ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=81)
-   -   مواعظ القرآن (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=260916)

ابوالوليد المسلم 20-06-2021 03:19 AM

مواعظ القرآن
 
مواعظ القرآن (1)


د. محمود بن أحمد الدوسري



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد:
كلُّنا - ولله الحمد والمنة – يقرأ القرآن، ولكن ما أقلَّ تدبُّرَنا لكتاب ربِّنا تبارك وتعالى، وأين أثر التدبُّر؟ وربُّنا القائل: ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]، فهل هناك أقفالٌ على قلوبنا تمنعنا من تدبُّر كتاب الله تعالى؟! عباد الله.. وإنَّ أعظم المواعظ هو التذكير بكلام الله تعالى القائل: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ق: 45].

قال الله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ﴾ [النبأ: 10]. امتنَّ الله تعالى على الناس؛ بأنْ جعل لهم الليل كاللباس؛ أي: ساتِراً يَستُر عن العيون؛ لأنه يغشاهم بسواده وظلامه؛ كما يُغَطِّي الثوبُ لابِسَه.

ووجه الامتنان - في جعلِ الليلِ لِباساً: أنَّ مَنْ أرادَ عبادةَ ربِّه حيث لا يراه أحدٌ من الناس فليَقُمْ من الليل يُصلِّي، فالليل يستُره عن عيون الناس. ومَنْ أراد هرباً من عدوٍ أو تَبييتاً لعدوٍ؛ فالليل يَصلُح فيه ذلك؛ كما قال سبحانه: ﴿ إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ ﴾ [القمر: 34]. ومَنْ أراد الراحةَ والسِّترَ على نفسه فيه؛ ففيه الراحةُ والسُّكون والسِّتر. ويندفع بالليل أذى التَّعب الجسماني، وأذى البشر.

في يوم القيامة يأتي الناسُ فُرادى: ﴿ وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ﴾ [مريم: 95]. ويأتون أيضاً جماعات: ﴿ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا ﴾ [النبأ: 18].

والظاهِرُ أنَّ إتيانهم أفواجاً إنما هو عند النَّفخ في الصور، وعند خروجهم من القبور؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ ﴾ [يس: 51]؛ وكما في قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ﴾ [المعارج: 43]؛ وقوله: ﴿ خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ ﴾ [القمر: 7].
وأمَّا مجيئهم فُرادى؛ فذلك عند لقاء الله تعالى للسؤال والحساب.


أخبر الله تعالى بأنَّ الجِبالَ العظيمةَ لها أحوال يوم القيامة: ﴿ وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا ﴾ [النبأ: 20]. والسَّراب: هو الشيء الذي يَنظُرُ إليه الرَّائي من بَعيدٍ فَيَحسَبُه ماءً، وليس هو بشيء، وكذلك تكون الجبال، فتُصبِحُ الجبالُ كالعِهن، وهو الصُّوف: ﴿ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ﴾ [القارعة: 5].

وتُزاح عن أماكنها: ﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً ﴾ [الكهف: 47]. وتُنْسَفُ نَسْفاً: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلاَ أَمْتًا ﴾ [طه: 105-107].

وتَصِير كالهَباء: ﴿ وَبُسَّتْ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا ﴾ [الواقعة: 5-6]؛ بل يُخَيَّلُ إلى الرَّائي أنَّ هذا جبلٌ، ولكن ليس ثَمَّ جِبال: ﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ﴾ [النمل: 88].

هل يُكلِّمُ الله تعالى الكفارَ يوم القيامة؟ قال الله تعالى - في شأن الكفار: ﴿ أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 77]، فذَكَرَ اللهُ تعالى أنه لا يُكلِّمهم، وفي مَوطِنٍ آخَرَ كلَّمَهم اللهُ تعالى فقال لهم: ﴿ فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا ﴾ [النبأ: 30].

ويُجْمَع بين الأمرين؛ بأن يُقال: إنَّ قوله: ﴿ وَلاَ يُكَلِّمُهُمْ ﴾ محمولٌ على الكلام الذي ينفعهم، بمعنى لا يُكلِّمُهم كلاماً ينفعهم. وأنَّ مَواقِفَ القيامة تتعدَّد؛ فأحياناً يَحْدُثُ التكليم، وأحياناً يكون التكليم للتوبيخ والتأنيب، والتَّبشير بالعذاب.

نهى اللهُ عبادَه عن التنابُزِ بالألقاب فقال سبحانه: ﴿ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ ﴾ [الحجرات:11]. فكيف يُوصَفُ ابنُ أُمِّ مكتومٍ - رضي الله عنه بـ"الأعمى" في قوله تعالى: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى ﴾ [عبس: 1-2].

فيُقال: وُصِفَ بالأعمى للإشعار بِعُذرِه في الإقدام على قَطْعِ كلامِ الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لو كان يرى ما هو مُشْتَغِلٌ به مع صَناديدِ الكفَّار؛ لَمَا قَطَعَ كلامَه. والإنسانُ إذا اشْتُهِرَ بشيءٍ ولم يُعلَمْ من حاله أنه يَتَضايقُ من هذا الوصفِ الذي وُصِفَ به فلا حرج أنْ يُنادى بهذا الوصف، ولا يُعدُّ ذلك تَنَابُزاً بالألقاب، ودلَّ على ذلك أيضاً قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَكَمَا يَقُولُ "ذُو الْيَدَيْنِ"؟» رواه البخاري، لِرَجُلٍ كان في يديه طُولٌ.

وبَوَّبَ البخاري - رحمه الله - لِبَعْضِ طُرُقِ هذا الحديثِ في "كتاب الأدب" بقوله: باب مَا يَجُوزُ مِنْ ذِكْرِ النَّاسِ نَحْوَ قَوْلِهِمُ: "الطَّوِيلُ" وَ"الْقَصِيرُ". وقال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا يَقُولُ "ذُو الْيَدَيْنِ"». وَمَا لاَ يُرَادُ بِهِ شَيْنُ الرَّجُلِ.

قال ابن حجر - رحمه الله -: (هذه الترجمة مَعقودة؛ لبيان حُكْمِ الألقاب، وما لا يُعْجِبُ الرَّجلُ أنْ يُوصَفَ به مِمَّا هو فيه، وحاصِلُه: أنَّ اللَّقبَ إنْ كان مِمَّا يُعْجِبُ المُلَقَّب، ولا إِطراءَ فيه مِمَّا يَدخُلُ في نهي الشَّرْع فهو جائِزٌ أو مُسْتَحب، وإنْ كان مِمَّا لا يُعجِبُه فهو حرامٌ أو مكروه، إلاَّ إنْ تَعَيَّنَ طريقاً إلى التَّعريفِ به، حيثُ يَشْتَهِرُ به ولا يَتَميَّزُ عن غيرِه إلاَّ بِذِكره، ومن ثَمَّ أكثَرَ الرُّواةُ من ذِكْرِ "الأعمش" و"الأعرج" ونحوِهما...، وإلى ما ذهَبَ إليه البخاريُّ من التَّفصيل في ذلك ذهَبَ الجمهور).

قال الله تعالى - في خَلْقِ الإنسان: ﴿ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ﴾ [عبس: 19-20]؛ وقال في خَلْقِ النَّبات: ﴿ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ﴾ [عبس: 25-27].

فمِنْ أوجه التَّطابقِ بين خَلْقِ الإنسان وخَلْقِ النبات: أنَّ قَذْفَ المَنيِّ في الرَّحِم في قوله: ﴿ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ ﴾؛ يُطابِقُ صَبَّ الماءِ من السماء إلى الأرض في قوله: ﴿ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ﴾. وتَيسيرُ سبيلِ الخروجِ له من بطنِ أُمَّه في قوله: ﴿ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ﴾؛ يُطابِقُ خُروجَ النَّباتِ من الأرض في قوله: ﴿ ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا ﴾. وتقديرُ خَلْقِ الإنسان وكتابةُ أجلِه ورِزقِه وعملِه وشَقِيٍّ أو سعيدٍ وكذلك تقديرُه ذكراً أو أُنثى، وتقديرُ النُّطفةِ هل هي مُخلَّقَةٌ أو غيرُ مُخلَّقة؛ يُطابِقُ أصنافَ الطعامِ التي نَبَتَتْ من الأرض في قوله: ﴿ فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً ﴾ إلى آخِرِ الآيات.

الخطبة الثانية
الحمد لله... عباد الله..
قال اللهُ تعالى في - مَشْهَدٍ من مَشاهدِ يوم القيامة: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ﴾ [التكوير: 1-3]؛ وقال أيضاً: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ﴾ [الانفطار: 1-4].

روى الطبري - بإسنادٍ حسن - عن أُبَيِّ بن كعبٍ - رضي الله عنه - قال: (سِتُّ آيَاتٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ: بَيْنَا النَّاسُ فِي أَسْوَاقِهِمْ، إِذْ ذَهَبَ ضَوْءُ الشَّمْسِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ تَنَاثَرَتِ النُّجُومُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ وَقَعَتِ الْجِبَالُ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، فَتَحَرَّكَتْ وَاضْطَرَبَتْ وَاحْتَرَقَتْ، وَفَزِعَتِ الْجِنُّ إِلَى الإِنْسِ، وَالإِنْسُ إِلَى الْجِنِّ، وَاخْتَلَطَتِ الدَّوَابُّ وَالطَّيْرُ وَالْوَحْشُ، وَمَاجُوا بَعْضُهُمْ فِي بَعْضِ ﴿ وَإِذَا الْوحُوشُ حُشِرَتْ ﴾. قَالَ: اخْتَلَطَتْ ﴿ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ﴾. قَالَ: أَهْمَلَهَا أَهْلُهَا ﴿ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ﴾. قَالَ: قَالَتِ الْجِنُّ لِلإِنْسُ: نَحْنُ نَأْتِيكُمْ بِالْخَبَرِ؛ قَالَ: فَانْطَلَقُوا إِلَى الْبِحَارِ، فَإِذَا هِيَ نَارٌ تَأَجَّجُ؛ قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ تَصَدَّعَتِ الأَرْضُ صَدْعَةً وَاحِدَةً، إِلَى الأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى، وَإِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ الْعُلْيَا؛ قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرِّيحُ فَأَمَاتَتْهُمْ).

وقال ابنُ القيم - رحمه الله - في حِكْمَةِ اللهِ في هَدْمِ هذه "الحياة الدنيا": (قرأَ قارِئٌ: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ﴾ وفي الحاضِرِينَ "أبو الوفاء ابنُ عقيل"، فقال له قائلٌ: يا سيِّدي، هَبْ أنه أنْشَرَ الموتى للبعث والحساب، وزَوَّجَ النفوسَ بِقُرَنائِها بالثَّوابِ والعقاب؛ فَلِمَ هَدَمَ الأبنيةَ وسَيَّرَ الجِبالَ، ودَكَّ الأرض، وفَطَرَ السَّماءَ، ونَثَرَ النُّجومَ، وكَوَّرَ الشَّمس؟

فقال: إنما بَنَى لهم الدارَ لِلسُّكنى والتَّمتُّع، وجَعَلَها وجَعَلَ ما فيها للاعتبار والتَّفكرِ والاستدلالِ عليه بِحُسْنِ التأمُّلِ والتَّذكُّر؛ فلمَّا انقضت مُدَّةُ السُّكنى وأجْلاَهم من الدار خَرَّبَها لانتقالِ السَّاكن منها. فأراد أنْ يُعلِمَهم بأنَّ الكَونَ كان مَعْموراً بهم. وفيه: إحالةُ الأحوالِ، وإظهارُ تلك الأهوالِ، وبيانُ المَقْدِرَةِ بعد بَيانِ العِزَّةِ، وتَكذِيبٌ لأهلِ الإلحادِ، وزنادِقَةِ المُنَجِّمين، وعُبَّادِ الكواكبِ والشمسِ والقمرِ والأوثان، فيَعْلَمُ الذين كفروا أنهم كانوا كاذِبين، فإذا رأَوا آلِهتَهم قد انْهَدَمَتْ، وأنَّ مَعْبوداتِهم قد انتَثَرتْ وانْفَطَرتْ، ومَحالَّها قد تَشَقَّقَتْ؛ ظهرتَ فضائِحُهم، وتَبَيَّنَ كَذِبُهم، وظَهَرَ أنَّ العالَمَ مَربوبٌ مُحْدَثٌ مُدَبَّر، له ربٌّ يُصَرِّفُه كيف يشاء، تكذيباً لِمَلاحِدَةِ الفلاسفةِ القائلين بالقِدَم. فَكَمْ لله تعالى من حِمكةٍ في هَدْمِ هذه الدار، ودلالةٍ على عِظَمِ عِزَّتِه وقُدرتِه وسُلطانِه، وانفرادِه بالرُّبوبية، وانقيادِ المخلوقاتِ بأسْرِها لِقَهْرِه، وإذعانِها لِمَشِيئتِه، فتبارك اللهُّ ربُّ العالَمين).



ابوالوليد المسلم 20-06-2021 03:20 AM

رد: مواعظ القرآن
 
مواعظ القرآن (2)

د. محمود بن أحمد الدوسري


الحمد لله وكفى، وصلاة وسلام على عبادِه الذين اصطفى؛ أمَّا بعد:
فمِنْ أعظمِ المواعظ التذكيرُ بكلام الله تعالى القائل: ﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا ﴾ [مريم: 97]؛ وقال سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17]. وفي هذا التَّيسير تَبْصِرةٌ وحثٌّ للمسلمين ليزدادوا إقبالاً على مُدارسته. وسبب تيسيره: أنه نَزَلَ بأفصحِ اللُّغات وأبْيَنِها، وجاء على لسان أفضلِ الرسل صلى الله عليه وسلم. ومعنى تيسيره: يرجع إلى فهم السَّامع المعاني التي عناها المتكلِّمُ به، بدون كُلفةٍ على هذا السامع ولا إغلاق، كما يقولون: يدخلُ لِلأُذُنِ بِلا إِذنٍ. وهذا اليُسْرُ يشمل الألفاظَ والمعاني. فأمَّا الألفاظُ: لأنها في أعلى درجات فصاحة الكلمات وفصاحة التراكيب؛ بحيث يَخِفُّ حِفظُها على الألسنة. وأمَّا المعاني: فبِوُضوحِها ووفرتِها، وبِتوَلُّد مَعانٍ مِنْ مَعانٍ أُخَر كُلَّما كَرَّرَ المتدبِّرُ تدبُّرَه في فَهْمِها.

ومن معاني قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ﴾ أي: سهَّلناه للحِفظ، ولم يكن شيءٌ مِنْ كُتُبِ الله تعالى يُحفظ عن ظَهْرِ قلبٍ غير القرآن. وسهَّلناه للاتعاظ، حيث أتينا فيه بكلِّ حِكمة. وجعلناه يعلق بالقلوب ويُستلذ سماعُه، ولا يُسأم من سماعه وتدبُّره، بل كلُّ ساعة يزداد منه لذةً وعلماً. وتُستنبط منه معانٍ مُتجدِّدة باستمرار، وفي كلِّ عصر من العصور، فلا تجدْ فيه إخلالاً أو سوءَ فهمٍ لما سبق، فيكون مُتجدِّداً باستمرار، زاخرَ العطاءِ لا ينضب مَعِينُه، ولا تنقضي عجائِبُه. فإذا كان هذا التَّيسيرُ حقًّا لا ريبَ فيه، فأين الذَّاكرون؟ تلك هي المُشكِلة.

قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ﴾ [التكوير: 8، 9]. قال ابنُ كثيرٍ - رحمه الله: (هكذا قراءة الجمهور: ﴿ سُئِلَتْ ﴾. والموءودةُ: هي التي كان أهلُ الجاهلية يَدُسُّونها في التراب كراهيةَ البنات، فيومَ القيامةِ تَسأَلُ المَوءودةُ عن أيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ؛ لِيَكُون ذلك تهديداً لِقَاتِلِها، فإذا سُئِلَ المظلومُ فما ظَنُّ الظالمِ إذاً؟). فالموءودةُ تُسأل؛ لِتَبْكِيتِ قاتِلِها، وإظهارِ الغيظِ عليه، حتى كأنه لا يستحقُّ أنْ يُخاطَب، ولتوبيخِ قاتِلِها أشدَّ التوبيخ؛ كما وَرَدَ من تبكيتٍ للنصارى في قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [المائدة: 116]. وكما ورد أيضاً من تبكيتٍ للمشركين في قوله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ﴾ [سبأ: 40]. ومن العلماء مَنْ قرأها: ﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سَأَلَتْ ﴾ أي: سألَتْ قَتَلَتَها عن سبب قَتْلِهم لها، وطالَبتْ بِدَمِها.


قال اللهُ تعالى: ﴿ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ﴾ [التكوير: 10]. والمراد بالصُّحف: هي الكتب التي كُتِبَتْ فيها أعمالُ العباد، ونَشْرُها: فَتْحُها بعد أن كانت مطوية؛ كما قال تعالى: ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ﴾ [الكهف: 49]. وحِكمةُ نشرِها: تُقْرِيعُ العاصي، وتبشِيرُ الطَّائع.

يُخبر تعالى عن عظمة يوم القيامة وما فيه من الشِّدة والكُروب، ومُزعِجات القلوب: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ﴾ [الانفطار: 1] أي: تَشَقَّقَت، ومنه قوله تعالى: ﴿ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ﴾ [المُلك: 3]. فالسماء تَنْفطر لأمرِ الله تعالى، ولِهَيبَةِ الله عز وجل، وتَنْفطِرُ أيضاً لنزول الملائكة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً * الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ﴾ [الفرقان: 25، 26]. فالآياتُ الكريماتُ تتحدَّث عن هَول يوم القيامة، وما يكون فيه من الأمور العظيمة، فمنها انشقاقُ السماء وتَفَطُّرُها وانْفِراجُها بالغمام، ونزولُ ملائكة السماوات يومئذ، فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر، ثم يجيء الربُّ تبارك وتعالى لِفَصْلِ القضاء.

والشاهد: أنَّ الملائكة - على كثرتِهم وقُوَّتِهم - ينزلون مُحيطين بالخَلْق مُذعِنين لأمر ربِّهم، لا يتكلَّم منهم أحدٌ إلاَّ بإذنٍ من الله، فما ظَنُّكَ بالآدمي الضَّعيف، وخصوصاً الذي بارَزَ مَالِكَه بالعظائم، وأقدَمَ على مَساخِطه، ثم قَدِمَ عليه بذنوبٍ وخطايا لم يَتُبْ منها، فيَحْكُمُ فيه المَلِكُ الحقُّ بالحُكم الذي لا يجورُ ولا يَظلِمُ مِثقال ذَرَّة، ولهذا قال: ﴿ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا ﴾؛ لِصُعوبَتِه الشديدة، وتَعَسُّرِ أمورِه عليه، بخلاف المؤمنِ، فإنه يَسِيرٌ عليه، خفيف الحِمْل.

يقول تعالى - مُعاتِباً الإنسانَ المُقَصِّرَ في حَقِّ ربِّه، المُتَجَرِّئَ على مَساخِطِه: ﴿ يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾ [الانفطار: 6]، أتَهاوُناً مِنكَ في حقوقه؟ أم احتقاراً مِنكَ لعذابه؟ أم عدمَ إيمانٍ مِنكَ بِجَزائه؟ ما غرَّك يا ابنَ آدم! بربِّك العظيم، حتى أقدمْتَ على معصيتِه، وقابَلْتَه بما لا يليق؟

قيل: إنَّ الذي غَرَّه بربِّه الكريم؛ هو الشيطان، كما قال سبحانه: ﴿ وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [فاطر: 5]؛ ﴿ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [الحديد: 14]. وقيل: إنَّ الذي غَرَّه هي الأماني الباطلة؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ ﴾ [الحديد: 14]. وقيل: غرَّه جهلُه. وقيل: غره سِتُرُ اللهِ عليه، وعدمُ مُعاجَلَتِه بالعقوبة. وقيل: غرَّه عَفُوُ الله تعالى، وكَرَمُه.

الخطبة الثانية
الحمد لله... أيها المسلمون..
قال اللهُ تعالى: ﴿ أَلاَّ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المطففين: 4-6]. فالناس - عند قيامهم لربِّ العالمين - لهم أحوالٌ وأحوال؛ فمن ذلك: قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «﴿ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ» رواه البخاري. وقوله صلى الله عليه وسلم: «يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلاَثِ طَرَائِقَ: رَاغِبِينَ رَاهِبِينَ، وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَثَلاَثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَعَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَتَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ؛ تَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسَوْا» رواه مسلم. ومن ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: «إِنَّكُمْ مُلاَقُو اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً مُشَاةً غُرْلاً» رواه البخاري. ومن ذلك: أنَّ الكافرَ يُحشَر على وجهه، قال الله تعالى: ﴿ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ﴾ [الإسراء: 97]. فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه؛ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ؟ قَالَ: «أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيَا؛ قَادِرًا عَلَى أَنَّ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه البخاري. وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ» رواه البخاري.

قال الله تعالى: ﴿ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ﴾ [المطففين: 18]. و﴿ كَلاَّ ﴾ هنا - بمعنى: حَقًّا؛ أي: حقًّا إنَّ كتاب الأبرار - وهو الكتاب الذي كُتِبَتْ فيه أعمالُ الأبرار - لفي عِليِّين؛ أي: في السَّماء السابعة، ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ﴾ [المطففين: 19-21]. أي: يَشُهَدُ ذلك الكتابَ - الكتابَ الذي كُتِبَتْ فيه أعمالُ الأبرار - المُقرَّبون من ملائكةِ كُلِّ سماءٍ من السماوات السَّبع؛ كما قال شيخُ المُفسِّرين ابن جرير الطبري - رحمه الله.

ويُبَيِّن ما جاء مُجْمَلاً في هذه الآيات حديثُ البراءِ بنِ عازبٍ - رضي الله عنهما؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم - لَمَّا ذَكَرَ رُوحَ العبدِ المُؤمنِ - قال: «فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلاَ يَمُرُّونَ بِهَا، عَلَى مَلإٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ، إِلاَّ قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ» صحيح - رواه أحمد في "المسند".

إذاً؛ فنِعْمَ الكتابُ كتابُ الأبرار، الذي كُتِبتْ فيه أعمالُهم، وأُثبِتتْ فيه أقوالُهم، وكُتِبتُ فيه خُطاهم وآثارُهم، تُرى مَنْ يُباهي به؟ إنَّ ربَّ العِزَّةِ تبارك وتعالى وملائكتَه المُقرَّبين يُباهون به، فيشهَدُ المُقرَّبون هذا الكتابَ ويَطَّلِعون على ما فيه؛ فينظرون إلى ما فيه من صلاة وصيام وزكاة وحج، وآثارٍ للخُطى إلى المساجد، واتِّباعِ الجنائزِ، وصلةِ الأرحام، وعِيادةِ المرضى، ومجالِسِ العلمِ التي حَضَرَها العبدُ، ومَجالِسِ الذِّكرِ التي ذَكَرَ فيها ربَّه، وثوابِ الآياتِ وغيرِ ذلك من أعمال البِرِّ والخَيرِ... فما أجملَ العملَ الصالحَ، الذي يَرْضَى اللهُ تعالى عن صاحِبِه، وما أسْعَدَ العبدَ؛ إذا ماتَ مُوَحِّداً لله ربِّ العالمين، نسألُ اللهَ تعالى ألاَّ يحرِمَنا الأجرَ، وأنْ يَقْبَلَ كُتُبَنا في عِليين، وأن يُلْحِقَنا بالنَّبيين والصِّديقين والشُّهداءِ والصَّالحين.



ابوالوليد المسلم 20-06-2021 03:21 AM

رد: مواعظ القرآن
 
مواعظ القرآن (3)

د. محمود بن أحمد الدوسري

الحمد لله الذي هدانا لشهر رمضان، وشَرَعَ لنا فيه الصِّيامَ والقيام، والصلاةُ والسلام الأتمَّان على أتقى خَلْقِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه، وسَلَّمَ تسليماً كثيراُ، أمَّا بعد:

فمِنْ أهوالِ يوم القيامة: أنَّ الأرض تَتَخَلَّى عَمَّا في بَطْنِها من المعادنِ والناس، وفي ذلك يقول اللهُ تعالى: ﴿ وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ﴾ [الانشقاق: 3، 4]. فالأرض لَمَّا مُدَّتْ وبُسِطَتْ ألقتْ أثقالَها وما فيها من الموتى على ظهرها، وتَخلَّتْ عنهم، فألْقَتْ الأمواتَ الذين دُفِنوا فيها على ظهرها - ونحن سنكون منهم - كما قال تعالى: ﴿ يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ﴾ [ق: 44].

وتُلقِي أيضاً ما بِداخِلِها من المعادِنِ وغيرِها؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «تَقِيءُ الأَرْضُ أَفْلاَذَ كَبِدِهَا[1] أَمْثَالَ الأُسْطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَتَلْتُ[2]. وَيَجِيءُ الْقَاطِعُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِي. وَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قُطِعَتْ يَدِي. ثُمَّ يَدَعُونَهُ فَلاَ يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا» رواه مسلم. فقد تخَلَّت الأرضُ عنهم بعدَ أنْ كانت لهم كِفاتاً؛ أحياءً وأمواتاً، وبعدَ أنْ كانت لهم مِهاداً، لَفَظَتْهم وتَخلَّتْ عنهم، وهذا مما يزيد في رهبة الموقف وشدَّتِه والتَّضْييقِ على العباد، وأنْ لا مَلْجأ ولا منجى إلاَّ إلى الله تعالى، كما قال سبحانه: ﴿ كَلاَّ لاَ وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ ﴾ [القيامة: 11، 12]. أي: ليس هناك فرارٌ ينفع صاحِبَه، ولا شيء يلجأ إليه ويحمِيه من هذا الهولِ الذي حَضَر، سواء كان حِصْناً، أو جبلاً، أو مَعْقِلاً.

قال الله تعالى: ﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ * فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الانشقاق: 19]. أي: لتركَبُنَّ - أيها الناس - أحوالَ الشِّدَّة، حالاً بعد حال. يُقال: وَقَعَ فُلانٌ في بناتِ طَبَقٍ، أي: وَقَعَ في أمرٍ شديد. والمعنى: لَتَمُرَّنَّ بكَ - أيها الإنسانُ وأيها الناسُ - جُملةٌ أمورٍ وأحوال؛ وهي أطوارٌ مُتعدِّدة وأحوالٌ مُتباينة، من النُّطفة إلى العلقة، إلى المُضْغة، إلى نفخِ الروح، ثم يكون ولِيدًا وطِفلاً ثم مميزًا، ثم يجري عليه قلمُ التكليف، والأمر والنهي، ثم يموت بعد ذلك، ثم يُبعث ويُجازى بأعماله، فهذه الطبقات المختلفة الجارية على العبد، دالة على أنَّ الله وحده هو المعبود، الموحَّد، المُدبِّر لعباده بحكمته ورحمته، وأنَّ العبد فقير عاجز، تحت تدبير العزيز الرحيم، ومع هذا؛ فكثير من الناس لا يؤمنون!


وفي قراءةٍ صحيحة: ﴿ لَتَرْكَبَنَّ ﴾[3] بفتح الباء، على أنه خِطابٌ لمفرد، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لَتَرْكَبَنَّ - يا محمدُ - حالاً بعد حال؛ من حال فقرٍ إلى حال غنًى، ومن حال ضعفٍ إلى حال قوة وظَفَرٍ وغَلَبَةٍ على المشركين المكذِّبين بالبعث؛ كما قال سبحانه: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى * َوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ﴾ [الضحى: 6-8]. وقيل: لَتَرْكَبَنَّ سماءً بعد سماء، وقد فَعَلَ اللهُ تعالى ذلك به ليلةَ المعراج، وقد قال الله تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ﴾ [الملك: 3].

قال الله تعالى - في الفَرْقِ بين عذابِ جهنَّمَ، وعذابِ الحريق: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ [البروج: 10]. إنَّ عذابَ جهنَّمَ حلَّ بالكفَّار لكفرهم. وعذابَ الحريقِ حلَّ بهم لِتحْرِيقهم المؤمنين والمؤمنات، فهناك عذابان: للكفر، ولإيذاء العباد، جزاءً وفاقاً. كما قال سبحانه: ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ﴾ [النحل: 88]. فعذابٌ للكفار، وعذابٌ للصَّد عن سبيل الله. وكما قال سبحانه: ﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾ [العنكبوت: 13].

قال الله تعالى - مُخاطِباً نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ﴾ [البروج: 17-19]. والمراد بالجنود: هم فرعونُ وجنودُه، وقومُ صالحٍ المعروفون. والمراد بحديثهم: ما وَقَعَ منهم من كُفرٍ وعنادٍ وضلالٍ وظُلم، وما وقع بهم من العذاب والنَّكال. والمقصود من الآيات: ألاَّ يَظُنُّ ظانٌّ أنَّ هؤلاء الكفار - كفَّارُ مكة - لم يأتهم حديثُ الجنود، وما أحَلَّه الله بهؤلاء الجنود من العذاب، وما أنزل بهم من النكال؛ بل قد جاءتهم أخبارُ الجنود، وغيرِ الجنود أيضاً، كما قال سبحانه: ﴿ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [الصافات: 137، 138]. والمعنى: وإنكم - يا أهلَ مكةَ - لَتَمُرُّون في أسفاركم على منازِلِ قوم لوطٍ وآثارِهم وقتَ الصباح، وَتَمُرُّون عليها ليلاً. أفلا تعقلون، فتخافوا أنْ يُصيبَكم مِثْلُ ما أصابهم؟ وكما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ [الحِجر: 79]. أي: وإنَّ مَساكِنَ قومِ لوطٍ وشعيبٍ لَفِي طريقٍ واضحٍ، يمرُّ بهما الناسُ في سفرهم فيعتبرون.

فقد جاءت هذه الأخبارُ وبَلَغتْ الذين كفروا، ولكنهم مع ذلك كلِّه في تكذيبٍ مُستمر، وعِنادٍ دائم، ومُخالفةٍ ظاهرة، كما قال سبحانه: ﴿ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ ﴾ [الانشقاق: 22]؛ وقوله تعالى: ﴿ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ﴾ [ص: 2]. فهذا شأنُهم وذاك ديدنُهم منذ زمنٍ بعيد. وفيه تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فإنْ كُنْتَ - يا محمد - قد كُذِّبْتَ من هؤلاء الكفار؛ فهذا شأنُ الكفَّارِ مع غيرِك أيضاً، فهم في تكذيبٍ دائمٍ للرسل ﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ﴾ [الأنعام: 34]. فالأمرُ الذي يَلْزَمُكَ إذاً؛ أنْ تصبِرَ كما صبر أولو العزمِ من الرسل.

الخطبة الثانية
الحمدُ لله... عبادَ الله.. قال الله تعالى: ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ﴾ [الأعلى: 6]. من إعجاز هذه الآية؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان رجلاً أُمِّياً لا يقرأ، ولا يكتب؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ﴾ [العنكبوت: 48]. وبَيَّنَ هذه الأُميَّةَ في قوله سبحانه: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ ﴾ [الأعراف: 157]، ومع ذلك حَفِظَ القرآنَ كلَّه عن ظهرِ قلبٍ، فلا ريب أنه أمر خارِقٌ للعادة، فيكون ذلك مُعجِزاً. والله تعالى أخبرَ في هذه السورة - سورة الأعلى - وهي من أوائل ما نزل بمكة؛ أخبرَ فيها أنه سَيُقرِئُه القرآنَ ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ﴾ أي: سنحفظ ما أوحينا إليك من الكتاب، ونوعيه قلبَك، فلا تنسى منه شيئًا، وهذه بِشارةٌ كبيرة من الله تعالى للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّ اللهَ سبحانه سيعلمه علمًا لا ينساه. فَوَجْهُ الإعجازِ من الآية؛ أنه إخبارٌ بالغيب، فوقَعَ كما أُخُبِر به.

لكن بالنسبة لنا - أيها الأحبة - فإنَّ من أهم الأسباب المُعينة لنا على حِفْظِ القرآن وعدمِ نسيانه: تعاهدُ القرآن ومداومةُ قراءتِه ومُراجعتِه؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ؛ إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ» رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: «وإِذَا قَامَ صَاحِبُ الْقُرْآنِ فَقَرَأَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ذَكَرَهُ وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ نَسِيَهُ». وقال أيضاً: «تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنَ الإِبِلِ فِي عُقُلِهَا» رواه البخاري.

ومن أسباب حِفظِ القرآن: التَّخفُّفُ من الذنوب والمعاصي؛ فإنَّ الذنوب والمعاصي تُزِيلُ النِّعَم، وحِفظُ كتابِ الله من أعظمِ النِّعم، وضَياعُه وذَهابُه مُصيبةٌ من المصائب الكُبرى، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]، ومن ذلك: طَلَبُ الثباتِ من الله؛ فهو سبحانه قادر على إذهابه بعد حِفظِه؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً ﴾ [الإسراء: 86].

قال الله تعالى: ﴿ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى ﴾ [الأعلى: 9، 10]. هذه الآية تتعلَّق بالنُّصح والوَعظ؛ فذكِّرْ - أيها الداعيةُ؛ أيها الواعِظُ - ما دامَت الذِّكرى مقبولةً، والموعظةُ مسموعة، سواء حَصَلَ من الذِّكرى جميعُ المقصود أو بعضُه. فإنْ ترجَّح لدى الناصح أنهم ينتفعون بالذِّكرى؛ فهؤلاء يُذَكَّرون؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55]؛ لأنَّ ما معهم من الإيمان والخشية والإنابة، واتِّباعِ رِضوان الله، يُوجِبُ لهم أنْ تنفعَ فيهم الذِّكرى، وتقعَ الموعظةُ منهم موقِعَها. وأمَّا إنْ ترجَّحَ للناصِحِ عدمُ الانتفاع بالذِّكرى؛ كمَنْ بُيِّنَ له مِراراً وتكراراً، فما وُجِدَ منه إلاَّ السُّخريةُ والاستهزاءُ من الدِّين، ومُحاربةُ أهلِه، ومُحاربةُ الواعِظين، وليس له معه إيمانٌ، ولا استعدادٌ لِقَبول التَّذكير، فهذا لا نَفْعَ في تذكيرِه، فهو بمنزلة الأرض السَّبِخَة، التي لا يُفيدها المطرُ شيئًا، وهؤلاء الصِّنف، هم المَذْكورون في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ﴾ [يونس: 96، 97]. وهذا الذي جعل موسى - عليه السلام - يدعو ربَّه قائلاً: ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ﴾ [يونس: 88].


[1] (تَقِيءُ الأَرْضُ أَفْلاَذَ كَبِدِهَا): أي: تُخْرِج كُنوزَها المَدْفونة فيها. والأفْلاذُ: جَمْع فِلَذٍ. والفِلَذُ: جمع فِلْذَة وهي القطعة المقطوعة طُولاً. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (3 /914).

[2] (فِي هَذَا قَتَلْتُ): أي: من أجل هذا وبسببه. انظر: شرح النووي على مسلم (7 /98).

[3] ﴿ لَتَرْكَبَنَّ ﴾ بفتح الباء، وهي قراءة ابن كثيرٍ، وحمزة، والكسائي. انظر: تفسير الطبري، (24 /256).





ابوالوليد المسلم 20-06-2021 03:21 AM

رد: مواعظ القرآن
 
مواعظ القرآن (4)


د. محمود بن أحمد الدوسري



الحمد لله وكفى، وصلاةٌ وسلامٌ على عبادِه الذين اصطفى؛ أمَّا بعد:
فإنَّ الذي يخشعُ لله تعالى، ويَخْضَعُ له، ويُذِلُّ نفسَه لخالِقِه في دُنياه يُؤَمِّنُه اللهُ تعالى في أُخراه، والذي لا يخشع لله تعالى ولا يركع ولا يسجد يكون ذَلِيلاً في أُخراه، ويكون هناك خشوعُه رغْماً عنه، قال الله تعالى: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ﴾ [الغاشية: 1، 2]. فَوُجوه أهلِ الكفرِ والضَّلال تكون ذليلةً يوم القيامة، خاشعةً خشوعاً اضطرارياً؛ من الذل والفضيحة والخزي.

قال الله تعالى - واصِفاً طعامَ أهلِ النار: ﴿ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ ﴾ [الغاشية: 6]. والضَّرِيع: نباتٌ ذو شَوك، يقال له: الشِّبْرِق، وهو سُمٌّ من السُّموم، وهو طعامٌ من شرِّ وأخْبَثِ أنواعِ الطعام، فإذا يَبِسَ قِيلَ له الضَّرِيع. وقال تعالى - في مَوضِعٍ آخَرَ: ﴿ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ ﴾ [الحاقة: 35، 36]. والغِسْلين: هو صَدِيدُ أهل النار.

وهذا يدل على أنَّ النار دَرَكاتٌ؛ فمِنْ أهلها قومٌ ليس لهم طعام إلاَّ من ضَرِيع، وقومٌ آخَرِون ليس لهم طعام إلاَّ من غِسلين. والقولُ في الطعام، كالقول في الشراب؛ فمنهم مَنْ شرابُه الحَمِيم، ومنهم مَنْ شرابُه الصَّدِيد.

والسؤال هنا: كيف ينبتُ "الضَّرِيعُ" في النار؟ فيقال: إنَّ الله تعالى على كل شيء قدير، وهو الذي خَلَقَ النارَ، وهو قادر على أنْ يجعلَها لا تأكل الضَّريع؛ كما قال لها: ﴿ يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69]، فهو سبحانه قادر على أنْ يجعلَها تحرق الكفارَ، ولا تحرق الضَّريع. واللهُ تعالى يخلق ما يشاء، ويفعل ما يُريد، لا مُعَقِّب لِحُكمِه، ولا رادَّ لِقضائه تبارك وتعالى.

وهذا الاعتراض؛ كاعتراض كفَّار قريشٍ، إذْ تَعَجَّبوا من قوله تعالى: ﴿ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ﴾ [الصافات: 62]، فبيَّن اللهُ تعالى أنَّ هذه الشجرةَ جعلَها فِتنةً لهم، فقال سبحانه: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ﴾ [أي: في قَعْرِ النار] ﴿ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ﴾ [الصافات: 63-65]. فهذا تَبْشِيعٌ لها وتَكرِيهٌ لذِكرِها. قال قتادة - رحمه الله: (ذُكِرَتْ شجرةُ الزقوم، فافْتُتِنَ بها أهلُ الضلالة، وقالوا: صاحِبُكم ينبئكم أنَّ في النار شجرةً، والنارُ تأكل الشجر! فأنزل الله عز وجل: ﴿ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ﴾ غُذِّيَتْ من النار، ومنها خُلِقَتْ). وقال مجاهد - رحمه الله -: (﴿ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ﴾ قال أبو جهل - لعنه الله: إنما الزقومُ التَّمْرُ والزُّبْدُ أتَزَقَّمُه).


وكما قال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 60]. عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: (هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ، ﴿ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ ﴾: هي شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) رواه البخاري.

قال ابن كثيرٍ - رحمه الله: (إنَّ ناسًا رَجَعوا عن دينهم بعدما كانوا على الحق؛ لأنه لم تحتملْ قلوبُهم وعقولُهم ذلك، فكَذَّبوا بما لم يُحيطوا بِعِلمه، وجَعَلَ اللهُ ذلك ثباتًا ويقينًا لآخَرِين؛ ولهذا قال: ﴿ إِلاَّ فِتْنَةً ﴾ أي: اختبارًا وامتحانًا. وأمَّا "الشجرةُ الملعونةُ": فهي شجرةُ الزقوم؛ كما أخبرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الجنةَ والنار، ورأى شجرةَ الزقوم، فكذَّبُوا بذلك، حتى قال أبو جهلٍ - لعنه الله: هاتوا لنا تَمْرًا وزُبْدًا، وجعلَ يأكُلُ هذا بهذا، ويقول: تَزَقَّموا، فلا نَعْلَمُ الزقومَ غيرَ هذا).

قال الله تعالى: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ﴾ [الغاشية: 1]. والمقصود بالغاشية: هي القيامة؛ لأنها تغشى الناسَ بالأهوال. وقيل: هي النار؛ لأنها تغشى وُجوهَ الناس؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ﴾ [إبراهيم: 50] أي: تُغَطِّي وجُوهَهم بِلَفْحِها ولَهِيبِها؛ كما قال تعالى: ﴿ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ﴾ [الأعراف: 41]. واختار ابنُ جرير الطبري - رحمه الله - التَعمِيمَ. أي: أنَّ النارَ والقيامةَ كِلاهُما غاشيةٌ. فقال - رحمه الله: (وَكِلْتَاهما غاشية؛ هذه تَغْشَى الناسَ بالبلاءِ والأهوالِ والكُروب، وهذه تَغْشَى الكفارَ باللَّفْحِ في الوُجوه).

أيها الإخوة الكرام.. وهناك توجيهٌ آخَرُ لأهل العلم - في الغاشية: نَعَمْ هي عامَّة، ولكن على الناس جميعاً، فتغشى أقواماً بالعذاب، وتغشى أقواماً بالرحمة. وهم المؤمنون الذين قال اللهُ فيهم: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ ﴾ [الغاشية: 8]. ولم يُعطف بالواو؛ لاخْتِلافِ مَضْمُونيهما. و﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾: هو يومُ الغاشيةِ المُتقدِّم، وهذا يقتضي أنَّ الغاشيةَ عامَّةٌ في الفريقين. فمنهم مَنْ تغشاه بِهَولِها - وهم الكفار الذين غَشِيَهم العذابُ حِسًّا ومَعنى ظاهراً وباطنا. ومنهم مَنْ تغشاه بنعيمِها - وهم المؤمنون الذين تَغْشاهم النِّعْمَةُ والنَّعيم، كما غَشِيتْ أولئك النِّقمة.

فالغاشية تُطلق على الخير، كما تُطلق على الشر، وهي بمعنى: الشُّمول والإحاطة التامة. ومن إطلاقها على الخير؛ ما جاء في قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَقْعُدُ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ حَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ» رواه مسلم.

قال الله تعالى: ﴿ أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾ [الغاشية: 17]. والاستفهام هنا للتوبيخ والتَّقريع؛ لأنهم أنكروا البعثَ، واستبعدوا وقوعَه، والمعنى: أفلا ينظرون إلى الإبل - التي هي غالِبُ مواشِيهِم، وأكثرُ ما يُشاهدونه من المخلوقات - كيف خُلِقَتْ خَلْقاً مَعْدُولاً به عن سائر أنواع الحيوانات، على ما هي عليه من الخَلْقِ البديع؛ من عِظَمِ جُثَّتِها، ومَزِيدِ قُوَّتِها، وبَدِيعِ أوصافِها.

الخطبة الثانية
الحمد لله... أيها المسلمون.. قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4]. وهذا الكَبَدُ هو العَنَاءُ والمَشَقَّةُ والجَهْدُ والتَّعبُ والنَّصَب، من قولهم: كابَدَ فُلانٌ الأُمورَ، وقال بهذا أكثرُ أهل العلم، وقد لَخَّصَ ذلك القرطبيُّ - رحمه الله - فقال: (قال علماؤنا: أوَّلُ ما يُكابِدُ قَطْعَ سُرَّتِه، ثم إذا قُمِطَ قِماطاً وشُدَّ رِباطاً؛ يُكابِدُ الضِّيقَ والتَّعَب، ثم يُكابِدُ الارتضاع، ولو فاته لَضَاع، ثم يُكابد نَبْتَ أسنانِه، وتَحَرُّكَ لِسانِه، ثم يُكابد الفِطامَ، الذي هو أشدُّ من اللَّطام، ثم يُكابد الخِتانَ والأوجاعَ والأحزان، ثم يُكابد المُعلِّمَ وصَولَتَه، والمُؤدِّبَ وسِياسَتَه، والأستاذَ وهَيبَتَه، ثم يُكابد شُغْلَ التَّزويج والتَّعجيلِ فيه، ثم يُكابد شُغْلَ الأولادِ والخَدَم، ثم يُكابد شُغل الدُّورِ، وبِناءَ القصور، ثم الكِبَرَ والهَرَم، وضَعْفَ الرُّكبة والقَدم، في مَصائِبَ يكثُرُ تِعدادُها، ونوائِبَ يَطول إِيرادُها؛ من صُداعِ الرأسِ ووَجَعِ الأضراس، ورَمَدِ العين، وغَمِّ الدَّين، ووَجَعِ السِّنِّ، وأَلَمِ الأُذن، ويُكابد مِحَناً في المال والنفس؛ مِثْلُ الضَّرْبِ والحَبْسِ، ولا يَمْضي عليه يومٌ إلاَّ يُقاسي فيه شِدَّة، ولا يُكابد إلاَّ مَشقَّةً، ثم الموتُ بعد ذلك كلِّه، ثم مُساءلةُ المَلَكِ، وضَغْطَةُ القَبْر وظُلمَتُه، ثم البَعْثُ والعَرْضُ على الله تعالى، إلى أنْ يَسْتَقِرَّ به القرارُ إمَّا في الجنة وإمَّا في النار، قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ فلو كان الأمرُ إليه؛ لَمَا اختارَ هذه الشدائِدَ، ودَلَّ هذا على أنَّ له خالِقاً دَبَّرَه، وقضى عليه بهذه الأحوال فَلْيَمتثِلْ أمْرَه).

عبادَ الله..
ما صَغَّرَ النَّفْسَ مِثلُ المعصية، ورَفَعَها وشَرَّفها مِثلُ طاعَةِ الله؛ قال تعالى - عن النفس: ﴿ وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 10]. وأصْلُ التَّدْسِيَة: الإخفاء، ومنه قوله تعالى: ﴿ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ﴾ [النحل: 59]، فالعاصِي يَدُسُّ نفسَه بالمعصية، ويُخْفِي مكانَها، ويتوارى من الخَلْق من سوءِ ما يأتي به، قد انْقَمَعَ عند نفسِه، وانقمعَ عند الله، وانقمعَ عند الخَلْق، فالطاعةُ والبِرُّ تُكْبِرُ النفسَ وتُعِزِّها وتُعليها حتى تصيرَ أشرفَ شيءٍ وأكبَرَه وأزكاه وأعلاه، ومع ذلك فهي أذلُّ شيءٍ وأحْقَرُه وأصغَرُه لله تعالى. وبهذا الذُّل لله تعالى؛ حصل لها العِزُّ والشَّرف، فما صَغَّرَ النفسَ مِثْلُ معصيةِ الله، وكَبَّرَها وشرَّفها ورفعَها مِثْلُ طاعةِ الله.

قال الله تعالى: ﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾ [الضحى: 5]؛ إنَّ عطاءَ اللهِ تعالى لنبيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم كثيرٌ ومُتنوِّع، ومن ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ» رواه البخاري ومسلم. ومن ذلك: القرآنُ والسَّبعُ المثاني، وهي الفاتحة، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾ [الحجر: 87]. ومن ذلك: نهرُ الكوثر، قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ [الكوثر: 1]. قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟». فَقُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه مسلم. ومن ذلك: شهادةُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم على أُمَّته، وشهادةُ أُمَّته على سائر الأُمم، قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]. ومن ذلك كونُه صلى الله عليه وسلم جُعِلَ سَيِّدَ ولدِ آدم. ومن ذلك: المقامُ المحمود، والحوضُ المَوْرُود. نسألُ اللهَ تعالى أنْ نَشْرَبَ منه شَرْبَةً هَنِيئةً لا نَظْمَأ بعدها أبداً.


الساعة الآن : 01:59 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 52.27 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 52.05 كيلو بايت... تم توفير 0.22 كيلو بايت...بمعدل (0.42%)]