكفي ليطغى على البُعدين القَبَلِيِّ والأسري، والتعصب لهما، فما كان واضحًا لديهم أن وشيجة الدين هي الأعلى، والغالبة على كل الوشائج التي تربط بني البشر في مختلف مجتمعاتهم، في حين كان أعداء هذه الدولة الفتية، أو الجماعة المسلمة، ينطلقون من عقيدة واضحة الملامح: المال، والسلطة، وكانت هذه العقيدة تجمعهم على اختلاف مشاربهم التي ينطلقون منها، فقد كان منطلق اليهود دينيًّا، ومنطلق العرب عروبيًّا قبليًّا. تميزت تلك الفترة بنشوء مجتمع المنافقين وبداية تجذره في جسد الأمة، فكان قائده "عبدالله بن أبي سلول"، وكان له مريدون وأتباع من مرضى النفوس، ويرجع سبب نشوء هذا المجتمع إلى انتصار المسلمين في غزوة بدر انتصارًا لم يكن لعقلِ بشرٍ يؤمن بالماديات من حوله فقط أن يصدقه. فبعد انتصار المسلمين في غزوة بدر أيقن هؤلاء بحقيقة الدعوة، وأن لا مدخلَ لهم على الدعوة الجديدة عن طريق الحروب، فتوجهوا نحو تشكيك المسلمين في عقيدتهم؛ تارة من باب الفكر العقائدي، وكان أبطال هذا الأسلوب اليهود: ﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [آل عمران: 72]، وتارة من باب التشكيك في قرارات سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وكان أبطالَ هذا الأسلوب المنافقون، وهذا ما أتت عليه السورة في سياق غزوة أحد: ﴿ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آل عمران: 168]. اختلال موازين القوى بين الجماعة المسلمة وأعدائها؛ فمن الناحية المادية كانت موازين القوى في المجتمع الجديد تميل إلى كفة أعداء الجماعة المسلمة، فقد كان حلف المنافقين مع اليهود حلفًا قويًّا في وجه الدعوة الجديدة. في هذه الأجواء نزلت سورة آل عمران بدروسها وتوجيهاتها، وفضحها لسلوكيات وصفات المنافقين واليهود؛ لتغرس في قلوب المؤمنين بذور الإيمان الصحيح بصورة جلِيَّة ناصعة واضحة، وتُزيل من عقولهم كلَّ تخبُّط وتشكُّك، فغسيلُ الأدمغة أمرٌ درج عليه أعداء الإسلام والمسلمين منذ ظهور الدعوة، وأما معركة الحق مع الباطل، فهي معركة أزلية لن تنتهي حتى يرث الله الأرض ومن عليها، والسلاح الوحيد الذي يمكن أن يضمن لنا النصر فيها كتابُ الله وسنة رسوله. آل عمران سورة التوحيد والثبات الفكري والجهادي: فإن كان التوحيد وآياته، ودلائله والدعوة إليه، هو المحور الذي تدور حوله السورة، فإن التوجيهات الإلهية للمسلمين في مسألة الثبات على هذه العقيدة – عقيدة التوحيد - في شقَّيه الفكري والجهادي هي العنوان العريض للسورة، وهو ما سيطالعنا في مسألة وفد نجران، وغزوة أحد. وقفة مع اسم السورة: من المعلوم أن تسمية سورة آل عمران بهذا الاسم هو بسبب ذكر قصة آل عمران فيها، لكن، وكما كان من شأن قصة البقرة في سورة البقرة من دلالات وإضاءات على محاور السورة، كذلك نجد أن قصة آل عمران في هذه السورة تبدو بمثابة المصباح الذي يُلقي بضوئه على مواضيع السورة من كل ناحية، فلو أنك أطلْتَ التدبر والتأمل في قصة آل عمران، لوجدتها تجمع في طياتها مقاصدَ السورة الرئيسية، ومرتكزاتها الأساسية بسرد واحد. فالقصة تتناول الاختلاف الجذريَّ بين مقاييس الخلق، وفهمهم للقوانين الأرضية، عن مقاييس رب الخلق؛ الله جل في علاه، وتدبيره وتصريفه لأمور أهل الأرض، وهو ما سيبدو جليًّا فيما بعد في معايير النصر والهزيمة في ساحات الجهاد في سياق الغزوات الثلاث؛ بدرٍ وأحدٍ وحمراء الأسد. وينتج عن هذا الاختلاف ما يسميه البشر "بالمعجزة"، إذا عرفنا المعجزة على أنها كل ما يتجاوز حدودَ فَهم العقل البشري وتفسيره منطقيًّا، حسب القوانين والنواميس الطبيعية التي وضعها الله للبشر. فالقصة تعرض لمعجزات متتالياتٍ، تبدأ من اصطفاء مريم عليها السلام وهي ما زالت في رحِم أمِّها، وتولِّي الله عز وجل لها في الرزق والإنبات، ثم استجابة الله عز وجل لزكريا في هبَتِهِ للولد، في خرق للنواميس البشرية في الإنجاب، إلى ولادة سيدنا عيسى من غير أب، إلى معجزات سيدنا عيسى في قومه إلى رفعه عليه السلام. والعرض التفصيلي لتلك المعجزات في القصة، هو بمثابة تقعيد لأهم مقومات التوحيد؛ وهو: قدرة الله على الخلق والتدبير بمجرد قوله كن فيكون، بذلك خلق آدم، وبذلك خلق عيسى عليهما السلام، وكذا أمره في كل تصريف وتدبير. هو الحق وأمره وتدبيره حقٌّ، ولا ينبغي لأحد أن يتناوله بأبسط مظاهر الشك؛ وهذا قوله تعالى: ﴿ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ [آل عمران: 60]، ومن هنا تُدخلنا القصةُ إلى باب من أهم أبواب السورة؛ وهو باب الثبات. إذ لا تكاد تنتهي القصة، حتى يوجهنا السياق إلى دعوة وفد نصارى نجران، القائلين بألوهية عيسى عليه السلام، للمباهلة، والمباهلة في اللغة هي الملاعنة؛ أي: الدعاء بإنزال اللعنة على الكاذب من المتلاعنين، لتكون نموذجًا لكل مسلم في مسألة الثبات العقائدي في مواجهة افتراءات العقائد المنحرفة المتألية على الله عز وجل، وعلى دين التوحيد. فضل السورة: ورد في فضل سورة آل عمران عدد من الأحاديث النبوية الشريفة؛ نذكر منها: قوله صلى الله عليه وسلم عن النواس بن سمعان الكلابي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يُؤتَى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدَّمه سورة البقرة، وآل عمران، وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثةَ أمثال ما نسيتهن بعدُ، قال: كأنهما غمامتان، أو ظُلَّتان سوداوان بينهما شَرْق، أو كأنهما حِزْقان من طيرٍ صوافَّ، تُحاجَّان عن صاحبهما))؛ [صحيح مسلم]. وفي هذا الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به))؛ أي: الذين يقرؤون القرآن، ويؤمنون بأخباره، ويصدقون بها، ويعملون بأحكامه، فهؤلاء يكون القرآن حجةً لهم يوم القيامة، وخرج بذلك الذين لا يؤمنون بأخباره، ولا يقيمون حدوده، فهؤلاء يكون القرآن حجةً عليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((القرآن حُجَّة لك أو عليك))، ((تقدَّمه))؛ أي: تتقدم القرآن، أو أهله: ((سورة البقرة، وآل عمران، كأنهما غمامتان، أو ظلتان))؛ أي: سحابتان، ((سوداوان))؛ لكثافتهما، وارتكام بعضهما على بعض، ((بينهما شرق))؛ أي: ضوء، ونور الشرق هو الشمس، وفي ذلك تنبيه على أنهما مع الكثافة لا يستران الضوء، وقيل: أُريد بالشرق الشقُّ، وهو الانفراج، أي: بينهما فرجة وفصل؛ كتميزهما بالبسملة في المصحف، ((وكأنهما حزقان))؛ أي: قطيعان وجماعتان، ((تُحاجَّان))؛ أي: تدافعان الجحيم والزبانية، أو تخاصمان الربَّ، أو تجادلان عنهم بالشفاعة، أو عند السؤال إذا سكت اللسان، واضطربت الشفتان، وضاعت البراهين". اللهم اجعلنا من أهلهما. وقد ورد في قصة مريم وعيسى عليهما السلام حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مولود يُولَد إلا والشيطان يمسه حين يُولَد، فيستهل صارخًا من مسِّ الشيطان إياه، إلا مريم وابنها، ثم يقول أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: ﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 36]؛ [حديث صحيح، رجاله رجال الشيخين، أخرجه البخاري ومسلم، والطبري والبغوي، وأحمد وأبو يعلى، وغيرهم]. السمات المميزة لسورة آل عمران: ومن هذه السمات مواضيع تفردت السورة بذكرها دون غيرها من سور القرآن الكريم: مسألة المحكم والمتشابه. قصة آل عمران: حيث لم تُذكر القصة بتفصيلها إلا في سورة آل عمران. المعجزة والغيب: تتفرد سورة آل عمران بسوقها لعدد من المعجزات كدليل ساطع على وحدة الألوهية والربوبية في آنٍ معًا، ونجدها جلية في قصة آل عمران، والغزوات الثلاث التي أتَتِ السورة على ذكرها: بدر، أحد، حمراء الأسد. آيات المباهلة: في محاججة نصارى وفد نجران، ولم ترِد إلا في هذه السورة. غزوة أحد: كذلك الأمر، لم تُذكر غزوة أحد بتفصيلها إلا في سورة آل عمران. الولاء والبراء: تأتي السورة على مسألة الولاء والبراء في أكثر من موضع، وتتميز آيات الولاء والبراء في آل عمران في أنها تارة ذُكِرت بحكم قطعيٍّ، فيه من الوعيد الشديد ما تنخلع له القلوب؛ في قوله تعالى: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ [آل عمران: 28]، ثم تبرؤ الله عز وجل من كل من يتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين؛ يقول تعالى: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ [آل عمران: 28]. والموضع الآخر الذي ذُكرت فيه مسألة البراء جاء في سياق تعليميٍّ، يخاطب العقل لمن لا يقتنع إلا بالسياقات العقلية، فبيَّن لهم خبيئة هؤلاء، ولماذا ينهاهم جل في علاه عن موالاتهم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 118]، وسنأتي على تفصيل المسألة في قلب السورة إن شاء الله. البشرية وحتمية الموت: تتناول السورة الموت في عرض تصحيحي للنظرة السطحية التي يحاكم بها الناس الموت: تُذكِّرنا السورة بحتمية الموت في أنه مقدَّر على كل البشر؛ صغيرِهم وكبيرهم، غنيهم وفقيرهم، عظيمهم وسفيههم؛ وهذا قوله تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ [آل عمران: 185]، والموت مكتوب ومقدَّر في زمانه ومكانه بغضِّ النظر عن الأسباب، ولو اختبأ منه الإنسان في سابعة الأرضين. ثم تأتي مسألة موت القائد في المعركة الجهادية، فتُبين أن موت القائد لا يعني موت الرسالة التي جاهد وعاش ومات من أجلها. وتخبر المؤمنين بأن من يُقتل في سبيل الله، ليس بميت، بل حيًّا عند ربه يُرزق: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: 169]. عرض السورة لمسألة الثبات الخارجي والداخلي: فسورة آل عمران، في سياق الثبات، تتمحور حول حادثتين: حادثة وفد نصارى نجران، الذي يمثل أول حوار للأديان في التاريخ، وكيف نثبت في مواجهة الأفكار الخارجية من خلال المناقشة مع وفد نصارى نجران، وهي تُعلِّمنا فكرة مناقشة أهل الكتاب عامة. والحادثة الثانية: غزوة أحد تدُلُّنا على كيفية الثبات العملي، وقد جاء ترتيب الحادثتين في سياق السورة بهذا الشكل، على رغم أن وقوعهما الزمني معكوس، إنما جاء ليخدم فكرة ضرورة بناء الثبات الخارجي أولًا، ليتحقق الثبات الداخلي، أو بتعبير آخر: الثبات العقائدي أولًا، ثم الثبات السلوكي، أو العملي. وتعرض السورة من خلال الكثير من آياتها مسألةَ الثبات على الحق، لكل المؤمنين على اختلاف شرائحهم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]. ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران: 103]. ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146]. ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ﴾ [آل عمران: 173، 174]. ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200]. كما تعرض السورة في مقدمتها لعقبات الثبات: كقوله تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]. الحلقة القادمة وقفات مع مقدمة السورة إن شاء الله. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. |
رد: وقفات ودروس من سورة آل عمران
وقفات ودروس من سورة آل عمران (2) ميسون عبدالرحمن النحلاوي وقفات مع مقدمة السورة - 1- تستغرق مقدمة سورة آل عمران اثنتين وثلاثين آية، تكاد تغطي كل ما بسط في قلب السورة من مواضيع تدور في فلك المحور الرئيسي للسورة؛ وهو الألوهية والعبودية. الأسس العقائدية التي أتت عليها المقدمة: أولًا: تبدأ السورة بتقرير عقيدة التوحيد مشفوعة بصفات الله الواحد الأحد: ﴿ الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [آل عمران: 1، 2]، هذا الأصل الذي تسير في فلكه كل مواضيع السورة وجزئياتها ومنحنياتها: من آيات الوحدانية، إلى منزل الكتاب، إلى مرسل الرسل، إلى رب المعجزات، إلى صاحب القدرة المطلقة في الخلق، في الموت والحياة، في النصر والهزيمة، في بسط الرزق لمن يشاء ومنعه عمن يشاء.. وكل ذلك بأمر كن فيكون! هو الله الذي لا يفلح من يعصيه، ولا يشقى من يطيعه ويستهديه.. هو الله! هو الله الذي لا إله إلا هو، الذي لا ينبغي التألُّه والتعبُّد إلا لوجهه، فكل معبود سواه باطل، هو "الحي القيوم " وهما من أعظم صفات الله عز وجل: فالحي، سبحانه هو الدائم في وجوده الباقي حيًّا بذاته على الدوام أزلًا وأبدًا، هو حي لا يموت كما في قوله تعالى: ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 58]. قال ابن جرير الطبري: "وأما قوله: ﴿ الْحَيِّ ﴾ فإنه يعني: الذي له الحياة الدائمة والبقاء، الذي لا أول له يحد، ولا آخر له يؤمد". والقيوم: هو القائم بنفسه مطلقًا لا بغيره، الباقي أزلًا وأبدًا، أو القائم بتدبير أمور الخلق، وتدبير العالم بجميع أحواله، فهو القائم بأمور خلقه في إنشائهم، وتولي أرزاقهم، وتحديد آجالهم وأعمالهم، وهو العليم بمستقرهم ومستودعهم، وهو الذي يقوم به كل موجود، حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا بقيوميته وإقامته له سبحانه وتعالى. وقد روت أسماء بنت يزيد أم سلمة الأنصارية رضي الله عنها حديثًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم يفيد أن في هذه اسم الله الأعظم، قال صلى الله عليه وسلم: "اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: ﴿ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 163] و﴿ الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾ [آل عمران: 1، 2]"؛ أخرجه الترمذي وأبو داود وابن ماجه. ومن دلائل ألوهية الحي القيوم، سبحانه: • أنه هو المصدر الأزلي للكتب السماوية: ﴿ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ﴾ [آل عمران: 3]، فهو الذي بعث الأنبياء على اختلاف شرائعهم برسالة التوحيد، واختصَّ بالذكر التوراة والإنجيل، والقرآن، الذي نزل مصدقًا لما جاء بهما وخاتمًا للشرائع جميعها، ناسخًا لها. • وأنه جل في علاه أنزل الشرائع التي سبقت القرآن لهداية الناس، ولردهم عن طريق الضلال الذي أوغلوا فيه لما تطاول عليهم الزمان: ﴿ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ [آل عمران: 3، 4]. • ولنفس السبب أنزل الفرقان: يقول ابن كثير: "﴿ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ ﴾ [آل عمران: 4]، وهو الفارق بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والغي والرشاد، بما يذكره الله تعالى من الحجج والبينات، والدلائل الواضحات، والبراهين القاطعات، ويبينه ويوضحه ويفسره ويقرره، ويرشد إليه وينبه عليه من ذلك. وقال قتادة والربيع بن أنس: الفرقان هاهنا القرآن"؛ انتهى. • ثم إنه جل جلاله أعَدَّ لمن يكفر بهذا الهدى بعد أن بيَّنه الله له وأوضح له سبله وطرائقه عذابًا شديدًا يوم القيامة ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ [آل عمران: 4]؛ أي: منيع الجناب عظيم السلطان، ﴿ ذُو انْتِقَامٍ ﴾ ممن كذب بآياته وخالف رسله الكرام، وأنبياءه العظام. • ومن دلائل ألوهيته أنه متفرد بعلم الغيب، وبعلم السر وأخفى، وهو فقط الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ومن له بعلم الغيب إلا الله؟! ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [آل عمران: 5]. ويربط القرطبي علم الغيب المذكور في هذه الآية، بافتراء النصارى وقولهم: إن عيسى هو الله أو ابن الله، فيقول: "قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ﴾ [آل عمران: 5]، هذا خبر عن علمه تعالى بالأشياء على التفصيل، ومثله في القرآن كثير. فهو العالم بما كان وما يكون وما لا يكون، فكيف يكون عيسى إلهًا أو ابن إله وهو تخفى عليه الأشياء؟"؛ انتهى. • ومن صور تفرُّده بعلم الغيب أنه هو الذي يصوِّر الإنسان في رحم أمه بالمكان الذي يريده، بالزمن الذي يريده، على النحو الذي يريده، ومن يتأمل هذه الآية يجد أن خلق الإنسان وتصويره في رحم أمه يبدأ من اللحظة التي أراد الله بها الزواج بين والديه، والغيب متمثل في كل جزئيات هذه الرحلة.. فلا أحد يدري من سيكون شريك حياته على وجه القطع قبل أن يكتب الله له الزواج بها؛ ولا أحد يعلم بعد الزواج ما إذا كان سيُرْزَق أولادًا أم لا، ولا أحد يعلم هل ستكون ذريته ذكورًا فقط أم إناثًا فقط، أم ذكورًا وإناثًا؟ وهل سيولدون متعافين أم مرضى أم معاقين.. أحياء أم أمواتًا؟.. ثم هل يمكن لأحد أن يتصرف بما في الأرحام فيجعله ذكرًا أو أنثى، جميلًا أو قبيحًا، غبيًّا أو ذكيًّا؟ ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 6] هو الذي خلق، وهو المستحق للألوهية وحده لا شريك له، وله العزة التي لا ترام. ثم يأتي بعد ذلك من يحدثك بألوهية العلم..سبحانه وتعالى ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ﴾ [الرعد: 9].. سبحانه! ويرى ابن كثير أن هذه الآية فيها تعريض بل تصريح بأن عيسى ابن مريم عبدٌ مخلوق، كما خلق الله سائر البشر؛ لأن الله تعالى صوَّره في الرحم وخلقه كما يشاء، فكيف يكون إلهًا كما زعمته النصارى- عليهم لعائن الله- وقد تقَلَّب في الأحشاء، وتنَقَّل من حال إلى حال، كما قال تعالى في سورة الزمر: ﴿ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ [الزمر: 6]. • ومن دلائل ألوهيته، أنه هو الذي أنزل الكتاب فجعل منه المحكم والمتشابه فتنة للناس، فمن كان في قلبه زيغ اتَّبَع المتشابه، ومن كان راسخًا في العلم قال: ﴿ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ﴾ [آل عمران: 7]؛ يقول تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7]. يقول ابن كثير: "يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب، أي: بينات واضحات الدلالة، لا التباس فيها على أحد من الناس، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم، فمن رد ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكم محكمه على متشابهه عنده، فقد اهتدى، ومن عكس انعكس؛ ولهذا قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [آل عمران: 7]؛ أي: أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه ﴿ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾ [آل عمران: 7]؛ أي: تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئًا آخر من حيث اللفظ والتركيب، لا من حيث المراد"؛ انتهى. تفصيل في المحكم والمتشابه: •"عن ابن عباس أنه قال:" المحكمات ناسخه، وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، وما يؤمر به ويعمل به. وكذا روي عن عكرمة، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، ومقاتل بن حيان، والربيع بن أنس، والسدي، أنهم قالوا: المحكم الذي يعمل به. • وعن سعيد بن جبير: ﴿ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [آل عمران: 7] يقول: أصل الكتاب، وإنما سماهن أم الكتاب؛ لأنهن مكتوبات في جميع الكتب. وقال مقاتل بن حيان: لأنه ليس من أهل دين إلا يرضى بهن. وقيل في المتشابهات: إنهن المنسوخة، والمقدم منه والمؤخر، والأمثال فيه والأقسام، وما يؤمن به ولا يعمل به؛ رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس؛ تفسير ابن كثير. جاء في تخريج المسند لشعيب الأرناؤوط، عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن منكم من يقاتل على تأويله، كما قاتلت على تنزيله"، قال: فقام أبو بكر، وعمر فقال: "لا، ولكنه خاصف النعل"، وعلي يخصف نعله. خلاصة حكم المحدث: صحيح. التخريج: أخرجه النسائي في السنن الكبرى، وأحمد واللفظ له. وقد جاء في شرح الحديث، أنه كان لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه نصيب عظيم من التضحية في سبيل الله منذ بداية الإسلام وإلى مماته. وفي هذا الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن منكم من يقاتل على تأويله"، يقاتل بسبب التأويل الخطأ للقرآن الكريم من عقول غير مؤهلة لتأويله، فتقع الفتن بين الناس بسبب هذا الخطأ "كما قاتلت على تنزيله"، وذلك القتال على التأويل مثل قتال النبي صلى الله عليه وسلم للناس حتى يؤمنوا بالقرآن المنزل. قال أبو سعيد الخُدْري: "فقام أبو بكر، وعمر" ظنًّا منهما أنهما من سيقاتلان على تأويل القرآن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا" ليس أنتما من سيفعل ذلك، "ولكنه خاصف النعل" يشير بذلك إلى الشخص الذي يخيط النعل في جانب من المجلس، "وعلي يخصف نعله"؛ فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن عليًّا رضي الله عنه هو من سيقاتل طائفةً من المسلمين على تأويلهم الخطأ للقرآن، وقد حدث ذلك فقد قاتل علي رضي الله عنه ومن معه من الصحابة الخوارج على تأويل القرآن بغير ما أراده الله عز وجل. • ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ﴾ [آل عمران: 7]؛ أي: ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل ﴿ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ﴾ [آل عمران: 7]؛ أي: إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها، لاحتمال لفظه لما يصرفونه، فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنه دامغ لهم وحجة عليهم، ولهذا قال: ﴿ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ ﴾ [آل عمران: 7]؛ أي: الإضلال لأتباعهم، إيهامًا لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهذا حجة عليهم لا لهم. وقوله: ﴿ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ [آل عمران: 7]؛ أي: تحريفه على ما يريدون. • ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7]: "عن ابن عباس أنه قال: التفسير على أربعة أنحاء: فتفسير لا يعذر أحد في فهمه، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم، وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل. ويروى هذا القول عن عائشة، وعروة، وأبي الشعثاء، وأبي نهيك، وغيرهم"؛ قاله ابن كثير. جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7]، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم". وقال الإمام أحمد: عن الزُّهْري، عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا يتدارءون فقال: "إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما أنزل كتاب الله ليصدق بعضه بعضًا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه". • ﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7]؛ أي: إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أصحاب العقل السليم، والفهم القويم. • ثم قال تعالى عنهم مخبرًا عن أولي الألباب هؤلاء أنهم يدعون ربهم خوفًا ورهبةً من زيغ القلوب قائلين: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾ [آل عمران: 8]؛ أي: لا تملها عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه، ولا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ، الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم، ودينك القويم ﴿ وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ ﴾ [آل عمران: 8]؛ أي: من عندك ﴿ رَحْمَةً ﴾ [آل عمران: 8] تثبت بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتزيدنا بها إيمانًا وإيقانًا ﴿ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [آل عمران: 8]. عن أم سلمة، وهي أسماء بنت يزيد بن السكن، سمعها تحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه: "اللهم مقلب القلوب، ثبِّت قلبي على دينك"، قالت: قلت: يا رسول الله، وإن القلب ليتقلب؟ قال: "نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا أن قلبه بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، فإن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه"، فنسأل الله ربنا ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة، إنه هو الوهاب. ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [آل عمران: 9]، فهم يؤمنون يقينًا بأن الله جامع الناس ليوم الحساب؛ لذلك هم يخشونه حق الخشية، فلا يكون منهم إلا ما يرضيه. ثانيًا: مسألة القوة المادية في الحروب العقائدية: أولًا: القاعدة الإلهية في قوة الجبابرة من الكفرة: لا المال ولا الجاه ولا الذرية مانعة من قدرة الله وجبروته: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 10]. فالذين كفروا بآيات الله وكذبوا رسله، وخالفوا كتابه، مستندين إلى قوتهم وجبروتهم في تكذيبهم هذا، إنما يعيشون حياة الوهم، وليس ما أوتوه في الدنيا من الأموال والأولاد والأتباع والشهرة والمنصب وقوة البطش بنافع لهم، وهم في ذلك بين أمرين: إما أن يموتوا وهم في قوتهم وعلى ظنهم هذا، فيتحولون إلى وقود لنار جهنم بعد موتهم، أو أن يعيشوا ليروا ظهور أمر الله عليهم وهم في ذروة جبروتهم، ثم يهلكهم الله ويلحقون بأسلافهم وقودًا لنار جهنم، فيشهدوا العذاب مرتين في الدنيا والآخرة. • ومثال ذلك فرعون ومن قبله من الأمم الغابرة التي عصت وطغت وتجبَّرت واستكبرت على رسل ربها، ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [آل عمران: 11]. لكن يهود المدينة لم يكونوا ليعيروا بالًا لهذه القاعدة الإلهية؛ فقد كان من أمرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب من أهل بدر ما أصاب ورجع إلى المدينة، جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال: "يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم الله ما أصاب قريشًا"، فقالوا: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا!" نعم، لقد نسي هؤلاء مثل فرعون والأقوام من قبله، فذكرهم الله بالأمس القريب ببدر وما كان من شأنها، فأنزل تعالى: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [آل عمران: 12] إلى قوله: ﴿ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [آل عمران: 13]. • تطبيق القاعدة معركة بدر: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [آل عمران: 13]، فقد كان كفار قريش يوم بدر ثلاثة أضعاف المسلمين، كان المؤمنون يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا والمشركون بين التسعمائة والألف. • وفي قوله تعالى: ﴿ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ﴾ [آل عمران: 13]، قولان: الأول، فيما حكاه ابن جرير: "يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي أعينهم؛ أي: جعل الله ذلك فيما رأوه سببًا لنصرة الإسلام عليهم. • والقول الثاني: "أن المعنى في قوله: ﴿ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ﴾؛ أي: ترى الفئة المسلمة الفئة الكافرة مثليهم؛ أي: ضعفيهم في العدد، ومع هذا نصرهم الله عليهم. • لكن قد يتساءل أحدنا: كيف الجمع بين هذه الآية، وبين قوله تعالى في قصة بدر في سورة الأنفال: ﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ﴾ [الأنفال: 44]؟ • والجواب يكمن في اختلاف "الرؤيا" عند التحام المعركة، كما يقول ابن كثير: "والجواب: أن هذا كان في حال، والآخر كان في حال أخرى، كما قال السدي، عن الطيب عن ابن مسعود في قوله: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ﴾ [آل عمران: 13]، قال: هذا يوم بدر. قال عبدالله بن مسعود: وقد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلًا واحدًا، وذلك قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ﴾ [الأنفال: 44]. وقال أبو إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبدالله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة. قال: فأسرنا رجلًا منهم فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفًا. فعندما عاين كلا الفريقين الآخر رأى المسلمون المشركين مثليهم؛ أي: أكثر منهم بالضعف، ليتوكلوا ويتوجهوا ويطلبوا الإعانة من ربهم عز وجل. ورأى المشركون المؤمنين كذلك ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع، ثم لما حصل التصاف والتقى الفريقان قلل الله هؤلاء في أعين هؤلاء، وهؤلاء في أعين هؤلاء، ليقدم كل منهما على الآخر"؛ انتهى ابن كثير. ثانيًا: المغريات "المادية الدنيوية" التي تحول بين المؤمن وبين الثبات في المعركة: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]. والآية تلخص معوقات الثبات أمام الغزو الفكري والعسكري على حد سواء، وهذا ما يصرح فيه السياق في غزوة أحد، عندما كان انهزام فئة من المسلمين أمام إغراء الغنائم أهم عوامل الهزيمة! لكن الله عنده حسن المآب! وعنده ما هو أفضل بكثير من هذا المتاع الزائل المنقضي: ﴿ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 15]. ﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ يعطي كلًّا بحسب ما يستحقه من العطاء. ثم يصف الله "الذين اتقوا" الذين صدقوا وعد الله، ففضلوا نعيم الله الخالد على نعيم الدنيا الزائل فاستحقوا ذلك النعيم: ﴿ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 16، 17]. ثالثًا: تقرير وحدة الألوهية التي انعقد عليها دين البشرية "الإسلام"، فكانت دين الرسالات جميعًا: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18]، قرن الله جل في علاه شهادته بوحدانيته بشهادة الملائكة وأولو العلم. اللهم اجعلنا منهم. روى الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا بقية بن الوليد، حدثني جبير بن عمرو القرشي، حدثنا أبو سعيد الأنصاري، عن أبي يحيى مولى آل الزبير بن العوام، عن الزبير بن العوام، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة يقرأ هذه الآية ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18]، قال: "وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب"؛ ابن كثير. وقوله جل جلاله: ﴿ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ﴾؛ أي: بالعدل، قاله ابن عباس. دين البشرية الإسلام: وتشترك آل عمران مع سورة البقرة في عرض هذا الموضوع، لكن آل عمران تفصل فيه وهذا ما سنطالعه في وقفاتنا مع قلب السورة إن شاء الله. يقول تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [آل عمران: 19]. وهذا إخبار وتقرير من الله تعالى أن الدين عند الله هو الإسلام منذ آدم عليه السلام وحتى محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، ومن يتخذ دينًا غير الإسلام فلن يقبل منه، قال الشوكاني في تفسيره فتح القدير: "عن قتادة في قوله: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ قال: الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله، ودل عليه أولياءه، لا يقبل غيره. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: لم يبعث الله رسولًا إلا بالإسلام. ﴿ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ [آل عمران: 19]، والسبب في الاختلاف هو البغي، قال الشوكاني: "في قوله: ﴿ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ﴾ يقول: بغيًا على الدنيا وطلب ملكها وسلطانها، فقتل بعضهم بعضًا على الدنيا من بعد ما كانوا علماء الناس"؛ فتح القدير للشوكاني. وقال ابن كثير: "بغى بعضُهم على بعض، فاختلفوا في الحق لتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم، فحمل بعضهم بغض البعض الآخر على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله، وإن كانت حقًّا، ثم قال: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [آل عمران: 19]؛ أي: من جحد بما أنزل الله في كتابه فإن الله سيُجازيه على ذلك، ويحاسبه على تكذيبه، ويعاقبه على مخالفته كتابه"؛ انتهى. والحمد لله رب العالمين. يُتْبَع. |
رد: وقفات ودروس من سورة آل عمران
وقفات ودروس من سورة آل عمران (3) ميسون عبدالرحمن النحلاوي 2- وقفات مع مقدمة السورة رابعًا: التأسيس الأول لمسألة الثبات العقائدي عند المحاججة: بعد أن أخبر الله تعالى أن الدين المقبول عنده هو الإسلام، ولا دين عند الله غيره، وأنه ناسخ لكل ما سبقه من كتب وشرائع جاء بها رسل الله من قبله؛ بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [آل عمران: 19]، جاءت التوجيهات الإلهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعده المسلمين، في كيفية مواجهة من جادل وحاجج جحودًا وكفرًا بهذا الدين: ﴿ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 20]. وينطوي الجواب هنا على أمرين: إعلان الثبات على الدين عند المُحاجَجَة: ﴿ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ﴾؛ فقد أقررنا أنا ومن معي وشهِدنا وأسلمنا وجوهنا لربنا، وتركنا ما سوى دين الإسلام، وجزمنا ببطلانه. والدعوة إليه بعد المحاججة؛ وتسوقه لنا الآيات بقوله تعالى: ﴿ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 20]، فما على الرسول إلا الدعوة وبلاغ هؤلاء المشركين وأهل الكتاب الرسالة، والله عليه حسابهم، وإليه مرجعهم ومآبهم، وهو الذي يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وله الحكمة في ذلك، والحجة البالغة؛ ولهذا قال: ﴿ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾؛ أي: هو عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة، وهو الذي ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23]، وما ذاك إلا لحكمته ورحمته. وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته، صلوات الله وسلامه عليه، إلى جميع الخلق؛ روى مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهوديٌّ ولا نصراني، ومات ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ به، إلا كان من أهل النار))؛ [انتهى، ابن كثير]. وبعد هذا التوجيه الإلهي تطالعنا الآيات بسردٍ لبعض الصفات التي تتصف بها شريحة من أولئك الجاحدين المستكبرين عن دين الحق، وكأنه جل في علاه يرشدنا إلى نقطة هامة، علينا الأخذ بها عندما نكون في صدد خوض نقاش مع أعداء الدين: اعرف من هو خصمك"، وهنا يخبرنا تعالى عن بعض صفات بني إسرائيل، الذين كانوا، طبعًا، في مقدمة الجاحدين المستكبرين عن قبول رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ يقول تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَّاصِرِينَ * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 21 - 25]. يخبرنا الله تعالى عن هؤلاء القوم، أهلِ الكتاب الذين يحاجُّون الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الرسالة ويرفضون اتباعه، أنهم: كافرون، مكذبون بآيات الله قديمًا وحديثًا، التي بلغَتهم إياها الرسل، استكبارًا عليهم وعنادًا لهم، وتعاظمًا على الحق واستنكافًا عن اتباعه؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾. قتلة الأنبياء: ﴿ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾، فهم لم يكتفوا بالكفر، بل أردفوه بقتل الأنبياء والصالحين؛ يقول ابن كثير: "قتلوا من قتلوا من النبيين حين جاؤوهم بالنصح والدعوة للعودة إلى الدين القويم، بغير سبب ولا ذنب، إلا لكونهم دعاة حق". مستكبرون: ﴿ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ ﴾، وهذا هو غاية الكِبر؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الكِبر بَطَرُ الحق، وغمط الناس)). كاذبون مخادعون: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ﴾، يزعمون التمسك بكتابَيهم اللذين بأيديهم، وهما التوراة والإنجيل، وإذا دُعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله فيما أمرهم به فيهما، من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، تولوا وهم معرضون عنهما. متألُّون على الله، يفترون عليه الكذب: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾، يقسمون العذاب والرحمة على هواهم، لذلك هم يتكبرون ويتجبرون ويستغرقون في المعاصي والآثام؛ يقول ابن كثير: "إنما حملهم وجرَّأهم على مخالفة الحق افتراؤهم على الله فيما ادَّعوه لأنفسهم؛ أنهم إنما يُعذبون في النار سبعة أيام، عن كل ألف سنة في الدنيا يومًا - وقد تقدم تفسير ذلك في سورة البقرة - ثم قال: ﴿ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 24]؛أي: غرهم في دينهم؛ أي: ثبتهم على دينهم الباطل ما خدعوا به أنفسهم من زعمِهم أن النار لا تمسهم بذنوبهم إلا أيامًا معدودات، وهم الذين افترَوا هذا من تلقاء أنفسهم وافتعلوه، ولم ينزل الله به سلطانًا"؛ [انتهى]. لكن هيهات من الإفلات من المحاسبة والعذاب يوم الحساب: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾؟ أين حُجَجُهم وأكاذيبهم يومئذٍ؟ خامسًا: تفرد رب الخلائق بربوبيته وألوهيته، فهو "مالك الملك"، المتفرد في التصرف بخلقه كيف يشاء: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26]. وبصفته مالكَ الملك، هو الذي يوزِّع ملكه على عباده، فيؤتيه من يشاء، وينزعه ممن يشاء، هو القادر على أن يجعل الذليل عزيزًا ذا قوة وسلطان، والعزيز ذليلًا، قد تبعثر ملكه وعزه وسلطته، فالخير كله بيده، ولا سلطة لمخلوق أو قدرة على إيجاده أو هِبَتِهِ لأحدٍ من الخلق: ﴿ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ سبحانك ربي! وهو الإله المتفرد في تصريف شؤون الكون: ﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 27]، فالله هو المتصرف بالليل والنهار تصرفًا معجزًا لا تدركه العقول، مهما ادَّعت بلوغها من درجات العلم، وهو الذي يخرج الحي من الميت، والميت من الحي، وما يكون ذلك بمقدور أحدٍ غيره جل في علاه. يقول ابن كثير: " ﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ﴾ [آل عمران: 27]؛ أي: تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا فيعتدلان، ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان، ثم يعتدلان، وهكذا في فصول السنة: ربيعًا وصيفًا وخريفًا وشتاء، وقوله: ﴿ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ﴾ [آل عمران: 27]؛ أي: تخرج الحبة من الزرع، والزرع من الحبة، والنخلة من النواة، والنواة من النخلة، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والدجاجة من البيضة، والبيضة من الدجاجة، وما جرى هذا المجرى من جميع الأشياء، ﴿ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 27]؛ أي: تعطي من شئت من المال ما لا يعده ولا يقدر على إحصائه، وتقتر على آخرين، لِما لك في ذلك من الحكمة والإرادة، والمشيئة والعدل"؛ [انتهى ابن كثير]. وقال القرطبي: "قال ابن عباس وأنس بن مالك: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، ووعد أمته ملك فارس والروم، قال المنافقون واليهود: هيهات هيهات! من أين لمحمد مُلك فارس والروم؟ هم أعز وأمنع من ذلك، ألم يكفِ محمدًا مكةُ والمدينة حتى طمِع في ملك فارس والروم؟! فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل: نزلت دامغةً لباطل نصارى أهل نجران في قولهم: إن عيسى هو الله، وذلك أن هذه الأوصاف تبين لكل صحيح الفطرة أن عيسى ليس في شيء منها، قال ابن إسحاق: أعلم الله عز وجل في هذه الآية بعنادهم وكفرهم، وأن عيسى عليه السلام، وإن كان الله تعالى أعطاه آيات تدل على نبوته من إحياء الموتى وغير ذلك، فإن الله عز وجل هو المنفرد بهذه الأشياء من قوله: ﴿ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 26]، وقوله: ﴿ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 27]، فلو كان عيسى إلهًا كان هذا إليه؛ فكان في ذلك اعتبار وآية بيِّنة"؛ [انتهى، القرطبي]. سادسًا. مسألة الولاء والبراء، نهي ووعيد: وسنجد بسطها في مقدمة غزوة أُحد: ﴿ لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 28 - 30]. في هذه الآيات نهي واضح ومغلَّظ عن موالاة الكافرين على حساب المؤمنين، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء؛ أي إن ذمة الله تكون قد بَرِئت منه، فلا هو من حزبه، ولا هو من أوليائه، والعياذ بالله؛ قال ابن كثير: "نهى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين، وأن يتخذوهم أولياء، يُسِرُّون إليهم بالمودة من دون المؤمنين، ثم توعَّد على ذلك فقال: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ﴾ [آل عمران: 28]؛ أي: من يرتكب نهي الله في هذا فقد بَرِئ من الله"؛ [انتهى، ابن كثير]. وقال القرطبي: "قال ابن عباس: نهى الله المؤمنين أن يُلاطفوا الكفار، فيتخذوهم أولياء، ومثله: ﴿ لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ﴾ [آل عمران: 118]، وهناك يأتي بيان هذا المعنى، ومعنى: ﴿ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ﴾ [آل عمران: 28]؛ أي: فليس من حزب الله، ولا من أوليائه في شيء، ثم استثنى فقال: ﴿ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ﴾، قال معاذ بن جبل ومجاهد: كانت التقية في جِدة الإسلام قبل قوة المسلمين، فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام أن يتقوا من عدوهم، قال ابن عباس: هو أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا يُقتل، ولا يأتي مأثمًا، وقال الحسن: التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة، ولا تقية في القتل، وقرأ جابر بن زيد ومجاهد والضحاك: (إلا أن تتقوا منهم تقية)، وقيل: إن المؤمن إذا كان قائمًا بين الكفار، فله أن يداريهم باللسان إذا كان خائفًا على نفسه، وقلبه مطمئن بالإيمان، والتقية لا تحل إلا مع خوف القتل أو القطع أو الإيذاء العظيم"؛ [انتهى، القرطبي]. وقال الشوكاني في تفسيره: "﴿ لَا يَتَّخِذِ ﴾ فيه النهي للمؤمنين عن موالاة الكفار لسبب من الأسباب، ومثله قوله تعالى: ﴿ لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ ﴾ [آل عمران: 118]، وقوله: ﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ [المائدة: 51]، وقوله: ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ... ﴾ [المجادلة: 22]، وقوله: ﴿ لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ ﴾ [المائدة: 51]، وقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ﴾ [الممتحنة: 1]، وقوله: ﴿ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ في محل الحال؛ أي: متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالًا أو اشتراكًا، والإشارة بقوله: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ﴾ إلى الاتخاذ المدلول عليه بقوله: ﴿ لَا يَتَّخِذِ ﴾، ومعنى قوله: ﴿ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ﴾ أي: من ولايته في شيء من الأشياء، بل هو منسلخ عنه بكل حال"؛ [انتهى، فتح القدير للشوكاني]. ثم إنه عندما نهى الله عز وجل عن موالاة الكفار واشترط التقية، بيَّن أن تعذر الموالي للكفار بغير عذر مقبول، وتظاهره بغير ما يُبطن، ليس بخافٍ على الله، وفي هذا مزيد من التحذير: ﴿ قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 29]؛ فالله يعلم السر وأخفى، يعلم ما تسرون وما تعلنون، يعلم ما يجول في خواطركم، وما تنطوي عليه صدوركم، لا يخفى عليه شيء من أمر البشر؛ كما قال جل جلاله ﴿ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 13، 14]، سبحان مالك الملك! فلا يظنَّنَّ أحد أنه ناجٍ من رقابة الله في أفعاله وأقواله، فهو لو نجح في خداع الناس جميعًا فإن الله لا يُخدع؛ كما قال تعالى: ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 9]. ولا يفرحن أحد في موالاته لغير الله ورسوله والمؤمنين، بما جلب به لنفسه من مصالح وراحة دنيوية، فهو سيجد نتائج أعماله حاضرة يوم القيامة، فمن والى في الله وعادى في الله، فسيجد ثوابه، ومن والى أعداء الله وعادى أولياء الله، فسيجد عقابه: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30]، ثم قال تعالى مؤكدًا ومهددًا ومتوعدًا: ﴿ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ﴾ [آل عمران: 30]؛ أي: يخوفكم عقابه، ثم قال مرجيًا لعباده لئلا ييأسوا من رحمته ويقنطوا من لطفه: ﴿ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30] لمن تاب وآمن وعمل صالحًا. سابعًا. محبة الله وطاعته ورسوله من صلب العقيدة، من تولى عنها فقد كفر: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 31، 32]، ولمحبة الله علامات، تخبرنا الآيات أن علامة محبة الله اتباع رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وطاعته، ويفسر ابن كثير هذه الآية بوضوح وجلاء فيقول، رحمه الله: "هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادَّعى محبة الله، وليس هو على النهج المحمدي، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع شرع الله وهديَ نبيه في جميع أقواله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من عمِل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ))؛ ولهذا قال: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾؛ أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية؛ فقال: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 31]، باتباعكم للرسول صلى الله عليه وسلم يحصل لكم هذا كله: يحببكم الله، ويغفر لكم ذنوبكم، وما أعظمها من عطايا! ثم قال آمرًا لكل أحد من خاصٍّ وعام: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا ﴾ أي: خالفوا عن أمره ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾، فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر، والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه يحب لله ويتقرب إليه، حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل، ورسول الله إلى جميع الثقلين: الجن والإنس، الذي لو كان الأنبياء - بل المرسلون، بل أولو العزم منهم - في زمانه لما وسِعهم إلا اتباعه، والدخول في طاعته، واتباع شريعته، كما سيأتي تقريره عند قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ ﴾ [آل عمران: 81]"؛ [انتهى، ابن كثير]. يحضرنا هنا قول الإمام شمس الدين أبي عبدالله محمد بن قيم الجوزية في كتابه (زاد المعاد في هدى خير العباد): "ومن تأمل في السِّير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأنه صادق، فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام، علِم أن الإسلام أمر وراء ذلك، وأنه ليس مجرد المعرفة فقط، ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفة والإقرار والانقياد، والتزام طاعته ودينه ظاهرًا وباطنًا". ثامنًا: وتختم مقدمة السورة بسرد للأنبياء المصطفَين من الله تعالى، الذي خَتم بهم بنبيه ورسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 33، 34]، تذكر الآية أن الله عز وجل اصطفى آدم ونوحًا كفَردَين، وآل إبراهيم وآل عمران كأسرتين، وفي هذا إشارة إلى أن آدم بشخصه ونوحًا بشخصه هما اللذان وقع عليهما الاصطفاء، أما إبراهيم وعمران فقد كان الاصطفاء لهما ولذريتهما كذلك، والله أعلم. قال ابن كثير: "يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض، فاصطفى آدم، عليه السلام، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه الجنة، ثم أهبطه منها، لما له في ذلك من الحكمة، واصطفى نوحًا، عليه السلام، وجعله أول رسول بعثه إلى أهل الأرض، لما عبد الناس الأوثان، وأشركوا في دين الله ما لم ينزل به سلطانًا، وانتقم له لما طالت مدته بين ظهراني قومه، يدعوهم إلى الله ليلًا ونهارًا، سرًّا وجهرًا، فلم يزدهم ذلك إلا فرارًا، فدعا عليهم، فأغرقهم الله عن آخرهم، ولم ينجُ منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به، وكان انتقامًا غيَّر خارطة البشرية، واصطفى آل إبراهيم، ومنهم: سيد البشر وخاتم الأنبياء على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم، وآل عمران، والمراد بعمران هذا: هو والد مريم بنت عمران، أم عيسى ابن مريم، عليهم السلام"؛ [ابن كثير]. وفي قوله تعالى: ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 34]؛ قال القرطبي: "ومعنى بعضها من بعض، يعني في التناصر في الدين"، وقال الطبري في تفسيره: "يعني: أن دينهم واحد، وطريقتهم واحدة، فكذلك قوله: ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ﴾، إنما معناه: ذرية دين بعضها دين بعض، وكلمتهم واحدة، وملتهم واحدة في توحيد الله وطاعته، وقال قتادة: قوله: ﴿ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ﴾؛ أي: في النية والعمل، والإخلاص والتوحيد له". ومع هذه الآية نفتح صفحات قلب السورة، ونبدأ معها بقصة آل عمران. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. يتبع.. |
رد: وقفات ودروس من سورة آل عمران
وقفات ودروس من سورة آل عمران (4) ميسون عبدالرحمن النحلاوي وقفات في قلب سورة آل عمران (1) معالم في سياق السورة نتوقف في قلب السورة مع عدد من المحاور الأساسية التي تفصِّل ما أوجزته المقدمة: 1- قصة آل عمران بما تحمله من دلالات ودروس واقعية على آيات الله ومعجزاته في الخلق والرزق. 2- مباهلة النصارى: دروس في الثبات العقائدي. 3- بسط في عقائد وسلوكيات أهل الكتاب وموقفهم الأزلي من المسلمين. 4- ميثاق الأنبياء ورسالة التوحيد "الإسلام". 5- الردة. 6- مسائل في مغالطات اليهود ومحاججتهم. 7- الثبات العقائدي الداخلي: توجيهات إلهية في الثبات العقائدي الداخلي. 8- خيرية الأمة وموقف أهل الكتاب من الإيمان بشريعتها ورسولها. 9- الولاء والبراء. 10- غزوة أحد: الثبات الداخلي فكرًا وسلوكًا. دور المنافقين. 11- مفهوم الموت في ساحة المعركة. 12- غزوة حمراء الأسد. 13- ملخص دروس غزوة أُحُد. وتبدأ وقفاتنا مع قصة آل عمران من حيث انتهت المقدمة في كلام الله عن المصطفين من رُسُله الذين أرسلهم هدًى للعالمين: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران: 33 - 35]. الوقفة الأولى: قصة آل عمران: واسمها يدل عليها؛ أي: إنها تحكي لنا عن عدد من الشخصيات التي تنتمي إلى هذا البيت الكريم، تحكي قصص أربع شخصيات من "آل عمران" تنطوي على عناصر المعجزة الإلهية في الخلق، والموت، والرزق، وكثير مما يخرج عن نواميس وقوانين الحياة البشرية: • امرأة عمران والدة مريم عليهما السلام. • مريم عليها السلام. • زكريا عليه السلام. • عيسى عليه السلام. أولًا: قصة امرأة عمران، المعجزة الإلهية في الخلق والقبول والاصطفاء: النذر لله:وتبدأ قصة امرأة عمران بنذرها ما في بطنها لله الذي وهبها ما تمنت: ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران: 35]. وامرأة عمران هذه هي أم مريم "بنت عمران" عليها السلام، وهي كما ورد في التفاسير حنة بنت فاقوذ، قال محمد بن إسحاق: "وكانت امرأة لا تحمل، فرأت يومًا طائرًا يزق فرخه، فاشتهت الولد، فدعت الله عز وجل أن يهبها ولدًا، فاستجاب الله دعاءها، فلما تحققت الحمل نذرته أن يكون ﴿ مُحَرَّرًا ﴾؛ أي: خالصًا مفرغًا للعبادة، ولخدمة بيت المقدس، فقالت: ﴿ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾؛ أي: السميع لدعائي، العليم بنيَّتي، ولم تكن تعلم ما في بطنها أذكر أم أنثى؟"