المثاقفة والمصطلح النقدي العربي
المثاقفة والمصطلح النقدي العربي د. إبراهيم أنيس الكاسح بداية: يتكوّن انطباع إيجابي عندما يأتي التفكير، أو التحليل العقلي، على مسألة المجاورة بين مفهومي المثاقفة، والمصطلح عمومًا؛ ذلك أن المصطلح، كما سيأتي، لغة خاصة تنهض بمهمتي تيسير وتنشيط المعرفة ومداولات الفكر الإنساني في الحقل المعرفي الذي يتم فيه إنتاج وتحريك المصطلح، ومهمة التواصل، ونقل المفاهيم بين المشتغلين في إطار هذا الحقل الواحد. وتأسيسًا على هذا التصور، فإن اللغة المصطلحية لا تمتلك خصوصيتها، بدرجة مهمة، من جهة ارتباطها بمجموعة قومية معينة، كما هو الحال في اللغة العامة، كما أنها لا تتوافر على صفات التميّز والحضور؛ اعتمادًا على بنيتها الذاتية المتّصلة بأمة ما، وثقافة هذه الأمة، وإمكاناتها الحضارية، وأحيانًا الصفات الطبيعية لإنسانها، التي تؤهلها لتسجيل حضورٍ مهيمن على لغات إنسانية أخرى. وعندما نستدعي مفهوم المثاقفة، في سياق مقاربة مسألة المصطلح، فإننا نتعاطى بإيجابية مع فكرة انتقال المصطلحات، وهجرتها بين الثقافات وحضارات الشعوب؛ أخذًا بأحد أبعاد مفهوم المثاقفة القائم على عالمية المنجزات، وتجاوزها للأمم والمجالات الحضارية. فالمصطلح لغة العلم والمعرفة، لا لغة الأعراق والقوميات، وهو أيضًا أداة مستخدميه من العلماء والمفكرين، ممن يجمعهم الانتماء إلى المجال العلمي والمعرفي الواحد، وإن تباعدت هوياتهم الإثنية والعرقية؛ وبذلك تصير عولمة المصطلح ضربًا من الممارسة الإيجابية التي يحوطها سياج المعرفة والعلم. غير أننا، مع ذلك، سنرصد واقعًا مصطلحيًّا عربيًّا حديثًا مشوشًا ومضطربًا؛ أنتجته القراءات القاصرة على مستويات متعددة؛ فاستحالت العولمة المصطلحية تعبيرا عن علاقة غير متكافئة بين مركز معرفي غربي ينهض بفعله تلقائيًّا، وفي إطار المبادرة المعرفية الطبيعية المنسجمة مع التحوّلات المعرفية في نظام بنية هذا المركز، وهامش نقدي عربي يتغذى على منجزات المركز النقدي الغربي، على مستوى المقولات النقدية النظرية، والإجراءات المنهجية؛ وارتهن النقد العربي الحديث، بالتالي، لواقع من يستوطن أطراف المركز. نسعى في هذه الدراسة إلى مقاربة مسألة المصطلح، والمصطلح النقدي العربي في علاقتهما بالمثاقفة المعرفية والأدبية، واضعين هذه المسألة في سياقاتها الخاصة، من جهة ارتباط المصطلح بالحقل المعرفي، وما ينتجه من مناهج وإجراءات لدراسة ظواهره، ساعين وراء تركيز أكثر على قضية المصطلح النقدي العربي، الذي نراه يختزل، بكفاءة، إشكالية أو إشكاليات الواقع المصطلحي في العلوم الاجتماعية والإنسانية العربية العامة. حدُّ المصطلح، والمصطلح النقدي: يُنظر لهذا الدال (المصطلح Terme) في التراث العربي، على أنه ما جاء نتيجة لإجماع جماعة من المهتمين في مجال معرفي معين، وهو مصدر ميمي بصيغة اسم المفعول، من الفعل: اصطلح الذي يحيل على معنى الإجماع والتوافق والتواضع بين فئة ما من الناس. وفي معنى التوافق والاتفاق يأتي أيضا الفعل (صلح) الذي مصدره الإصلاح[1]. هذا على مستوى المدوّنة اللغوية، التي تُعنى بتأصيل الدوال اللغوية في مرجعها اللغوي الوظيفي، كما جرى تداوله في اللسان العربي، أمّا إذا انتقلنا إلى دلالة هذا الدال في علم المصطلح Terminologie، أو المصطلحية كما يطيب لبعض الباحثين تعيين هذا المجال المعرفي، الذي يُعنى بالتنظير لفن إنتاج المصطلح، ووسائل تخليقه، فإن الأدبيات العربية التراثية قد احتفت كثيرًا بأهميته، وإن تحت الصيغة الدّالية: اصطلاح، إذ لم تُستخدم لفظة: مصطلح إلا في التداول المعرفي المتأخر في الثقافة العربية[2]؛ الأمر الذي يعني تشديدًا عربيًّا مبكّرًا على مبدأ ديمقراطية صياغة المصطلح، وشرط تحقيق نسبة عالية من الإجماع عند إنتاجه لتسمية مفهومه. لقد أولت الثقافة العربية هذا الإجراء المعرفي (المصطلح) اهتمامًا واضحًا؛ إذ وصفه الخوارزمي بأنه "مفتاح العلوم"، ووُصف حديثًا بأنه "العتبة" لكل علم[3]. وقد أقام المهتمون العرب بالمعرفة تقديرهم لقيمة هذا الإجراء المعرفي على فهم وظيفي برغماتي؛ يعي دور المصطلح في تفعيل المعرفة في مجالها، وأهميته في تسهيل التفكير، والمساءلة الذهنية لقضايا أي علم من العلوم. يقول الشريف الجرجاني في كتابه التعريفات عن الاصطلاح إنه عبارة عن (اتفاق قوم على تسمية الشيء باسم ما ينقل عن موضعه الأول، وإخراج اللفظ من معنى لغوي إلى آخر، لمناسبة بينهما. وقيل: الاصطلاح لفظ معين بين قوم معينين.)[4]، وفي كتاب الكليات للكفوي، جاء تحديد الاصطلاح بوصفه: (اتفاق القوم على وضع الشيء، وقيل إخراج الشيء عن المعنى اللغوي إلى معنى آخر لبيان المراد.)[5]. وفي الأدبيات المتأخرة التي اهتمت بعلم المصطلح، فإن تحوّلا طفيفًا قد طرأ على النظر إلى دلالة هذا الدال "المصطلح"، وهو تحوّل يستجيب لضرورات التطور المعرفي، وضغط نمو المعارف الذي يحتّم مجاراة التحوّلات والتنوع الذين يفرضهما توالي المنجزات المعرفية. فقد تراجع الإصرار السابق، لدى المؤلفين العرب القدماء، على ضرورة توفّر علاقة بين معنيي الاصطلاح: اللغوي، والاصطلاحي، بمعنى أن الدال المصطلحي ينزاح، في حقيقة الأمر، عن معنى كان له في الاستعمال السابق، وهو ما يمثل الاختلاف في الدلالة بين ما تقدّمه المدونة المعجمية التي تقدّم معرفة لغوية، والمدوّنة المصطلحية التي تقدّم معرفية مفهومية، ترتبط بالمعرفة العامة في مجال أو حقل علمي وفكري محددين. يعرّف مصطفى الشهابي المصطلح بأنه لفظ اتفق العلماء على اتخاذه للتعبير عن معنى من المعاني العلمية[6]، فما هو إلا (رمز لغوي وضع بكيفية اعتباطية أو اتفاقية بين فئة من المختصين في حقل معين من حقول العلم والمعرفة لضرورة البحث)[7]، وقد يكون هذا الرمز مصطلحًا بسيطًا مؤلفًا من كلمة واحدة، أو مركبًا من أكثر من كلمة، مع الاحتفاظ دائمًا بشرط إحالته على مفهوم محددٍ بشكل دقيق[8]. لقد جرى، من خلال التحديدات السابقة، كما في غيرها عند كثير من الباحثين المحدثين الذين اهتموا بعلم المصطلح، تجاوز شرط الإلحاح على العلاقة بين الدلالتين المعجمية والمصطلحية، في فهم واقعي لطبيعة المصطلح الذي قد لا يكون منجزًا في إطار لغته الأصلية، ومؤصلًا فيها؛ بوصفه رمزًا قد جرى استنباته في تربة المعرفة، والمعرفة اللغوية الأصلية، وإنما من المصطلحات ما قد يكون وافدًا من معارف في لغات أخرى، عند تعريبها أو ترجمتها، يتعذر تحقيق شرط المجاورة بين الدلالتين المعجمية والمصطلحية؛ لذلك نرى اتفاقًا بين المهتمين بعلم المصطلح القدماء والمحدثين على ما هو ثابت في بنية إنجاز المصطلح، من ناحية الالتزام بشروط: الإجماع، ووحدة الحقل المعرفي، وكفاءة الدلالة المفهومية. في حين حصل اختلاف، أوجبته ضرورات التحوّل المعرفي، كما سبق وأبنّا، بين المصطلح المنجز داخليًّا، والآخر الموطّن في سياق ثقافة ما. ونستطيع أن نؤسس على الفرق بين التحديدين القديم والحديث للمصطلح، تمييزًا بين مرحلتين في تاريخ الحضارة والمعرفة العربية: مرحلة عُرفت بذاتية الإنتاج المعرفي، ومن ثم مطلق الحق في إطلاق المصطلحات لتعيين المفاهيم وتسميتها، مع قليل من المصطلحات الوافدة من الثقافات القديمة الفارسية واليونانية، وبدرجة أقل الهندية، وفي مجالات معرفية محددة كالفلسفة، ومرحلة أخرى لاحقة، تميّزت بوفرة المصطلح الوافد، والعابر للثقافات، والتي صارت فيها الثقافة العربية جهة مستقبلة، تشتغل على إعادة توطين المصطلح، وسبل تكييفه مع مواضعاتها. يحتفظ المصطلح النقدي بأغلب الصفات التي للمصطلح عمومًا، ولا يتميز عن الأخير إلا من خلال الحقل المعرفي، الذي يُكسِب المصطلح النقدي خصوصية مفهومية؛ ناجمة عن ارتباطه بالمعرفة الأدبية، أو مجال التفكير في الأدب نظريًّا وتحليليًّا، ولو سقنا تحديدًا سريعًا للمصطلح النقدي فإننا سنقول مع صاحبه يوسف وغليسي إنه (الرمز اللغوي (مفرد أو مركب) أحادي الدلالة، منزاح نسبيًا عن دلالته المعجمية الأولى، يعبّر عن مفهوم نقدي محدد وواضح، متفق عليه بين أهل هذا الحقل المعرفي.)[9]، ولا شيء يجعل هذا التحديد للمصطلح النقدي مختلفًا عن طبيعة التحديد الذي طال المصطلح مجرّدًا، إلا كونه قد تحيّن، من خلال حمولته المفهومية، في إطار مجال الدراسات الأدبية، مع ملاحظة أن الباحث قد سرّب إشارة في تحديده للمصطلح النقدي مفادها أنه منزاح نسبيًا عن دلالته المعجمية، وهو ما نعده سعيًا وراء الشمول الذي يريده الباحث لتحديده؛ ليستوعب المصطلح النقدي العربي القديم، الذي أنتج في إطار البيئة المعرفية العربية، وهو ما أسميناه (ذاتية الإنتاج)؛ إذ نجد كثيرًا من المصطلحات النقدية التي جاءت في كتابات النقّاد القدماء، ما كان مؤصّلاً في اللغة المعرفية العربية بامتياز؛ فاحتفظ المصطلح النقدي بالتجاور بين الدلالتين المعجمية والمصطلحية، بالنظر إلى ذاتية إنتاجه. وسيبتعد النقد العربي، والدراسات الأدبية العربية الحديثة، مسافات كبيرة عن هذه الإمكانية التي تحققت للنقد العربي القديم، من خلال الاعتماد الواضح على المصطلح النقدي الوافد من ثقافات أخرى، كما سيأتي عليه الحديث لاحقًا. حدّ المثاقفة: يقترب مصطلح " المثاقفة"، دلاليًّا، من مصطلح آخر يجد رواجا واضحا في الأدبيات الثقافية الإنسانية في العقود المتأخرة، وهو مصطلح" العولمة"؛ ونتيجة لهذه المجاورة الدلالية غدا من المفيد محاولة فكّ التقاطع بين مفهومي هذين المصطلحين؛ لنشيّد مقاربة معرفية تنسجم مع نريد طرحه في هذه الدراسة من جهة، ومن أجل تكوين تصور متماسك عن طبيعة الاختلاف بين من يشارك في إنتاج المعرفة إنسانيا، وبين من يستجيب فقط لمنجزات مركز معرفي مهيمن. يجد مصطلح العولمة Mondialisation أو Globalisation ذيوعا في الأدبيات الإنسانية عمومًا، والعربية على وجهة الخصوص، في العقدين الأخيرين، وقد جرت مقاربة مفهوم العولمة من منظور إجرائي يستجيب لما أنتجته العولمة وأوجدته من أوضاع إنسانية وقيم، مثّلت، من خلالها، مرحلة جديدة في تاريخ التعامل الإنساني مع المسائل الاقتصادية والتقنية؛ لذلك فهي ممارسة أو سلوك فرضته الحاجة الإنسانية، عند قطاعات محددة، وفي مجتمعات توافرت فيها صفات هيكلية داخلية وخارجية، إلى البحث عن تطوير وسائل جديدة، وأساليب متطوّرة، تُسجّل في تاريخ تطور التفكير الإنساني، وفي تاريخ ممارسته لأساليب العيش، وتحقيق تغييرٍ في الأوضاع والأحوال، يُغاير بها تمامًا مراحل سابقة في التاريخ الإنساني. فالعولمة مرحلة أخرى، وعهد جديد في سياق إبدال المراحل والعهود في تحقيب التاريخ الإنساني، وقد تم في هذه المرحلة تغليب النزعة الاقتصادية، والميل المُنتظر للأفراد والجماعات جهة تحصيل أوضاع أفضل على المستوى الاقتصادي، وأيضًا لتحصيل فائض لهذه الأوضاع: مكاسب، وثروات، وتوطين قيم جديدة، وتكريس نزعة التنافسية الحادة، والحرص على القبض على أسباب الفوز بأفضل النتائج من خلال الدفع باتجاه مواجهة (التحديات). كل ذلك أكسب مفهوم العولمة بعدًا اقتصاديًّا بامتياز، ودفع المحللين لهذه الظاهرة إلى تغليب البعد الاقتصادي، عند محاولة تقديم تصورٍ عن طبيعتها، وصياغة مفهومها، وكيفية إجراءاتها الواقعية. فالعولمة: (دمج النشاطات المنظمة عبر الحدود الجغرافية وهي حرية تصور وتصميم. وشراء وإنتاج وتوزيع وبيع منتجات وخدمات بشكّل توفّر من خلاله أقصى المنافع للشركة)[10] التي لم يعد يهمها من العالم سوى كونه (سوقا واحدة، ولكن مع مفارقة التعامل من خلال تجار ينتمون إلى ثقافات مختلفة)[11]. وصار التشديد على تحول العالم بتنوعه، واختلافه على مستويات متعددة: عرقية وحضارية، إلى فضاء مفتوح؛ يجب الاشتغال على كيفية استثمار إمكاناته؛ لتحقيق الربحية، وتجاوز الحدود الوطنية، والأطر الاقتصادية التقليدية، ومتابعة رأس المال، الذي صار الضابط لإيقاع الحركة، والموجّه لبوصلة تنقّل الأفراد والمؤسسات الاقتصادية والمالية[12]. وقد ضبطت اللجنة الأوروبية مفهوم العولمة من خلال الدلالة الاقتصادية المهيمنة عليه؛ فعرفت العولمة بوصفها (سياقًا يتزايد فيه التعالق والتداخل بين الأسواق والإنتاج لمختلف الدول تحت تأثير تبادل المنفعة والخدمة، وأيضًا التدفقات المالية والتقنية.)[13]. إن هيمنة المبدأ الاقتصادي، وغلبة النزعة المادية على مفهوم العولمة؛ حتى غدا هذا الملمح جوهره، ومكوّن ماهيته، أفضى إلى جعل الثقافة بمعناها الشامل حالة تتشكل، وتصاغ تحت تأثير تداعيات العمليات الاقتصادية المحرّكة للنشاط العولمي. لقد دفعت العولمة إلى أن تكون الثقافة: أدبًا، وفنًا، وفكرًا، وأزياء، وأنماط سلوك مجتمعي، قيمة تستجيب لتوجيه العولمة الاقتصادية؛ فانحسرت الخصوصيات الثقافية، وسادت إمكانية التقريب بين الأذواق؛ بفعل وسائل الاتصال الحديثة التي انتشرت وتطورت، تحت ضغط الاستجابة لضرورات العولمة ببعدها الاقتصادي المادي، وتضاءلت حالة الدهشة أمام الغريب والمختلف، الذي لم يعد كذلك، بعد أن حُرم كثيرًا من غموضه وسحره. ولم يعد العالم "المعولم" يملك، في الغالب، مناطق نائية وقصية تعود بنا إلى فكرة الجغرافيات والمجتمعات المعروفة والمتمدينة، والأخرى البكر أو الأقل تمدينًا. صحيح، أن ذلك لا يعني توازنًا في توزيع هذا الشعور بالانسجام والتقارب بين مكونات العالم؛ لأن العالم ما زال يحتفظ بالشرخ القائم بين القطب المالك لإمكانية إحداث الفارق، والقادر على تحقيق فائض مكتسبات العولمة؛ ومن ثم تسخيرها للإضافة والابتكار؛ بما يحفظ له حق الريادة، وموقع المركز، ونقصد هنا القطب الغربي بمكونه "الأوروأمريكي"، الذي يقابله قطبان: قطب يواكب، وآخر يواكب ببطء، وأحيانًا كثيرة ببطء شديد. وقد أفضى كل ذلك إلى إيجاد مناطق في العالم تستكين لسلوك الاستجابة والتلقي، وانتظار منجزات القطب القادر، الذي استطاع تحريك التاريخ بكيفية تكفل له تكريس مساحة شاسعة تفصله عن المناطق المجتمعية الأخرى، وبالتالي، الاستمرار في الاحتفاظ بوضع أفضل اقتصاديًّا وثقافيًّا واجتماعيًا.(إن العولمة هي محاولة تسييد القوة بمفهومها الشامل، الاقتصادي والسياسي والتقني والإعلامي والثقافي.)[14]. يكتسب مصطلح "المثاقفة" Acculturation، من خلال بنيته اللغوية الصرفية، دلالة المشاركة والتبادلية بين أطراف وجهات متعددة، وقد جرى تداوله كثيرا في الدراسات المقارنة التي تنطلق من فهم متوازن لطبيعة العلاقات بين الثقافات وومنجزات الشعوب؛ إذ يطرح هذا المصطلح مفهوم تبادل التأثير والتأثر، ولا يستوعب في دلالاته إشارة إلى فكرة المغالبة الحضارية، والتفوق؛ بما يشي بتثبيت فكرة العلاقات الثقافية القائمة على الأقطاب القادرة، والأخرى الأقل قدرة، وبالتالي، عليها أن تستكين لحتمية التلقي والمجارة. وقد أتينا بهذا المصطلح؛ لأنه يستقيم عنوانا لمرحلة مهمة من تاريخ النقد العربي، كان فيها هذا النقد ممتلكا للصفات التي تؤهله للمشاركة في تكوين المعرفة الإنسانية، ولتأمين الإمكانات اللازمة لتنشيط المعرفة الأدبية على مستوى الثقافة العربية الإسلامية. المصطلح النقدي والمنهج: لقد وقع التشديد، ونحن نوّصل للمصطلح، على أنه حاصل إجماع فئة من المتخصصين في مجال معرفي محدد؛ ليغدو هذا المصطلح وسيلتهم للتواصل العلمي بينهم، وعبره يتم تدوير المفهومات، ومن ثم تحريك الرؤى والأفكار باتجاه التطوير والبناء المنتج للمعرفة في هذا الحقل الخاص. وكون اللغة المصطلحية لغة خاصة، لم يتأت فقط من كونها خطاب في مجال معرفي محدد، ولكن لخصوصيتها بعدا آخر، يتمثل في علميتها، من جهة دقتها وتحديدها، وضرورة تعبيرها ونقلها الواضح للمفاهيم التي تنهض بمهمة الوفاء بإيصالها بين المتحاورين، وتمثل هذه المفاهيم حمولة هذه اللغة الخاصة، وجملة مضامينها. واستدعاؤنا لبعد علمية اللغة المصطلحية، واقترانها، بدرجة عالية، بشرط الإجماع العقلي والفكري، يُفضي إلى التأكيد على أن اللغة المصطلحية تأتي ترجمة عن تطور الفكر الإنساني، من ناحية ميله إلى الموضوعية، والتفكير التجريبي المعقلن؛ الأمر الذي يقود إلى الاتفاق على جملة دوال ومدلولات مصطلحية، يتم إنتاجها في سياق البحث المعرفي، والمساءلة الفكرية العقلية. فالمصطلح مرهون بمجاله المعرفي، وهذا طبيعي؛ لأنه يتم إنتاجه في إطار هذا المجال، وباتفاق المشتغلين فيه. ويقود هذا التحديد إلى الحديث عن معجم للمصطلحات في علم النفس، وآخر في القانون، وهكذا تتنوع معاجم المصطلحات بتنوع الحقول المعرفية التي تتنوع عمومًا بين إنسانية وتجريبية، وداخل هذا التنوع، تتفرع إلى حقول نوعية أكثر تحديدًا، وتصبح اللغة المصطلحية لغة موضوعية، تفارق اللغة العامة التي تتنزل في مدوّنات اللغة، وهي المعاجم. إذا جئنا نقترب أكثر من حقل النقد الأدبي، بوصفه أحد فروع علم الأدب، والذي تتأسس طبيعته على مساءلة الظاهرة الأدبية: نصًا أو قضية، فإننا سنرصد أن النقد الأدبي عمومًا بما فيه النقد العربي، قد عرف مصطلحًا نقديًّا يرتبط أساسًا بالمنهج النقدي المُعتمد في المساءلة أو المقاربة الأدبية. ونخص بالحديث بطبيعة الحال، النقد الموضوعي الذي يمنح النقد الأدبي إمكانية أن يكون نشاطًا معرفيًا مستقلًا، له مسائله وانشغالاته الفكرية التي يستقل بها، وبها يتميز، وعن طريقها استطاع التوافر على هُوية خاصة في إطار تاريخ المعرفة الإنسانية، بتنوع أنساقها. ويُلاحظ على المصطلح النقدي أنه مصطلح منهجي، بمعنى أن يرد مصاحبًا المنهج النقدي الذي يتم توظيفه في الممارسة النقدية. فإذا كان المنهج عمومًا (وسيلة محددة توصل إلى غاية معينة)[15]، وأن هذه الوسيلة ما هي إلا (جملة من الخطوات والقواعد والمبادئ التي تكون نظامه (المنهج) المفاهيمي)[16] فإن المنهج النقدي يعكس، كما أسلفنا، نية النقّاد في تقديم مقولات موضوعية، تُكسب النقد سمات العلم وخصائصه؛ وذلك اعتمادًا على النقد الأدبي المنهجي، والنقد الأدبي بالمقابل، وبخلاف كثير من الأنساق المعرفية الأخرى، يستخدم مصطلحًا منهجيًا، بمعنى أن جزءًا مهمًّا من اللغة المصطلحية النقدية جرى إنتاجها في حقول معرفية أخرى: تاريخية أو نفسية أو اجتماعية أو لسانية، وبما أن (بين المنهج والمصطلح علاقة قرابة وثيقة)[17]، وبما أن النقد الأدبي مجال معرفي يستثمر مناهج أنتجتها حقول معرفية أخرى؛ بسبب انفتاح النقد الأدبي، فإننا نلحظ أن كل منهج يأتي مصحوبًا بمصطلحه؛ فيستخدم الناقد الموظّف للمنهج النفسي منظومة مصطلحية جاءت في كتابات علماء النفس، والناقد الاجتماعي نلحظ في نقده حضورًا للمصطلح الاجتماعي والواقعي المرتبط بالتفكير المادي والمادي الجدلي، وكذا الحال مع الناقد اللساني، وكأننا بالنقد الأدبي وقد صار موطنًا لمصطلحات جاءت من مرجعيات معرفية مختلفة؛ الأمر الذي يجعل منه المجال المعرفي الكوزموبوليتي بامتياز. لقد ارتبط مبدأ موضوعية النقد وعلميته بالمنهج النقدي، أو النقد المنهجي، ولم يكن لهذا المطلب أن يتحقق إلا بواسطة الاستعانة بمناهج ترتبط بحقول معرفية أخرى، وكأن النقد، في علاقته بالظاهرة الأدبية، يعي خصوصية هذه الظاهرة، من جهة كون الأدب يتقاطع مع المكون الذاتي الوجداني في الإنسان المبدع والإنسان المتلقي، وقد تُفقد هذه الوضعية النقد إمكانية ممارسة موضوعية؛ إذا تُرك لوحده يواجه ظاهرة (الأدب)، من خلال علاقة مباشرة بين الناقد المحلل وضرورات تحليل الظاهرة التي تفرضها طبيعة هذه الظاهرة وكيفية تشكيل بنيتها؛ فكان من الناقد أن لجأ إلى معارف أخرى تتجاوز الأدب وتتقاطع معه في الوقت نفس؛ ليعتمد مناهج ترتبط مرجعيًا بهذه المعارف، وستفضي بالضرورة إلى اصطحاب مصطلحها معها. |
رد: المثاقفة والمصطلح النقدي العربي
|
الساعة الآن : 09:32 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour