ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=81)
-   -   كيف نحيي الأمل في حياتنا؟ (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=237333)

ابوالوليد المسلم 29-07-2020 02:40 AM

كيف نحيي الأمل في حياتنا؟
 
كيف نحيي الأمل في حياتنا؟ (1)


الرهواني محمد





(الدرس الأول)




الخطبة الأولى

إنّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعِينه ونستَغفِره ونتوب إليه، ونعوذُ باللهِ مِن شرور أنفسِنا ومِن سيِّئات أعمالِنا، مَن يهدِه الله فلاَ مضِلَّ له، ومَن يضلِل فلاَ هادِيَ له، وأشهَد أن لاَ إلهَ إلاّ الله وَحدَه لاَ شريكَ لَه، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، فاللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه.



﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].



﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].



معاشر الصالحين والصالحات:

من الواجب في هذا الزمن الذي توالى فيه على الناس اليأس والضعف والانتكاس، أن نُذكِّر ونُعرف بصفة من صفات أهل التوكل واليقين، وخصلة من خصال أهل الإيمان، هذه الخصلة التي ذهبت من نفوس الناس أفرادا وجماعات فلم يعد لها مقام في مجالس كثير منهم، ولا في منتدياتهم، بل ولا حتى في حديث النفس عند كثير منهم، مما أسهم في إماتة الشعور المُشرق في نفوسهم، وإطفاء شعلة العمل عندهم.



هذه الخصلة هي الأمل، وهذا هو موضوع خطبة هذه الجمعة، ومع الدرس الأول: "كيف نحيي الأمل".



كيف نحيي الأمل في نفوسنا في بيوتنا مع أولادنا مع أهلينا في حياتنا كأفراد وجماعات، كل من مكانته كل من موقعه كل حسب استطاعته لكي يحيى الأمل في سائر الأمة.



فالناس اليوم بحاجة إلى مَن يوقد في نفوسهم شعلة الأمل، وليس ذلك فحسب، بل لا بد من المتابعة والمراقبة حتى لا تُطفئَها رياح اليأس، وأعاصيرُ الإحباط التي استحكمت في قلوب الكثير من الناس.



ومن هنا أحببت أن أذكِّر، والذكرى تنفع المؤمنين، وأحدِّثكم عن الأمل وضرورته، وعظم قدره في دين الله، لعلّ في هذه التذكرة، ما يُحفز نفسا للعمل، ويَشحَذُ همة للعطاء، ويوقد شعلة في القلوب.



وإذا نظرنا في كتاب الله، القرآن، فهو المذكِّرُ وهو المربي للنفوس، لكي تعلو على همومها وآلامها وضعفها ويأسها وجراحاتها، نجد أن كلمة الأمل ذكرت مرتين:

الأولى جاء ذكرها في اتجاه سلبي، حيث ذكرت في سياق الذم والإنكار والتقبيح عندما يكون الأمل مقرونا بالركون إلى الدنيا وإتباع الشهوات، حينما يضع الإنسان كل اهتماماته في الدنيا، ويجعلها غاية الآمال، فيغتر بشهواتها بما ينسي الآخرة والسعي لها، قال ربنا سبحانه: ﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الحجر: 3].



والثانية جاء ذكرها في اتجاه إيجابي، حيث ذُكرت في سياق المدح، والترغيب فيما عند الله من خير، حينما يجعل الإنسان موضوع الأمل متعلقاً بعطاء الله ومغفرته وتوفيقه وحفظه وتأييده، قال ربنا: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ [الكهف: 46].



وأنبه هنا أننا ما نريد بالأمل في اتجاهه السلبي المذموم، الذي وردت فيه أقوال للسلف تحذر منه، كما جاء عن علي رضي الله عنه أنه قال: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَانِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَطُولُ الْأَمَلِ، فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ".



وإنما نريد به هنا، الاتجاه الإيجابي، تلك الشعلة، أو ذلك القبس من النور الذي يجب إيقاده في قلوب الناس، بتوقع حصول الخير لهذه الأمة في قادم الأيام بعون الله تعالى، ليزيد ذلك من حسن ظن الناس بربهم ودينهم، وليكون عند الناس مزيدُ تعالٍ على قنوطهم وجراحاتهم الدامية، وأحزانهم المُتعددة، وضُعفهم الذي يتراءى للناس في زمان أُثخن فيه جسد أمتنا بالجراحات، وتوالت عليها النوازل والنكبات.



فالأمل في الاتجاه الإيجابي، هو شعاع يضيء في الظلمات وينير المعالم، ويوضح السبل، به تنمو شجرة الحياة، ويرتفع صرح العمران، وبه يذوق المرء طعم السعادة، ويُحس ببهجتها، فتنشرح نفسه في وقت الضيق والأزمات.



الأمل في الاتجاه الإيجابي، قوة دافعة، تشرح الصدر للعمل، وتبعث النشاط في النفس والبدن، قوةٌ تدفع الكسول إلى الجد، والمُجدَّ إلى الاستمرار والمداومة، قوةٌ تدفع المخفقَ إلى تكرار المحاولة، وتُحفز الناجح إلى مضاعفة الجهد.



والكثير منا يتذكر قصة الإسكندر المقدوني، عند انهزامه في إحدى المعارك، اختلى بنفسه ليفكر في أمره، فأثار انتباهه نملة تجر حبة قمح وتحاول الصعود بها، لكنها كانت تسقط منها، فحاولت مرات عديدة، حتى نجحت في مُهمتها، فتعلم منها درسا عظيما، ألا هو الأمل للبقاء، والعزيمة التي لا تكل ولا تنهزِم، فكان ذلك سببا في انتصاراته ونجاحاته كُلها.



بل انظروا إلى الزارع أو الفلاح، ما الذي يدفعه إلى حرث الأرض وسقي الزرع؟ إنه أمله في يوم الحصاد.



وانظروا إلى التاجر، من الذي يغريه بالأسفار والمخاطر؟ إنه أمله في الربح. وما الذي يبعث الطالب للجد والاجتهاد؟ إنه أمله في النجاح.



وما الذي يحبب الدواء المرَ إلى المريض؟ إنه أمله في الشفاء.



وما الذي يدفع الإنسان إلى الزواج؟ إنه أمله في إنجاب الولد.



ولولا الأمل ما أرضعت أم ولداً، ولا غرس غارس شجراً.



لولا الأمل لامتنع الإنسان عن مواصلة الحياة ومجابهة مصائبها وشدائدها، لولا الأمل لسيطر اليأس على القلوب، وأصبح الكل يحرص على الموت.



لذلك قيل: اليأس سلم القبر، والأمل نور الحياة.



وقد قيل كذلك: "إذا فقدت مالك فقد ضاع منك شيء له قيمة، وإذا فقدت شرفك فقد ضاع منك شيء لا يقدر بقيمة، وإذا فقدت الأمل فقد ضاع منك كل شيء". فأي شيء تفقده في الحياة له قيمة، فالمال قيمة مادية، والشرف قيمة أخلاقية، والأمل لهُ قيمة روحية يسكن قلبك أيها المسلم ويُحرك السعادة فيه، وينفض غبار الحزن والألم والكآبة واليأس الذي تركه الزمن في نفسك.



الأمل يُنَمِّي فيك الطموح والإرادة، واليأس يقتلهما، فعليك أيها المسلم أن تحرص على الأمل في كل جوانب حياتك، وتمسك به تمسكك بالحياة، ولا تستسلم لليأس والقنوط أبدًا.



الخطبة الثانية

الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.



مر كسرى ملك الفرس يوما بشيخ عجوز يزرَع شجرة زيتون، فقال له متعجبا: أيها الشيخ، ما بالك تغرِس هذه الشجيرة، وهي لا تُثمر إلا بعدَ أعوام عديدةٍ وأنت شيخ هرم؟ فهل تأمُل أن تأكل من ثمرها؟



فقال له الشيخ العجوز: أيها الملك، لقد غرسوا من قبلنا فأكلنا، ونحن نغرِس لكي يأكل من يأتي بعدَنا، فاستحسن جوابه، وأمر له بجائزة.



فهكذا الحياة.. أمل وعمل.



فالأمل في اتجاهه الإيجابي له شرط أساسي، ذلكم هو العمل، لأن الأمل بلا عمل أمانيٌّ كاذبة، ووعود زائفة، وجهل مردود على صاحبه، ولا يَجني من ورائه إلا تعذيب نفسه وتحطيم قلبه.



الأمل بلا عملٍ كالطائر بلا جناحين، وهل يطير أو يحلق الطائر بلا جناحين؟ فهذا أمر لا نظن أن يقوله عاقل.



فإذا كان الأمر كذلك، فكيف نرغب في أمل محلق بلا عمل؟ وكيف نطمح في الرفعة والكرامة والعز بدون أسباب أو بغير إعداد؟ وكيف نطمح للأُمّة حِيازةَ القوةِ والمجد والتقدم بغير عمل؟..



الأمل وحده لا يكفي، وكل واحد لا يقبل ذلك في قرارة نفسه.



فلو حدثنا جائعاً وأمَّلناه بالطعام ولم نقدم له شيئا، ماذا نفيده بذلك؟

لو نام التلميذ عن دراسته مع أمله بالنجاح فقط، لظننا به الجنون.



فالآمال وحدها لا تُشبع جائعا، ولا تفيد دارسا، ولا تشفي مريضا، ولا تحقق مكسبا من مكاسب الحياة الدنيوية ولا الأخروية.



الأمل لا يكون ولن يكون مقبولاً من أحد من الناس ولا تترتب عليه ثماره إلا إذا اقتَرن به عمل نافع بناء، وإلا، كان كلامنا هذا كأحلام اليقظة التي يُحلّق فيها المرء بخياله، ويبني القصور في الهواء، ويجمع الأماني والأوهام، حتى إذا ما استيقظ تلاشت أحلامه، وتطايرت آماله.



انظروا إلى الأمم الراقية، والبلدان المتقدمة، فما علمنا ولا سمعنا أن عاقلاً فيها اتخذ الأحلام الخادعة المُحلِّقة، ولا الأماني الكاذبة مطية له في حياته، بل لا بد من جمع القرينين، الأمل والعمل، وتوظيفِ كلَّ واحد منهما في المقام الذي يمكن توظيفه فيه.



فنحن قوم أولو رسالة، وأصحاب عقيدة شعارها (وقل اعملوا....).



فيجب علينا أن نكون كغيرنا من عقلاء الأمم والشعوب في اقتران آمالنا بأعمالنا على الأقل، إن لم يكن ذلك منا متابعة والتزاماً بالشرع، ومراعاةً لضرورة الحياة.




فالأمل مع العمل طاقة يودعها الله في قلوب البشر، لتحثهم على تعمير الكون بالخير والنفع والصلاح، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث الصحيح:( إنْ قامَتِ الساعةُ وفي يدِ أحدِكمْ فَسِيلةٌ، فإنِ استطاعَ أنْ لا تقومَ حتى يَغرِسَها فلْيغرِسْهَا).



فالنبي صلى الله عليه وسلم يوجهنا، ويريد منا بأن لا تقتصر آمالنا في الحياة على مجرد حاجاتنا، ولكن أن نعمل لحاضرنا ولمستقبلنا.



وللحديث بقية في الجمعة القادمة بحول الله مع الدرس الثاني: "الأمل في حياة الرسل"..




ابوالوليد المسلم 29-07-2020 02:42 AM

رد: كيف نحيي الأمل في حياتنا؟
 
كيف نحيي الأمل في حياتنا؟ (2)


الرهواني محمد



(الدرس الثاني)


الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أبدع ما أوجد، وأتقن ما صنع، وكل شيء لجبروته ذل ولعظمته خضع، سبحانه وبحمده في رحمته الرجاء، وفي عفوِه الطمع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله أفضل مُقتدى به وأكمل مُتبع، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أهل الفضلِ والتقى والورع، والتابعين ومن تبِعهم بإحسان ولنهجِ الحق لزِم واتبع، وسلم تسليماً كثيراً.

معاشر عمار بيت الله:
مازال الحديث متواصلا مع موضوع "كيف نحيي الأمل؟"، واليوم بإذن الله مع الدرس الثاني: "الأمل في حياة الرسل".

فالناس اليوم بحاجة إلى من يبث في نفوسهم الأمل، ويُيسِّر لهم طريق الخير، بتعزيز استحضار النماذج المُشرِقة، حتى يتخذونها أسوةً تضيء لهم الطريق، وتوصلهم إلى بر الأمان.

ومن النماذج المشرقة، الأنبياء والرسل، قال ربنا سبحانه: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111]. فقصص الأنبياء ليست روايات ولا حكايات نسمعها على سبيل التسلية، لكنها عظات عالية وحكم غالية راقية، علينا أن نتدبرها ونفهمها، حتى يكرمنا الله كما أكرمهم، ويعمنا بفضله الكبير الذي عمّهم به، وبالأجر العظيم الذي وعدهم به.

فالأنبياء والرسل، هم مدرسة الأمل التي ينبغي للأمة أن تتعلم فيها ومنها، وخصوصاً في هذا الزمان، زمن اليأس والانتكاس والتخاذل والانهزامية والانكسار، في زمن أصبح اليأس بضاعة رائجة، بينما بضاعة الأمل والتفاؤل كسدت وبارت..

فالأمل خلق من أخلاق الأنبياء والمرسلين، وهو الذي جعلهم يواصلون الحياة في دعوة أقوامهم إلى الله دون يأس أو ملل، برغم ما كانوا يلاقونه من إعراض ونفور وأذى، أملاً في هدايتهم، وإخراجهم من الظلمات إلى النور.

ونظرا لتسابق الوقت، سأكتفي في هذه الخطبة بذكر بعض النماذج المشرقة.

يونس عليه السلام، إذ قال الله ربنا: ﴿ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾ [الصافات: 142].
وهل يوجد لدى إنسان أمل في الحياة إذا التقمه حوت؟


فالإنسان قد تتعدد عنده المصائب.

مصائب متعلقة بالجسم، أمراض.

مصائب متعلقة بالمال، إفلاس، بطالة، دخل قليل، فقر.

مصائب متعلقة بالأسرة، عقوق الأولاد وانحرافهم.

محن ابتلاءات قد تتوالى على الإنسان، وقد يكون عنده أمل لتجاوزها.

أما إنسان قد التقمه الحوت فقد يكون الأمل في نجاته منعدما وخاصة إذا علمنا أنه في ظلمات ثلاث، في ظلمة الليل، والظلامُ موحش، وفي ظلمة البحر، وظلامُ البحر أشد وحشة، وفي ظلمة بطن الحوت، ظلمات ثلاث، وما من وسيلة من وسائل الاتصال بالعالم الخارجي.

لكن يونس عليه السلام كان له اتصال من نوع خاص: ﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 87].

فجاءه الرد الرباني على جناح السرعة: ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ﴾ [الأنبياء: 88].

واسمعوا يرحمكم الله، فكلام ربنا لم ينته بعد، والخط الموصول بين السماء والأرض لا يزال مفتوحا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال ربنا: ﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنبياء: 88]، وهنا بيت القصيد، أي أن هذه الاستجابة الربانية والنجاة لم تكن خاصة ليونس، بل هي استجابة ونجاة لكل مسلم ينقطع انقطاع يونس عليه السلام، فقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دعوةُ ذِي النُّونِ إذْ دَعَا بِها و هو في بطْنِ الحُوتِ، لا إلهَ إلَّا أنتَ سُبحانَكَ إنِّي كُنتُ من الظالِمينَ، لمْ يدْعُ بِها مُسلمٌ في شيءٍ إلَّا استجابَ اللهُ لهُ".

وفي الوصية الجامعة الشاملة النافعة يقول الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم: "تعرَّفْ إليه في الرَّخاءِ يعرِفْك في الشِّدَّةِ".

نموذج آخر من النماذج المشرقة.
نبي الله يعقوب عليه السلام ابتلاه الله سبحانه بفقد ابنه يوسفَ عليه السلام ثم أخاه، فحزِن عليهما حزنا شديدا حتى فقد بصره، لكنه عليه السلام، ظل صابرا بقضاء الله، ولم ييأس من رجوع ولديه، حيث ظل متمسكا بالأمل حتى آخر لحظة، وازداد أمله ورجاؤه في الله سبحانه أن يُعِيدَهما إليه، فقال: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ﴾ [يوسف: 18]، وذات الكلمة قالها يوم فقد يوسف، ولكنه في هذه المرة يضيف إليها هذا الأمل أن يرد الله عليه يوسف وأخاه: ﴿ عسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم ﴾ [يوسف: 83]، فالله الذي يعلم حاله، ويعلم ما وراء هذه الأحداث والامتحانات، فهو سبحانه يأتي بكل أمر في وقته المناسب، عندما تتحقق حكمته في ترتيب الأسباب والنتائج.

هذا الشعاع من الأمل، من أين جاء إلى قلب يعقوب؟
إنه الأمل في الله، إنه الاتصال الوثيق بالله، والشعور بوجود رحمته، ذلك الشعور الذي يتجلى في قلوب الصفوة المختارة، فيصبح عندها أصدقُ وأعمقُ من الواقع المحسوس الذي تلمسه الأيدي وتراه الأبصار.

ثم قال: ﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ... ﴾ [يوسف: 87]، فما أجمله من أمل تُعزِّزه الثقةُ بالله سبحانه وتعالى حين قال:
﴿ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]، فإنه لا يقنط من فرج الله ورحمته ويقطع رجاءه منه إلا القوم الذين يجحدون قدرة الله ومشيئتَه، فأما المؤمنون الموصولةُ قلوبُهم بالله، الشاعرون بنفحاته، فإنهم لا ييأسون ولا يقنطون من روْح الله ولو أحاط بهم الكرب واشتد بهم الضيق.

فتحقق أملُ يعقوب ورجاؤُه، وَرَدَّ الله عليه بصره وولديه.

فقصة يوسف بأكملها يا أمة القرآن، أمل لكل والد فقد فلذة كبده، أمل لكل أسرة تفرق شملها وتشتت جمعها، أمل لكل مظلوم ومقهور، أمل لكل غائب، أمل لكل مريض ومبتلى، أمل لكل صاحب قضية..

إنها تمثل الأمل والرجاء الذي ينبغي أن يكون في قلب المؤمن المتوكل على الله تعالى، فالمؤمن لا يعرف اليأس مهما اشتدت به الابتلاءات والمحن، لأنه موقن بأن الله تعالى على كل شيء قدير وبأنه هو العزيز الحكيم، ولا يحصل أمر في كونه إلا بأمره لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.

نموذج آخر من النماذج المشرقة.
موسى عليه السلام كما جاء في كثير من سور القرآن، أنه تكرر الأمل في حياته كثيرا، حيث ولد بالأمل وعاش بالأمل منذ كان رضيعا قال ربنا: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَن ارْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِين ﴾ [القصص: 7].

ولما بلغ أشده وخرج مُطَاردا من المدينة، قال ربنا: ﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [القصص: 21-22]، ثم يخبر سبحانه أن موسى لما سقى غنم المرأتين، وتولى إِلَى ظل الشجرة: (فَقَالَ: ﴿ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 24]).

وكأني بحاله يقول:يا رب، إني لما أنزلت إلي من فضلك وغناك وخيرك فقير إلى أن تغنيني به عمن سواك.

فموسى عليه السلام لما جهَد في السفر، وانقطع عن الأهل، عرف أين المقصد، وأين المخرج، عرف أنّ المفر إلى ربه تبارك وتعالى: ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ﴾ [الذاريات: 50]، عرف أنّ الله هو الأمل والرجاء، فتوسّل إليه، وذكر حاله بألطف الكلمات والعبارات: ﴿ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ﴾ [القصص: 24]، وهذا من أبلغ الوسائل وألطفها لما فيها من حسن الأدب وكمال الطلب.

فجاءه الفــرج: أجر - وأمن - وزواج - وعمل - ورسالة - ونصرة وتأييد - وغلبة.

فأما الأجر: ﴿ فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ﴾ [القصص: 25].

الأمن: ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 25].

العمل: ﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ [القصص: 26].

الزواج: ﴿ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ ﴾ [القصص: 27].

الرسالة: ﴿ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ﴾ [طه: 13].

النصرة والتأييد: ﴿ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا ﴾ [القصص: 35].

الغلبة: ﴿ أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ﴾ [القصص: 35].

ويوم أن جاءه الأمر من ربه: ﴿ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ [إبراهيم: 5]، خرج موسى بقومه، فأتبعهم فرعون بجنوده: ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء: 61]، فالبحر أمامهم، وليس معهم سفينة ولا هم يملكون القدرة على خوضه، والعدو خلفهم وقد اقترب منهم.

لكن موسى الذي تلقى الوحي من ربه يوم قال له: ﴿ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ ﴾ [القصص: 31]، فهو لا يشك لحظة وملء قلبه الثقة بربه، واليقين بعونه، والتأكد من النجاة، وإن كان لا يدري كيف تكون النجاة، فما كان يمتلك خطة وما كان يعرف طريقا للهرب من بطش فرعون.

فموسى على يقين حتى وإن كان قد فقد الأسباب فمعه رب الأسباب، وإن كان بلا حول ولا قوة، فحول الله وقوته تحيطانه من كل جانب، فهو إذا بأمله وبثقته في ربه يملك النجاة والفوز المبين على فرعون وجنوده، لأن الله قد وعده: ﴿ أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ﴾ [القصص: 35]. فيقول موسى بكل ثقة ويقين: ﴿ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62]، إنه الأمل في القدرة الإلهية، إنه الأمل في الله الذي إذا أراد شيئًا يقول له كن فيكون، فلا راد لأمره ولا معقب لحكمه جل جلاله.قال ربنا: ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِي ﴾ [الشعراء: 63 - 68].


فكن أيها المسلم كما كان موسى مع قومه يبشرهم بالأمل ويزرع في قلوبهم الإيمان بربهم.

وللحديث بقية في جمعة قادمة بحول الله..

ومع "الرسول صلى الله عليه وسلم يصنع الأمل في حياة الأمة".








الساعة الآن : 03:47 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 39.91 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.77 كيلو بايت... تم توفير 0.14 كيلو بايت...بمعدل (0.34%)]