ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=81)
-   -   رمضان شهر الانتصارات والفتوح (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=233653)

ابوالوليد المسلم 11-05-2020 12:05 AM

رمضان شهر الانتصارات والفتوح
 
رمضان شهر الانتصارات والفتوح


د. سعود بن غندور الميموني





الخطبة الأولى
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، الْحَمْدُ للهِ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلاَلِ وَجْهِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وأَشْهَدُ أنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ بفضلِهِ، ويُذِلُّ مَن يشَاءُ بِعدْلِهِ، وأشْهدُ أنَّ محمَّدًا عَبدُهُ ورسُولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ في الأوَّلينَ، وصلَّى اللهُ عليهِ فِي الآخِرِينَ، وصلَّى اللهُ عليهِ فِي الملإِ الأَعلَى إِلى يومِ الدِّينِ... أمَّا بَعدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كَلاَمُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ، وَإِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ، وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ.



عِبَادَ اللهِ... أُوصِي نَفْسِي وَأُوصِيكُمْ بِوَصِيَّةِ اللهَ لَنَا مِنْ فَوْقِ سَمَاوَاتِهِ حَيْثُ قَالَ ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ [النساء: 131] هِيَ وَصِيَّةُ اللهِ الَّتِي مَنِ اسْتَمْسَكَ بِهَا رَبِحَ، وَمَنْ حَادَ عَنْهَا خَسِرَ، وَصِيَّةُ اللهِ لَنَا وَلِمَنْ قَبْلَنَا فَاحْفَظُوا اللهَ فِيهَا يَحْفَظْكُمْ، واعْلَمُوا أَنَّكُمْ فِي شَهْرٍ عَظِيمٍ، شَهْرِ رَمَضانَ، شَهْرِ الطَّاعَةِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ، شَهْرِ الْحَسَنَاتِ وَمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ، شَهْرِ الْبَرَكَةِ وَالْخَيْرِ، وَلَيْسَ هَذَا فِي الْعِبَادَاتِ فَحَسْب، وَإِنَّمَا هُوَ كَذَلِكَ فِي جَمِيعِ نَوَاحِي الْحَيَاةِ، فِي تَعَامُلَاتِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، وَفِي أَمْنِهِمْ وَحَيَاتِهِمْ.



شَهْرُ رَمَضَانَ شَهْرُ الاِنْتِصَارَاتِ، انْتِصَارَاتٌ غَيَّرَتْ مَجْرَى التَّارِيخِ، انْتِصَارَاتٌ أَرْسَتْ دَعَائِمَ الْأَمْنِ فِي الْأُمَّةِ الْإِسْلامِيَّةِ.

فِي رَمَضَانَ كَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ بِقِيَادَةِ رَسُولِكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي رَمَضَانَ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ لِلْهِجْرَةِ، فِي رَمَضَانَ كَانَتْ مَعْرَكَةُ الْقَادِسِيَّةِ بِقِيَادَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فِي رَمَضانَ فُتِحَتْ بِلادُ الْأَنْدَلُسِ عَلَى يَدِ طَارِقِ بْنِ زِيَادٍ، فِي رَمَضانَ وَقَعَتْ مَعْرَكَةُ حِطِّينَ وَالَّتِي اسْتَرَدَّ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فِي رَمَضانَ انْتَصَرَ الْمُسْلِمُونَ بِقِيَادَةِ "سَيْفِ الدِّينِ قُطُزَ" عَلَى التَّتَارِ فِي مَعْرَكَةِ عَيْنِ جَالُوتَ، فِي رَمَضانَ فُتِحَتِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ عَلَى يَدِ مُحَمَّدٍ الْفَاتِحِ.



وَالْيَوْمَ لَنَا وَقْفَةٌ مَعَ غَزْوَةِ بَدْرٍ؛ غَزْوَةُ بَدْرٍ الَّتِي غَيَّرَتْ وَجْهَ الدُّنْيَا، غَزْوَةُ بَدْرٍ كَانَتْ فِي هَذَا الْعَالَمِ فُرْقَانًا فَرَّقَ اللَّهُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَكَانَ لَهَا مَا بَعْدَهَا؛ غَزْوَةُ بَدْرٍ هِيَ أَوَّلُ مَعَارِكِ الإِسْلامِ الْكُبْرَى، وَهَذِهِ الْغَزْوَةُ تُوِّجَتْ بِالنَّصْرِ الْمُبِينِ، فَمَا هِيَ أَسْبَابُ هَذَا النَّصْرِ، وَما هِيَ مُقَدِّمَاتُ هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَأَهْدَافُهَا وَنَتَائِجُهَا.



وَقَعَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ فِي السَّابعِ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضانَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ، وَبَدَأَتْ مُقَدِّمَاتُ هَذِهِ الْغَزْوَةِ الْكُبْرَى بِإِرْسَالِ السَّرَايَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُوَجِّهُونَ ضَرَبَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ لِقِوَى الْكُفْرِ؛ فَقَدْ أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِي سَرَايَا قَادَ بَعْضَهَا بِنَفْسِهِ، وَكَانَ آخِرُهَا سَرِيَّةَ عَبْدِاللهِ بْنِ جَحْشٍ فِي رَجَبٍ مِنْ نَفْسِ الْعَامِ، أَيْ قَبْلَ غَزْوَةِ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ فَقَط.



هَؤُلَاءِ أَصْحَابُهُ الْمُهَاجِرُونَ وَقَدْ لَحِقَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ مَا لَحِقَهُمْ مِنْ أَذىً وَاضْطِهَادٍ ونِكَايَةٍ وَخَسَائِرَ مَادِّيَّةٍ، فَأَرَادَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَشْفِيَ صُدُورَهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ وَأَنْ يُقَوِّيَ مَعْنَوِيَّاتِهِمْ وَيُثَبِّتَ قُلُوبَهُمْ بِاِغْتِنَامِ تِلْكَ الْفُرْصَةِ، فَقَدْ سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عِيرًا لِقُرَيْشٍ مُحَمَّلَةً بِالْأَمْوَالِ قَادِمَةٌ، يَقُودُهَا أَبُو سُفْيانَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِالْخُرُوجِ لِلْاِسْتِيلاءِ عَلَى هَذِهِ الْقَافِلَةِ، وَقَالَ لَهُمْ: "هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُكُمْ فَاخْرُجُوا إِلَيْهَا لَعَلَّ اللهَ يُنَفِّلُكُمُوهَا"، وَأَرَادَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنَفِّذَ هَدَفًا مِنَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ وهُوَ تَحْطِيمُ عُنْفُوَانِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ؛ فَلَقَدْ قَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ وَأَسَرُوا وَشَفَى اللَّهُ صُدُورَهُمْ، وَأَيَّدَهُمْ جَلَّ وَعَلا بِالنَّصْرِ مِنْ عِنْدِهِ..



تَأَمَّلُوا - عِبَادَ اللَّهِ - فِي فِعْلِ رَسُولِكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعْدَ أَنْ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ وَأَخْرَجُوهُ مِنْ بَلَدِهِ، لَمْ يَرْكَنْ إِلَى الرَّاحَةِ وَالْهُدُوءِ، لَمْ يَخْلُدْ إِلَى السُّكُونِ وَالصَّمْتِ، وَلَوْ أَنَّهُ رَكَنَ إِلَى ذَلِكَ، مَا كَانَ لِلْإِسْلامِ أَنْ يَصِلَ إِلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ الْيَوْمَ؟ مَا كُنَّا لِنَحْظَى بِنِعْمَةِ الْهِدَايَةِ الْكُبْرَى؟ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نَنْعَمَ بِنِعْمَةِ الْأَمْنِ.



لَقَدْ أَمِنْ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَخَافَهُمْ كُلُّ أَحَدٍ مِمَّنْ حَوْلَهُمْ؛ فَقَبَائِلُ الأَعْرَابِ الْمُشْرِكَةِ الَّتِي كَانَتْ تُحِيطُ بِالْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ - وَالَّتِي كَانَ الشُّغْلُ الشَّاغِلُ لِهَذِهِ الْقَبَائِلِ هُو الْهُجُومُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِغَرَضِ السَّلْبِ وَالنَّهْبِ - وَقَعَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبُ، وَوَقَعَ الرُّعْبُ فِي قُلُوبِ الْيَهُودِ الْحَاقِدِينَ الْمُتَرَبِّصِينَ الَّذِينَ هُمْ دَاخِلُ الْمَدِينَةِ، وَوَقَعَ الرُّعْبُ فِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ، وَعَلَى رَأْسِهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ، وَوَقَعَ الرُّعْبُ فِي قَلْبِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، وَخَابَ ظَنُّهُمْ وَضَعُفَتْ شَوْكَتُهُمْ حِينَمَا رَأَوُا انْتِصارَ الْمُسْلِمِينَ وَعِزَّتَهِمْ؛ بَلْ أَظْهَرَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ إِسْلامَهُمْ خَوْفًا مِنْ مُحَمَّدٍ وَصَحْبِهِ... وَصَدَقَ اللَّهُ حَيْثُ قَالَ فِي وَصْفِ هَذَا النَّصْرِ: ﴿ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾ [آل عمران: 126].

مَلَكْنَا هَذِهِ الدُّنْيَا الْقُرُونَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَأَخْضَعَهَا جُدُودٌ خَالِدُونَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَسَطَّرْنَا صَحَائِفَ مِنْ ضِيَاءٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَمَا نَسِيَ الزَّمَانُ وَلاَ نَسِينَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فَمَا فَتِئَ الزَّمَانُ يَدُورُ حَتَّى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مَضَى بِالْمَجْدِ قَوْمٌ آخَرُونَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَأَصْبَحَ لَا يُرَى فِي الرَّكْبِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
قَوْمِي وَقَدْ عَاشُوا أَئِمَّتَهُ سِنِينَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وَآلَمَنِي وَآلَمَ كُلَّ حُرٍّ سُؤَالُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
الدَّهْرِ أَيْنَ الْمُسْلِمُونَ؟! https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


عِبَادَ اللَّهِ... لَمْ تَقَعْ غَزْوَةُ بَدْرٍ وَغيرِهَا إلَّا لِنَشْرِ الْمِلَّةِ، وَدَحْرِ أَعْدَاءِ الدِّينِ وَالسُّنَّةِ، لَمْ تَكُنْ تِلْكُمُ الْغَزَوَاتُ إلَّا لِنَشْرِ الْأَمْنِ وَالْأمَانِ، وَانْتِشَارِ السِّلْمِ وَالْإِسْلامِ، لَمْ تَكُنْ تِلْكُمُ الْغَزَوَاتُ إلَّا لِيَعْبُدَ النَّاسُ رَبَّهُمْ آمِنِينَ، وَيُقْبِلُوا عَلَيْهِ مُطْمَئِنِّينَ، وَيَدْخُلُوا فِي الدِّينِ مُذْعِنِينَ.



وَلِمَ لَا -يا عِبَادَ اللَّهِ- لِمْ لَا يَسْعَ الْمُسْلِمُونَ فِي تَحْصِيلِ أَمْنِهِمْ؛ فَبِالأَمْنِ تُقَامُ شَعَائِرُ الْإِسْلامِ مِنْ صَلاَةٍ وَجُمَعٍ وَجَمَاعَاتٍ.. بِالْأَمْنِ يُقَامُ الْأَذَانُ وَالْخَطَابَةُ وَالْإمَامَةُ.. بِالْأَمْنِ يُطَافُ بِالْبَيْتِ الْحَرَامِ.. بِالْأَمْنِ تُجْبَى مِنْ أَهْلِهَا الزَّكَواتُ وَالصَّدَقَاتُ.. بِالْأَمْنِ تُوصَلُ الْأَرْحَامُ.. بِالْأَمْنِ يُؤْمَرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيُنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ.. بِالْأَمْنِ تَحْيَا مَجَالِسُ الْعِلْمِ وَيُحَصَّلُ.. بِالْأَمْنِ يُحْفَظُ الدِّينُ عَلَى أُصُولِهِ الْمُقَرَّرَةِ وَقَوَاعِدِهِ الْمُحَرَّرَةِ وَيُحَصَّنُ.. بِالْأَمْنِ تُحْمَى أَمْوَالُ وَأَعْرَاضُ وَدِمَاءُ الْمَعْصُومِينَ.



أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ... إِنَّ الْأَمْنَ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى يَنَالُهَا الْعِبَادُ بِالطَّاعَةِ، وَتَنْقُصُ مِنْهُمْ بِقَدْرِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ عَلَى قُرَيْشٍ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ؛ فَلَمَّا حَدَثَ مَا حَدَثَ عَامَ الْفِيلِ وَرَدَّ اللَّهُ أَبْرَهَةَ وَجَيْشَهُ خَائِبِينَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ الْفِيلِ، قَالَ اللَّهُ لَهُمْ بَعْدَهَا فِي سُورَةِ قُرَيْشٍ مُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ: ﴿ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 1 - 4] لَقَدْ أَمَرَهُمُ اللهُ بِشُكْرِهِ عَلَى تِلْكُمُ النِّعَمِ وَلا يَكُونُ الشُّكْرُ إِلاَّ بِعِبَادَتِهِ جَلَّ وَعَلا.



وَحِينَ يُحَقِّقُ الْإِنْسانُ الطَّاعَةَ وَيَبْتَعِدُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَإِنَّ الْأَمْنَ كُلَّ الْأَمْنِ لَهُ؛ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَصْحَابَ الْإيمَانِ وَأَصْحَابَ الشِّرْكِ: ﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ[الأنعام:81، 82] فَأَيُّ الطَّائِفَتَيْنِ أَصْوَبُ؟ الَّذِي عَبَد مَنْ بِيَدِهِ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ، أَوِ الَّذِي عَبَدَ مَنْ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ بِلَا دَلِيلٍ، أَيُّهُمَا أَحَقُّ بِالْأَمْنِ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، إِنَّهُمُ الَّذِينَ أَخْلَصُوا الْعِبَادَةَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ، لَهُ، وَلَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا هُمُ الْآمِنُونَ الْمُهْتَدُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.



وَلَقَدْ خَافَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ فَذَهَبُوا يَسْتَفْسِرُونَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ [الأنعام: 82] شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ كَمَا تَظُنُّونَ، إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: ﴿ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13].

نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَ بِلاَدَنَا وَبِلاَدَ الْمُسْلِمِينَ وَاحَةً للأَمْنِ والأَمَانِ، والسَّلامَةِ والإِسْلامِ، والسَّخَاءِ والرَّخَاءِ، والْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.


الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ النَّبِيُّ الْمُصْطَفَى وَالرَّسُولُ الْمُجْتَبَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرَا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ... أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللَّهِ- وَخَافُوا مَعْصِيَتَهُ، وَأَطِيعُوا أَمْرَهُ، فَأَنْتُمْ فِي أيَّامٍ حَرِيٌّ بِالْمُسْلِمِ أَنْ يُطِيعَ وَلَا يَعْصِي، وَأَنْ يَشْكُرَ النِّعْمَةَ وَلَا يَكْفُرَ، وَأَنْ يَتَقَرَّبَ وَلَا يَتَبَاعَدَ، أيَّامٌ هِيَ أَجْمَلُ أيَّامِ الزَّمَانِ، وَأَحْسَنُ مَوَاسِمِ الْخَيْرِ، مَنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ فِيهَا فَقُلْ لِي بِرَبِّكَ مَتَى يُغْفَرُ لَهُ؟، مَنْ لَمْ يَسْعَ لِلْخَيْرِ فِيهَا فَقُلْ لِي بِرَبِّكَ مَتَى يَسْعَى؟ مَنْ لَمْ يَقِفْ عَلَى بَابِ مَوْلَاهُ فِيهَا فَقُلْ لِي بِرَبِّكَ مَتَى يَقِفُ؟.



أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ... كَمْ مِنَ الْمَوَاعِظِ تُلِيَتْ عَلَى أَسْمَاعِنَا وَلَمْ تَتَحَرَّكْ قُلُوبُنَا، كَمْ مِنَ الآيَاتِ سَمِعَتْهَا آذَانُنَا وَلَمْ تَسْمَعْهَا صُدُورُنَا؟ لِمَاذَا صِرْنَا نَسْمَعُ الْقُرْآنَ وَلَا نَتَأَثَّرُ، وَنَدْخُلُ الصَّلاَةَ وَلَا نَتَغَيَّرُ، هَلْ هَذَا بِسَبَبِ ظُهُورِ الْفَسَادِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ؟!

لَقَدْ قَلَّتِ الْبَرَكَةُ، وَانْتُزِعَتِ الرَّحْمَةُ، وَكَثُرَ الْعُقُوقُ، وَقُطِّعَتِ الْأَرْحَامُ، كُلُّ ذَلِكَ يَقْتَرِفُهُ بَعْضُ النَّاسِ بِلاَ حَيَاءٍ وَلَا خَوْفٍ مِنَ اللهِ، وَلَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ لَنَا فِي الْقُرْآنِ مَثَلاً قَرْيَةً حُرِمَتْ مُقَوِّمَاتُ الْحَيَاةِ لِأَنَّهَا عَصَتْ أَمْرَ رَبِّهَا، وَتَمَرَّدَتْ عَلَى طَاعَةِ خَالِقِهَا وَرَازِقِهَا؛ فَقَالَ تَعَالَى مُحَذِّرًا عِبَادَهُ أَنْ يَسْلُكُوا طَرِيقَهُمْ فَيُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَهُمْ: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112] ثُمَّ قَالَ اللهُ بَعْدَهَا: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [النحل: 113] وَهَذَا تَوْبِيخٌ مِنَ اللهِ لَهُمْ، مَفَادُهُ أَنَّهُمْ لَوْ أَطَاعُوا الرُّسُلَ لأَكَلُوا مِنْ خَيْرَاتِ السَّمَاءِ والأَرْضِ؛ ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96].



وانْظُرُوا - يَا عِبادَ اللهِ - إِلى "الْحُوثِيِّينَ" وَصَنِيعِهِمْ، عَاثُوا فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَإِفْسَادًا، وَبِذُنُوبِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ ضَلُّوا وأَضَلُّوا؛ فَصَارُوا لاَ يُفَرِّقُونَ فِي الْقَتْلِ بَينَ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ، وَلا بَيْنَ رَجُلٍ وامْرَأَةٍ، حَتَّى انْتَشَرَ بَينَ النَّاسِ الْهَلَعُ والْخَوْفُ، واشْتَكَى النَّاسُ مِنَ الْجُوعِ والظَّمَأِ، ولَقَدْ وَفَّقَ اللهُ دَوْلَتَنَا لِلْقِيَامِ بِوَاجِبِهَا نَحْوَهُمْ، وعَلَى رَأْسِ ذَلِكَ "مَرْكَزُ الملكِ سَلمانَ للإِغَاثَةِ"، وَمِنْ قَبْلِ ذَلِكَ كَانَ "الْحَزْمُ والْعَزْمُ"، ثُمَّ كَانَ "الأَمَلُ"، فاللَّهُمَّ تَقَبَّلْ، إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.

نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُنْعِمَ عَلَيْنَا بِفَضْلِهِ، وأَنْ يَرْزُقَنَا بِكَرَمِهِ وَمَنِّهِ، إِنَّهُ جَوَادٌ كَرِيمٌ.



ثُمَّ صَلُّوا وسَلِّمُوا -رحِمَكُمُ اللهُ- عَلَى النِّعْمَةِ المُهْدَاةِ، والرَّحْمَةِ المُسْداةِ، مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ اللهِ كَمَا أَمَرَكُمْ ربُّكمْ جَلَّ في عُلاهُ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56] فَاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.



اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأعَزُّ الْأكْرَمُ.. اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قلوبنا نُورًا وفي أسماعنا نورا وفي أبصارنا نورا... اللَّهُمَّ إِنِّا نعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ ومن عين لا تدمع ومن دعاء لا يسمع... اللَّهُمَّ آتِ نفوسنا تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا..

اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَمَضَانَ، واجْعَلْنَا فِيهِ مِنَ الْمَقْبُولِينَ...

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَجْزِيَ آبَاءَنَا وَأُمَّهَاتِنَا عَنَّا خَيْرَ الْجَزَاءِ.. اللَّهُمَّ اجْزِهِمْ عَنَّا رِضَاكَ وَالْجَنَّةَ.. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ وَعَافِهِمْ واعْفُ عَنْهُمْ.

اللهمَّ انْصُرْ المُجَاهِدِينَ الَّذِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِكَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، اللهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا فِي الحَدِّ الجّنُوبِيِّ، اللهُمَّ اشْفِ جَرْحَاهُمْ وارْحَمْ مَوْتَاهُمْ وَسَدِّدْ رَمْيَهُمْ وَبَارِكْ فِي جُهُودِهِمْ...

اللهمَّ وَفِّقْ ولاةَ أمرِنَا لِمَا تُحِبُّ وتَرْضَى، وخُذْ بِنَواصِيهِمْ لِلبِرِّ وَالتَّقْوى، اللهمَّ أَصْلحْ لَهُمْ بِطَانَتَهُمْ يِا ذَا الجَلالِ والإِكْرامِ...

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.







الساعة الآن : 11:46 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 29.95 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.85 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (0.31%)]