رد: ميمية المتنبي في عتاب سيف الدولة
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أُعِيذُها نظراتٍ منكَ صادقةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أَن تَحْسَبَ الشَّحمَ فيمَن شَحْمُهُ وَرَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وما انتفاعُ أخي الدُّنيا بناظرِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إذا استَوَتْ عندَهُ الأنوارُ والظُّلَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif سيَعلَمُ الجمعُ ممَّن ضمَّ مَجلِسُنا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif بأنَّني خيرُ مَن تسعى بهِ قَدَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أنا الذي نظَر الأعمى إلى أدبي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأسْمعَتْ كلماتي مَن بِهِ صَمَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أنامُ مِلْءَ جُفُوني عن شوارِدِها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ويَسْهَرُ الخلقُ جرَّاها ويَختَصِمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وجاهلٍ مدَّه في جهلِه ضَحِكي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حتى أتَتْه يدٌ فرَّاسةٌ وفَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إذا رأيتَ نيوبَ الليث بارزةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فلا تَظُنَّنَّ أنَّ الليثَ يبتَسِمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومُهجةٍ مُهجتي مِن هَمِّ صاحبِها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أَدركْتُها بجَوادٍ ظَهرُه حَرَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif رِجلاه في الرَّكضِ رِجلٌ واليدانِ يدٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وفِعلُه ما تريدُ الكفُّ والقَدَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومُرهفٍ سِرتُ بين الجَحْفَلينِ بهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حتى ضَربتُ وموجُ الموتِ يَلتَطِمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فالخيلُ والليلُ والبيداءُ تَعْرِفُني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والحربُ والضربُ والقِرطاسُ والقَلَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif صَحِبتُ في الفَلواتِ الوحشَ مُنفردًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حتى تعجَّب مني القُورُ والأَكَمُ |
رد: ميمية المتنبي في عتاب سيف الدولة
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يا مَن يَعِزُّ علينا أن نُفارِقَهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وِجْدانُنا كل شيءٍ بعْدَكُمْ عَدَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ما كان أَخلقَنا منكم بتَكرِمَةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لو أنَّ أمرَكُمُ مِن أمرِنا أَمَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إن كان سرَّكمُ ما قال حاسدُنا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فما لجُرحٍ إذا أرضاكمُ أَلَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وبينَنا لو رعيتُم ذاك مَعرفةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إن المعارفَ في أهلِ النُّهى ذِمَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كم تَطلُبونَ لنا عيبًا فيُعْجِزُكمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ويَكرَهُ اللهُ ما تأتون والكَرَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ما أبعدَ العيبَ والنقصانَ مِن شرفي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أنا الثُّريا وذانِ الشيبُ والهَرَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ليتَ الغمامَ الذي عندي صواعقُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يُزيلُهُنَّ إلى مَن عندَه الدِّيَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أرى النَّوى يَقتضيني كلَّ مرحلةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لا تَستقلُّ بها الوخَّادةُ الرُّسُمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لئنْ تَرَكْنَ ضميرًا عن ميامِنِنا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ليَحْدُثَنَّ لِمَنْ ودَّعتُهم نَدَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إذا ترحَّلتَ عن قومٍ وقد قدَروا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ألا تُفارِقَهمْ فالرَّاحلونَ هُمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif شرُّ البلادِ مكانٌ لا صديقَ بهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وشرُّ ما يَكسِبُ الإنسانُ ما يَصِمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وشرُّ ما قنَّصَتْه راحتِي قَنَصٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif شُهْبُ البُزاةِ سواءٌ فيه والرَّخَمُ |
رد: ميمية المتنبي في عتاب سيف الدولة
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif بأي لفظٍ تقولُ الشعرَ زِعْنِفَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تَجوزُ عندَك لا عُرْبٌ ولا عَجَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif هذا عتابُكَ إلَّا أنَّه مِقَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قد ضُمِّنَ الدُّرَّ إلَّا أنَّهُ كَلِمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كاتبُ هذه السطورِ يُبغِض شعرَ المديح القائمِ على مجرد الرغبة في التكسُّب، ويستغرِب كيف راجَ إلى هذا الحدِّ المخيف في الدولة الإسلامية؛ حيث كان ينبغي أن يأتي الحاكمُ إلى الحكم بإرادة الأمة وحدَها واختيارِها؛ وحيث المال هو مال الأمة، ينوب عنها هذا الحاكمُ في تصريفه في وجوه الخير والمنفعة العامة، فمثل هذا الحاكم - لو جرت الأمور على ما كان ينبغي أن تَجري عليه - ما كان بحاجةٍ إلى أولئك المنافقين الذين تُطالِعُنا سِحَنُهم الكريهة أيَّما قلَّبنا في ديوان الشِّعر العربي، ومثلُ هذا الحاكم أيضًا - لو أن الأمور مضَتْ على خُطة الإسلام وشريعة العدل والإنصاف - ما كان ليَمُدَّ يدَه إلى مال المسلمين يغترِفُ منه الآلاف المؤلَّفة؛ ليَجزيَ بها هذا الشاعرَ المنافق أو ذاك على شيءٍ لا يعود على الأمة بأي نفعٍ، وكأنه مالُه أو مالُ أبيه! أما المديح القائم على الإعجاب بالخُلق النبيل، والإنجازات القومية العظيمة - فهو عاطفةٌ إنسانية صادقة وسامية، لا يُمكننا الغضُّ منها، وإلى هذا اللون من المديح تنتمي مثلًا قصيدةُ أبي تمامٍ الخالدة على وجه الدهر في فتح عَمورية، وكذلك مدائحُ المتنبي لسيف الدولة، فقد أحرز ممدوحَا الشاعرينِ للإسلام مجدًا عظيمًا، ارتفعا به إلى أعلى عليِّين في تاريخ العرب والمسلمين. ذكرتُ هذا كمقدمة لقصيدة المتنبي هذه التي يُعاتب فيها سيف الدولة مُدِلًّا بنفسه وسموِّ هِمَّته وعظمة شعرِه، ويَتهدَّده بأنه - إن لم يُغيِّر مِن خُطته ويَثِب إلى سالف عهده معه - مُفارِقُه إلى بلاد بعيدة، فإن هذه القصيدة تضمُّ فيما تضمه أبياتًا يُمجِّد فيها الشاعر جهادَ سيف الدولة في سبيل الله، وانتصاراته المدوِّية على عُلُوج الروم، فسيف الدولة إذًا كان جديرًا بهذا المدح من شاعر العربية الأكبر، ولا شكَّ أن العربي والمسلم يفورُ كِيانه كلما سمِع شيئًا من شعر المتنبي في هذا البطل الصنديد؛ تَحرُّقًا إلى بطلٍ صِنديد مثلِه يَجَأُ أعداء العروبة والإسلام في بطونِهم وأعناقهم، ويُقتِّلهم تقتيلًا يَشفِي به صدورَ قومٍ مؤمنين، ويُذهِب غيظَ قلوبهم، أنصِتْ إلى الشاعر العملاق وهو يقول - مع ملاحظة أن هذه الأبيات ليست هي صُلب القصيدة، فالقصيدة كما سلف القول هي في المعاتبة -: قد زُرْتُه وسيوفُ الهند مُغمَدةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وقد نظَرتُ إليه والسيوفُ دَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فكان أحسنَ خَلقِ الله كلِّهمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكان أحْسنَ ما في الأحسنِ الشِّيَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فَوتُ العدوِّ الذي يَمَّمْتُه ظَفَرٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif في طيِّه أَسفٌ في طيِّه نِعَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif قد نابَ عنكَ شديدُ الخوفِ واصْطنعَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لك المهابةُ ما لا تَصنعُ البُهَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ألزَمتَ نفسَك شيئًا ليس يَلْزَمُها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ألَّا توارِيَهمْ أَرض ٌولا عَلَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أَكُلَّما رُمتَ جيشًا فانْثَنى هَرَبًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تَصرَّفَتْ بكَ في آثارِه الهِمَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif عليكَ هَزْمُهمُ في كلِّ مُعترَكٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وما عليكَ بهمْ عارٌ إذا انهزَموا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أمَا ترى ظَفرًا حُلْوًا سوى ظَفَرٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تَصافحَتْ فيه بِيضُ الهندِ واللمَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لكأنَّ المتنبي يُعرِب عما يَجيش في قلوبنا الكليمةِ مِن آمال، فهو يُصوِّر بطلَه ذا هِمة لا تَرضى إلا الانتصار الساحق المبِين الذي لا يُبقِي على هؤلاء العلوج ولا يَذَر. وتأمَّل بخاصةٍ البيتَ الأخير، وما يعكس من رغبة الشاعر العارمة - «وإن جعلها رغبةَ سيف الدولة نفسه، ولكن إعجاب الشاعر ببطلِه وبأفعاله المجيدة يَشِي بأنها رغبتُه هو أيضًا» - بأن يرى الصوارمَ البيض تَحتزُّ هذه الرِّقاب النجسة، «وقد عبَّر عن ذلك على طريقته الساخرة بأن السيوف إنما تُصافح الرؤوس»: أمَا ترى ظَفَرًا حُلْوًا سوى ظَفَرٍ *** تَصافحَتْ فيه بِيضُ الهندِ واللمَمُ وفضلًا عما يجدُه العربي والمسلم في كل عصر ومصر - «وبخاصة في هذا العصر الذي بلغ فيه المسلمون والعرب من الهوان حدًّا لا يُطاق» - في هذه القصيدة من تصوير بطولة سيف الدولة، الذي يَصلُح أن يكون رمزًا على البطل المرتقَب، فإن ما تَعكِسه هذه الأبيات من نفسية المتنبي الأبيَّة المترفِّعة عن الدنايا، المعتزَّة بكرامتها حتى في وجه الحاكم الذي تُحبه وتتعلق به، وتراه المثال الأعلى للبطولة الماجدة - لَمِمَّا يُضفِي على القصيدة قيمةً فوق قيمتها. اسمع كيف يَفتخر المتنبي بنفسه وهو يُنشد قصيدتَه على مرأى ومسمع من سيف الدولة ومن حاشيته: سيَعلَمُ الجمعُ ممَّن ضمَّ مَجلِسُنا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif بأنَّني خيرُ مَن تسعى بهِ قَدَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أنا الذي نظَر الأعمى إلى أدبي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وأسْمعَتْ كلماتي مَن بِهِ صَمَمُ |
رد: ميمية المتنبي في عتاب سيف الدولة
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أنامُ مِلْءَ جُفُوني عن شوارِدِها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ويَسْهَرُ الخلقُ جرَّاها ويَختَصِمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وجاهلٍ مدَّه في جهلِه ضَحِكي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حتى أتَتْه يدٌ فرَّاسةٌ وفَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إذا رأيتَ نيوبَ الليث بارزةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فلا تَظُنَّنَّ أنَّ الليثَ يبتَسِمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومُهجةٍ مُهجتي مِن هَمِّ صاحبِها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أَدركْتُها بجَوادٍ ظَهرُه حَرَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif رِجلاه في الرَّكضِ رِجلٌ واليدانِ يدٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وفِعلُه ما تريدُ الكفُّ والقَدَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومُرهفٍ سِرتُ بين الجَحْفَلينِ بهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حتى ضَربتُ وموجُ الموتِ يَلتَطِمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فالخيلُ والليلُ والبيداءُ تَعْرِفُني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والحربُ والضربُ والقِرطاسُ والقَلَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif صَحِبتُ في الفَلواتِ الوحشَ مُنفردًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حتى تعجَّب مني القُورُ والأَكَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وليس بالسهلِ أن ترمي هذا الشعرَ بأنه مجرد كلام، فقد كان المتنبي يَعنيه، وكان يريد به أن يَفهَم أعداؤه مِن حاشية الأمير أنه يَحتقِرُهم ولا يَعُدُّهم أندادًا له، وفيهم مَن يَمُتُّ إلى هذا الأمير بصِلة القربى، بل أَعِدِ النظرَ كرَّةً أخرى إلى البيت الأول من هذه الأبيات، تجِدْ أنه لم يَستثنِ أحدًا ممَّن كانوا في ذلك المجلس ولا سيف الدولة نفسه: سيَعلَمُ الجمعُ ممَّن ضمَّ مَجلِسُنا *** بأنَّني خيرُ مَن تسعى بهِ قَدَمُ صحيحٌ أن الأبيات التي تلي ذلك قد تُوحِي بأنه يعني أعداءَه، لكن يَبقى بعد ذلك أنه حين أطلَق هذه الصيحة لم يتحوَّطْ ولم يَخَفْ، ولم يَستثنِ ولم يعتذِرْ، فهل ثَمَّةَ نفسيةٌ بين شعراء العصر - أو أي عصر آخر - بلغتْ من التماسك والجَراءة والثقة هذا المبلغ؟! إن الشعور بالكرامة الذاتية مطلوبٌ ومحبوبٌ في كل زمان ومكان، وإن النفوس النبيلةَ لتَستعذِبُه وتَستزيده، وإنها لتُكبِر كلَّ مَن يضع نفسَه عن جدارة واستحقاق في هذا المحل الأرفع، ولا شك أن المتنبي كان ذا همةٍ رفيعة ومواهبَ سامقةٍ تُطاول النجومَ، ومِن ثمة حُقَّ له الإدلالُ بنفسه على هذا النحو الملهم العجيب! ولا يقلُّ عن ذلك سموًّا معاتبتُه لسيف الدولة وتهديدُه من طرفٍ خفي بلَغ الغاية القصوى في البراعة واللباقة، بأنه سيتركه، فهو يشتدُّ ويَلين، ويُؤلِم ويَأْسو، تأمَّل كيف يتدسَّس إلى نفس ممدوحه على هذا النحو العجيب مِن التودُّد: يا مَن يَعِزُّ علينا أن نُفارِقَهم *** وِجْدانُنا كل شيءٍ بعْدَكُمْ عَدَمُ ليَعْقُبَه بهذا العتاب الذي لا يَخلو من شدة: ما كان أَخلقَنا منكم بتَكرِمَةٍ *** لو أنَّ أمرَكُمُ مِن أمرِنا أَمَمُ «ولاحِظْ إشارته إلى نفسه في الحالتين بضمير الجمع، مُسوِّيًا في هذا بين نفسه وبين سيف الدولة»، وبعد ذلك يعود فيَلِين متودِّدًا: إن كان سرَّكمُ ما قال حاسدُنا *** فما لجُرحٍ إذا أرضاكمُ أَلَمُ ومع هذا لا يَدَعُ الفرصةَ تمرُّ دون أن يَخِزَ ممدوحه وَخزةً خفيفةً أولَ الأمر: وبيننا لو رعيتُم ذاك مَعْرفةٌ *** عن المعارفِ في أهلِ النُّهى ذِمَمُ ثم شديدةً بعد ذلك: كم تَطلُبونَ لنا عيبًا فيُعْجِزُكمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ويَكرَهُ اللهُ ما تأتون والكَرَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ما أبعدَ العيبَ والنقصانَ مِن شرفي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أنا الثُّريا وذانِ الشيبُ والهَرَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ليعودَ فيَلِين ويتمنَّى: ليتَ الغمامَ الذي عندي صواعقُه *** يُزيلُهنَّ إلى مَن عندَه الدِّيَمُ ثم يُلوِّح بالتهديد بأنه إن لم يتغيَّر موقفُ سيف الدولة منه، فسوف يجد نفسه مضطرًّا إلى التحوُّل عنه: أرى النَّوى يَقتضيني كلَّ مرحلةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لا تَستقلُّ بها الوخَّادةُ الرُّسُمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لئنْ تَرَكْنَ ضميرًا عن ميامِنِنا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ليَحْدُثَنَّ لِمَنْ ودَّعتُهم نَدَمُ |
رد: ميمية المتنبي في عتاب سيف الدولة
إذا ترحَّلتَ عن قومٍ وقد قدَروا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ألا تُفارِقَهمْ فالرَّاحلونَ هُمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فتأمَّل كيف يُحذِّر ويُلقِي المسؤولية على عُنُق الأمير في ثقةٍ بالنفس وإدلال بالصداقة التي كانت تَربِطه به بَلَغَا الغاية القصوى، وتأمَّلِ البيتَ الأخير وما فيه مِن لفتةٍ ذهنية ونفسية لا تَخطِر على هذا النحو، ولا تَسكُن هذه الصياغة إلا في خيالِ شاعر عبقري! وتمعَّن بعد ذلك في البيت التالي الذي يريد أن يقول فيه: «إنك أيها الأمير، إذا لم تُغيِّر موقفك مني، وتَعُدْ إلى سالف ودادِك وصداقتك معي، فما الذي يا تُرى يُغريني بالبقاء في بلادك؟ إنها حينئذٍ لشرُّ البلاد»، تُرى مَن يَقدِر على هذا الكلام غيرُ المتنبي وأمثاله من ذوي النفوس الكبيرة؟! شرُّ البلادِ مكانٌ لا صديقَ بهِ *** وشرُّ ما يَكسِبُ الإنسانُ ما يَصِمُ ثم يَكُرُّ المتنبي مرة أخرى على منافسِيه الذين يَشُون به عند الأمير، فيتهكَّم بهم وبما يَنظِمون من شعرٍ، «ولا بد هنا من أن نذكُرَ أن أبا فراس الحمداني الفارس النبيل والشاعر الملهم، كان أحد هؤلاء الخصوم، على أن ذلك ينبغي ألا يكون سببًا في نَيْلنا من المتنبي أو مِن خَصمِه، فليس الكمال من طبيعة النفس البشرية»:بأي لفظٍ تقولُ الشعرَ زِعْنِفَةٌ *** تَجوزُ عندَك لا عُرْبٌ ولا عَجَمُ وفي نهاية القصيدة يعودُ المتنبي من حيث ابتدأ، فيُعاتِب ويشكو ويتودَّد، مضيفًا بذلك النغمةَ الأخيرة في فخرِه بأدبِه وما أُلْهِمَه مِن حكمةٍ: هذا عتابُكَ إلَّا أنَّه مِقَةٌ *** قد ضُمِّنَ الدُّرَّ إلَّا أنَّهُ كَلِمُ فمعاتبةُ رجلٍ كسيف الدولة هذا النحو مِن العتاب، هو من الشعر العالي - «وأكاد أن أقول: المُعجِز» - فانظر كيف رقَّ المتنبي واشتدَّ، وتَجَهَّم وتبسَّم، وهدَّد وتودَّد، كلُّ ذلك وهو يَلتَفِتُ مِن حينٍ إلى آخرَ ناحيةَ أعدائه يَكُرُّ عليهم من القول بما هو أنكى وأشدُّ وقعًا مِن عَضْبِ السيوف، وكل ذلك في أثوابٍ مِن التعريض والتلويح ساحرةٍ باهرةٍ. ومما يُلاحظ على أسلوب هذه القصيدة - بل على كل قصائد المتنبي عامةً، ويضفي عليها قوةً على قوة - فحولةُ الصياغة وعُنفُ التعبير، تأمَّل مثلًا كيف يُعبِّر عن ألَمِه من فتور سيف الدولة نحوه: واحرَّ قلباهُ ممَّن قلبُه شَبِمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومَن بجسْمي وحالي عنده سَقَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ما لي أُكتِّمُ حبًّا قد بَرَى جسَدي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وتَدَّعي حبَّ سيفِ الدولةِ الأُمَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فقد توجَّع متشكيًا مما يَتلظَّى في قلبه من نيرانٍ، ومما صار إليه حاله جمعيه مِن سقمٍ قد برَى جسمه، كما تَبري المُوسَى سنَّ القلم، ولا تتوهَمَنَّ أن هذا نفاقٌ، فقد ظهَر مما استعرضناه من أبيات القصيدة بما لا يَدَعُ مجالًا للارتياب - أن نفسية المتنبي هي أبعد ما تكون من النفاق، وبخاصة مع سيف الدولة؛ إذ لم تكن العلاقةُ بينهما هي علاقة المولى بالتابع، بل علاقة أمير في ميدان السياسة والحكم بأميرٍ في حقل الشعر والحكمة. وفضلًا عن ذلك أُحِبُّ أن تتنبَّه لِما أجراه مِن مقارنة بين حال قلبِه وحال قلب ممدوحِه، فإذا كان قلبُه يتلظَّى مِن الألم، فقد وصف سيفَ الدولة - «وإن لم يُسمِّه، مكتفيًا بالتلميح الذي لا يمكن أن يُخطِئه أحدٌ» - بأن «قلبه شَبِمُ»؛ أي: بارد، فهل هذا - مهما يُقَلْ في توجيهه - كلامٌ يَصدُر عن منافقٍ؟! ومِن عنيف تعبيره الصورةُ التي ورَدتْ في نهاية البيت التالي: قد زُرْتُه وسيوفُ الهند مُغمَدةٌ *** وقد نظَرتُ إليه والسيوفُ دَمُ فإن قوله: «والسيوف دمُ» قد نقل المعنى مِن كون السيوف مُلطخةً بالدماء - وهو معنى عاديٌّ جدًّا - إلى كونها هي نفسها قد أصبحت دمًا من كثرة ما أَراقَت مِن دماء خضَّبتْها وغطَّتها إلى الحد الذي لا يستطيع أحدٌ معه أن يراها ويتعرَّف عليها. ومثل هذه الصورة - عنفًا وجمالًا - الصورةُ الأخرى التي يقول فيها عن حصانِه: رِجلاه في الرَّكضِ رِجلٌ واليدانِ يدٌ *** ................ إلخ فلقد بلَغ مِن سرعة هذا الحصان الكريم أن أصبحت رِجلاه ويداه كأنها يدٌ واحدة، ورِجلٌ واحدة، فهو بهذا يختصرُ إلى النصف الوقتَ الذي يُنفِقه أيُّ حصان آخر بالغًا ما بلَغت مَقدِرتُه على العَدْوِ. وانظر كذلك إلى افتخارِه بنفسه في عبارة تكادُ أن تتفجَّر مِن شدة ما تَحمل من معانٍ ومشاعر: كم تَطلُبونَ لنا عيبًا فيُعْجِزُكمْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ويَكرَهُ اللهُ ما تأتون والكَرَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ما أبعدَ العيبَ والنقصانَ مِن شرفي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أنا الثُّريا وذانِ الشيبُ والهَرَمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فهو أولًا يتحدَّث عن نفسه؛ كما سبقت الإشارة إلى ذلك بضمير الجمع، واضعًا نفسَه مع ممدوحه على قدمِ المساواة تمامًا، وهو ثانيًا يتحدَّى سيف الدولة أن يذكُرَ له عيبًا واحدًا «أي عيب»، وما أكثر ما حاوَل ذلك، ولكنه عجَز! وهو ثالثًا يلومُ الأمير على موقفِه منه، «وإن صاغ ذلك في عبارة ملفوفة»، ويذكر له أن ذلك يُبغِضه الله، ولا يَرضاه الخُلُق الكريمُ. وهو رابعًا لا يكتفي بذلك، بل يضع نفسَه في أعلى عِليِّين، فكيف مِن ثَمَّةَ يجدُ العيبُ أو النقصُ إلى شرفِه سبيلًا؟! هل سمِع أحدٌ أن الثُّريَّا قد شابَت وهَرِمَتْ؟ ولاحظ أنه قال: «ما أبعدَ العيبَ والنقصانَ مِن شرفي!»، ولم يقل: «مِن خُلُقي»، فكلمة «الخُلُق» هي كلمة محايدة؛ إذ مِن الخلق الطيب والرديء، أما الشرف فلا يكون إلا خُلقًا كريمًا نبيلًا. ويتَّصِل بهذا العنف في التعبير والفخامة فيه ما يُكلِّل قصائد المتنبي من حِكَم تأتي كلُّ حكمة منها في موضعها، فتُكسِبه ويُكسِبها نارًا وضِرامًا، وتَقتحمُ به ويَقتحم بها القلوبَ اقتحامًا، وهذه بعضُ أمثلة مما ورَد مِن هذه الدررِ في القصيدة التي بين أيدينا، وشاع على ألْسنة الكاتبين والمتكلمين: «فيكَ الخصامُ وأنت الخَصْمُ والحَكَمُ!»، و«لا تَحسَبِ الشَّحْمَ فيمَن شَحْمُهُ وَرَمُ»، و: إذا رأيتَ نيوبَ الليث بارزةً *** فلا تَظُنَّنَّ أنَّ الليثَ يبتَسِمُ و:إن كان سرَّكمُ ما قال حاسدُنا *** فما لجُرحٍ إذا أرضاكمُ أَلَمُ .... إلخ، إلخ.وإذا كان بعض خصومه - على ما يذكر لنا تاريخ الأدب العربي - قد انتقد بعضَ هذه الحِكَم ورمى الشاعرَ بأنه سرَقها مِن هذا الشاعر أو ذاك، ومسَخها، فإن أبسط ردٍّ على هذا اللون من الانتقاد - لو صحَّ - هو أن أحدًا لا يَحفَظُ إلا أبيات المتنبي؛ مما يدل على أن هذه الحِكَم لم تَكتسب قيمتَها وحلاوتها في الآذان، وحُسن موقعها في القلوب، إلا على يد المتنبي الصنَّاع، ومثالانِ اثنان لا غير خيرُ كفيلٍ بتبيانِ ما أقول: قال مَعقل العجلي: إذا لم أُميِّز بين نورٍ وظُلمةٍ *** بعيني فالعينانِ زُورٌ وباطِلُ وقال المتنبي: وما انتفاعُ أخي الدنيا بناظرِهِ *** إذا اسْتوَتْ عنده الأنوارُ والظُّلَمُ وقال ابن الرومي: إذا ما الفجائعُ أكسَبْنَني *** رِضاك فما الدهرُ بالفاجعِ وقال المتنبي: إن كان سرَّكمُ ما قال حاسدُنا *** فما لجُرحٍ إذا أرضاكمُ أَلَمُ كذلك فإنه لو صحَّ أنه اقتَبَس هذه الحِكَم من كتب الفلاسفة، فالعِبرة بجمال الصياغة وقوة التعبير التي يَخلعها الشاعرُ على شِعرِه مِن حرارة قلبه. ويتَّصِل بعنف التعبير كثرةُ المدَّات في هذه القصيدة؛ مما يَجعَلُ إيقاعَ الكلام فخمًا رنَّانًا يُناسِب الموضوع والجوَّ الشعوري، وذلك إلى جانب الميم الممدودة التي ينتهي بها كلُّ بيت، وكأنها عصفُ الريح. كلمة أخيرة أحبُّ أن أقولها في هذه القصيدة العصماء، فإنها متماسكة الأبيات كأنها قطعة واحدة من الصخر لا تستطيع أن تُفتِّتَها، أو حتى تَكسِرَها، فأنت تأخُذُها إذا أخذتَها كتلةً واحدة أو تدَعُها، لقد تصرَّف المتنبي كما رأينا في تحليلنا للقصيدة في معاتبة سيف الدولة في فنونِ القول بما سحَر وبهَر، ولكنه لم يَخرُج قطُّ عن خُطة سَيْره، وكلُّ ذلك في اعتزاز بالنفس، وإدلالٍ بالمكانة، وافتخارٍ رجولي كريم. |
الساعة الآن : 07:00 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour