القصة الشعرية في صدر الإسلام: قصيدة (نعم) لعمر بن أبي ربيعة نموذجا
د. أحمد الخاني






شاعر غزلي من سراة القرشيين، رقيق الأسلوب، لطيف العواطف في غزله، رجع عما فرط منه في آخر حياته وتزهد..[1]
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر غداة غد؟ أم رائح فمهجَّر؟

إلى أن يقول:

وليلة ذي دوران جشمتني السرى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وقد يجشم الهولَ المحب المغرَّر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فبت رقيباً للرفاق على شفا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أحاذر منهم من يطوف وأنظر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إليهم، متى يستمكن النوم منمهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ولي مجلس لولا اللباقة أوعر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وباتت قلوصي بالعراء ورحلها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لطارق ليل أو لمن جاء معور https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وبت أناجي النفس: أين خباؤها؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وكيف لما آتي من الأمر مصدر؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فدل عليها القلب ريا عرفتها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لها، وهوى النفس الذي كاد يظهر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فلما فقدت الصوت منهم وأُطفئت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مصابيح شبت في العشاء وأنؤر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وغاب قمير كنت أرجو غيوبه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وروَّح رعيان ونوَّم سمَّر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ونفَّضت عني النوم أقبلت مشية ال https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
حباب وركني خشية القوم أزور https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فحييت إذ فاجأتها فتولهت https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وكادت بمخفوض التحية تجهر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لعلهما أن تطلبا لك مخرجاً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وأن ترحبا صدراً بما كنت أحصر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فقامت كئيباً ليس في وجهها دم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
من الحزن تذري عبرة تتحدر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وقامت إليها حرتان، عليهما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كساءان من خز؛ دمقس وأخضر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فقالت لأختيها: أعينا على فتى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أتى زائراً والأمر للأمر يقدر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا: https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أقلي عليك اللوم فالخطب أيسر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فقالت لها الصغرى: سأعطيه مطرفي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ودرعي وهذا البُرد إن كان يحذر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يقوم فيمشي بيننا متنكراً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فلا سرنا يفشو ولا هو يظهر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فكان مجني دون من كنت أتقي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ثلاث شخوص؛ كاعبان ومعصر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فلما أجزنا ساحة الحي قلن لي: https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ألم تتق الأعداء والليل مقمر؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يقول الشاعر فاروق شوشة في التقديم لهذه القصيدة:[2]
(وفي شعر عمر بن أبي ربيعة تطالعنا، ولأول مرة في شعرنا العربي القدرة على القص، فالكثير من قصائده تجارب عاطفية في إطار من القصة، يتخللها غالباً الحوار بين شخوصها وأبطالها، وهو مستوى من التعبير الشعري القصصي، تفوق به عمر كثيراً على أستاذه الأول في هذا الفن امرئ القيس، كما تفوق بقدرته الخارقة على فهم نفسية المرأة وتمثل حالاتها المختلفة، والقدرة على خلق الحوار الطبيعي النابض بالحياة والجمال والطرافة).

إنني ألحظ التشابه بين قصة (ذي دوران) وبين (دارة جلجل) وإن اختلفت التفاصيل.

يقول عمر: (وبت أناجي النفس: أين خباؤها؟) إذاً؛ فمحبوبته كانت في الصحراء، ونحن نتساءل هنا: مكان عمر في الحاضرة؛ في مكة، فأنى له البدويات؟ ولنجر مع الشاعر بطل هذه القصة الغرامية، محبوبته في مضارب الخيام، ولما غاب القمر دلف إليها، ومن يعرف حياة البدو، يعرف أن الحراسة الليلية كانت مشددة، وهذا ما نجده في الشعر البدوي، قالت ميسون بنت بحدل:
وكلب ينبح الطراق دوني أحب إلي من قط أليف

وقد مر بنا قول الشنفرى بعد غارته الليلية:
فقالوا: لقد هرت بليل كلابنا فقلنا: أذئب عس أم عس فرعل؟

فكيف ينسى شاعر كلب الحراسة وهو يقتحم على القوم مضارب خيامهم؟!.

أنى للمتلصص أن ينجو من براثنها ومن أنيابها ومن سيوف القوم بعد سماعهم نباحها؟ هذه فجوة في قصة عمر تلغي الواقعية، ويضاف إلى ذلك أمر آخر يعنينا هو أننا في العصر الإسلامي، فأين الأذان؟ (وقد لاح مفتوق من الصبح أشقر).

نحن لا نطالب بالواقعية في هذه القصة، ولا في غيرها، ولكن نريد أن نزيل الران عن الذي شك بين واقعيتها و بين أحلام اليقظة التي نسج منها الشاعر قصته.

ومهما يكن من أمر؛ فإننا أمام نص شعري؛ يهمنا في دراستنا فنيته، أن ابن أبي ربيعة شاعر فنان، شق للشعراء من بعده في القصة الشعرية آفاقاً لم تكن، والواقعية ليست شرطاً لنجاح العمل الفني، فخيال الشاعر كثيراً ما يبتكر ملامح أشبه بالحياة من الحياة.


[1] ديوان عمر بن لبي ربيعة بتحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ط1 .

[2] في كتابه : أحلى 20 قصيدة حب ط2 .