؛ تفسير ابن كثير. المولود أنثى! ميزان الأرض وميزان السماء: ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى ﴾ [آل عمران: 36]. أرادته امرأة عمران ذكرًا لتوفي نذرها فيكون خادمًا في بيت الله، وأرادها الله أنثى لتكون أكثر من قائم على خدمة بيت الله.. لتكون أم رسول.. أم عيسى عليه السلام! "قال ابن عباس: إنما قالت هذا (أي: امرأة عمران)؛ لأنه لم يكن يقبل في النذر إلا الذكور، فقبل الله مريم. فقيل: إنها ربتها حتى ترعرعت، وحينئذٍ أرسلتها؛ رواه أشهب عن مالك، وقيل: لفتها في خرقتها، وأرسلت بها إلى المسجد، فوفت بنذرها وتبرأت منها"؛ تفسير القرطبي. التسليم لأمر الله: واستمرت امرأة عمران في إمضاء نذرها: ﴿ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 36]. "﴿ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ ﴾؛ يعني: خادم الرب في لغتهم، ﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ ﴾؛ يعني: مريم ﴿ وَذُرِّيَّتَهَا ﴾؛ يعني: عيسى. وهذا يدل على أن الذرية قد تقع على الولد خاصة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ((ما من مولود يُولَد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخًا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه))، ثم قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: ﴿ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 36]، قال علماؤنا: فأفاد هذا الحديث أن الله تعالى استجاب دعاء أم مريم، فإن الشيطان ينخس جميع ولد آدم حتى الأنبياء والأولياء إلا مريم وابنها"؛ تفسير القرطبي. تقبل الله للنذر وإمضاء حكمته في إنبات مريم عليها السلام: ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 37]. "تقبل الله عز وجل نذر امرأة عمران وتكَفَّل بإنبات مريم نباتًا حسنًا، وهيَّأ لها زكريا النبي الصالح ليكفلها، وقوله تعالى: ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ ﴾؛ أي: سلك بها طريق السعداء، قاله ابن عباس. وقال قوم: معنى التقبُّل التكفل في التربية والقيام بشأنها"؛ القرطبي. وقد ورد عن ابن إسحاق في قوله تعالى: ﴿ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾ قال: "وما ذاك إلا أنها كانت يتيمة. وذكر غيره أن بني إسرائيل أصابتهم سنة جدب، فكفل زكريا مريم لذلك. ولا منافاة بين القولين. والله أعلم. يقول ابن كثير: "وإنما قدر الله كون زكريا كافلها لسعادتها، لتقتبس منه علمًا جمًّا نافعًا وعملًا صالحًا، ولأنه كان زوج خالتها، على ما ذكره ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما، وقيل: زوج أختها، كما ورد في الصحيح: "فإذا بيحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة". معجزة الرزق في محراب مريم عليها السلام: ثم إن زكريا عليه السلام كان يدخل على مريم يتفقد أحوالها؛ ليلبي طلباتها واحتياجاتها، فكان كلما دخل وجد ما يدهشه ويثير عجبه، كان يجد عندها رزقًا وفيرًا، وقيل: كان يجد فاكهة الصيف عندها في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، وذلك في كل مرة يدخل فيها عليها، ليس مرة أو مرتين أو بعض المرات، وإنما في كل مرة: ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا... وَجَدَ ﴾. سبحان منزل الأرزاق مالك الملك! ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 37]. قال القرطبي: "وكان زكريا إذا دخل عليها يجد عندها فاكهة الشتاء في القيظ، وفاكهة القيظ في الشتاء، فقال: يا مريم، أنَّى لك هذا؟! فقالت: هو من عند الله. فعند ذلك طمع زكريا في الولد وقال: إن الذي يأتيها بهذا قادر أن يرزقني ولدًا". وهنا ينتقل بنا السياق إلى قصة سيدنا زكريا. ثانيًا: قصة زكريا عليه السلام: وتبدأ قصة زكريا عليه السلام من جزئية "معجزة الرزق" التي عرضتها السورة في مسار إنبات الله عز وجل لمريم عليها السلام: ﴿ قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [آل عمران:37- 38]. طلب الولد رغم انتفاء أسباب الحدوث: "لما رأى زكريا عليه السلام أن الله تعالى يرزق مريم عليها السلام، فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء؛ طمع حينئذٍ في الولد، وإن كان شيخًا كبيرًا قد ضعف ووهن منه العظم، واشتعل رأسُه شيبًا، وإن كانت امرأته مع ذلك كبيرة وعاقرًا، لكنه مع هذا كله سأل ربَّه وناداه نداءً خفيًّا، وقال: ﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ﴾ [آل عمران: 38]؛ أي: من عندك ﴿ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾ [آل عمران: 38]؛ أي: ولدًا صالحًا، ﴿ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [آل عمران: 38]. الاستجابة السريعة والبشرى المعجزة: الحال والمقام عند استجابة الدعاء: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 39]. فكان المكان المحراب، مكان العبادة، وكان الحال حال العبادة: ﴿ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ ﴾، ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ ﴾؛ أي: خاطبته الملائكة شفاهًا خطابًا أسمعته، وهو قائم يصلي في محراب عبادته، ومحل خلوته، ومجلس مناجاته وصلاته. وفي ذاك الحال نادته الملائكة بالبُشْرى: ﴿ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى ﴾؛ أي: بولد يوجد لك من صلبك اسمه يحيى. كان الله عز وجل قد قضاه غلامًا، واختار له اسمًا، سبحانه وتعالى. قال ابن كثير: "وقوله: ﴿ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ﴾؛ أي: مصدقًا بعيسى ابن مريم، قال الربيع بن أنس: هو أول مَنْ صَدَّق بعيسى ابن مريم، وقال قتادة: وعلى سننه ومنهاجه. وقال ابن جريج: قال ابن عباس في قوله: ﴿ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ﴾، قال: كان يحيى وعيسى ابني خالة، وكانت أم يحيى تقول لمريم: إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك؛ فذلك تصديقه بعيسى؛ تصديقه له في بطن أُمِّه، وهو أول مَنْ صَدَّق عيسى، وكلمة الله عيسى، وهو أكبر من عيسى عليه السلام، وهكذا قال السدي أيضًا. قال قتادة: سيدًا في العلم والعبادة. وقال ابن عباس، والثوري، والضحاك: السيد الحكيم المتقي، وقال سعيد بن المسيب: هو الفقيه العالم. وقال عطية: السيد في خلقه ودينه. وقال عكرمة: هو الذي لا يغلبه الغضب. وقال ابن زيد: هو الشريف. وقال مجاهد وغيره: هو الكريم على الله عز وجل. وقوله: ﴿ وَحَصُورًا ﴾ روي عن ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة وغيرهم أنهم قالوا: هو الذي لا يأتي النساء. وعن أبي العالية والربيع بن أنس: هو الذي لا يولد له. وقال الضحاك: هو الذي لا ولد له ولا ماء له. والمقصود- والقول لابن كثير-: أنه مدح يحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتي النساء؛ بل معناه كما قاله هو وغيره: أنه معصوم عن الفواحش والقاذورات، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال؛ بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم؛ حيث قال: ﴿ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾ [آل عمران: 38] كأنه قال: ولدًا له ذرية ونسل وعقب، والله سبحانه وتعالى أعلم. ﴿ وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 39] هذه بشارة ثانية بنبوَّة يحيى بعد البشارة بولادته"؛ انتهى من تفسير ابن كثير. ميزان الأرض وميزان السماء من جديد. رزق الولد مع كبر السن والعقم! ﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 40]. وتعجب زكريا من وجود الولد منه بعد الكبر ﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ﴾ ﴿ قَالَ ﴾؛ أي: الملك: ﴿ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ﴾؛ أي: هكذا أمر الله عظيم، لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر. كذلك الله يفعل ما يشاء! طلب زكريا لعلامة على هذا الحدث المعجز، نظرًا إلى عظم الأمر واستحالته في ميزان البشر! ﴿ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾ [آل عمران: 41]. "﴿ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً ﴾؛ أي: علامة أستدلُّ بها على وجود الولد مني ﴿ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ﴾؛ أي: إنك لا تستطيع النطق، مع أنك سوِيٌّ صحيح، ثم أمر بكثرة الذكر والشكر والتسبيح في هذه الحال"؛ قاله ابن كثير، والنعمة تستوجب الكثير من الذكر والتسبيح. فقال جلَّ في علاه: ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾. ثالثًا: قصة مريم عليها السلام: بُشْرى الاصطفاء: وبعد أن تمت فترة الإنبات الإلهي لمريم عليها السلام وأصبحت جاهزة عليها السلام لحمل المهمة الإلهية التي اصطفاها الله لها دونًا عن كل نساء العالمين، جاءتها الملائكة ببُشْرى الاصطفاء: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 42]، وهذا إخبار من الله تعالى بأن الملائكة خاطبت مريم عليها السلام، وأخبرتها باصطفاء الله لها على نساء العالمين، وقد كان اصطفاء مريم عليها السلام منذ أن نذرتها أُمُّها وقَبِل اللهُ عز وجل نذرَها، ثم إنه جلَّ في علاه اصطفاها على نساء العالمين، فكانت من أكمل النساء كما جاء في الحديث: "وروى مسلم عن أبي موسى قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: ((كمل من الرجال كثيرٌ، ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)). شكر نعمة الاصطفاء: ثم أخبرتها الملائكة بأمر الله لها: "﴿ يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [آل عمران: 43]؛ أي: أطيلي القيام في الصلاة، عن مجاهد وقتادة: أديمي الطاعة"؛ قاله القرطبي في تفسيره. وقال ابن كثير: "أما القنوت فهو الطاعة في خشوع كما قال تعالى: ﴿ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ﴾ [البقرة: 116]، وقال مجاهد: كانت مريم عليها السلام، تقوم حتى يتورَّم كعباها، والقنوت هو: طول الركوع في الصلاة، يعني امتثالًا لقوله تعالى: ﴿ يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ ﴾ [آل عمران: 43]، قال الحسن: يعني: اعبدي ربك ﴿ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [آل عمران: 43]؛ أي: كوني منهم"؛ انتهى من تفسير ابن كثير. قصة مريم من معجزات علم الغيب التي اختصَّ الله عز وجل بها رسوله بإخباره بها: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [آل عمران: 44]، فمحمد صلى الله عليه وسلم لم يكن حاضرًا تلك الأحداث، ولم يصله علمها من أحد، بل أطلعه الله عليها كأنه كان حاضرًا وشاهدًا لما كان من أمرهم حين اقترعوا في شأن مريم أيهم يكفلها، وذلك لرغبتهم في الأجر. قال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة، أنه أخبره عن عكرمة - وأبي بكر، عن عكرمة - قال: ثم خرجت بها - يعني أم مريم بمريم - تحملها في خرقها إلى بني الكاهن بن هارون أخي موسى، عليهما السلام - قال: وهم يومئذٍ يلون في بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة - فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة، فإني حررتها وهي ابنتي، ولا تدخل الكنيسة حائض، وأنا لا أردها إلى بيتي؟ فقالوا: هذه ابنة إمامنا- وكان عمران يؤمهم في الصلاة- وصاحب قرباننا، فقال زكريا: ادفعوها إليَّ؛ فإن خالتها تحتي. فقالوا: لا تطيب أنفسنا، هي ابنة إمامنا، فذلك حين اقترعوا بأقلامهم عليها التي يكتبون بها التوراة، فقرعهم زكريا، فكفلها. وقد ذكر عكرمة أيضًا، والسدي، وقتادة، والربيع بن أنس، وغير واحد- دخل حديث بعضهم في بعض- أنهم دخلوا إلى نهر الأردن واقترعوا هنالك على أن يلقوا أقلامهم [فيه]، فأيهم ثبت في جرية الماء فهو كافلها، فألقوا أقلامهم فاحتملها الماء إلا قلم زكريا ثبت"؛ تفسير ابن كثير. معجزة البشارة بالولد: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [آل عمران: 45]. "هذه بشارة من الملائكة لمريم عليها السلام، بأن سيوجد منها ولد عظيم، له شأن كبير، قال الله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ﴾ [آل عمران: 45]؛ أي: بولد يكون وجوده بكلمة من الله؛ أي: بقوله له "كن" فيكون، وهذا تفسير قوله تعالى - في سياق الكلام عن يحيى عليه السلام - ﴿ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 39]. وقوله: ﴿ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﴾؛ أي: يكون مشهورًا بهذا في الدنيا، يعرفه المؤمنون بذلك. قال بعض السلف وسمي المسيح: لكثرة سياحته. وقيل: لأنه كان مسيح القدمين؛ أي: لا أخمص لهما. وقيل: لأنه كان إذا مسح أحدًا من ذوي العاهات برئ بإذن الله تعالى. وقوله: ﴿ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ﴾؛ نسبة له إلى أُمِّه؛ حيث لا أب له، ﴿ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ [آل عمران: 45]؛ أي: له وجاهة ومكانة عند الله في الدنيا، بما يوحيه الله إليه من الشريعة، وينزل عليه من الكتاب، وغير ذلك مما منحه به، وفي الدار الآخرة يشفع عند الله فيمن يأذن له فيه، فيقبل منه، أسوة بإخوانه من أولي العزم، صلوات الله عليهم"؛ تفسير ابن كثير. رابعًا: سيدنا عيسى عليه السلام: معجزة تكلُّم الرضيع في المهد: ﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 46]. وكلامه في المهد عليه من المعجزات الإلهية، وكان هذا عندما برَّأ أمه عليها السلام: ﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾ [مريم: 29 - 31]. فحتى كلامه في المهد كان إقرارًا أو تبليغًا برسالته، وبأنه أمر بالصلاة والزكاة طوال حياته ﴿ مَا دُمْتُ حَيًّا ﴾. ﴿ وَكَهْلًا ﴾ [آل عمران: 46]، قال البغوي في تفسيره: "قال مجاهد: ﴿ وَكَهْلًا ﴾؛ أي: حليمًا. والعرب تمدح الكهولة؛ لأنها الحالة الوسطى في احتناك السن، واستحكام العقل، وجودة الرأي والتجربة ﴿ وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 46]؛ أي: هو من العباد الصالحين"؛ انتهى. وقال الطبري في تفسيره: "حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، سمعته - يعني ابن زيد - يقول في قوله: ﴿ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ﴾ [آل عمران: 46]، قال: قد كلمهم عيسى في المهد، وسيكلمهم إذا قتل الدجَّال، وهو يومئذٍ كهلٌ"؛ انتهى. عيسى عليه السلام معجزة الولد بلا أب: أمر الله كن فيكون، لا يخضع لقوانين، ولا لأُطُر، ولا لحسابات بشرية. ﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 47]. ثم بعد أن أخبر الله عز وجل مريم عليها السلام بما سيهبه لها من ولد بكلمة منه ﴿ كُنْ فَيَكُونُ ﴾، أعلمها ما سيكون عليه من أمر الله، وأنه سيعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، ثم سيبعثه رسولًا إلى بني إسرائيل بآيات تدل على نبوَّتِه، فقال جلَّ من قائل: ﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [آل عمران: 48 - 50]. فكانت آيات نبوته ورسالته: • يخلق من الطين طيرًا فينفخ فيه فيكون طيرًا بإذن الله. • ويبرئ الأكمه والأبرص. "قال ابن عباس وقتادة: الأكمه: هو الذي وُلِد أعمى، وقال الحسن والسدي: هو الأعمى، وقال عكرمة: هو الأعمش، وقال مجاهد: هو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، "والأبرص" الذي به وضح، وإنما خصَّ هذين لأنهما داءان عَياءان، وكان الغالب في زمن عيسى عليه السلام الطب، فأراهم المعجزة من جنس ذلك"؛ تفسير البغوي. • ويحيي الموتى بإذن الله: "قال ابن عباس رضي الله عنهما: قد أحيا أربعة أنفس: عازر، وابن العجوز، وابنة العاشر، وسام بن نوح، فأما عازر فكان صديقًا له، فأرسلت أخته إلى عيسى عليه السلام: أنَّ أخاك عازر يموت وكان بينه وبينه مسيرة ثلاثة أيام، فأتاه هو وأصحابه، فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام، فقال لأخته: انطلقي بنا إلى قبره، فانطلقت معهم إلى قبره، فدعا الله تعالى، فقام عازر وودكه يقطر، فخرج من قبره، وبقي وولد له. وأما ابن العجوز مَرَّ به ميتًا على عيسى عليه السلام على سرير يحمل، فدعا الله عيسى فجلس على سريره، ونزل عن أعناق الرجال، ولبس ثيابه، وحمل السرير على عنقه، ورجع إلى أهله فبقي وولد له. وأما ابنة العاشر كان أبوها رجلًا يأخذ العشور ماتت له بنت بالأمس، فدعا الله عز وجل باسمه الأعظم فأحياها الله تعالى وبقيت بعد ذلك زمنًا وولد لها. وأما سام بن نوح عليه السلام فإن عيسى عليه السلام جاء إلى قبره فدعا باسم الله الأعظم، فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفًا من قيام الساعة، ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزمان، فقال: قد قامت القيامة؟ قال: لا؛ ولكن دعوتك باسم الله الأعظم، ثم قال له: مت، قال: بشرط أن يعيذني الله من سكرات الموت، فدعا الله ففعل"؛ تفسير البغوي. والله أعلم. • وينبئ الناس بما يأكلون وما يدَّخرون في بيوتهم: "وقوله تعالى: ﴿ وَأُنَبِّئُكُمْ ﴾ [آل عمران: 49] وأخبركم بما تأكلون مما لم أعاينه، وما تدخرون ترفعونه في بيوتكم حتى تأكلوه، وقيل: كان يخبر الرجل بما أكل البارحة، وبما يأكل اليوم، وبما ادَّخَره للعشاء، وقال السدي: كان عيسى عليه السلام في الكتاب يحدث الغلمان بما يصنع آباؤهم ويقول للغلام: انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا، ورفعوا لك كذا وكذا، فينطلق الصبي إلى أهله ويبكي عليهم حتى يعطوه ذلك الشيء فيقولون: من أخبرك بهذا؟ فيقول: عيسى فحبسوا صبيانهم عنه وقالوا: لا تلعبوا مع هذا الساحر، فجمعوهم في بيت، فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم، فقالوا: ليسوا ها هنا، فقال: فما في هذا البيت؟ قالوا: خنازير، قال عيسى: كذلك يكونون، ففتحوا عليهم فإذا هم خنازير"؛ تفسير البغوي. • ومصدقًا لما جاء به موسى من التوراة: قال الطبري في تفسيره: "وإنما قيل: ﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ﴾ [آل عمران: 50]؛ لأن عيسى صلوات الله عليه، كان مؤمنًا بالتوراة، مقرًّا بها، وأنها من عند الله. وكذلك الأنبياء كلهم، يُصدِّقون بكل ما كان قبلهم من كتب الله ورُسُله، وإن اختلفت بعضُ شرائع أحكامهم؛ لمخالفة الله بينهم في ذلك. مع أنَّ عيسى كان - فيما بلغنا - عاملًا بالتوراة لم يخالف شيئًا من أحكامها، إلا ما خفَّف الله عن أهلها في الإنجيل، مما كان مشددًا عليهم فيها"؛ انتهى الطبري. وقال ابن كثير: "﴿ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ ﴾؛ أي: مقررًا لهم ومثبتًا ﴿ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ﴾ [آل عمران: 50] فيه دلالة على أن عيسى عليه السلام، نسخ بعض شريعة التوراة، وهو الصحيح من القولين، ومن العلماء من قال: لم ينسخ منها شيئًا، وإنما أحلَّ لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه فأخطئوا، فكشف لهم عن المغطى في ذلك، كما قال في سورة الزخرف: ﴿ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيه ﴾ [الزخرف: 63]، والله أعلم. ثم قال: ﴿ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ [آل عمران: 50]؛ أي: بحجة ودلالة على صدقي فيما أقوله لكم ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ﴾ [آل عمران: 50]"؛ انتهى. • ويحل بعض ما حرم على بني إسرائيل: "إنما أحل لهم عيسى عليه السلام ما حرم عليهم بذنوبهم ولم يكن في التوراة؛ نحو: أكل الشحوم وكل ذي ظفر. وقيل: إنما أحل لهم أشياء حرمتها عليهم الأحبار ولم تكن في التوراة محرمة عليهم"؛ القرطبي. وفي قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [آل عمران: 51] إثبات لعبودية عيسى عليه السلام، فهو يساوي بالعبودية لربِّ الأرباب بينه وبين بني إسرائيل، وفي هذا إشارة لما سيكون من أمر مباهلة رسول الله صلى الله عليه وسلم لوفد نجران". معجزة رفع عيسى عليه السلام: الحواريون، ومكر بني إسرائيل: ﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 52- 53]. فلما أحسَّ عيسى من بني إسرائيل الكفر بالله، وبما جاء به من رسالة، وقيل: إنه سمع منهم كلمة الكفر، وعلم أنهم أرادوا قتله، حينها طلب النصرة من أصحابه فقال: ﴿ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ﴾؟ جاء في تفسير القرطبي: "المعنى: من أنصاري في السبيل إلى الله؟ لأنه دعاهم إلى الله عز وجل؛ قاله الحسن". فأجابه الحواريون: ﴿ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ﴾؛ أي: أنصار نبيِّه ودينه. والحواريُّون أصحاب عيسى عليه السلام، وكانوا اثني عشر رجلًا؛ قاله الكلبي. واختلف في تسميتهم بذلك، فقال ابن عباس: سموا بذلك؛ لبياض ثيابهم، وكانوا صيادين. والحواري أيضًا الناصر، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لكل نبي حواري، وحواريي الزبير)). وقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ ﴾ [آل عمران: 53]؛ أي: يقولون: ربنا آمنا ﴿ بِمَا أَنْزَلْتَ ﴾؛ يعني: في كتابك، وما أظهرته من حكمك. ﴿ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ ﴾ [آل عمران: 53]؛ يعني: عيسى، ﴿ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 53]؛ يعني: أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ عن ابن عباس. والمعنى: أثبت أسماءنا مع أسمائهم، واجعلنا من جملتهم. وقيل: المعنى: فاكتبنا مع الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق"؛ تفسير القرطبي. وقال ابن كثير: "والظاهر أنه أراد مَنْ أنصاري في الدعوة إلى الله؟ كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مواسم الحج، قبل أن يهاجر: ((من رجل يؤويني على أن أبلغ كلام ربي، فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي)) حتى وجد الأنصار فآووه ونصروه، وهاجر إليهم فآسوه ومنعوه من الأسود والأحمر. وهكذا عيسى ابن مريم، انتدب له طائفة من بني إسرائيل فآمنوا به وآزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه؛ ولهذا قال تعالى مخبرًا عنهم: ﴿ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 52- 53]؛ انتهى من تفسير ابن كثير. مكر بني إسرائيل برسول الله عيسى عليه السلام: ﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 54] قال القرطبي: "﴿ وَمَكَرُوا ﴾؛ يعني: كفار بني إسرائيل الذين أحسَّ منهم الكفر؛ أي: قتله. وذلك أن عيسى عليه السلام لما أخرجه قومه وأمه من بين أظهرهم عاد إليهم مع الحواريين، وصاح فيهم بالدعوة، فهمُّوا بقتله، وتواطئوا على الفتك به، فذلك مكرهم. أما مكر الله فقيل: ﴿ وَمَكَرَ اللَّهُ ﴾ إلقاء شَبَه عيسى على غيره، ورفع عيسى إليه، وذلك أن اليهود لما اجتمعوا على قتل عيسى دخل البيت هاربًا منهم، فرفعه جبريل من الكوَّة إلى السماء، فقال ملكهم لرجل منهم خبيث يقال له يهوذا: ادخل عليه فاقتله، فدخل الخوخة فلم يجد هناك عيسى، وألقى الله عليه شَبَه عيسى، فلما خرج رأوه على شبه عيسى فأخذوه وقتلوه وصلبوه، ثم قالوا: وجهه يشبه وجه عيسى، وبدنه يشبه بدن صاحبنا؛ فإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ وإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ فوقع بينهم قتال؛ فقتل بعضُهم بعضًا؛ فذلك قوله تعالى: ﴿ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ ﴾"؛ انتهى تفسير القرطبي. معجزة رفع سيدنا عيسى عليه السلام: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [آل عمران: 55]. وفيها أربع مسائل: - الوفاة. - الرفع. - التطهير. - بقاء أتباع عيسى على رسالة الإسلام فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة. الوفاة: "ومعنى متوفيك قابضك ورافعك إلى السماء من غير موت؛ مثل: توفيت مالي من فلان؛ أي: قبضته. وقال ابن زيد: متوفيك: قابضك، ومتوفيك ورافعك واحد ولم يمت بعد. وقال الربيع بن أنس: وهي وفاة نوم؛ قال الله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ﴾ [الأنعام: 60]؛ أي: ينيمكم؛ لأن النوم أخو الموت؛ كما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل: أفي الجنة نوم؟ قال: ((لا، النوم أخو الموت، والجنة لا موت فيها))؛ أخرجه الدارقطني. الرفع: "والصحيح أن الله تعالى رفعه إلى السماء من غير وفاة ولا نوم كما قال الحسن وابن زيد، وهو اختيار الطبري، وهو الصحيح عن ابن عباس، وقاله الضحاك"؛ تفسير القرطبي. التطهير: وقوله تعالى: ﴿ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [آل عمران: 55]؛ أي: برفعي إياك إلى السماء، وقيل: إن المعنى: "مخرجك من بينهم ومنجيك منهم". ﴿ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ [آل عمران: 55]: لما رفع الله المسيح إلى السماء تفرَّقت أصحابه شيعًا بعده، فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله ورسوله وابن أمته، ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله، وآخرون قالوا: هو الله. وآخرون قالوا: هو ثالث ثلاثة. وقد حكى الله مقالاتهم في القرآن، ورد على كل فريق، فاستمروا كذلك قريبًا من ثلاثمائة سنة، ثم نبغ لهم ملك من ملوك اليونان، يقال له: قسطنطين، فدخل في دين النصرانية، قيل: حيلة ليفسده، فإنه كان وثنيًّا، وقيل: كان فيلسوفًا، فبدَّل لهم دين المسيح وحرَّفه، وزاد فيه ونقص منه، ووضعت له القوانين والأمانة الكبيرة - التي هي الخيانة الحقيرة - وأحلَّ في زمانه لحم الخنزير، وصلوا له إلى المشرق، وصوَّروا له الكنائس، وزادوا في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه، فيما يزعمون. وصار دين المسيح دين قسطنطين إلا أنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثني عشر ألف معبد، وبنى المدينة المنسوبة إليه، واتَّبعه الطائفة الملكية منهم. فلما بعث اللهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم، فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق - كانوا هم أتباع كل نبي على وجه الأرض - إذ قد صدقوا الرسول النبي الأُمِّي، خاتم الرسل، وسيد ولد آدم، الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق، فكانوا أولى بكل نبي من أُمَّتِه، الذين يزعمون أنهم على مِلَّته وطريقته، مع ما قد حرَّفوا وبدَّلوا. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله لينزلن ابن مريم حكمًا عادلًا فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، ولتتركن القلاص، فلا يسعى عليها، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد)). وعنه أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده، ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجًّا أو معتمرًا أو ليثنينهما))، ولا ينزل بشرع مبتدأ فينسخ به شريعتنا؛ بل ينزل مجددًا لما درس منها متبعًا"؛ تفسير القرطبي. ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴾ [آل عمران: 56]؛ "يعني: بالقتل والصلب والسبي والجزية، وفي الآخرة بالنار"؛ قاله القرطبي. ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 57]، وأما الذين آمنوا بك يا عيسى - يقول: صدَّقوك - فأقروا بنبوَّتك وبما جئتهم به من الحقِّ من عندي، ودانوا بالإسلام الذي بعثتك به، وعملوا بما فرضتُ من فرائضي على لسانك، وشرعتُ من شرائعي، وسننتُ من سنني؛ فيعطيهم الله جزاءَ أعمالهم الصالحة كاملًا، لا يُبخسون منه شيئًا ولا يُنقصونه"؛ تفسير الطبري. ﴿ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ﴾ [آل عمران: 58] ما تقدم من خبر عيسى ومريم والحواريين ﴿ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ ﴾ نخبرك به بتلاوة جبريل عليك ﴿ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ﴾؛ يعني: القرآن والذكر ذا الحكمة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. |
رد: وقفات ودروس من سورة آل عمران
وقفات ودروس من سورة آل عمران (5) ميسون عبدالرحمن النحلاوي وقفات في قلب سورة آل عمران (2) معالم في سياق السورة: بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين؛ أما بعد: فقد كنا قد أنهينا في الحلقة السابقة الوقفةَ الأولى في قلب السورة وتناولنا فيها قصة آل عمران، وما تنطوي عليه من عبر وعظات ودروس إلهية في صلب عقيدة التوحيد، ونتناول في هذه الحلقة الوقفتين الثانية والثالثة. الوقفة الثانية: مباهلة وفد نصارى نجران... دروس في الثبات العقائدي: أولًا: حقيقة خلق عيسى عليه السلام: يوجز لنا الله عز وجل في هذه الوقفة أهم أساس عقائدي في قصة سيدنا عيسى عليه السلام، في الرد على نصارى نجران الذين احتجوا على ألوهية سيدنا عيسى – والعياذ بالله - بأنه لا يمكن أن يوجد إنسان بلا أب؛ فأنزل الله تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ [آل عمران: 59، 60]. يقول ابن كثير: نزلت هذه الآية في وفد نجران وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك تشتم صاحبنا؟ قال: وما أقول؟ قالوا: تقول إنه عبدالله، قال: أجَل، هو عبدالله ورسوله وكلمته، ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فغضِبوا وقالوا: هل رأيت إنسانًا قط من غير أب؟ فأنزل الله تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 59] في قدرة الله تعالى حيث خلقه من غير أبٍ، ﴿ كَمَثَلِ آدَمَ ﴾ [آل عمران: 59]، فإن الله تعالى خلقه من غير أب ولا أم، بل ﴿ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 59]، والذي خلق آدم قادر على خلق عيسى بطريق الأولى والأحرى، وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى بكونه مخلوقًا من غير أب، فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل، فدعواها في عيسى أشد بطلانًا وأظهر فسادًا، ولكن الرب عز وجل أراد أن يُظهر قدرته لخلقه، حين خلق آدم لا من ذكَر ولا من أنثى، وخلق حوَّاء من ذكَر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكَر، كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى؛ ولهذا قال تعالى في سورة مريم 21: ﴿ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ ﴾ [مريم: 21]؛ [تفسير البغوي/ ابن كثير]. ثانيًا: مباهلة وفد نجران: المباهلة هي الملاعنة، والدعاء على الطرف الآخر بالدمار والهلاك، والمقصود منها أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء، فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا. صفة قدوم وفد نجران: وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا، أن النصارى حين قدموا فجعلوا يحاجُّون في عيسى، ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية، فأنزل الله صدر هذه السورة إلى بضع وثمانين آية منها؛ ردًّا عليهم؛ كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يسار وغيره. قال ابن إسحاق: "وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال: قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة (أي وفد نجران)، فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات؛ جُبَب وأردية، في جمال رجال بني الحارث بن كعب، قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأينا بعدهم وفدًا مثلهم، وقد حانت صلاتهم، فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم فصلوا إلى المشرق، قال: فكلَّم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة، والعاقب عبدالمسيح، أو السيد الأيهم، وهم من النصرانية على دين الملِك، مع اختلاف أمرهم، يقولون: هو الله، ويقولون: هو ولد الله، ويقولون: هو ثالث ثلاثة، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، وكذلك قول النصرانية، فهم يحتجون في قولهم: هو الله بأنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأسقام، ويُخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيرًا، وذلك كله بأمر الله، وليجعله آية للناس، ويحتجون في قولهم بأنه ابن الله، يقولون: لم يكن له أب يُعلم، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه أحد من بني آدم قبله، ويحتجون في قولهم بأنه ثالث ثلاثة، بقول الله تعالى: فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا، فيقولون: لو كان واحدًا ما قال إلا: فعلت وقضيت وأمرت وخلقت، ولكنه هو وعيسى ومريم وفي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن، فلما كلمه الحَبْرَان قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلِما، قالا: قد أسلمنا، قال: إنكما لم تسلما فأسلِما، قالا: بلى، قد أسلمنا قبلك، قال: كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدًا، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فلم يُجبهما، فأنزل الله في ذلك من قولهم، واختلاف أمرهم، صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها"؛ [انتهى]. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم عرض المباهلة على القوم، فهل قبلوا بها؟ الأمر بالمباهلة: ﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾ [آل عمران: 61]. ثم أنزل الله تعالى هذه الآية آمرًا رسولَه صلى الله عليه وسلم أن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيان، فقال: ﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ﴾ [آل عمران: 61]؛ أي: نحضرهم في حال المباهلة، ﴿ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾ [آل عمران: 61]؛ أي: نلتعن فنجعل لعنة الله على الكاذبين؛ أي: منا أو منكم. وكان أن أحضر الرسول صلى الله عليه وسلم سيدنا عليًّا وسيدتنا فاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهما إلى المباهلة؛ كما جاء في حديث مسلم؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أما أخذه عليًّا وفاطمة والحسن والحسين في المباهلة، فحديث صحيح رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص، قال في حديث طويل: لما نزلت هذه الآية: ﴿ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ ﴾ [آل عمران: 61]، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا وفاطمة وحسنًا وحسينًا، فقال: اللهم هؤلاء أهلي"؛ [انتهى]. رفض وفد النصارى الدخول في المباهلة: ويتابع ابن إسحاق في التفسير: "فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله، والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه، دعاهم إلى ذلك، فقالوا: يا أبا القاسم، دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، فانصرفوا عنه، ثم خلَوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم، فقالوا: يا عبدالمسيح، ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى، لقد عرَفتم أن محمدًا لَنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم أنه ما لاعن قومٌ نبيًّا قط فبقيَ كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، وإنه لَلاستئصالُ منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلفَ دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادِعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم، فأتَوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا ألَّا نلاعنك، ونتركك على دينك، ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلًا من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضًا، قال محمد بن جعفر: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين، فكان عمر بن الخطاب يقول: ما أحببتُ الإمارة قط حبي إياها يومئذٍ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجرًا، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سلَّم، ثم نظر عن يمينه وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح، فدعاه: اخرج معهم، فاقضِ بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه، قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة رضي الله عنه"؛ [تفسير ابن كثير]. خلاصة الحدث: جِلاء الحق وسطوعه: ﴿ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 62]: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ﴾ [آل عمران: 62، 63]. فهذا الذي قصصناه عليك يا محمدُ في شأن عيسى هو الحق الذي لا معدل عنه ولا محيد، فالله واحد لا ثاني له ولا ثالث، ولا والد له ولا ولد، فمن تولى عن هذا إلى غيره فإن الله عليم بالمفسدين؛ أي: من عدل عن هذا الحق إلى الباطل فهو المفسد، والله عليم به، وسيجزيه على ذلك شر الجزاء، وهو القادر، الذي لا يفوته شيء، سبحانه وتعالى عما يشركون. ثالثًا: دروس في الثبات العقائدي: ركائز في المواجهة الفكرية: مجادلة النصارى واليهود والمشركين قديمة قدم رسل الله عليهم السلام، وما نواجهه اليوم من هذه الجدالات التي أصبح لها طابع تنظيمي أُطلق عليه حوار الأديان، هو شكل من أشكالها. في سورة آل عمران، وفي مفصلية محاورة سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم لوفد نجران تحديدًا، نجد تلخيصًا للركائز الأساسية التي تقوم عليها الحوارات العقائدية؛ وهي كما استخلصناها أربعة: أولًا: تحديد المنطلق والمنتهى في المواجهة الحوارية: المنطلق: طرح العقيدة التي نؤمن بها بوضوح وثبات، والدعوة إليها. المنتهى: ويكون في إعلان الثبات على العقيدة، في حال فضِّ الحوار على غير اتفاق. ثانيًا: تفنيد أغاليط المجادلين بالباطل، ورد حجتهم الواهية بحجة دامغة. ثالثًا: إقرار ما هو حقٌّ، وإثباته بعد أن تُقام الحجة فتبطل باطل المجادلين في الله بغير حق. رابعًا: تقصِّي هدف المحاورين، أو المجادلين من وراء جدالهم. عرض الآيات الكريمة لهذه الركائز: أولًا: المنطلق والمنتهى في المواجهة الحوارية: المنطلق: طرح العقيدة التي نؤمن بها بوضوح وثبات، والدعوة إليها. المنتهى: ويكون في إعلان الثبات على العقيدة، في حال فض الحوار على غير اتفاق. ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64]. من المفسرين من قال: إن هذه الدعوة كانت لنصارى نجران، ومنهم من قال: إنها عامة في اليهود والنصارى على حد سواء، وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، كما أورده البخاري عن ابن عباس، عن أبي سفيان، في قصته حين دخل على قيصر، فسألهم عن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صفته ونعته، وما يدعو إليه، فأخبره بجميع ذلك على الجلية، مع أن أبا سفيان كان إذ ذاك مشركًا لم يسلم بعدُ، وكان ذلك بعد صلح الحديبية وقبل الفتح، كما هو مصرح به في الحديث، ولأنه لما قال: هل يغدر؟ قال: فقلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها، قال: ولم يمكني كلمة أزيد فيها شيئًا سوى هذه، والغرض أنه قال: ثم جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه، فإذا فيه: ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلامٌ على من اتبع الهدى؛ أما بعد: فأسلم تسلم، وأسلم يؤتِك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثمَ الأريسيين، و﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64]))؛ [تفسير ابن كثير]. فالمنطلق هنا هو كلمة "سواء"، وكلمة "سواء" تعني عدل وإنصاف، نستوي نحن وأنتم فيها، وهذه الكلمة هي التي تفصل الخلاف بيننا وبين أصحاب العقائد المشوهة، وتقوم هذه الكلمة على أسسٍ ثلاث؛ هي: • ﴿ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ ﴾ [آل عمران: 64]، فنفرده بالعبادة جل شأنه. • ﴿ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ﴾ [آل عمران: 64]، ولا نعبد معه لا صنمًا ولا طاغوتًا ولا مقدسًا، ولا بشرًا ولا حجرًا ولا شمسًا ولا قمرًا... • ﴿ وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 64]، فلا يؤله بعضنا بعضًا، فلا أعبدك ولا تعبدني، ولا أتبع شريعتك البشرية، ولا تتبع شريعتي البشرية، بل يتوجه كلانا إلى الأخذ بشريعة واحدة؛ هي شريعة الله الواحد الأحد. وبذلك تكون الكلمة السواء هي: شهادة لا إله إلا الله بتطبيقها الكامل. والمنتهى هنا إعلانُ الثبات على دين الحق: ﴿ اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64]، فبعد الدعوة، إما أن يقبل المحاورون الدخول في دين الحق أو يرفضوا؛ أي: يتولَّوا عن الدعوة ويديروا ظهرهم لها، فإن رضوا فبها ونعمت، وإن تولوا: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64]، فإن تولوا عن هذه الدعوة، عندها تقولون كلمة الفصل دون مواربة ولا مداهنة، ولا يحتاج الأمر إلى ميوعة الدبلوماسية، بل شهادة قاطعة باتَّة: ﴿ اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64]؛ قائمون على إسلامنا الذي شرعه الله لنا وارتضاه. ثانيًا: تفنيد أغاليط المجادلين بالباطل، ورد حجتهم الواهية بحجة دامغة: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [آل عمران: 65 - 67]. من المطبَّات التي يقع فيها المجادلون في دين الله بالباطل، استطرادهم في المجادلة ليصلوا إلى مسائلَ ليس لهم بها من العلم ما يبرر مجادلتهم فيها، وإنما هو الجدل من أجل الجدل والانتصار للهوى، والعياذ بالله. ومثال هذا ما حدث عندما اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديًّا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيًّا، فأنزل الله تعالى: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 65]؛ أي: كيف تدَّعون، أيها اليهود، أنه كان يهوديًّا، وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على موسى؟ وكيف تدَّعون، أيها النصارى، أنه كان نصرانيًّا، وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهرٍ؟ ولهذا قال: ﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 65]، ثم يا هؤلاء أنتم جادلتم فيما لكم به علم؛ يعني في أمر موسى وعيسى، وادَّعيتم أنكم على دينهما وقد أُنزلت التوراة والإنجيل عليكم، فلِم تحاجون فيما ليس لكم به علم، وليس في كتابكم أنه كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، وقيل: ﴿ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [آل عمران: 66]؛ يعني في أمر محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم وجدوا نعته في كتابهم، فجادلوا فيه بالباطل، فلمَ تحاجون في إبراهيم وليس في كتابكم، ولا علم لكم به؟ ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 66]؛ [ابن كثير عن ابن عباس]. ثالثًا: إقرار ما هو حق وإثباته بعد أن تُقام الحجة، فتُبطل باطل المجادلين في الله بغير حق: ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 68]. فبعد أن فنَّد لهم الله جل في علاه بطلان جدالهم في إبراهيم عليه السلام، وتجاذبهم له بين نصراني ويهودي، بيَّن لهم ما هو الحق بشأنه، فليس اليهود هم أتباعه، ولا النصارى، وإنما المسلمون ونبيهم الذين اتبعوه على دين التوحيد، واتخذوا من دينه دينًا لهم: ﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 68]. رابعًا: تقصي هدف المحاورين، أو المجادلين من وراء جدالهم: أهل الكتاب لا يحاورون ويجادلون إلا بغرض الإضلال ورد المسلمين عن دينهم، ومن النادر، إن لم يكن معدومًا، أن تجد منهم من يجادل في سبيل الوصول إلى الحقيقة، وهذا ما يخبرنا به الله عز وجل، في قوله: ﴿ وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [آل عمران: 69]. يقول السعدي في تفسيره: "يحذر تعالى عباده المؤمنين عن مكر هذه الطائفة الخبيثة من أهل الكتاب، وأنهم يودُّون أن يضلوكم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا ﴾ [البقرة: 109]، ومن المعلوم أن من ود شيئًا سعى بجهده على تحصيل مراده، فهذه الطائفة تسعى وتبذل جهدها في رد المؤمنين، وإدخال الشُّبَه عليهم بكل طريق يقدرون عليه، ولكن من لطف الله أنه لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله؛ فلهذا قال تعالى: ﴿ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ﴾ [آل عمران: 69]، فسعيُهم في إضلال المؤمنين زيادة في ضلال أنفسهم وزيادة عذاب لهم؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ﴾ [النحل: 88]، ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [آل عمران: 69] بذلك أنهم يسعون في ضرر أنفسهم وأنهم لا يضرونكم شيئًا؛ [انتهى]. وقد جاء في تفسير القرطبي أن هذه الآية نزلت في معاذ بن جبل وعمار بن ياسر؛ يقول القرطبي: "نزلت في معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر، حين دعاهم اليهود من بني النضير وقريظة وبني قينقاع إلى دينهم، وهذه الآية نظير قوله تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا ﴾ [البقرة: 109]، و(مِن) على هذا القول للتبعيض، وقيل: جميع أهل الكتاب، فتكون (مِن) لبيان الجنس"؛ [انتهى]. وتذكرنا هذه الآية بالتحذير الإلهي الذي ورد في سورة البقرة من هؤلاء القوم وأهدافهم الخبيثة؛ في قوله تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ [البقرة: 109]، فأخبرنا أنهم قوم يحكمهم الغل والحسد، لا يمكن أن يتمنوا الخير للمسلمين أبدًا، لا يمكن، بل إن كثيرًا منهم همتهم في جعل المسلمين يرتدون كفارًا، والدافع: الحقد والحسد، خاصة بعد أن علموا أن المسلمين على حقٍّ، وأن دينهم هو الدين الذي تحيا به البشرية، وسيبقى هذا دأبهم إلى أن تقوم الساعة. الوقفة الثالثة: بسط في عقائد وسلوكيات أهل الكتاب وموقفهم الأزلي من المسلمين: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ * وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 70 - 78]. هم قوم مغالطون مكذِّبون بالحق، وإن كان لديهم واضحًا كوضوح الشمس: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ [آل عمران: 70]، فيخاطبهم به سبحانه منكرًا عليهم كفرهم: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ﴾ [آل عمران: 70]؛ أي: بصحة الآيات التي عندكم في كتبكم؛ عن قتادة والسدي، وقيل: المعنى: وأنتم تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء التي أنتم مقرون بها؛ [القرطبي]. مهنتهم تلبيس الحق بالباطل على علمٍ: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 71]، وهذا ما نهاهم عنه الله عنهم في سورة البقرة: ﴿ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 42]. بارعون في الخداع المُمنهج لزرع الشك في قلوب المسلمين بدينهم: ﴿ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [آل عمران: 72]؛ وهذا الأسلوب الماكر يتبعه أعداء الإسلام على مر الزمان، وقد سنَّ سنته بني يهود، وملخصه أن تخدع الطرف الآخر فتوهمه أنك صدقته في دعوته، وتتبعه شيئًا من الزمن، ثم ترتد عنه، وتعود إلى طريقتك، لينتشر بين الناس أن هذا العالِم أو المتحضِّر الذي له السبق في العلم والحضارة، لا بد أنه وجد نقصًا في الطريقة الجديدة التي اتبعها شيئًا من الزمن، ولذلك ارتدَّ عنها، فيزرع الشك في قلوب المتبعين للطريقة الجديدة من جهة، ولمن يفكر في اتباعهم من جهة أخرى. المكر، والحسد من خصائصهم المتجذرة في قلوبهم: ﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [آل عمران: 73، 74]، واليهود يتواصَون بكتمان ما جاءهم من العلم، وبما يعلمون من أمور الدين الصحيح الذي أنزله الله عليهم، فلا يُظهروه للمسلمين حتى لا يؤمنوا به ويحتجوا به عليهم، ويرتفع قدرهم عند الله. يقول ابن كثير: "وقوله: ﴿ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ﴾ [آل عمران: 73]؛ أي: لا تطمئنوا وتُظهروا سركم وما عندكم إلا لمن تبع دينكم، ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين، فيؤمنوا به ويحتجوا به عليكم، قال الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 73]؛ أي: هو الذي يهدي قلوب المؤمنين إلى أتم الإيمان، بما ينزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات، والدلائل القاطعات، والحُجج الواضحات، وإن كتمتم - أيها اليهود - ما بأيديكم من صفة محمد في كُتُبكم التي نقلتموها عن الأنبياء الأقدمين، وقوله: ﴿ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ ﴾ [آل عمران: 73]؛ يقولون: لا تُظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين، فيتعلموه منكم، ويساووكم فيه، ويمتازوا به عليكم لشدة الإيمان به، أو يحاجوكم به عند الله؛ أي: يتخذوه حجة عليكم مما بأيديكم، فتقوم به عليكم الدلالة، وتتركب الحُجة في الدنيا والآخرة؛ قال الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 73]؛ أي: الأمور كلها تحت تصريفه، وهو المعطي المانع، يمُن على من يشاء بالإيمان والعلم والتصور التام، ويضل من يشاء ويعمي بصره وبصيرته، ويختم على سمعه وقلبه، ويجعل على بصره غشاوة، وله الحجة والحكمة، ﴿ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 73]"؛ [انتهى]. ومن خِصالهم استحلال سرقة أموال المسلمين: ﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 75]. وهذا إخبار من الله عز وجل عن اليهود بأن فيهم الخونة، وتحذير المؤمنين من الاغترار بهم، فإن منهم ﴿ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ ﴾ [آل عمران: 75] من المال ﴿ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ﴾ [آل عمران: 75]، وما دونه بطريق أولى أن يؤديه إليك، ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ﴾ [آل عمران: 75]، فلا يؤده إلا بالمطالبة والملازمة والإلحاح في استخلاص حقك، وإذا كان هذا صنيعه في الدينار، فما فوقه أولى ألَّا يؤديه. وسبب ذلك أنهم يقولون: ليس علينا في ديننا حرجٌ في أكل أموال الأميين؛ وهم العرب، فإن الله قد أحلها لنا؛ فكذبهم الله تعالى: ﴿ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 75]؛ أي: وقد اختلقوا هذه المقالة، وائتفكوا بهذه الضلالة، فإن الله حرَّم عليهم أكل الأموال إلا بحقها، وإنما هم قوم بُهتٌ. عن سعيد بن جبير قال: "لما قال أهل الكتاب: ﴿ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ﴾ [آل عمران: 75]، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: كذب أعداء الله، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدميَّ هاتين إلا الأمانة، فإنها مؤدَّاة إلى البَر والفاجر"؛ [تفسير ابن كثير]. ويرد الله عز وجل عليهم قولهم؛ فيقول جل في علاه: ﴿ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 76، 77]. فالأمر ليس كما تزعمون أنه ليس عليكم في الأميين حرج، بل عليكم في ذلك أعظم الحرج وأشد الإثم، فمن أوفى بعهده واتقى، والعهد يشمل العهد الذي بين العبد وبين ربه، وهو جميع ما أوجبه الله على العبد من حقه، ويشمل العهد الذي بينه وبين العباد، والتقوى تكون في هذا الموضع، ترجع إلى اتقاء المعاصي التي بين العبد وبين ربه، وبينه وبين الخَلق، فمن كان كذلك فإنه من المتقين الذين يحبهم الله تعالى، سواء كانوا من الأميين أو غيرهم، فمن قال ليس علينا في الأميين سبيل، فلم يوفِّ بعهده ولم يتَّقِ الله، فلم يكن ممن يحبه الله، بل ممن يبغضه الله، وإذا كان الأميُّون قد عُرفوا بوفاء العهود وبتقوى الله، وعدم التجرئ على الأموال المحترمة، كانوا هم المحبوبين لله، المتقين الذين أُعدت لهم الجنة، وكانوا أفضل خلق الله وأجلَّهم، بخلاف الذين يقولون: ليس علينا في الأميين سبيل، فإنهم داخلون في قوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ [آل عمران: 77]، ويدخل في ذلك كل من أخذ شيئًا من الدنيا في مقابلة ما تركه من حق الله أو حق عباده، وكذلك من حلف على يمين يقتطع بها مالَ معصومٍ، فهو داخل في هذه الآية، فهؤلاء ﴿ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ﴾ [آل عمران: 77]؛ أي: لا نصيب لهم من الخير، ولا يكلمهم الله يوم القيامة؛ غضبًا عليهم وسخطًا؛ لتقديمهم هوى أنفسهم على رضا ربهم، ﴿ وَلَا يُزَكِّيهِمْ ﴾ [آل عمران: 77]؛ أي: يطهرهم من ذنوبهم، ولا يزيل عيوبهم، ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 77]؛ أي: موجِع للقلوب والأبدان، وهو عذاب السخط والحجاب، وعذاب جهنم، نسأل الله العافية"؛ [تفسير السعدي]. الخداع في نقل العلم: ﴿ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 78]. وتبديل كلام الله عز وجل وتحريفه وتأويله على غير المعنى والمقصد الحقيقي له، كانت صنعة اليهود التي برعوا فيها، فجعلوا من التوراة ألعوبةً تعصف بها أهواؤهم، فما كان موافقًا لهواهم ومصلحتهم، أقرُّوه، وما كان في تحريفه الفائدة والنصرة لهم، عمِلوا عليه. واليوم، وللأسف نجد هذه الصنعة وقد امتهنها كثير من مدَّعي العلم من المسلمين في هذه الأيام، ولا حول ولا قوة إلا بالله. روى البخاري عن ابن عباس: أنهم يحرفون ويزيدون وليس أحد من خلق الله يزيل لفظ كتاب من كتب الله، لكنهم يحرفونه: يتأولونه على غير تأويله. وقال وهب بن منبه: إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله لم يُغيَّر منهما حرف، ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل، وكُتُبٍ كانوا يكتبونها من عند أنفسهم، ﴿ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 78]، فأما كتب الله فإنها محفوظة ولا تُحوَّل، والله أعلم؛ [تفسير ابن كثير]. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. يتبع... |
الساعة الآن : 04:30 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour