ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   هيا بنا نحفظ القرآن ونرضى الرحمن (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=84)
-   -   إرشاد الذكي لمعرفة المكي والمدني من سور القرآن الكريم (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=246636)

ابوالوليد المسلم 27-11-2020 07:45 PM

إرشاد الذكي لمعرفة المكي والمدني من سور القرآن الكريم
 
إرشاد الذكي لمعرفة المكي والمدني من سور القرآن الكريم
الشيخ صلاح بن سمير محمد مفتاح





الأصل هو إطلاق لفظ مكَّة والمدينة، والياء هنا ياء النسب، وإذا جاءت ياء النسب تُلغى الهاءُ ويحل مكانها الياء، ومن هنا يمكن أن نسمِّي هذا الباب كما قال بعض العلماء: (أنساب النزول)، ومن المعلوم أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مكث في مكة ثلاثَ عشْرةَ سنةً تقريبًا، ثم هاجر إلى المدينة فمكث بها عشر سنين تقريبًا، ثم انتقل إلى الرفيق الأعلى، فتكون مدَّة الرسالة ثلاثًا وعشرين سنة تقريبًا، ولا يخفى على مسلم أن القرآن الكريم لم ينزل على النبيِّ صلى الله عليه وسلم دفعةً واحدةً، بل نزل مفرَّقًا على مدار هذه السنوات، فحينئذ يكون بعضه نزل بمكة وبعضه نزل بالمدينة، بل إن بعضه نزل في أماكنَ أخرى كالذي نزل في أسفاره صلى الله عليه وسلم، فأخذ العلماء من هذا أن آياتِ القرآن: إمَّا مكيَّة أو مدنيَّة، ولم نتحدَّث هنا عمَّا نزل ليلًا وما نزل نهارًا، وما نزل صيفًا وما نزل شتاءً، وما كان نوميًّا وما هو فراشيٌّ، وغيرها من الأنواع التي ذكرها العلماء، ومن أراد الزيادة، هناك من كتب علوم القرآن ما تكلَّم عن ذلك تفصيلًا، وأكتفي هنا بالحديث عن المكِّيِّ والمدنيِّ محاولًا جمع الكثير عن هذا في صورةٍ موجزة بقدر الإمكان، والله المستعان.


أهمية معرفة هذا الباب:
لمعرفة المكيِّ والمدنيِّ فوائدُ تعود على المتأمِّل في كتاب الله تعالى، وكذا على المفسِّر، وعلى علماء الأصول والسِّيَر، وغيرهم؛ من هذه الفوائد:
1- أن معرفة المكيِّ والمدنيِّ طريقٌ إلى معرفة أمرٍ مهمٍّ من أمور أصول الفقه، وهو ما يتعلَّق بالناسخ والمنسوخ؛ فإنك إذا عرفت الآياتِ التي نزلت بمكَّة والتي نزلت بالمدينة، ووجدت آياتٍ فيها حُكمٌ ما مما نزل بمكة، ثم وجدت آياتٍ معارضة لهذا الحُكْم، وقد نزلت بالمدينة، فإنك حينئذ تحكُم بالنسخ إذا لم يمكن الجمع.
فإذًا معرفة المكيِّ والمدنيِّ من وسائلِ معرفة الناسخ والمنسوخ في هذا الباب.

2- معرفة حكمة الباري جلَّ وعلا والطريقة التي رسمها لعباده في التدُّرج في التشريع، وذلك من خلال معرفة الأوقات التي نزلت فيها أحكام الشريعة، فيعرف أن أول ما فرض التوحيد وكان جُل ما بمكة هو ما يتعلَّق بهذا الأساس العظيم، ثم معرفة ما نزل في الصلاة، ثم ما نزل في الصوم، ثم ما نزل في الزكاة، ثم ما نزل في الحجِّ، وكذلك يعرف الطريقة في تحريم بعض الأمور والعادات التي كانت سائدةً في ذلك الوقت؛ كزواج المحارم، وكذلك تحريم الخمر والتدرُّج فيه، وهكذا معرفة التدرُّج في التشريع، تُعرَف من خلال معرفة المكي والمدني.

3- الثقة بهذا القرآن وبوصوله إلينا سالمًا من التغيير والتحريف، ويدلُّ على ذلك اهتمام المسلمين به كل هذا الاهتمام حتى يعرفوا ويتناقلوا ما نزل منه قبل الهجرة وما نزل بعدها، وما نزل بالحضر وما نزل بالسفر، وما نزل بالنهار وما نزل بالليل، وما نزل بالشتاء وما نزل بالصيف، وما نزل بالأرض وما نزل بالسماء، إلى غير ذلك، فلا يعقل بعد هذا أن يسكتوا ويتركوا أحدًا يمسه ويعبث به وهم المتحمسون لحراسته وحمايته والإحاطة بكل ما يتَّصل به أو يختصُّ بنزوله إلى هذا الحدِّ[1].

4- استفادة المنهج السليم للدعوة إلى الله عز وجل، فالمكيُّ والمدنيُّ: يعني مراحل السيرة النبوية في الدعوة والتبليغ، وكل دعوة لهذا الدين تقوم على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي لا تخلو من أن تكون في مرحلة من تلك المراحل، وحيث إن الأمة مأمورةٌ بمتابعة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي غير معذورة في مجاوزة ذلك الهدي في استعمال القرآن، وهذه حقيقة لا يساعد عليها مجرَّد الوقوف عند حرفيَّات النصوص، حتى يتعدَّاها البصير إلى التأمُّل والفقه للواقع النبويِّ؛ إذ كان القرآن ينزل معالجًا لذلك الواقع.

المراد بالمكي والمدني
فيه خلاف، وهو على ثلاثة أقوال:
الأول باعتبار المكان: وهو أنَّ ما نزل من الآيات أو السور في مكة فهو مكيٌّ، وما نزل من الآيات أو السور في المدينة فهو مدنيٌّ، ويدخل ضمن مكة والمدينة ما نزل مجاورًا لهما؛ كالذي ينزل في عرفة أو نحو ذلك، لكن هذا القول مدخول؛ لأن هناك آياتٍ نزلت في مكانٍ ليس في مكة ولا في المدينة؛ كالتي نزلت في تبوك ﴿ لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [التوبة: 42]، فإذا كان الشاهد مراعاة المكان؛ فتبوك ليست في مكة، ولا في المدينة، فحينئذ لا يسلم هذا الضابط فضعَّفه بعضهم؛ لأنه يثبت من القرآن ما ليس بمكيٍّ ولا مدنيٍّ.

القول الثاني باعتبار الزمان: وهو أن المراد بالمكيِّ والمدنيِّ هو ما يتعلَّق بالزمان، فقالوا: كل ما نزل قبل الهجرة فهو مكيٌّ، وكل ما نزل بعد الهجرة فهو مدنيٌّ، فيكون ما نزل بمكَّة بعد الهجرة يُعدُّ مدنيًّا؛ مثال قوله تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 3]؛ نزلت في مكَّة في حجَّة الوداع؛ كما في الصحيحين وهى في عرفة، وإنما يقال مدنية؛ لأن العبرة بالزمن وليست بالمكان، وكذلك لو نزلت الآية خارج مكة وهي قبل الهجرة فحينئذ تكون مكيَّة كما في سورة الحج: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [الحج: 52]، وبهذا الضابط تحسن المسألة.

القول الثالث باعتبار المخاطب: فالمكيُّ: ما كان خطابًا لأهل مكة، والمدني: ما كان خطابًا لأهل المدينة، وينبني على هذا الرأي عند أصحابه أن ما كان مُصدَّرًا بقوله تعالى: يا أيها الناس فهو منزل بمكة، وما كان مُصدَّرًا بقوله: يا أيها الذين آمنوا فهو منزل بالمدينة، لكن هذا الضابط غير منضبط؛ لأن هناك سورًا مدنيةً ونزل فيها: يا أيها الناس، كـ سورة البقرة وآل عمران، وكذلك في السور المكية يأتي يا أيها الذين آمنوا، والقرآن الكريم هو خطاب الله للخلق أجمعين، ويجوز أن يخاطب المؤمنين بصفتهم وباسمهم وجنسهم، كما يجوز أن يُؤمَر غيرُ المؤمنين بالعبادة، كما يؤمر المؤمنون بالاستمرار والازدياد منها.
إذًا؛ الراجح القول الثاني وهو ما عليه جمهور أهل العلم في هذه المسألة.

السور المكية والمدنية
نقل الإمام السيوطي في الإتقان أقوالًا كثيرةً في تعيين السور المكية والمدنية: من أصحِّها ما نقله عن الإمام أبي الحسن الحصار في كتابه: "الناسخ والمنسوخ"، وهو كالآتي:
أ- أنَّ عدد السور المدنية - باتفاقٍ - عشرون سورة، وهي سور: (البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والنور والأحزاب ومحمد والفتح والحجرات والحديد والمجادلة والحشر والممتحنة والجمعة والمنافقون والطلاق والتحريم والنصر).

ب- أنَّ المختلف فيه من السور اثنتا عشرة سورة، قال بعضهم نزلت بمكة، وقال الآخرون نزلت بالمدينة وهي: (الفاتحة والرعد والرحمن والصف والتغابن والتطفيف والقدر والبينة والزلزلة والإخلاص والمعوذتين).

ج- أنَّ البقية سور مكيةٌ بالاتفاق، ويبلغ عددها اثنتين وثمانين سورة.
ثم نظم في ذلك أبياتًا رقيقةً جامعةً قال في آخرها بعد ذكر المدني والمختلف فيه وأن ما عداهما مكي.
فليس كلُّ خلاف جاء معتَبَرًا *** إلا خلاف له حظٌّ من النظرِ
وقد جرى هذا البيت مجرى الأمثال عند أهل العلم[2].


وقد أشرت في هذه الأبيات إلى الخلاف الدائر بين معرفة السور المكيَّة والمدنيَّة والقولِ الراجح في هذه المسألة، وكذلك إلى عدد السور المكية والمدنية وبيانِ ما فيه الخلاف وما اتفقوا عليه، وبيانِ ما كتب في طبعة المصحف التي بين أيدينا اليوم بمراجعة لجنة الأزهر مما اختلف فيه: هل هو مكيٌّ أو مدنيٌّ؟ فقلت:
إن تسألنْ عن السورْ وما اختُلفْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فيه من المكِّي والمدنيِّ صِفْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ما حددوا من سور المدينةْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
عشرين سورة خذها مبينةْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عدَّ اربعًا من أول الطُّوالِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
واعدد قتالًا توبة الأنفالِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فتحٌ وتحتها مع الأحزابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
نصر مع النور بلا ارتيابِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وحددوا ثمانيةْ من الحديد فعْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فابدأ بها والصف معْ تغابن فدعْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

واختلفوا في عدَّةٍ من السورْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تعد جملة على ثنتي عشر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كالفاتحةْ والرعد والرحمنِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
والصف والتطفيف[3] للعياني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فوق الطلاق البينةْ فلق قدَرْ[4] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
زلزلةٍ إخلاص النَّاس اشتهر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وما عدا ما قد مضى مكٍّ بدا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
سبعون معْ سبع وخمْسٍ فاعدُدا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

والخلف في بعض من الآيات قدْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يكتبْ لدى صحْفٍ وذا كالحج عد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وقل فلقْ إخلاص ناسِ الفاتحةْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مكٍّ مع التطفيف تكتبْ واضحةْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


ذكرت في هذه الأبيات عدد السور العشرين المدنية من البيت الثاني إلى الرابع، ثم السور الاثنا عشر المختلَف فيها من البيت السادس إلى الثامن، ثم تحديد عدد السور المكية في البيت التاسع وهي اثنان وثمانون سورة، كما ذكر قبل، ثم البيت العاشر فيه إشارة إلى أن الاختلاف قد يأتي في بعض الآيات في السور فيكون منها آيات مكية وأخرى مدنية، وهذا مدوَّن في الكتب، وبعض الطبعات للمصاحف تشير إليه، ومثال ذلك سورة الحجِّ فهي مكيَّة على أرجح الأقوال، ولكن ورد فيها الخلاف في أقوالٍ أخرى، وكُتبت في المصحف الذي بين أيدينا بطبعة الأزهر وطبعة مصحف المدينة المنورَّة مدنيَّة، ثم بعد ذلك في البيت الحادي عشر ذكرت أن سورة الفلق والإخلاص والناس والفاتحة والمطففين هذه السور الخمس كتبت (مكية) في الصحف، وأقصد به المصحف المطبوع الآن بمراجعة الأزهر وباقي المختلف فيه، وعددها بعد طرح هذه الخمس سبعُ سور ومعهم سورة الحج، كما أشرنا قبل كتبوا سورًا مدنيَّةً فيكون في هذا المصحف عدد السور المكتوبة مدنية (28)، والباقي كتب سورًا مكيةً، وعددها (86)؛ فالمجموع 114 سورة.

فائدة:
يتضح لك مما سبق من ذكر الخلاف حول نسب السورة إلى مكيَّة أو مدنيَّة أن ما يكتب في كثير من المصاحف من وصف السورة في صدرها بأنها (مكية) أو (مدنية) ليس توقيفيًّا عن الله تعالى أو نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وإنما هو بحسب المنقول عن السلف في ذلك، ومنه ما هو متفَق عليه، ومنه ما هو مختلَف فيه.

كيف يعرف المكيُّ والمدنيُّ؟
اعتمد العلماء في معرفة المكيِّ والمدنيِّ على منهجين أساسيين:
الأول: المنهج السماعيُّ النقليُّ، ويستند إلى الرواية الصحيحة عن الصحابة الذين عاصروا الوحي، وشاهدوا نزوله، أو يستند إلى الرواية الصحيحة عن التابعين الذين تلقَّوا عن الصحابة وسمعوا منهم كيفيةَ نزوله ومواقعه وأحداثه، ومعظم ما ورد في المكي والمدني من هذا القبيل، ومن أهل العلم مَن شدَّدوا في هذه المسألة، وقال: لم يرد فيها نصٌّ؛ كأمثال: أبي بكر بن العربي، ولكن العلماء قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بهذا، ولم يحدِّد ذلك بالنصوص؛ لأن الصحابة كانوا يشاهدون التنزيل؛ فهم يعرفون ما هو الذي نزل بمكة، وما هو الذى نزل بالمدينة، ولا شكَّ أن ما يرى بالعيان يكفي عن زيادة البيان، ولذلك صحَّ في الصحيحين وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: والله إني لأعلم كلَّ سورة أين أنزلت، وما من آية إلا وأعلم فيما نزلت، ولو أعلمُ أحدًا أعلمَ مني بهذا لركبت إليه الإبل، وجاء مثل هذا عن عليٍّ رضي الله عنه عند أبي نعيم في الحلية، إذًا فالصحابة هم الذين حدَّدوا أين نزلت هذه السور[5].

الثاني: القياسيُّ الاجتهاديُّ، ويستند إلى خصائص المكيِّ والمدنيِّ، فإذا ورد في السورة المكية آية تحمل طابعَ التنزيل المدني، أو تتضمَّن شيئًا من حوادثه قالوا: إنها مدنية، وإذا ورد في السورة المدنية آيةٌ تحمل طابع التنزيل المكي، أو تتضمن شيئًا من حوادثه قالوا: إنها مكية، وإذا وجد في السورة خصائص المكي قالوا: إنها مكية، وإذا وجد فيها خصائص المدني قالوا: مدنية، ولذا قالوا مثلًا: كل سورة فيها قَصص الأنبياء والأُمم الخالية مكية، وكل سورة فيها فريضة أو حد فهي مدنية وهكذا، وأحيانًا يكون بالرجوع إلى القول الثالث، فإن كان في السورة: يا أيها الناس، فإنه في الغالب تكون مكية، وإن كان يا أيها الذين آمنوا، فهو مدني، ولكنه غير منضبط، وطرق القياس في هذه المسألة متنوعة وهى خاضعة للاجتهاد، ولذلك حصل الخلاف في الثنتي عشرة سورة كما مرَّ سابقًا.

أنواع السور المكية والمدنية:
حينما نقول هذه السورة مكية أو مدنية فهذا من حيث الجملة، وهو لا يمنع أن يكون في هذه السور المكية مثلًا آيات مدنية أو المدنية آيات مكية، ولذلك قال العلماء: تتنوَّع هذه السور من حيث اندماج المكي مع المدني إلى أربعة أنواع:
الأول: هناك سور مدنية بأكملها مثل سورة البقرة وآل عمران.

الثاني: هناك سور مكية بأكملها مثل المدثر.

الثالث: سور مكية فيها آيات مدنية كسورة الأعراف (مكية) وفيها آية مدنية وهى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ﴾ [الأعراف: 172]، وقال بعضهم كقتادة: ﴿ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ﴾ [الأعراف: 163].

الرابع:سور مدنية فيها بعض الآيات المكية كسورة الحج فيها قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ﴾ [الحج: 52]، واعلم أن وصف السورة بأنها مكية أو مدنية يكون تبعًا لما يغلب فيها، أو تبعًا لفاتحتها فقد ورد أنه إذا نزلت فاتحة سورة بمكة مثلًا كتبت مكية، ثم يزيد الله فيها ما يشاء، ولعل الأنسب بالاصطلاح المشهور في معنى المكي والمدني أن يقال: إذا نزلت فاتحةُ سورة قبل الهجرة كتبت مكية، وإذا نزلت فاتحة سورة بعد الهجرة كتبت مدنية، ثم يذكر المستثنى من تلك السور إن كان هناك استثناء، فيقال: سورة كذا مكية إلا آية كذا فإنها مدنية، أو سورة كذا مدنية إلا آية كذا فإنها مكية، أو نحو ذلك كما تراه في كثير من المصاحف عنوانًا للسورة، وقد بذل العلماء همَّةً جبَّارة في استقصاء حال ما نزل من السور والآيات حتى لقد قال أبو القاسم النيسابوري في كتاب التنبيه على فضل علوم القرآن قال: "من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته وترتيب ما نزل بمكة والمدينة، وما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وما نزل بمكة في أهل المدينة، وما نزل بالمدينة في أهل مكة، وما يشبه نزول المكي في المدني وما يشبه نزول المدني في المكي، وما نزل بالجحفة، وما نزل ببيت المقدس، وما نزل بالطائف وما نزل بالحديبية، وما نزل ليلًا، وما نزل نهارًا، وما نزل مشيعًا، وما نزل مفردًا والآيات المدنيات في السور المكية والآيات المكيات في السور المدنية، وما حمل من مكة إلى المدينة، وما حمل من المدينة إلى مكة وما حمل من المدينة إلى أرض الحبشة، وما نزل مجملًا، وما نزل مفسَّرًا، وما اختلفوا فيه فقال بعضهم: مكي وبعضهم مدني، فهذه خمسة وعشرون وجهًا مَن لم يعرفها ويميِّز بينها لم يحلَّ له أن يتكلَّم في كتاب الله تعالى"؛ ا.ه، قال السيوطي بعد أن أورد هذا: وقد أشبعت الكلام على هذه الأوجه؛ فمنها ما أفردته بنوعٍ، ومنها ما تكلمت عليه في ضمن بعض الأنواع؛ اه، وجزاهم الله أحسن الجزاء[6].

ضوابط المكي والمدني:
استقرأ العلماء السور المكية والسور المدنية، واستنبطوا ضوابط قياسية لكل من المكيِّ والمدنيِّ، تُبيِّن خصائص الأسلوب والموضوعات التي يتناولها، وخرجوا من ذلك بقواعدَ ومميزات.

أولًا: ضوابط المكي ومميزاته الموضوعية:
1- كل سورة فيها سجدة فهي مكية.
2- كل سورة فيها لفظ(كلَّا) فهي مكية، ولم ترد إلا في النصف الأخير من القرآن، وذُكرت ثلاثًا وثلاثين مرة في خمس عشرة سورة.

3- كل سورة فيها: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ وليس فيها: ﴿ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ فهي مكية، إلا سورة الحج ففي أواخراها: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ﴾ [الحج: 77]، ومع هذا فإن كثيرًا من العلماء يرى أن هذه الآية مكية كذلك.

4- كل سورة فيها قَصص الأنبياء والأمم الغابرة فهي مكية سوى (البقرة).

5- كل سورة فيها آدم وإبليس فهي مكية سوى سورة (البقرة).

6- كل سورة تفتتح بحروف التهجِّي كـ (الم، طسم) ونحو ذلك فهي مكية سوى الزهراوين، وهما: البقرة، وآل عمران، واختلفوا في سورة الرعد.

ثانيًا: ضوابط المدني ومميزاته الموضوعية:
1- كلُّ سورة فيها فريضة أو حد فهي مدنيَّة.
2- كلُّ سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية سوى العنكبوت، فإنها مكيَّة.
3- كل سورة فيها مجادلة أهل الكتاب فهي مدنية[7].


[1] البرهان للزركشي ص132ط دار الحديث مناهل العرفان للشيخ الزرقاني، وشرح النظم الحبير للشيخ الشريم -صوت-.

[2] انظر: الإتقان في علوم القرآن، للإمام السيوطي، ومناهل العرفان، للزرقاني، والنظم الحبير في علوم القرآن، وأصول التفسير للشيخ الشريم.

[3] المطففين

[4] سورة القدر

[5] انظر: الإتقان في علوم القرآن، للسيوطي 1/ 74 بتصريف.

[6] انظر: البرهان للزركشي ص135، والإتقان للسيوطي 1 /48، ومناهل العرفان للزرقاني ص164.

[7] باختصار وتصريف من الإتقان للسيوطي 1 /73.





الساعة الآن : 08:16 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 30.24 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 30.15 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (0.31%)]