ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى أعلام وشخصيات (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=106)
-   -   رسالة الاستيقاظ والتوبة صفحات مطوية من حياة الإمام جلال الدين السيوطي - رحمه الله (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=225213)

ابوالوليد المسلم 09-02-2020 04:29 AM

رسالة الاستيقاظ والتوبة صفحات مطوية من حياة الإمام جلال الدين السيوطي - رحمه الله
 
رسالة الاستيقاظ والتوبة[1]



صفحات مطوية من حياة الإمام جلال الدين السيوطي - رحمه الله -


أوصى ألا تظهر إلا بعد موته


تنشر لأول مرة - ولله الحمد - عن مخطوط فريد


محمد آل رحاب





نص الرسالة:


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، اللهمَّ إن هذه رسالة سطرتها تقرُّبًا إليك، واعتذارًا وتبريًا مما يُخالف شريعتك التي جاء بها سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وجعلتها بيني وبينك غير مُطلِع أحدًا عليها ما دمتُ حيًّا، فإن كنتُ مصيبًا فيها فاقبلني واغفر لي، ولا تُخيِّب ما مضى من سعيي، فإنه كان تقرُّبًا إليك، وإن كنت مخطئًا فلا تؤاخذني واعف عني واغفر لي فإني بشر أُخطئ وأصيب، وإنما أنا بحسَب ما يترجح في ظني وما يبدو لي دلائله، وليس لي اطِّلاع على البواطن وحقائق الأمور.





أقول:


إن الله - سبحانه وتعالى - من فضله وكرمه جبَلني من حين كنت ابنَ سبع سنين على خصالٍ، منها:


حب الخير والعمل الصالح، والإصغاء إلى الحثِّ عليه، وكراهة الشر، والعمل السيئ والنُّفور عما دعا إليه.





ومنها: حسنُ الاعتقاد في الفقراء وأهل الصلاح والزهد والتقشُّف والتعبُّد، وكل من يُنسب إلى شيء من خصال الخير.





ومنها: كثرة التأني في الأمور وعدم المبادَرة، فربَّ أمرٍ أُريد الإقدام على فعله فأمكث سنين أتروَّى فيه حتى يَشرح الله صدري لفعله، ورب رجل يُذكَر لي بسوء وتبدو منه الخصلة أو الخصال فلا أبادر إلى سوء الاعتقاد فيه، ولا يُغيِّرني ما كنت عليه من حسن الظن به حتى أختبره سنين ويتواترَ عندي ما يتفرج منه، والأصل في كل مسلم عندي الدِّين والخير حتى يثبت عندي ما ينافي ذلك بالتجربة لا بالأخبار، وهذه مسألة فقهية منقولة، هذا الأصلُ في الناس: العدالة، والفسق طارئ.





إذا تقرَّر ذلك فاعلم أني مذ نشأت ألهمتُ (حب)[2] السنَّة والحديث وبغْض البِدَع وعلوم الأوائل من فلسفة ومنطق، وألَّفتُ في ذمِّ المَنطِق وأنا ابن ثماني عشرة سنة، وكرهتُه كراهة تحريم، وما سمعتُ بمسألة تعزى إلى علوم الفلاسفة إلا كرهتُ سماعها، ولا بكتاب في شيء من فنونهم إلا وتحامَيتُ النظر فيه، ونشأت على حب الصالحين واعتقادهم، فما سمعت بصالح إلا وقصدت زيارته والتبرُّك به، فاجتمعت بجماعة كثيرة منهم، فلما كان في حدود سنة ثمانين[3]، وأنا إذ ذاك مقصود بالإفتاء والتدريس وقد سارت مصنَّفاتي إلى الآفاق، تردد إليَّ طالب للأخذ عني وكتابة مصنفاتي، فذكَر لي في غضون ذلك أنه تربية شيخ صالح يُسمى فلانًا وذكَر لي من صلاحه وكراماته أمرًا عظيمًا، فمِلْتُ إلى زيارته، فذهبت معه إليه، واجتمعت به، فذكر لنا مجلس وعظ حثَّنا فيه على الزهد في الدنيا والإقبال على الله والانقطاع عما سواه، واحتمال أذى الخلْق، والرضى بما قضاه الله من المكروه، فأعجبني ذلك ومِلتُ إليه، فكنت بعد ذلك كلما ضاق صدري واحتجْتُ إلى مذكِّر أقول لجماعة الطلبة: امضوا بنا إلى زيارة فلان، فنذهب إليه فيَعِظنا على النمط المذكور فتقع في قلبي محبته، فكنت أزوره في كل أربعة أشهر مرة أو في كل ستة أشهر أو نحو ذلك فيكون اجتماعي به العام تارة مرتين وتارة ثلاثة وتارة أربعة، ثم أخَذَ يذكر لنا قضية المكاشَفات والتكلُّم على القلوب فأكثر ما رأينا من كشفه أنه قد يتكلَّم في قضية يكون الحاضر مهتمًّا بها إما من جهة عدو أو نحو ذلك فيتكلم بكلام حاصلُه مثلاً: إذا كان الإنسان مهتمًّا من جهة من يؤذيه أو نحو ذلك فليتلقَّ ذلك من قِبَل الحق يسهل أمره عليه، هذا أكبر ما رأيت من كشفه، وليس هذا عند أهل التحقيق بكشف؛ لأن هذا كالمعلوم من أحوال الناس ضرورةً أن كل أحد لا يخلو من اهتمامه بأحد يؤذيه فذكر ذلك على سبيل ما هو معروف عادة، ثم إني قصدت شراء متاع فشاورته في ذلك وقلتُ له: أريد النظر فيه من حيث الكشف والحال، لا من حيث الرأي والتدبير الدنيوي، فما الأولى أنْ آخذه من هذا البلد أو أرسل مع رجل عزْمه على السفر بشرائه من بلد كذا، فسكت ساعة، ثم قال: ما يتيسر من هذا البلد وما يَشتري هذا إلا الرجل الذي ذكرت من البلد الذي ذكرت، ويأتي به على الوجه المطلوب فأحضرت الرجل إليه وتجاذبْنا القضية بحضرته، وسافر ذلك الرجل فأقمت أنتظره أربعة أشهر ثم قدم من السفر ولم يصنَع شيئًا ولا جاء بشيء، فاجتمعت به وقلت له: إن الرجل الذي ذكرت أن هذا المتاع يتيسر على يدَيه لم يصنَع شيئًا، فكيف هذا الكشف؟ فقال: قد يُخطئ الكشف، ثم قال: هل حصل عندك إنكار عليَّ؟ قلت: لا، وكذا كان الأمر لم يَحدث في قلبي إنكار عليه، وقلت: أنا إنما أقصد هذا الرجل للوعظ لا لكشْفٍ وكرامات، فما راعني يومًا وقد جلست معه إلا وقد قال لي: أنت هو، وأشار إلى الحقِّ - تعالى وتنزَّه - وشرَع في كلام يُدندن بمَقالة الاتحادية، وقال: الناس يُكفِّرون ابن عربي ويَنسبونه إلى الحلول، ومن مثْل ابن عربي، وهل ثَم غير حتى يحل فيه ما ثَمَّ غير.





قلت: ما تنسبونه إلى الحلول ولا بدَّ، بل ينسبونه إلى الاتحاد، وهذا الكلام الذي تقوله يؤول إلى الاتحاد.


قال: نعم؛ هو اتحاد.





قلت: هو أيضًا كفْرٌ نصَّ عليه الأئمة.


قال: إنما يذكر ذلك الفقهاء، وصحيحٌ هذا الأمر مخالف للشرع، لكنه حق في نفسه!





قلت:


أما أولاً: فإن مرجع التكفير إلى الفقهاء لا إلى غيرهم، فإن التكفير حكْم شرعي، والأحكام الشرعية مدارها على الفقهاء.





وثانيًا: لم يَنفرد بذلك الفقهاء، بل علماء الكلام كلهم قاطبة نصُّوا على أنه كفْر، والعقائد إنما تؤخذ من أرباب علم الكلام.





وثالثًا: إنَّ قولك: إن هذا مخالف للشرع وما خالفه فباطل قطعًا، وقَبول قول لا دليل عليه من الشرع لا سبيل إليه.





ورابعًا: إن جماعة كثيرة من أهل التصوّف نصُّوا على فساد هذا القول وحذَّروا منه، فعلم أن هذا أمر لم يتفق عليه الصوفية كلهم، إنما قاله منهم فرقة سمَّوها: غلاة، وهذا الشيخ أبو الحسن الشاذلي سيد الصوفية المتأخِّرين ولم يقع في كلامه اتحادٌ ألبتَّة!





فقال لي: الشاذلي لم يَخُضْ بحار الحقيقة كما خاضها ابن عربي!


قلت: ونحن جئنا نريد أن نزيد على مقام الشاذلي؟! ما لنا حاجة بهذه الزيادة، يكفينا أن نلحق غبار نعاله ثم قلت: وحجَّة الإسلام الغزالي ممَّن خاض بحار الحقيقة، وقد نص في موضعين من الإحياء على تضليل من قال بالاتحاد، وبيَّن أنه نشأ عن خيال فاسد!





فقال: الغزالي قال ذلك خوفًا من الفقهاء لئلا يُكفِّروه.


قلت: لو كان حقًّا في نفس الأمر لم يَخفْهُم؛ فإنه كان أطول الناس باعًا، و[4]أبسطهم لسانًا، فكان يقرِّر لهم وجه الحق فيه بعبارة يَفهمونها ولا يبالي بهم، كما وقع لي في غير ما موضِع، وفارقته وقد ضاقت بي الأرض بما رحبُتْ، وانطبق صدري، وأظلمتِ الدنيا عليَّ، وقلت: ما بقي عليَّ إلا هذه المقالة السوء، ونويتُ في قلبي تركَه، فبعد مدة أنا جالس في بيتي وإذا به جاءني، ولم يكن له عادة قبل ذلك بالمجيء إليَّ، فقال لي: ما الذي فُتح به عليك في خلوتك هذه؟ فقلت: ما فتح علي إلا بالعلم، قال: إنما أسأل عن الكشف والأمور الناطقة!





قلت: ما فُتح عليَّ بشيء من ذلك.


قال: ما تقول في جلوسي هذا أنا وإياك على هذا البساط، أكان في الأزل أم لا؟





قلت: ما تعني بقولك: "كان في الأزل"، إن كان المراد في علم الله؟ فلا شك عند كل أحد أن جميع الكائنات كانت في علم الله قديمًا، ومن شك في ذلك كفَر.


قال: المراد أمر آخر، وذكر كلامًا كأنه ظن أنه يَخفى عليَّ، وأنا أعلم مَن تحت القبة الخضْراء إلا من شاء الله، وحاصل ما ذكره أنه أشار إليَّ أن للعالم خميرة قديمة كانت في الأزل تفرَّع العالم عنها، وبذلك ساغ القول بوحدة العالم، حتى صار كله شيئًا واحدًا، وترتَّب على ذلك قوله: أنا أنت وأنت أنا، وصار البشَر بزعمِه والحيوانات والجمادات وكل شيء شيئًا واحدًا!





قلت: وامصيبتاه أيها الشيخ! هذا القول الذي تقوله أنا أعلم الناس بفسادِه؛ لأن علماء الكلام نصُّوا على أن هذا مذهبٌ ذهَب إليه الفلاسفة وبنوا عليه القول بقِدَم العالم، فنحن جئنا نَترك ما قالته الفقهاء وحملة الشريعة وعلماء الكلام ونتبع مذهًبا ابتدعته فلاسفة اليونان الذين هم قوم كفار، وكل ما أصَّلوه فهو كفر، وأسألك عن مسنده فتقول: الكشف، ما مرادك بالكشف؟ كشفًا رأيته بعينك؟ قال: لا، ما ثَم شيء عين، وإنما هو علم بالقلب.





قلت: هذا ليس بحُجَّة، فاترك عنا هذه المقالات ولا تدَعْ أحدًا يَنقل عنك شيئًا منها؛ لئلا يقع لك ما وقع للحلاج؛ حيث أفتى الفقهاء بكفره وسفْكِ دمه، فامتعض لذلك وفارَقني، فألَّفتُ كتاب (تشييد الحقيقة) ذكرتُ فيه كلام الأئمة في تقسيم الصوفية إلى مُحقٍّ ومُبطِل، وذم الغلاة منهم وتضليل من قال بالاتحاد وبالوحدة المطلقة وأشباه ذلك، وأرسلته إليه، فأقام عنده نحو سنة، ثم أرسله إليَّ، ولم يعد يذكر لي شيئًا من ذلك، والذي تحرَّر لي من أمره ما قاله الشيخ عزُّ الدين بن عبدالسلام في ابن عربي أنه شيخ سوء كذاب، يقول بقِدَم العالم؛ وذلك أنه رجل لم يلمَّ بشيء من علوم الشريعة، وألزم الخلوة والرياضة كما وقَع بفلاسفة اليُونان، فوقَع له من الخواطر في قلبِه ما وقع لهم من إثبات الهيُولي، وقِدَم العالم، والوحدة المُطلَقة، فقال بها ودعا إليها وجعلها مُعتقدًا وكشفًا، وما هي إلا وساوس شيطانيَّة وخيالات ما أنزل الله بها من سلطان، ويا سبحان الله! ما لهذه المقالات وللصلاح؟! الصلاح اتِّباع الكتاب والسنَّة، وما يترتب على هذه الفشارات من خير أو فائدة لو كانت لا محذور معها فغفلانه عنها وهي سمٌّ ناقِع.





مصدر المخطوط: مكتبة الملك عبدالعزيز.













[1] ذكرها ونقل منها تلميذه الشاذلي في الترجمة المُفرَدة التي أعدَّها لشيخه السيوطي، وسماها: بهجة العابدين.




[2] من المخطوط الآخر.




[3] يعني سنة 880 هـ، وعمره آن ذاك 31 سنة.




[4] سقطت الواو من الأصل.








الساعة الآن : 05:01 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 15.61 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 15.51 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (0.60%)]