ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى السيرة النبوية وعلوم الحديث (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=91)
-   -   أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=205494)

ابوالوليد المسلم 26-07-2019 12:55 PM

أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي
 
أبو بكر الصديق

أولاً: اسمه ونسبه وكنيته وألقابه (1)


علي بن محمد الصلابي



https://static.islamway.net/uploads/articles/BookC1.jpg
هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي, ويلتقي مع النبي في النسب في الجد السادس مرة بن كعب ويكنى بأبي بكر، وهي من البكر وهو الفَتِيُّ من الإبل، والجمع بكارة وأبكر، وقد سمت العرب بكرًا، وهو أبو قبيلة عظيمة. ولقب أبو بكر بألقاب عديدة، كلها تدل على سمو المكانة، وعلو المنزلة وشرف الحسب، منها:
1- العتيق:

لقبه به النبي، فقد قال له: « «أنت عتيق الله من النار» »، فسمي عتيقا. وفي رواية عائشة قالت: دخل أبو بكر الصديق على رسول الله، فقال له رسول الله: «أبشر، فأنت عتيق الله من النار». فمن يومئذ سُمي عتيقاً. وقد ذكر المؤرخون أسباب كثيرة لهذا اللقب، فقد قيل: إنما سمي عتيقاً لجمال وجهه. وقيل: لأنه كان قديماً في الخير. وقيل: سمي عتيقاً لعتاقة وجهه.
وقيل: إن أمَّ أبي بكر كان لا يعيش لها ولد، فلما ولدته استقبلت به الكعبة وقالت: اللهم إن هذا عتيقك من الموت فهبه لي. ولا مانع للجمع بين بعض هذه الأقوال؛ فأبو بكر جميل الوجه، حسن النسب، صاحب يد سابقة إلى الخير، وهو عتيق الله من النار بفضل بشارة النبي له.
2- الصدِّيق:

لقبه به النبي، ففي حديث أنس أنه قال: إن النبي صعد أحدا، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم فقال: «اثبت أحد، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان».
وقد لقب بالصديق لكثرة تصديقه للنبي، وفي هذا تروي أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- فتقول: لما أسري بالنبي إلى المسجد الأقصى، أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعى رجال إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك إلى صاحبك؟ يزعم أن أسري به الليلة إلى بيت المقدس! قال: وقد قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن قال ذلك فقد صدق. قالوا: أو تصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح؟!!
قال: نعم، إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سمي أبو بكر: الصديق.
وقد أجمعت الأمة على تسميته بالصديق لأنه بادر إلى تصديق الرسول، ولازمه الصدق فلم تقع منه هناة أبدًا. فقد اتصف بهذا اللقب ومدحه الشعراء، قال أبو محجن الثقفي:
وسُـميـت صـديقـا وكـل مهاجر *** سواك يسمى باسمه غير منكر
سبقت إلى الإسلام والله شاهد *** وكنت جليسًا في العريش المشهر

وأنشد الأصمعي فقال:
ولكـنـي أحــب بـكل قلبي *** وأعلم أن ذاك من الصواب
رسولَ الله والصديقَ حبًّا *** به أرجو غدًا حسن الثواب


3- الصاحب:
لقبه به الله -عز وجل- في القرآن الكريم: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40].
وقد أجمع العلماء على أن الصاحب المقصود هنا هو أبو بكر فعن أنس أن أبا بكر حدثه فقال: قلت للنبي وهو في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه!! فقال النبي: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما».
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] فإن المراد بصاحبه هنا أبو بكر بلا منازع، والأحاديث في كونه كان معه في الغار كثيرة شهيرة، ولم يشركه في المنقبة غيره.

4- الأتقى:

لقبه به الله -عز وجل- في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى} [الليل: 17]، وسيأتي بيان ذلك في حديثنا عن المعذبين في الله الذين أعتقهم أبو بكر .
5- الأواه:

لقب أبو بكر بالأواه، وهو لقب يدل على الخوف والوجل والخشية من الله تعالى، فعن إبراهيم النخعي قال: كان أبو بكر يسمى بالأواه لرأفته ورحمته.
ثانيًا: مولده وصفته الْخَلْقِيَّة.

لم يختلف العلماء في أنه ولد بعد عام الفيل، وإنما اختلفوا في المدة التي كانت بعد عام الفيل، فبعضهم قال بثلاث سنين، وبعضهم ذكر بأنه ولد بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر، وآخرون قالوا بسنتين وأشهر، ولم يحددوا عدد الأشهر.
وقد نشأ نشأة كريمة طيبة في حضن أبوين لهما الكرامة والعز في قومهما، مما جعل أبا بكر ينشأ كريم النفس، عزيز المكانة في قومه.
وأما صفته الخَلْقية، فقد كان يوصف بالبياض في اللون، والنحافة في البدن،
وفي هذا يقول قيس بن أبي حازم: دخلت على أبي بكر، وكان رجلا نحيفًا، خفيف اللحم أبيض. وقد وصفه أصحاب السير من أفواه الرواة فقالوا: إن أبا بكر اتصف بأنه كان أبيض تخالطه صفرة، حسن القامة، نحيفًا خفيف العارضين، أجنأ، لا يستمسك إزاره يسترخي عن حقويه رقيقا معروق الوجه، غائر العينين، أقنى، حمش الساقين، ممحوص الفخذين، كان ناتئ الجبهة، عاري الأشاجع، ويخضب لحيته وشيبه بالحناء والكتم.
ثالثًا: أسرته.

أما والده فهو عثمان بن عامر بن عمرو، يكنى بأبي قحافة، أسلم يوم الفتح، وأقبل به الصديق على رسول الله فقال: «يا أبا بكر، هلا تركته حتى نأتيه»، فقال أبو بكر: هو أولى أن يأتيك يا رسول الله.
فأسلم أبو قحافة وبايع رسول الله، ويروى أن رسول الله هنأ أبا بكر بإسلام أبيه، وقال لأبي بكر: «غيروا هذا من شعره» فقد كان رأس أبي قحافة مثل الثغام وفي هذا الخبر منهج نبوي كريم سنه النبي في توقير كبار السن واحترامهم، ويؤكد ذلك قوله: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا».
وأما والدة الصديق: فهي سلمى بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، وكنيتها أم الخير، أسلمت مبكرًا، وسيأتي تفصيل ذلك في واقعة إلحاح أبي بكر على النبي على الظهور بمكه


وأما زوجاته: فقد تزوج من أربع نسوة، أنجبن له ثلاثة ذكور وثلاث إناث، وهن على التوالي:

1- قتيلة بنت عبد العزى بن أسعد بن جابر بن مالك:
اختلف في إسلامها، وهي والدة عبد الله وأسماء، وكان أبو بكر طلقها في الجاهلية وقد جاءت بهدايا فيها أقط وسمن إلى ابنتها أسماء بنت أبي بكر بالمدينة، فأبت أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها، فأرسلت إلى عائشة تسأل النبي فقال النبي: «لتدخلها، ولتقبل هديتها»، وأنزل الله -عز وجل-: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، أي: لا يمنعكم الله من البر والإحسان وفعل الخير إلى الكفار الذين سالموكم ولم يقاتلوكم في الدين كالنساء الضعيفة منهم؛ كصلة الرحم، ونفع الجار، والضيافة، ولم يخرجوكم من دياركم، ولا يمنعكم أيضا من أن تعدلوا فيما بينكم وبينهم؛ بأداء ما لهم من الحق؛ كالوفاء لهم بالوعود، وأداء الأمانة، وإيفاء أثمان المشتريات كاملة غير منقوصة. إن الله يحب العادلين ويرضى عنهم، ويمقت الظالمين ويعاقبهم.
2- أم رومان بنت عامر بن عويمر:

من بني كنانة بن خزيمة، مات عنها زوجها الحارث بن سخبرة بمكة، فتزوجها أبو بكر، وأسلمت قديمًا، وبايعت، وهاجرت إلى المدينة، وهي والدة عبد الرحمن وعائشة رضي الله عنهم، وتوفيت في عهد النبي بالمدينة سنة ست من الهجرة.

3- أسماء بنت عُمَيـس بن معبد بن الحارث:
أم عبد الله، من المهاجرات الأوائل، أسلمت قديماً قبل دخول دار الأرقم، وبايعت الرسول ، وهاجر بها زوجها جعفر بن أبي طالب إلىالحبشة، ثم هاجرت معه إلى المدينة فاستشهد يوم مؤتة، وتزوجها الصديق فولدت له محمدا. روى عنها من الصحابة: عمر، وأبو موسى، وعبد الله بن عباس، وهو ابن اختها أم الفضل امرأة العباس. وأمها هند بنت عوف ابن زهير وكانت أكرم الناس أصهارًا؛ فمن أصهارها: رسول الله وحمزة والعباس وغيرهم.

4- حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير:
الأنصارية، الخزرجية وهي التي ولدت لأبي بكر أم كلثوم بعد وفاته، وقد أقام عندها الصديق بالسنح.
وأما أولاد أبي بكر فهم:

1- عبد الرحمن بن أبي بكر:
أسن ولد أبي بكر، أسلم يوم الحديبية، وحسن إسلامه، وصحب رسول الله وقد اشتهر بالشجاعة، وله مواقف محمودة ومشهودة بعد إسلامه.

2- عبد الله بن أبي بكر:
صاحب الدور العظيم في الهجرة، فقد كان يبقى في النهار بين أهل مكة يسمع أخبارهم ثم يتسلل في الليل إلى الغار لينقل هذه الأخبار لرسول الله وأبيه، فإذا جاء الصبح عاد إلى مكة. وقد أصيب بسهم يوم الطائف، فماطله حتى مات شهيدا بالمدينة في خلافة الصديق.

3- محمد بن أبي بكر:
أمه أسماء بنت عميس، ولد عام حجة الوداع وكان من فتيان قريش، عاش في حجر علي بن أبي طالب، وولاه مصر وبها قتل.
4- أسماء بنت أبي بكر:

ذات النطاقين، أسن من عائشة، سماها رسول الله ذات النطاقين لأنها صنعت لرسول الله ولأبيها سفرة لما هاجرا فلم تجد ما تشدها به، فشقت نطاقها وشدت به السفرة، فسماها النبي بذلك. وهي زوجة الزبير بن العوام وهاجرت إلى المدينة وهي حامل بعبد الله بن الزبير فولدته بعد الهجرة، فكان أول مولود في الإسلام بعد الهجرة، بلغت مائة سنة ولم ينكر من عقلها شيء، ولم يسقط لها سِنٌّ. رُوي لها عن الرسول ستة وخمسون حديثا، روى عنها عبد الله بن عباس، وأبناؤها عبد الله وعروة، وعبد الله بن أبي مُليكة وغيرهم، وكانت جوادة منفقة، توفيت بمكة سنة 73 هـ .

5- عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها:
الصديقة بنت الصديق، تزوجها رسول الله وهي بنت ست سنين، ودخل بها وهي بنت تسع سنين، وأعرس بها في شوال، وهي أعلم النساء، كناها رسول الله أم عبد الله، وكان حبه لها مثالاً للزوجية الصالحة.
كان الشعبي يحدث عن مسروق أنه إذا تحدث عن أم المؤمنين عائشة يقول: حدثتني الصديقة بنت الصديق المبرأة حبيبة رسول الله، ومسندها يبلغ ألفين ومائتين وعشرة أحاديث (2210)، اتفق البخاري ومسلم على مائة وأربعة وسبعين حديثا، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين، وانفرد مسلم بتسعة وستين، وعاشت ثلاثاً وستين سنة وأشهرًا، وتوفيت سنة 57 هـ، ولا ذرية لها.

6- أم كلثوم بنت أبي بكر:


أمها حبيبة بنت خارجة، قال أبو بكر لأم المؤمنين عائشة حين حضرته الوفاة: إنما هما أخواك وأختاك، فقالت: هذه أسماء قد عرفتها، فمن الأخرى؟ قال: ذو بطن بنت خارجة، قد ألقى في خلدي أنها جارية، فكانت كما قال: وولدت بعد موته.
تزوجها طلحة بن عبيد الله وقتل عنها يوم الجمل، وحجت بها عائشة في عدتها فأخرجتها إلى مكة.
هذه هي أسرة الصديق المباركة التي أكرمها الله بالإسلام، وقد اختص بهذا الفضل أبو بكر من بين الصحابة،
وقد قال العلماء: لا يعرف أربعة متناسلون بعضهم من بعض صحبوا رسول الله إلا آل أبي بكر الصديق، وهم: عبد الله بن الزبير، أمه أسماء بنت أبي بكر بن أبي قحافة، فهؤلاء الأربعة صحابة متناسلون، وأيضا محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله عنهم.
وليس من الصحابة من أسلم أبوه وأمه وأولاده، وأدركوا النبي وأدركه أيضا بنو أولاده إلا أبو بكر من جهة الرجال والنساء -وقد بينت ذلك- فكلهم آمنوا بالنبي وصحبوه، فهذا بيت الصديق، فأهله أهل إيمان، ليس فيهم منافق ولا يعرف في الصحابة مثل هذه لغير بيت أبي بكر رضي الله عنهم.

وكان يقال: للإيمان بيوت وللنفاق بيوت، فبيت أبي بكر من بيوت الإيمان من المهاجرين، وبيت بني النجار من بيوت الإيمان من الأنصار.



ابوالوليد المسلم 28-07-2019 04:33 PM

رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي
 
أبو بكر الصديق

(2) الرصيد الخلقي للصديق في المجتمع الجاهلي



علي بن محمد الصلابي



https://static.islamway.net/uploads/articles/BookC1.jpg
كان أبو بكر الصديق في الجاهلية من وجهاء قريش وأشرافهم وأحد رؤسائهم، وذلك أن الشرف في قريش قد انتهى قبل ظهور الإسلام إلى عشرة رهط من عشرة أبطن؛ فالعباس ابن عبد المطلب من بني هاشم، وكان يسقي الحجيج في الجاهلية، وبقي له ذلك في الإسلام، وأبو سفيان بن حرب من بني أمية، وكان عنده العقاب (راية قريش)، فإذا لم تجتمع قريش على واحد رأسوه هو وقدموه، والحارث بن عامر من بني نوفل، وكانت إليه الرفادة، وهي ما تدخره قريش من أموالها، وترصد به منقطع السبيل، وعثمان بن طلحة بن زمعة بن الأسود من بني أسد، وكانت إليه المشورة، فلا يُجمع على أمر حتى يعرضوه عليه، فإن وافق ولاهم عليه، وإلا تخير وكانوا له أعوانا.
وأبو بكر الصديق من بني تيم وكانت إليه الأشناق، وهي الديات والمغارم، فكان إذا حمل شيئا فسأل فيه قريشا صدقوه، وأمضوا حمالة من نهض معه، وإن احتملها غيره خذلوه، وخالد بن الوليد من بني مخزوم، وكانت إليه القبة والأعنة، وأما القبة فإنهم كانوا يضربونها ثم يجمعون إليها ما يجهزون به الجيش، وأما الأعنة فإنه كان على خيل قريش في الحرب، وعمر بن الخطاب من بني عدي، وكانت إليه السفارة في الجاهلية، وصفوان بن أمية من بني جمح، وكانت إليه الأزلام، والحارث بن قيس من بني سهم، وكانت إليه الحكومة وأموال آلهتهم.
لقد كان الصديق في المجتمع الجاهلي شريفاً من أشراف قريش، وكان من خيارهم، ويستعينون به فيما نابهم، وكانت له بمكة ضيافات لا يفعلها أحد.
وقد اشتهر بعدة أمور، منها:

1- العلم بالأنساب: فهو عالم من علماء الأنساب وأخبار العرب، وله في ذلك باع طويل جعله أستاذ الكثير من النسابين كعقيل بن أبي طالب وغيره، وكانت له مزية حببته إلى قلوب العرب وهي: أنه لم يكن يعيب الأنساب، ولا يذكر المثالب بخلاف غيره، فقد كان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بها، وبما فيها من خير وشر. وفي هذا تروي عائشة –رضي الله عنها- أن رسول الله قال: «إن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها».

2- تجارته: كان في الجاهلية تاجرًا، ودخل بُصرى من أرض الشام للتجارة، وارتحل بين البلدان، وكان رأس ماله أربعين ألف درهم، وكان ينفق من ماله بسخاء وكرم عُرف به في الجاهلية.


3- موضع الألفة بين قومه وميل القلوب إليه: فقد ذكر ابن إسحاق في «السيرة» أنهم كانوا يحبونه ويألفونه، ويعترفون له بالفضل العظيم والخلق الكريم، وكانوا يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر: لعلمه وتجارته وحسن مجالسته. وقد قال له ابن الدغنة حين لقيه مهاجرا: إنك لتزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتكسب المعدوم، وتفعل المعروف.وقد علق ابن حجر على قول ابن الدغنة فقال: ومن أعظم مناقبه أن ابن الدغنة سيد القارة لما ردَّ عليه جواره بمكة وصفه بنظير ما وصفت به خديجةُ النبيَّ لما بعث، فتوارد فيها نعت واحد من غير أن يتواطأ على ذلك، وهذه غاية في مدحه؛ لأن صفات النبي منذ نشأ كانت أكمل الصفات .

4- لم يشرب الخمر في الجاهلية: فقد كان أعف الناس في الجاهلية، حتى إنه حرم على نفسه الخمر قبل الإسلام، فقد قالت السيدة عائشة -رضي الله عنها-: حرم أبو بكر الخمر على نفسه، فلم يشربها في جاهلية ولا في إسلام، وذلك أنه مر برجل سكران يضع يده في العذرة، ويدنيها من فيه، فإذا وجد ريحها صرفها عنه، فقال أبو بكر: إن هذا لا يدري ما يصنع، وهو يجد ريحها فحماها.وفي رواية لعائشة: ولقد ترك هو وعثمان شرب الخمر في الجاهلية.

وقد أجاب الصديق من سأله هل شربت الخمر في الجاهلية؟ بقوله: أعوذ بالله، فقيل: ولِمَ؟ قال: كنت أصون عرضي، وأحفظ مروءتي، فإن من شرب الخمر كان مضيعًا لعرضه ومروءته.
5- ولم يسجد لصنم: ولم يسجد الصديق لصنم قط، قال أبو بكر في مجمع من أصحاب رسول الله : ما سجدت لصنم قط، وذلك أني لما ناهزت الحلم أخذني أبو قحافة بيدي فانطلق بي إلى مخدع فيه الأصنام، فقال لي: هذه آلهتك الشم العوالي، وخلاني وذهب، فدنوت من الصنم وقلت: إني جائع فأطعمني فلم يُجبني، فقلت: إني عارٍ فاكسني فلم يجبني، فألقيت عليه صخرة فخرَّ لوجهه.
وهكذا حمله خلقه الحميد وعقله النير وفطرته السليمة على الترفع عن كل شيء يخدش المروءة وينقص الكرامة من أفعال الجاهليين وأخلاقهم التي تجانب الفطرة السليمة، وتتنافى مع العقل الراجح والرجولة الصادقة. فلا عجب على من كانت هذه أخلاقه أن ينضم لموكب دعوة الحق ويحتل فيها الصدارة، ويكون بعد إسلامه أفضل رجل بعد رسول الله ، فقد قال : «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا».
وقد علق الأستاذ رفيق العظم عن حياة الصديق في الجاهلية فقال: اللهم إن امرأ نشأ بين الأوثان حيث لا دين زاجر، ولا شرع للنفوس قائد، وهذا مكانه من الفضيلة، واستمساكه بعرى العفة والمروءة... لجدير بأن يتلقى الإسلام بملء الفؤاد، ويكون أول مؤمن بهادي العباد، مبادر بإسلامه لإرغام أنوف أهل الكبير والعناد، ممهد سبيل الاهتداء بدين الله القويم، الذي يجتث أصول الرذائل من نفوس المهتدين بهديه، المستمسكين بمتين سببه.

لله در الصديق ، فقد كان يحمل رصيدًا ضخماً من القيم الرفيعة، والأخلاق الحميدة والسجايا الكريمة في المجتمع القرشي قبل الإسلام، وقد شهد له أهل مكة بتقدمه على غيره في عالم الأخلاق والقيم والمثل، ولم يُعلم أحد من قريش عاب أبا بكر بعيب ولا نقصه ولا استرذله كما كانوا يفعلون بضعفاء المؤمنين، ولم يكن له عندهم عيب إلا الإيمان بالله ورسوله.



ابوالوليد المسلم 03-08-2019 03:51 AM

رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي
 
أبو بكر الصديق

(3) إسلامه ودعوته


علي بن محمد الصلابي



https://static.islamway.net/uploads/articles/BookC1.jpg
كان إسلام أبي بكر وليد رحلة إيمانية طويلة في البحث عن الدين الحق الذي ينسجم مع الفطرة السليمة ويلبي رغباتها، ويتفق مع العقول الراجحة والبصائر النافذة، فقد كان بحكم عمله التجاري كثير الأسفار، قطع الفيافي والصحاري، والمدن والقرى في الجزيرة العربية، وتنقل من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، واتصل اتصالاً وثيقاً بأصحاب الديانات المختلفة وبخاصة النصرانية، وكان كثير الإنصات لكلمات النفر الذين حملوا راية التوحيد، راية البحث عن الدين القويم، فقد حدث عن نفسه فقال: كنت جالساً بفناء الكعبة، وكان زيد بن عمرو بن نُفيل قاعدا، فمر ابن أبي الصلت، فقال: كيف أصبحت يا باغي الخير؟ قال: بخير، قال: وهل وجدت؟ قال: لا، فقال: كل دين يوم القيامة إلا ما مضى في الحنيفية بور،

أما إنَّ هذا النبي الذي ينتظر منا أو منكم، قال: ولم أكن سمعت قبل ذلك بنبي يُنتظر ويبعث، قال: فخرجت أريد ورقة بن نوفل -وكان كثير النظر إلى السماء كثير همهمة الصدر- فاستوقفته، ثم قصصت عليه الحديث، فقال: نعم يا ابن أخي، إنا أهل الكتب والعلوم، ألا إن هذا النبي الذي يُنتظر من أوسط العرب نسباً -ولي علم بالنسب- وقومك أوسط العرب نسباً، قلت: يا عم وما يقول النبي؟

قال: يقول ما قيل له؟ إلا أنه لا يظلم، ولا يُظلم ولا يُظالم، فلما بُعث رسول الله آمنت به وصدقته، وكان يسمع ما يقوله أمية بن أبي الصلت، في مثل قوله:

ألا نبـي لنــا منــــا فـيـخـبـرنــا *** ما بعد غايتنا من رأس مجرانا
إني أعوذ بمن حج الحجيج له *** والـرافعــون لديـن الله أركـانـا


لقد عايش أبو بكر هذه الفترة ببصيرة نافذة، وعقل نير، وفكر متألق، وذهن وقاد، وذكاء حاد، وتأمل رزين ملأ عليه أقطار نفسه، ولذلك حفظ الكثير من هذه الأشعار، ومن تلك الأخبار: فعندما سأل الرسول الكريم أصحابه يومًا -وفيهم أبو بكر الصديق- قائلا: «من منكم يحفظ كلام قس بن ساعدة في سوق عكاظ»، فسكت الصحابة، ونطق الصديق قائلا: إني أحفظها يا رسول الله, كنت حاضرًا يومها في سوق عكاظ، ومن فوق جمله الأورق وقف قس يقول: أيها الناس، اسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا، إن من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت. إن في السماء لخبرًا، وإن في الأرض لعِبَرًا، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لن تغور، ليل داج، وسمات ذات أبراج!!
يُقسم قس: إن لله دينًا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه. ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا، ثم أنشد قائلاً:
في الذاهبيـن الأولين *** مـن القـرون لنـا بـصائــره

لمـا رأيـــت مــــواردًا *** للمـوت ليس لهـا مصـادره

ورأيـت قومي نحوها *** يـسعى الأكابر والأصاغره
أيــقنت أنـي لا مـحـا *** لة حيث صار القوم صائره
وبهذا الترتيب الممتاز، وبهذه الذاكرة الحديدية، وهي ذاكرة استوعبت هذه المعاني، يقص الصديق ما قاله قس بن ساعدة على رسول الله وأصحابه .
وقد رأى رؤيا لما كان في الشام فقصها على بحيرا الراهب، فقال له: من أين أنت؟ قال: من مكة، قال: من أيها؟ قال: من قريش، قال: فأي شيء أنت؟ قال: تاجر، قال: إن صدق الله رؤياك، فإنه يبعث بنبي من قومك، تكون وزيره في حياته، وخليفته بعد موته، فأسر ذلك أبو بكر في نفسه.
لقد كان إسلام الصديق بعد بحث وتنقيب وانتظار، وقد ساعده على تلبية دعوة الإسلام معرفته العميقة وصلته القوية بالنبي في الجاهلية، فعندما نزل الوحي على النبي وأخذ يدعو الأفراد إلى الله، وقع أول اختياره على الصديق؛ فهو صاحبه الذي يعرفه قبل البعثة بدماثة خلقه، وكريم سجاياه، كما يعرف أبو بكر النبي بصدقه، وأمانته وأخلاقه التي تمنعه من الكذب على الناس، فكيف يكذب على الله؟.
فعندما فاتحه رسول الله بدعوة الله وقال له: « «...إني رسول الله ونبيه، بعثني لأبلغ رسالته، وأدعوك إلى الله بالحق، فوالله إنه للحق، أدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له، ولا تعبد غيره، والموالاة على طاعته».
فأسلم الصديق ولم يتلعثم وتقدم ولم يتأخر، وعاهد رسول الله على نصرته، فقام بما تعهد، ولهذا قال رسول الله في حقه: «إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي» مرتين.
وبذلك كان الصديق أول من أسلم من الرجال الأحرار، قال إبراهيم النخعي، وحسان بن ثابت وابن عباس وأسماء بنت أبي بكر: أول من أسلم أبو بكر، وقال يوسف ابن يعقوب الماجشون: أدركت أبي ومشيختنا: محمد بن المنكدر، وربيعة بن عبد الرحمن، وصالح بن كيسان، وسعد بن إبراهيم، وعثمان بن محمد الأخنس، وهم لا يشكون أن أول القوم إسلاما أبو بكر. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: أول من صلى أبو بكر...

هذا وقد ناقش العلماء قضية إسلام الصديق، وهل كان أول من أسلم؛ فمنهم من جزم بذلك، ومنهم من جزم بأن عليًا أول من أسلم، ومنهم من جعل زيد بن حارثة أول من أسلم. وقد جمع الإمام ابن كثير -رحمه الله- بين الأقوال جمعًا طيبًا فقال: «والجمع بين الأقوال كلها: أن خديجة أول من أسلم من النساء -وقيل الرجال أيضا- وأول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة، وأول من أسلم من الغلمان علي بن أبي طالب، فإنه كان صغيرًا دون البلوغ على المشهور وهؤلاء كانوا آنذاك أهل بيته،

وأول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر الصديق، وإسلامه كان أنفع من إسلام من تقدم ذكرهم؛ إذ كان صدرًا معظمًا، رئيسًا في قريش مكرمًا، وصاحب مال وداعية إلى الإسلام، وكان محببا متآلفا يبذل المال في طاعة الله ورسوله» ثم قال: وقد أجاب أبو حنيفة بالجمع بين هذه الأقوال، فإن أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الموالي زيد بن حارثة، ومن الغلمان علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم أجمعين.
وبإسلام أبي بكر عمَّ السرور قلب النبي؛ حيث تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: فلما فرغ من كلامه (أي النبي ) أسلم أبو بكر، فانطلق رسول الله من عنده، وما بين الأخشبين أحد أكثر سرورا منه بإسلام أبي بكر لقد كان أبو بكر كنزًا من الكنوز ادخره الله تعالى لنبيه، وكان من أحب قريش لقريش، فذلك الخلق السمح الذي وهبه الله تعالى إياه جعله من الموطئين أكنافا، من الذين يألفون ويؤلفون، والخلق السمح وحده عنصر كاف لألفة القوم، وهو الذي قال فيه عليه الصلاة والسلام: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر».


وعلم الأنساب عند العرب، وعلم التاريخ هما أهم العلوم عندهم، ولدى أبي بكر الصديق النصيب الأوفر منهما، وقريش تعترف للصديق بأنه أعلمها بأنسابها وأعلمها بتاريخها، وما فيه من خير وشر، فالطبقة المثقفة ترتاد مجلس أبي بكر لتنهل منه علماً لا تجده عند غيره غزارة ووفرة وسعة، ومن أجل هذا كان الشباب النابهون والفتيان الأذكياء يرتادون مجلسه دائماً، إنهم الصفوة الفكرية المثقفة التي تود أن تلقى عنده هذه العلوم، وهذا جانب آخر من جوانب عظمته.

وطبقة رجال الأعمال ورجال المال في مكة، هي كذلك من رواد مجلس الصديق؛ فهو إن لم يكن التاجر الأول في مكة، فهو من أشهر تجارها، فأرباب المصالح هم كذلك قُصَّاده، ولطيبته وحسن خلقه تجد عوام الناس يرتادون بيته، فهو المضياف الدمث الخلق، الذي يفرح بضيوفه، ويأنس بهم، فكل طبقات المجتمع المكي تجد حظها عند الصديق رضوان الله عليه.
كان رصيده الأدبي والعلمي والاجتماعي في المجتمع المكي عظيماً، ولذلك عندما تحرك في دعوته للإسلام استجاب له صفوة من خيرة الخلق.

ثانيًا: دعوته.

أسلم الصديق وحمل الدعوة مع النبي، وتعلم من رسول الله أن الإسلام دين العمل والدعوة والجهاد، وأن الإيمان لا يكمل حتى يهب المسلم نفسه وما يملك لله رب العالمين، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]، وقد كان الصديق كثير الحركة للدعوة الجديدة، وكثير البركة، أينما تحرك أثَّر وحقق مكاسب عظيمة للإسلام، وقد كان نموذجًا حيًّا في تطبيقه لقول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} " [النحل: 125].
كان تحرك الصديق في الدعوة إلى الله بوضوح صورة من صور الإيمان بهذا الدين، والاستجابة لله ورسوله، صورة المؤمن الذي لا يقر له قرار، ولا يهدأ له بال حتى يحقق في دنيا الناس ما آمن به، دون أن تكون انطلاقته دفعة عاطفية مؤقتة سرعان ما تخمد وتذبل وتزول، وقد بقي نشاط أبي بكر وحماسته للإسلام إلى أن توفاه الله -عز وجل- لم يفتر أو يضعف أو يمل أو يعجز.
كانت أول ثمار الصديق الدعوية دخول صفوة من خيرة الخلق في الإسلام، وهم: الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن مظعون، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد، والأرقم ابن أبي الأرقم رضي الله عنهم. وجاء بهؤلاء الصحابة الكرام فرادى فأسلموا بين يدي رسول الله ، فكانوا الدعامات الأولى التي قام عليها صرح الدعوة، وكانوا العُدَّة الأولى في تقوية جانب رسول الله وبهم أعزه الله وأيده، وتتابع الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، رجالاً ونساء، وكان كل من هؤلاء الطلائع داعية إلى الإسلام، وأقبل معهم، رعيل السابقين، الواحد والاثنان، والجماعة القليلة، فكانوا على قلة عددهم كتيبة الدعوة، وحصن الرسالة لم يسبقهم سابق ولا يلحق بهم لاحق في تاريخ الإسلام.اهتم الصديق بأسرته فأسلمت أسماء وعائشة وعبد الله وزوجته أم رومان وخادمه عامر بن فهيرة، لقد كانت الصفات الحميدة والخلال العظيمة والأخلاق الكريمة التي تجسدت في شخصية الصديق عاملاً مؤثرًا في الناس عند دعوتهم للإسلام، فقد كان رصيده الخلقي ضخمًا في قومه وكبيرًا في عشيرته، فقد كان رجلاً مؤلفًا لقومه، محببًا لهم سهلاً، أنسب قريش لقريش، بل كان فرد زمانه في هذا الفن، وكان رئيساً مكرماً سخياً يبذل المال، وكانت له بمكة ضيافات لا يفعلها أحد، وكان رجلا بليغاً.إن هذه الأخلاق والصفات الحميدة لا بد منها للدعاة إلى الله، وإلا أصبحت دعوتهم للناس صيحة في واد ونفخة في رماد، وسيرة الصديق وهي تفسر لنا فهمه للإسلام وكيف عاش به في حياته حدى بالدعاة أن يتأسوا بها في دعوة الأفراد إلى الله تعالى.

ابوالوليد المسلم 03-08-2019 03:55 AM

رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي
 
أبو بكر الصديق

(4) ابتلاؤه


علي بن محمد الصلابي


إن سنة الابتلاء ماضية في الأفراد والجماعات والشعوب والأمم والدول، وقد مضت هذه السنة في الصحابة الكرام، وتحملوا -رضوان الله عليهم- من البلاء ما تنوء به الرواسي الشامخات، وبذلوا أموالهم ودماءهم في سبيل الله، وبلغ بهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ، ولم يسلم أشراف المسلمين من هذا الابتلاء،
فلقد أوذي أبو بكر وحثي على رأسه التراب، وضُرِبَ في المسجد الحرام بالنعال، حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وحمل إلى بيته في ثوبه وهو ما بين الحياة والموت، فقد روت عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنه لما اجتمع أصحاب النبي وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً ألح أبو بكر على رسول الله في الظهور، فقال: «يا أبا بكر إنا قليل»، فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كلُّ رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيباً ورسول الله جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله تعالى وإلى رسوله، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضربوه في نواحي المسجد ضرباً شديدًا، ووُطِئ أبو بكر وضرب ضرباُ شديداً، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين ويُحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر ، حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وجاءت بنو تيم يتعادون، فأجْلَتِ المشركين عن أبي بكر، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة، فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة «والده» وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول: ما فعل رسول الله؟ فقالت: والله ما لي علم بصاحبك، فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل، فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله، فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك؟ قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعاً دنفًا، فدنت أم جميل، وأعلنت بالصياح وقالت: والله إن قوماً نالوا منك لأهل فسق وكفر، إنني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم،
قال: فما فعل رسول الله؟ قالت: هذه أمك تسمع، قال: فلا شيء عليك منها، قالت: سَالِم صَالِح، قال: أين هو؟ قالت: في دار الأرقم، قال: فإن لله عليَّ أن لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله، فأمهلتا حتى إذا هدأت الرِّجْلُ وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما، حتى أدخلتاه على رسول الله، فقال: فأكب عليه رسول الله فقبَّله، وأكب عليه المسلمون، ورقَّ له رسول الله رقة شديدة، فقال أبو بكر: بأبي وأمي يا رسول الله، ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى الله، وادع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار، قال: فدعا لها رسول الله، ودعاها إلى الله فأسلمت.

إن هذا الحدث العظيم في طياته دروس وعبر لكل مسلم حريص على الاقتداء
بهؤلاء الصحب الكرام، ونحاول أن نستخرج بعض هذه الدروس التي منها:

1- حرص الصديق على إعلان الإسلام وإظهاره أمام الكفار، وهذا يدل على قوة إيمانه وشجاعته، وقد تحمل الأذى العظيم، حتى إن قومه كانوا لا يشكون في موته. لقد أُشْرب قلبه حب الله ورسوله أكثر من نفسه، ولم يعد يهمه بعد إسلامه إلا أن تعلو راية التوحيد، ويرتفع النداء: لا إله إلا الله محمد رسول الله في أرجاء مكة حتى لو كان الثمن حياته، وكاد أبو بكر فعلا أن يدفع حياته ثمناً لعقيدته وإسلامه.
2- إصرار أبي بكر على الظهور بدعوة الإسلام وسط الطغيان الجاهلي، رغبة في إعلام الناس بذلك الدين الذي خالطت بشاشته القلوب رغم علمه بالأذى الذي قد يتعرض له وصحبه، وما كان ذلك إلا لأنه خرج من حظ نفسه.
3- حب الله ورسوله تغلغل في قلب أبي بكر وتغلب على حبه لنفسه، بدليل أنه رغم ما ألَمَّ به كان أول ما سأل عنه: ما فعل رسول الله؟ قبل أن يطعم أو يشرب، وأقسم أنه لن يفعل حتى يأتي رسولَ الله، وهكذا يجب أن يكون حب الله ورسوله عند كل مسلم؛ أحب إليه مما سواهما حتى لو كلفه ذلك نفسه وماله.
4-إن العصبية القبلية كان لها في ذلك الحين دور في توجيه الأحداث والتعامل مع الأفراد حتى مع اختلاف العقيدة، فهذه قبيلة أبي بكر تهدد بقتل عتبة إن مات أبو بكر.
5- تظهر مواقف رائعة لأم جميل بنت الخطاب، توضح لنا كيف تربت على حُب الدعوة والحرص عليها، وعلى الحركة لهذا الدين، فحينما سألتها أم أبي بكر عن رسول الله قالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، فهذا تصرف حذر سليم؛ لأن أم الخير لم تكن ساعتئذ مسلمة وأم جميل كانت تخفي إسلامها، ولا تود أن تعلم به أم الخير، وفي ذات الوقت أخفت عنها مكان الرسول مخافة أن تكون عينًا لقريش، وفي نفس الوقت حرصت أم جميل أن تطمئن على سلامة الصديق، ولذلك عرضت على أم الخير أن تصحبها إلى ابنها، وعندما وصلت إلى الصديق كانت أم جميل في غاية الحيطة والحذر من أن تتسرب منها أي معلومة عن مكان رسول الله ، وأبلغت الصديق بأن رسول الله سالم صالح، ويتجلى الموقف الحذر من الجاهلية التي تفتن الناس عن دينهم في خروج الثلاثة عندما (هدأت الرجل وسكن الناس) .
6- يظهر بر الصديق بأمه وحرصه على هدايتها في قوله لرسول الله: هذه أمي برة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى الله وادع الله لها عسى أن يستنقذها بك من النار. إنه الخوف من عذاب الله والرغبة في رضاه وجنته، ولقد دعا رسول الله لأم أبي بكر بالهداية فاستجاب الله له، وأسلمت أم أبي بكر وأصبحت من ضمن الجماعة المؤمنة المباركة التي تسعى لنشر دين الله تعالى. ونلمس رحمة الله بعباده ونلحظ من خلال الحدث (قانون المنحة بعد المحنة).

7- إن من أكثر الصحابة الذين تعرضوا لمحنة الأذى والفتنة بعد رسول الله أبا بكر الصديق نظرًا لصحبته الخاصة له، والتصاقه به في المواطن التي كان يتعرض فيها للأذى من قومه، فينبري الصديق مدافعا عنه وفاديا إياه بنفسه، فيصيبه من أذى القوم وسفههم، هذا مع أن الصديق يعتبر من كبار رجال قريش المعروفين بالعقل والإحسان




ابوالوليد المسلم 08-08-2019 11:34 PM

رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي
 
أبو بكر الصديق

(5) دفاعه عن النبي



علي بن محمد الصلابي


من صفات الصديق التي تميز بها الجرأة والشجاعة، فقد كان لا يهاب أحدًا في الحق، ولا تأخذه لومة لائم في نصرة دين الله والعمل له والدفاع عن رسوله، فعن عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص بأن يخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي فقال: بينما النبي يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديدًا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي وقال: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) [غافر: 28]،
وفي رواية أنس أنه قال: لقد ضربوا رسول الله مرة حتى غشي عليه، فقام أبو بكر فجعل ينادي: ويلكم، أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟! وفي حديث أسماء: فأتى الصريخ إلى أبي بكر، فقال: أدرك صاحبك، قالت: فخرج من عندنا وله غدائر أربع وهو يقول: ويلكم، أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، فلهوا عنه وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئا من غدائره إلا رجع معه.
وأما في حديث علي بن أبي طالب فقد قام خطيباً وقال: يا أيها الناس، من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين، فقال: أما إني ما بارزني أحد إلا انتصفت منه، ولكن هو أبو بكر، وإنا جعلنا لرسول الله عريشاً فقلنا: من يكون مع رسول الله لئلا يهوي عليه أحد من المشركين؟ فوالله ما دنا منه أحد إلا أبو بكر شاهرًا بالسيف على رأس رسول الله ، لا يهوي إليه أحد إلا أهوى إليه فهذا أشجع الناس. قال: ولقد رأيت رسول الله وأخذته قريش، فهذا يحادَّه، وهذا يتلتله ويقولون: أنت جعلت الآلهة إلهاً واحدًا، فوالله ما دنا منه أحد إلا أبو بكر يضرب ويجاهد هذا ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم، أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، ثم رفع على بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم هو؟ فسكت القوم، فقال علي: فوالله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه.
هذه صورة مشرقة تبين طبيعة الصراع بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والإيمان والكفر، وتوضح ما تحمَّله الصديق من الألم والعذاب في سبيل الله تعالى،كما تعطي ملامح واضحة عن شخصيته الفذة، وشجاعته النادرة التي شهد له بها الإمام علي في خلافته، أي بعد عقود من الزمن، وقد تأثر علي حتى بكى وأبكى.
إن الصديق أول من أوذي في سبيل الله بعد رسول الله وأول من دافع عن رسول الله، وأول من دعا إلى الله، وكان الذراع اليمنى لرسول الله ، وتفرغ للدعوة وملازمة رسول الله وإعانته على من يدخلون الدعوة في تربيتهم وتعليمهم وإكرامهم؛ فهذا أبو ذر يقص لنا حديثه عن إسلامه، ففيه: «... فقال أبو بكر: ائذن لي يا رسول الله في طعامه الليلة، وأنه أطعمه من زبيب الطائف».
وهكذا كان الصديق في وقوفه مع رسول الله يستهين بالخطر على نفسه، ولا يستهين بخطر يصيب النبي قل أو كثر حيثما رآه واستطاع أن يذود عنه العادين عليه، وإنه ليراهم آخذين بتلابيبه فيدخل بينهم وبينه، وهو يصيح بهم: «ويلكم، أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟» فينصرفون عن النبي وينحون عليه يضربونه، يجذبونه من شعره فلا يدعونه إلا وهو صديع».

ابوالوليد المسلم 08-08-2019 11:39 PM

رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي
 
أبو بكر الصديق

(6) إنفاقه الأموال لتحرير المعذبين في الله


علي بن محمد الصلابي


تضاعف أذى المشركين لرسول الله ولأصحابه مع انتشار الدعوة في المجتمع المكي الجاهلي، حتى وصل إلى ذروة العنف وخاصة في معاملة المستضعفين من المسلمين، فنكلت بهم لتفتنهم عن عقيدتهم وإسلامهم، ولتجعلهم عبرة لغيرهم، ولتنفس عن حقدها وغضبها بما تصبه عليهم من العذاب.
وقد تعرض بلال لعذاب عظيم، ولم يكن لبلالظهر يسنده، ولا عشيرة تحميه، ولا سيوف تذود عنه، ومثل هذا الإنسان في المجتمع الجاهلي المكي يعادل رقمًا من الأرقام، فليس له دور في الحياة إلا أن يخدم ويطيع ويباع ويشترى كالسائمة، أما أن يكون له رأي أو يكون صاحب فكر، أو صاحب دعوة أو صاحب قضية، فهذه جريمة شنعاء في المجتمع الجاهلي المكي تهز أركانه، وتزلزل أقدامه، ولكن الدعوة الجديدة التي سارع لها الفتيان وهم يتحدون تقاليد وأعراف آبائهم الكبار لامست قلب هذا العبد المرمي المنسي، فأخرجته إنساناً جديداً في الحياة، قد تفجرت معاني الإيمان في أعماقه بعد أن آمن بهذا الدين وانضم إلى محمد وإخوانه في موكب الإيمان العظيم.
وعندما علم سيده أمية بن خلف، راح يهدده تارة ويغريه أطوارا، فما وجد عند بلال غير العزيمة وعدم الاستعداد للعودة إلى الوراء.. إلى الكفر والجاهلية والضلال، فحنق عليه أمية وقرر أن يعذبه عذاباً شديدًا، فأخرجه إلى شمس الظهيرة في الصحراء بعد أن منع عنه الطعام والشراب يوماً وليلة، ثم ألقاه على ظهره فوق الرمال المحرقة الملتهبة، ثم أمر غلمانه فحملوا صخرة عظيمة وضعوها فوق صدر بلال وهو مقيد اليدين، ثم قال له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، وأجاب بلال بكل صبر وثبات: أحد أحد، وبقي أمية بن خلف مدة وهو يعذب بلالاً بتلك الطريقة البشعة، فقصد الصديق موقع التعذيب وفاوض أمية بن خلف وقال له: «ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى؟! قال: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى، فقال أبو بكر: أفعل، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى على دينك أعطيكه به، قال: قد قبلت، فقال: هو لك، فأعطاه أبو بكر الصديق غلامه ذلك وأخذه فأعتقه». وفي رواية: اشتراه بسبع أواق أو بأربعين أوقية ذهباً.
ما أصبر بلالا وما أصلبه! فقد كان صادق الإسلام، طاهر القلب، ولذلك صَلُب ولم تلن قناته أمام التحديات وأمام صنوف العذاب، وكان صبره وثباته مما يغيظهم ويزيد حنقهم، خاصة أنه كان الرجل الوحيد من ضعفاء المسلمين الذي ثبت على الإسلام فلم يوات الكفار فيما يريدون، مرددا كلمة التوحيد بتحدٍّ صارخ، وهانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه. وبعد كل محنة منحة؛ فقد تخلص بلال من العذاب والنكال، وتخلص من أسر العبودية، وعاش مع رسول الله بقية حياته ملازماً له، ومات راضياً عنه.
واستمر الصديق في سياسة فك رقاب المسلمين المعذبين، وأصبح هذا المنهج من ضمن الخطة التي تبنتها القيادة الإسلامية لمقاومة التعذيب الذي نزل بالمستضعفين، فدعَّم الدعوة بالمال والرجال والأفراد، فراح يشتري العبيد والإماء والمملوكين من المؤمنين والمؤمنات، منهم: عامر بن فهيرة, شهد بدرا وأحدا، وقتل يوم بئر معونة شهيدا. وأم عبيس، وزنيرة، وأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كذبوا، وبيت الله ما تضر اللات والعزى وما تنفعان، فرد الله بصرها. وأعتق النهدية وبنتها، وكانتا لامرأة من بني عبد الدار، مر بهما وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها، وهي تقول: لا أعتقكما أبدًا، فقال أبو بكر : حل يا أم فلان. فقالت: حل أنت، أفسدتهما فأعتقهما، قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا، وقالت: قد أخذتهما وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها، قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها؟ قال: وذلك إن شئتما.
وهنا وقفة تأمل ترينا كيف سوى الإسلام بين الصديق والجاريتين حتى خاطبتاه خطاب الند للند، لا خطاب المسود للسيد، وتقبل الصديق -على شرفه وجلالته في الجاهلية والإسلام- منهما ذلك، مع أن له يدا عليهما بالعتق، وكيف صقل الإسلام الجاريتين حتى تخلقتا بهذا الخلق الكريم، وكان يمكنهما وقد أعتقتا وتحررتا من الظلم أن تدعا لها طحينها يذهب أدراج الرياح، أو يأكله الحيوان والطير، ولكنهما أبتا –تفضُّلا- إلا أن تفرغا منه، وترداه إليها.
ومر الصديق بجارية بني مؤمّل (حي من بني عدي بن كعب) وكانت مسلمة، وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام، وهو يومئذ مشرك يضربها، حتى إذا ملَّ قال: إني أعتذر إليك، إني لم أتركك إلا عن ملالة، فتقول: كذلك فعل الله بك، فابتاعها أبو بكر فأعتقها.
هكذا كان واهب الحريات، ومحرر العبيد، شيخ الإسلام الوقور، الذي عُرِفَ في قومه بأنه يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، ولم ينغمس في إثم في جاهليته، أليف مألوف، يسيل قلبه رقة ورحمة على الضعفاء والأرقاء، أنفق جزءًا كبيرًا من ماله في شراء العبيد، وعتقهم لله وفي الله قبل أن تنزل التشريعات الإسلامية المحببة في العتق والواعدة عليه أجزل الثواب.
كان المجتمع المكي يتندر بأبي بكر الذي يبذل هذا المال كله لهؤلاء المستضعفين، أما في نظر الصديق فهؤلاء إخوانه في الدين الجديد، فكل واحد من هؤلاء لا يساويه عنده مشركو الأرض وطغاتها، وبهذه العناصر وغيرها تبني دولة التوحيد، وتصنع حضارة الإسلام الرائعة. ولم يكن الصديق يقصد بعمله هذا محمدة ولا جاهًا، ولا دنيا،
وإنما كان يريد وجه الله ذا الجلال والإكرام. لقد قال له أبوه ذات يوم: يا بني، إني أراك تعتق رقاباً ضعافاً، فلو أنك إذا فعلت أعتقت رجالاً جلدًا يمنعونك ويقومون دونك؟ فقال أبو بكر : يا أبت، إني إنما أريد ما أريد لله عز وجل. فلا عجب إذا كان الله سبحانه أنزل في شأن الصديق قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ` وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ` فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ` وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ` وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ` فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ` وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ` إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ` وَإِنَّ لَنَا لَلآَخِرَةَ وَالأُولَى ` فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى ` لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأشْقَى ` الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ` وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى ` الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ` وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى ` إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى ` وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 5 – 21].
لقد كان الصديق من أعظم الناس إنفاقا لماله فيما يرضي الله ورسوله.
كان هذا التكافل بين أفراد الجماعة الإسلامية الأولى قمة من قمم الخير والعطاء، وأصبح هؤلاء العبيد بالإسلام أصحاب عقيدة وفكرة يناقشون بها وينافحون عنها، ويجاهدون في سبيلها، وكان إقدام أبي بكر على شرائهم ثم عتقهم دليلاً على عظمة هذا الدين ومدى تغلغله في نفسية الصديق، وما أحوج المسلمين اليوم إلى أن يحيوا هذا المثل الرفيع، والمشاعر السامية؛ ليتم التلاحم والتعايش والتعاضد بين أبناء الأمة التي يتعرض أبناؤها للإبادة الشاملة من قِبَل أعداء العقيدة والدين.

ابوالوليد المسلم 13-08-2019 09:59 PM

رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي
 

أبو بكر الصديق

(7) هجرته الأولى وموقف ابن الدغنة منها


علي بن محمد الصلابي


https://static.islamway.net/uploads/articles/BookC1.jpg
قالت عائشة -رضي الله عنها-:لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله طرفي النهار (بكرة وعشية)، فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجرًا نحو أرض الحبشة حتى برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي، قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يُخرج؛ إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق. فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش، فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يُخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟ فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره، فليصُلِّ فيها وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك ولا يَسْتَعْلِن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر، فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه وينظرون إليه.

وكان أبو بكر رجلا بكَّاء لا يملك عينه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدًا بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمته، فإنا قد كرهنا أن نُخْفِرك، ولسنا بمقرين لأبي بكر الاستعلان، قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إليَّ ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له، فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله عز وجل.
وحين خرج من جوار ابن الدغنة (يعني أبو بكر) لقيه سفيه من سفهاء قريش وهو عامد إلى الكعبة فحثا على رأسه تراباً، فمر بأبي بكر الوليدُ بن المغيرة أو العاص بن وائل فقال له أبو بكر ألا ترى ما يصنع هذا السفيه؟ فقال: أنت فعلت ذلك بنفسك، وهو يقول: ربي ما أحلمك، أي ربي ما أحلمك، أي ربي ما أحلمك.

وفي هذه القصة دروس وعبر كثيرة، منها:

1- كان أبو بكر في عز من قومه قبل بعثة محمد ، فها هو ابن الدغنة يقول له: مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يُخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فأبو بكر لم يدخل في دين الله طلباً لجاه أو سلطان، وما دفعه إلى ذلك إلا حب الله ورسوله مهما يترتب على ذلك من ابتلاءات؛ أي أنه لم يكن له تطلعات سوى مرضاة الله تعالى. إنه يريد أن يفارق الأهل والوطن والعشيرة ليعبد ربه؛ لأنه حيل بينه وبين ذلك في وطنه.
2- إن زاد الصديق في دعوته القرآنُ الكريم، ولذلك اهتم بحفظه وفهمه وفقهه والعمل به، وأكسبه الاهتمام بالقرآن الكريم براعة في تبليغ الدعوة، وروعة في الأسلوب، وعمقًا في الأفكار، وتسلسلاً عقلياً في عرض الموضوع الذي يدعو إليه، ومراعاة لأحوال السامعين، وقوة في البرهان والدليل.
وكان الصديق يتأثر بالقرآن الكريم ويبكي عند تلاوته، وهذا يدل على رسوخ يقينه وقوة حضور قلبه مع الله عز وجل، ومع معاني الآيات التي يتلوها، والبكاء مبعثه قوة التأثر؛ إما بحزن شديد أو فرح غامر، والمؤمن الحق يظل بين الفرح بهداية الله تعالى إلى الصراط المستقيم، والإشفاق من الانحراف قليلاً عن هذا الصراط. وإذا كان صاحب إحساس حي وفكر يقظ كأبي بكر فإن هذا القرآن يذكر بالحياة الآخرة وما فيها من حساب وعقاب أو ثواب، فيظهر أثر ذلك في خشوع الجسم وانسكاب العَبَرَات، وهذا المظهر يؤثر كثيرًا على من شاهده، ولذلك فزع المشركون من مظهر أبي بكر المؤثر وخشوا على نسائهم وأبنائهم أن يتأثروا به فيدخلوا في الإسلام.
لقد تربى الصديق على يدي رسول الله ، وحفظ كتاب الله تعالى وعمل به في حياته، وتأمل فيه كثيرًا، وكان لا يتحدث بغير علم؛ فعندما سئل عن آية لا يعرفها أجاب بقوله: أي أرض تسعني أو أي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لم يُرد الله.
ومن أقواله التي تدل على تدبره وتفكره في القرآن الكريم قوله: إن الله ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وغفر لهم سيئها، فيقول الرجل: أين أنا من هؤلاء؟! يعني: حسنها، فيقول قائل: لست من هؤلاء، يعني وهو منهم.

وكان يسأل رسول الله فيما استشكل عليه بأدب وتقدير واحترام، فلما نزل قوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} [النساء: 123]، قال أبو بكر: يا رسول الله، قد جاءت قاصمة الظهر، وأيُّنَا لم يعمل سوءًا؟ فقال: يا أبا بكر، ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ فذلك مما تجزون به.
وقد فسر الصديق بعض الآيات، مثل قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]، قال فيها: فلم يلتفتوا عنه يمنة ولا يسرة، فلم يلتفتوا بقلوبهم إلى ما سواه لا بالحب ولا بالخوف، ولا بالرجاء ولا بالسؤال ولا بالتوكل عليه؛ بل لا يحبون إلا الله ولا يحبون معه أندادًا، ولا يحبون إلا إياه؛ لا لطلب منفعة، ولا لدفع مضرة، ولا يخافون غيره كائناً من كان، ولا يسألون غيره، ولا يتشرفون بقلوبهم إلى غيره. وغير ذلك من الآيات.
إن الدعاة إلى الله عليهم أن يكونوا في صحبة مستمرة للقرآن الكريم، يقرأونه ويتدبرونه ويستخرجون كنوزه ومعارفه للناس، وأن يُظْهروا للناس ما في القرآن من إعجاز بياني وعلمي وتشريعي، وما فيه من سبل إنقاذ الإنسانية المعذبة من مآسيها وحروبها، بأسلوب يناسب العصر، ويكافئ ما وصل إليه الناس من تقدم في وسائل الدعوة والدعاية. ولقد أدرك أبو بكر كيف تكون قراءة القرآن الكريم في المسجد على ملأ من قريش وسيلة مؤثرة من وسائل الدعوة إلى الله.

سابعًا: بين قبائل العرب في الأسواق:

قد علمنا أن الصديق كان عالماً بالأنساب وله فيها الباع الطويل؛ قال السيوطي -رحمه الله تعالى-: رأيت بخط الحافظ الذهبي -رحمه الله- من كان فرد زمانه في فنه... أبو بكر في النسب. ولذلك استخدم الصديق هذا العلم الفياض وسيلة من وسائل الدعوة؛ ليعلم كل ذي خبرة كيف يستطيع أن يسخِّرَ ذلك في سبيل الله على اختلاف التخصصات، وألوان المعرفة، سواء كان علمه نظرياً أو تجريبياً، أو كان ذا مهنة مهمة في حياة الناس.
وسوف نرى الصديق يصحبه رسول الله عندما عرض نفسه على قبائل العرب ودعاهم إلى الله، كيف وظف هذا العلم لدعوة الله؛ فقد كان الصديق خطيباً مفوهًا له القدرة على توصيل المعاني بأحسن الألفاظ، وكان يخطب عن النبي في حضوره وغيبته، فكان النبي إذا خرج في الموسم يدعو (أي أبو بكر) الناس إلى متابعة كلامه تمهيدًا وتوطئة لما يبلغ الرسول، معونة له، لا تقدماً بين يدي الله ورسوله. وكان علمه في النسب ومعرفة أصول القبائل مساعدًا له على التعامل معها، فعن علي بن أبي طالب قال: لما أمر الله -عز وجل- نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه... إلى أن قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليه السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر فسلم، فقال: من القوم؟ قالوا: من بني شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله وقال: بأبي أنت وأمي، ليس وراء هؤلاء عذر من قومهم وهؤلاء غرر الناس وفيهم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة والنعمان بن شريك، وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم لساناً وجمالاً، وكان له غديرتان تسقطان على تريبته، وكان أدنى القوم مجلساً من أبي بكر، فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لا نزيد على الألف ولن تغلب الألف من قلة، فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم، فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضباً حين نلقى، وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا أخرى.
لعلك أخو قريش؟ فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أن رسول الله فها هو ذا، فقال مفروق: إلام تدعونا يا أخا قريش؟ فقال رسول الله : «أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني عبد الله ورسوله، وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشًا قد تظاهرت على الله وكذبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد».

فقال مفروق: وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش، فوالله ما سمعت كلاماً أحسن من هذا؟ فتلا رسول الله قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151]، فقال مفروق: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك، ثم رد الأمر إلى هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ شيخنا وصاحب ديننا، فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى أن تَرْكَنَا ديننا واتباعنا دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لذل في الرأي وقلة نظر في العاقبة، إن الزلة مع العجلة وإنا نكره أن نعقد على من وراءنا عقدًا، ولكن نرجع وترجع وننظر.. ثم كأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا، فقال المثنى (وأسلم بعد ذلك): قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا ومتابعتنا دينك، وإنا إنما نزلنا بين صيرين أحدهما اليمامة والأخرى السمامة، فقال رسول الله: «وما هذا الصيران» ؟ فقال له: أما أحدهما فطفوف البر وأرض العرب، وأما الآخر فأرض فارس وأنهار كسرى، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثًا، ولا نؤوي محدثا، ولعل هذا الأمر الذي تدعونا إليه مما تكرهه الملوك، فأما ما كان مما يلي بلاد العرب فذنب صاحبه مغفور وعذره مقبول، وأما ما كان يلي بلاد فارس فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول، فإن أردت أن ننصرك مما يلي العرب فعلنا، فقال رسول الله: «ما أسأتم في الرد؛ إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله -عز وجل- لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه. أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلاً حتى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه» ؟. فقال له النعمان بن شريك: اللهم فَلَكَ ذاك.

وفي هذا الخبر دروس وعبر وفوائد كثيرة، منها:

1- ملازمة الصديق لرسول الله ، وهذا جعله يفهم الإسلام بشموله، وهيأه الله تعالى بأنه يصبح أعلم الصحابة بدين الله؛ فقد تعلم من رسول الله حقيقة الإسلام، وتربى على يديه في معرفة معانيه، فاستوعب طبيعة الدعوة ومر بمراحلها المتعددة، واستفاد من صحبته لرسول الله، وتشرب المنهج الرباني، فعرف المولى - عز وجل- من خلاله، وطبيعة الحياة، وحقيقة الكون، وسر الوجود، وماذا بعد الموت، ومفهوم القضاء والقدر، وقصة الشيطان مع آدم، وحقيقة الصراع بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والإيمان الكفر. وحببت إليه العبادات؛ كقيام الليل، وذكر الله، وتلاوة القرآن، فسمت أخلاقه، وتطهرت نفسه، وزكت روحه.
2- وفي رفقته لرسول الله عندما كان يدعو القبائل للإسلام استفاد الكثير؛ فقد عرف أن النصرة التي كان يطلبها رسول الله لدعوته من زعماء القبائل أن يكون أهل النصرة غير مرتبطين بمعاهدات دولية تتناقض مع الدعوة ولا يستطيعون التحرر
منها؛ وذلك لأن احتضانهم للدعوة والحالة هذه يُعرضها لخطر القضاء عليها من قِبَل الدول التي بينهم وبينها تلك المعاهدات، والتي تجد في الدعوة الإسلامية خطرًا عليها وتهديدا لمصالحها.

إن الحماية المشروطة أو الجزئية لا تحقق الهدف المقصود، فلن يخوض بنو شيبان حربًا ضد كسرى لو أراد القبض على رسول الله وتسليمه، ولن يخوضوا حربا ضد كسرى لو أراد مهاجمة رسول الله وأتباعه، وبذلك فشلت المباحثات.
3- «إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه»، كان هذا الرد من النبي على المثنى بن حارثة؛ حيث عرض على النبي حمايته على مياه العرب دون مياه الفرس، فمن يسبر أغوار السياسة البعيدة يرى بعد النظر الإسلامي النبوي الذي لا يسامى.
4- كان موقف بني شيبان يتسم بالأريحية والخلق والرجولة، وينم عن تعظيم هذا النبي، وعن وضوح في العرض، وتحديد مدى قدرة الحماية التي يملكونها، وقد بينوا أن أمر الدعوة مما تكرهه الملوك، وقدر الله لشيبان بعد عشر سنوات أو تزيد أن تحمل هي ابتداء عبء مواجهة الملوك بعد أن أشرق قلبها بنور الإسلام، وكان المثنى بن حارثة الشيباني صاحب حربهم وبطلهم المغوار الذي كان من ضمن قادة الفتوح في خلافة الصديق، فكان وقومه من أجرأ المسلمين بعد إسلامهم على قتال الفرس، بينما كانوا في جاهليتهم يرهبون الفرس ولا يفكرون في قتالهم؛ بل إنهم ردوا دعوة النبي بعد قناعتهم بها لاحتمال أن تلجئهم إلى قتال الفرس، الأمر الذي لم يكونوا يفكرون به أبدا، وبهذا تعلم عظمة هذا الدين الذي رفع الله به المسلمين في الدنيا؛ حيث جعلهم سادة الأرض مع ما ينتظرون في أخراهم من النعيم الدائم في جنات النعيم.

* * *











ابوالوليد المسلم 13-08-2019 10:06 PM

رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي
 
أبو بكر الصديق

(8) هجرته مع رسول الله إلى المدينة


علي بن محمد الصلابي


https://static.islamway.net/uploads/articles/BookC1.jpg
تمهيد:

اشتدت قريش في أذى المسلمين والنيل منهم؛ فمنهم من هاجر إلى الحبشة مرة أو مرتين فرارًا بدينه، ثم كانت الهجرة إلى المدينة. ومن المعلوم أن أبا بكر استأذن النبي في الهجرة فقال له: «لا تعجل، لعل الله يجعل لك صاحبًا» فكان أبو بكر يطمع أن يكون في صحبة النبي. وهذه السيدة عائشة -رضي الله عنها- تحدثنا عن هجرة رسول الله وأبيها حيث قالت: كان لا يخطئ رسول الله أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله في الهجرة، والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله بالهاجرة، في ساعة كان لا يأتي فيها، قالت: فلما رآه أبو بكر، قال: ما جاء رسول الله هذه الساعة إلا لأمر حدث، قالت: فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره فجلس رسول الله، وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر،

فقال رسول الله: «أخرج عني من عندك»، فقال: يا رسول الله، إنما هما ابنتاي، وما ذاك فداك أبي وأمي! فقال:«أنه قد أذن لي في الخروج والهجرة»، قلت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله؟ قال: «الصحبة»، قالت فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أحدًا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، ثم قال: يا نبي الله، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا، فاستأجرا عبد الله بن أريقط, رجلاً من بني الديل بن بكر، وكانت أمه امرأة من بني سهم بن عمرو، وكان مشركاً يدلهما على الطريق، فدفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما.
وجاء في رواية البخاري عن عائشة في حديث طويل تفاصيل مهمة، وفي ذلك الحديث:... قالت عائشة: فبينما نحن يوماً جلوساً في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله متقنعاً، في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال رسول الله لأبي بكر: «أخرج مَنْ عندك» فقال أبو بكر: إنما هم أهلك، فقال: «فإني قد أذن لي في الخروج»، فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله! قال رسول الله:«نعم»، قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين، قال رسول الله:«بالثمن»، قالت عائشة: فجهزناهما أحسن الجهاز، ووضعنا لهم سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاقين، ثم لحق رسول الله وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكمنا فيه ثلاث ليالي يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف، لقن، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما حيث تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل (وهو لبن منحهم ورضيفهما) ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله وأبو بكر رجلاً من بني الديل وهو من بني عبد ابن عدي هاديا خريتا (والخريت: الماهر)، قد غمس حلفاً في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعده غار ثور بعد ثلاث
ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل.

لم يعلم بخروج رسول الله أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وآل أبي بكر، وجاء وقت الميعاد بين رسول الله وأبي بكر، فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته؛ وذلك للإمعان في الاستخفاء حتى لا تتبعهما قريش وتمنعهما من تلك الرحلة المباركة، وقد اتعدا مع الليل على أن يلقاهما عبد الله بن أريقط في غار ثور بعد ثلاث ليال، وقد دعا النبي عند خروجه من مكة إلى المدينة، ووقف عند خروجه بالحزورة في سوق مكة وقال: «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخْرِجْتُ منك ما خرجت».
ثم انطلق رسول الله وأبو بكر، والمشركون يحاولون أن يقتفوا آثارهم حتى بلغوا الجبل –جبل ثور- اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسيج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ها هنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه، وهذه من جنود الله -عز وجل-: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31]. وبالرغم من كل الأسباب التي اتخذها رسول الله فإنه لم يرتكن إليها مطلقاً، وإنما كان كامل الثقة في الله، عظيم الرجاء في نصره وتأييده، دائم الدعاء بالصيغة التي علمه الله إياها([12])، قال تعالى: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا} [الإسراء: 80].
وفي هذه الآية الكريمة دعاء يُعلمه الله -عز وجل- لنبيه ليدعوه به، ولتتعلم أمته كيف تدعو الله وكيف تتجه إليه، دعاء بصدق المدخل وصدق المخرج، كناية عن صدق الرحلة كلها، بدئها وختامها، أولها وآخرها، وما بين الأول والآخر، وللصدق هنا قيمته بمناسبة ما حاوله المشركون من فتنته عما أنزله الله عليه ليفتري على الله غيره، وللصدق كذلك ظلاله؛ ظلال الثبات والاطمئنان والنظافة والإخلاص: {وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا}، قوة وهيبة استعلى بهما على سلطان الأرض وقوة المشركين، وكلمة {مِن لَّدُنْكَ} تصور القرب والاتصال بالله والاستمداد من عونه مباشرة واللجوء إلى حِمَاه.

وصاحب الدعوة لا يمكن أن يستمد السلطان إلا من الله، ولا يمكن أن يهاب إلا بسلطان الله، لا يمكن أن يستظل بحاكم أو ذي جاه فينصره ويمنعه ما لم يكن اتجاهه قبل ذلك إلى الله، والدعوة قد تغزو قلوب ذوي السلطان والجاه، فيصبحون لها جندًا وخدمًا فيفلحون، ولكنها هي لا تفلح إن كانت من جند السلطان وخدمه، فهي من أمر الله، وهي أعلى من ذوي السلطان والجاه .
وعندما أحاط المشركون بالغار، وأصبح منهم رأي العين طمأن الرسول الصديق بمعية الله لهما، فعن أبي بكر الصديق قال: قلت للنبي وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: «ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما».
وسجل الحق -عز وجل- ذلك في قوله تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].
وبعد ثلاث ليال من دخول النبي في الغار خرج رسول الله وصاحبه من الغار، وقد هدأ الطلب، ويئس المشركون من الوصول إلى رسول الله، وقد قلنا: إن رسول الله وأبا بكر قد استأجرا رجلاً من بني الديل يسمى عبد الله بن أريقط، وكان مشركاوقد أمناهُ فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما، وقد جاءهما فعلاً في الموعد المحدد، وسلك بهما طريقًا غير معهودة ليخفي أمرهما عمن يلحق بهم من كفار قريش.
وفي أثناء الطريق إلى المدينة مرَّ النبي بأم معبد في قديد، حيث مساكن خزاعة، وهي أخت حبيش بن خالد الخزاعي الذي روى قصتها، وهي قصة تناقلها الرواة
وأصحاب السير، وقال عنها ابن كثير: «وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضًا».
وقد أعلنت قريش في نوادي مكة بأنه من يأتي بالنبي حيًّا أو ميتا فله مائة ناقة، وانتشر هذا الخبر عند قبائل العرب الذين في ضواحي مكة، وطمع سراقة بن مالك بن جعشم في نيل المكسب الذي أعدته قريش لمن يأتي برسول الله فأجهد نفسه لينال ذلك، ولكن الله بقدرته التي لا يغلبها غالب جعله يرجع مدافعا عن رسول الله بعد أن كان جاهدًا عليه.
ولما سمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله من مكة، كانوا يفدون كل غداة إلى الحرة، فينتظرون حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعدما أطالوا انتظارهم فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر رسول الله وأصحابه مبيضين، يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، فقام أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه، فعرف الناس رسول الله عند ذلك.
كان يوم وصول الرسول وأبي بكر إلى المدينة يوم فرح وابتهاج لم ترَ المدينة يوماً مثله، ولبس الناس أحسن ملابسهم كأنهم في يوم عيد، ولقد كان حقاً يوم عيد؛ لأنه اليوم الذي انتقل فيه الإسلام من ذلك الحيز الضيق في مكة إلى رحابة الانطلاق والانتشار بهذه البقعة المباركة (المدينة)، ومنها إلى سائر بقائع الأرض. لقد أحس أهل المدينة بالفضل الذي حباهم الله به، وبالشرف الذي اختصهم الله به، فقد صارت بلدتهم موطنًا لإيواء رسول الله وصحابته المهاجرين، ثم لنصرة الإسلام، كما أصبحت موطناً للنظام الإسلامي العام التفصيلي بكل مقوماته، ولذلك خرج أهل المدينة يهللون في فرح وابتهاج ويقولون: يا رسول الله، يا محمد يا رسول الله. وبعد هذا الاستقبال الجماهيري العظيم الذي لم ير مثله في تاريخ الإنسانية سار رسول الله حتى نزل في دار أبي أيوب الأنصاري، ونزل الصديق على خارجة بن زيد الخزرجي الأنصاري.
وبدأت رحلة المتاعب والمصاعب والتحديات، فتغلب عليها رسول الله للوصول للمستقبل الباهر للأمة والدولة الإسلامية التي استطاعت أن تصنع حضارة إنسانية رائعة على أسس من الإيمان والتقوى والإحسان والعدل، بعد أن تغلبت على أقوى دولتين كانتا تحكمان في العالم، وهما الفرس والروم، وكان الصديق الساعد الأيمن لرسول الله منذ بزوغ الدعوة حتى وفاته.
وكان أبو بكر ينهل بصمت وعمق من ينابيع النبوة حكمةً وإيماناً، يقيناً وعزيمة، وتقوى وإخلاصاً، فإذا هذه الصحبة تثمر صلاحًا وصِدِّيقيَّة، ذكرًا ويقظة، حبًّا وصفاء، عزيمة وتصميماً، إخلاصاً وفهماً، فوقف مواقفه المشهودة بعد وفاة رسول الله في سقيفة بني ساعدة وغيرها من المواقف، وبعث جيش أسامة، وحروب الردة، فأصلح ما فسد وبنى ما هُدم، وجمع ما تفرق، وقوَّم ما انحرف.

إن حادثة هجرة الصديق مع رسول الله فيها دروس وعبر وفوائد، منها:
أولا:قال تعالى:{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].
ففي هذه الآية الكريمة دلالة على أفضلية الصديق من سبعة أوجه، ففي الآية الكريمة من فضائل أبي بكر:

1- أن الكفار أخرجوه:

الكفار أخرجوا الرسول «ثاني اثنين»، فلزم أن يكونوا أخرجوهما، وهذا هو الواقع.

2- أنه صاحبه الوحيد:
الذي كان معه حين نصره الله؛ إذ أخرجه الذين كفروا هو أبو بكر، وكان ثاني اثنين الله ثالثهما.
قوله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ}، ففي المواضع التي لا يكون مع النبي مع أكابر الصحابة إلا واحد يكون هو ذلك الواحد؛ مثل سفره في الهجرة، ومقامه يوم بدر في العريش لم يكن معه فيه إلا أبو بكر، ومثل خروجه إلى قبائل العرب يدعوهم إلى الإسلام كان يكون معه من أكابر الصحابة أبو بكر، وهذا اختصاص في الصحبة لم يكن لغيره باتفاق أهل المعرفة بأحوال النبي.

3- أنه صاحبه في الغار:
الفضيلة في الغار ظاهرة بنص القرآن، وقد أخرجا في الصحيحين من حديث أنس عن أبي بكر ، قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا. فقال : «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما». وهذا الحديث مع كونه مما اتفق أهل العلم على صحته وتلقيه بالقبول، فلم يختلف في ذلك اثنان منهم، فهو مما دل القرآن على معناه. يختلف في ذلك اثنان منهم، فهو مما دل القرآن على معناه.

4- أنه صاحبه المطلق:

قوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} لا يختص بمصاحبته في الغار؛ بل هو صاحبه المطلق الذي عمل في الصحبة، كما لم يشركه فيه غيره فصار مختصا بالأكملية من الصحبة، وهذا مما لا نزاع فيه بين أهل العلم بأحوال النبي، ولهذا قال من قال من العلماء: إن فضائل الصديق خصائص لم يشركه فيها غيره.

5- أنه المشفق عليه:
قوله {لاَ تَحْزَنْ} يدل على أن صاحبه كان مشفقا عليه محبًّا له، ناصرًا له حيث يحزن، وإنما يحزن الإنسان حال الخوف على من يحبه، وكان حزنه على النبي لئلا يقتل ويذهب الإسلام، ولهذا لما كان معه في سفر الهجرة كان يمشي أمامه تارة، ووراءه تارة، فسأله النبي عن ذلك، فقال: أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون وراءك، وفي رواية أحمد في كتاب «فضائل الصحابة»:... فجعل أبو بكر يمشي خلفه ويمشي أمامه، فقال له النبي:«ما لك» قال: يا رسول الله، إذا كنت أمامك خشيت أن تؤتى من وراءك، وإذا كنت خلفك خشيت أن تؤتى من أمامك. قال: لما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: يا رسول الله، كما أنت حتى أَقُمَّه.. فلما رأى أبو بكر جحرًا في الغار فألقمها قدمَه، وقال: يا رسول الله، إن كانت لسعة أو لدغة كانت بي. فلم يكن يرضى بمساواة النبي؛ بل كان لا يرضى بأن يقتل رسول الله وهو يعيش، كان يختار أن يفديه بنفسه وأهله وماله، وهذا واجب على كل مؤمن، والصديق أقوم المؤمنين بذلك.

6- المشارك له في معية الاختصاص:
قوله: {إِنَّ اللهَ مَعَنَا} صريح في مشاركة الصديق للنبي في هذه المعية التي اختص بها الصديق لم يشركه فيها أحد من الخلق. وهي تدل على أنه معهما بالنصر والتأييد، والإعانة على عدوهما. فيكون النبي قد أخبر أن الله ينصرني وينصرك يا أبا بكر ويعيننا عليهم، نصرَ إكرام ومحبة، كما قال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ} [غافر: 51]. وهذا غاية المدح لأبي بكر إذا دل على أنه ممن شهد له الرسول بالإيمان المقتضي نصرَ الله له مع رسوله في مثل هذا الحال التي يخذل فيها عامة الخلق إلا من نصره الله.
وقال الدكتور عبد الكريم زيدان عن المعية في هذه الآية الكريمة: وهذه المعية الربانية المستفادة من قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ مَعَنَا} أعلى من معيته للمتقين والمحسنين في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128]؛ لأن المعية هنا لذات الرسول وذات صاحبه، غير مقيدة بوصف هو عمل لهما، كوصف التقوى والإحسان بل هي خاصة برسوله وصاحبه، كمقولة هذه المعية بالتأييد بالآيات وخوارق العادات.
7- أنه صاحبه في حال إنزال السكينة والنصر:

قال تعالى: {فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 40]، فإن من كان صاحبه في حال الخوف الشديد فلأن يكون صاحبه في حضور النصر والتأييد أولى وأحرى، فلم يحتج أن يذكر صحبته له في هذه الحال لدلالة الكلام والحال عليهما، وإذا علم أنه صاحبه في هذه الحال علم أنما حصل للرسول من إنزال السكينة والتأييد بالجنود التي لم يرها الناس لصاحبه فيها أعظم مما لسائر الناس، وهذا من بلاغة القرآن وحسن بيانه.




ابوالوليد المسلم 16-08-2019 04:14 PM

رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي
 
أبو بكر الصديق

(9) فقه النبي والصديق في التخطيط والأخذ بالأسباب


علي بن محمد الصلابي



https://static.islamway.net/uploads/articles/BookC1.jpg
إن من تأمل حادثة الهجرة رأى دقة التخطيط فيها ودقة الأخذ بالأسباب من ابتدائها ومن مقدماتها إلى ما جرى بعدها، يدرك أن التخطيط المسدد بالوحي في حياة رسول الله كان قائما، وأن التخطيط جزء من السنة النبوية، وهو جزء من التكليف الإلهي في كل ما طولب به المسلم، وأن الذين يميلون إلى العفوية بحجة أن التخطيط وإحكام الأمور ليسا من السنة، أمثال هؤلاء مخطئون ويجنون على أنفسهم وعلى المسلمين.
فعندما حان وقت الهجرة للنبي في التنفيذ نلاحظ الآتي:

أ- وجود التنظيم الدقيق للهجرة حتى نجحت رغم ما كان يكتنفها من صعاب وعقبات، وذلك أن كل أمر من أمور الهجرة كان مدروسا دراسة وافية، فمثلاً:
1- جاء إلى بيت أبي بكر في وقت شدة الحر؛ الوقت الذي لا يخرج فيه أحد؛ بل من عادته لم يكن يأتي له، لماذا؟ حتى لا يراه أحد.
2- إخفاء شخصيته أثناء مجيئه للصديق وجاء إلى بيت الصديق متلثمًا؛ لأن التلثم يقلل من إمكانية التعرف على معالم الوجه المتلثم.
3- أمر أبا بكر أن يخرج من عنده، ولما تكلم لم يُبِن إلا الأمر بالهجرة دون تحديد الاتجاه.
4- وكان الخروج ليلا ومن باب خلفي في بيت أبي بكر.
5- بلغ الاحتياط مداه باتخاذ طرق غير مألوفة للقوم، والاستعانة بذلك بخبير يعرف مسالك البادية، ومسارب الصحراء، وكان ذلك الخبير مشركاً ما دام على خلق ورزانة، وفيه دليل على أن الرسول كان لا يحجم على الاستعانة بالخبرات مهما يكن مصدرها. وقد يبين الشيخ عبد الكريم زيدان أن القاعدة والأصل عدم الاستعانة بغير المسلم في الأمور العامة، ولهذه القاعدة استثناء، وهو جواز الاستعانة بغير المسلم بشروط معينة،
وهي: تحقيق المصلحة أو رجحانها بهذه الاستعانة، وأن لا يكون ذلك على حساب الدعوة ومعانيها، وأن يتحقق الوثوق الكافي بمن يستعان به، وأن لا تكون هذه الاستعانة مثار شبهة لأفراد المسلمين، وأن تكون هناك حاجة حقيقية لهذه الاستعانة على وجه الاستثناء، وإذا لم تتحقق لم تجز الاستعانة.
وقد كان الصديق قد دعا أولاده للإسلام ونجح بفضل الله في هذا الدور الكبير والخطير، وقام بتوظيف أسرته لخدمة الإسلام ونجاح هجرة رسول الله، فوزع بين أولاده المهام الخطيرة في مجال التنفيذ العملي لخطة الهجرة المباركة:

1- دور عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما:

فقد قام بدور صاحب المخابرات الصادق وكشف تحركات العدو، لقد ربى عبد الله على حب دينه، والعمل لنصرته ببصيرة نافذة وفطنة كاملة وذكاء متوقد، يدل على العناية الفائقة التي اتبعها سيدنا أبو بكر في تربيته. وقد رسم له أبوه دوره في الهجرة فقام به خير قيام، وكان يتمثل في التنقل بين مجالس أهل مكة يستمع أخبارهم وما يقولونه في نهارهم، ثم يأتي الغار إذا أمسى، فيحكي للنبي ولأبيه الصديق ما يدور بعقول أهل مكة وما يدبرونه، وقد أتقن عبد الله هذا الواجب بطريقة رائعة، فلم تأخذ واحدًا من أهل مكة ريبة فيه، وكان يبيت عند الغار حارسًا، حتى إذا اقترب النهار عاد إلى مكة فما شعر به أحد.

2- دور عائشة وأسماء رضي الله عنهما:
كان لأسماء وعائشة دور عظيم أظهر فوائد التربية الصحيحة، حيث قامتا عند قدوم النبي إلى بيت أبي بكر ليلة الهجرة بتجهيز طعام النبي ولأبيهما.. تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: فجهزناهما (تقصد رسول الله وأباها) أحسن الجهاز فصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فلذلك سميت ذات النطاقين.

3- دور أسماء في تحمل الأذى وإخفاء أسرار المسلمين:
أظهرت أسماء -رضي الله عنها- دور المسلمة الفاهمة لدينها، المحافظة على أسرار الدعوة، المتحملة لتوابع ذلك من الأذى والتعنت. فهذه أسماء تحدثنا بنفسها حيث تقول: لما خرج رسول الله وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قلت: لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده وكان فاحشاً خبيثاً، فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي، قالت: ثم انصرفوا.
فهذا درس من أسماء -رضي الله عنها- تعلمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل، كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء، وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم.

4- دور أسماء -رضي الله عنها- في بث الأمان والطمأنينة في البيت:
خرج أبو بكر مع رسول الله ومعه ماله كله، وهو ما تبقى من رأسماله، وكان خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم، وجاء أبو قحافة ليتفقد بيت ابنه ويطمئن على أولاده، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه، قالت: كلا يا أبت، ضع يدك على هذا المال، قالت: فوضع يده عليه، فقال: لا بأس، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن. وفي هذا بلاغ لكم. لا والله ما ترك لنا شيئاً، ولكني أردت أن أسكِّن الشيخ بذلك.
وبهذه الفطنة والحكمة سترت أسماء أباها، وسكن قلب جدها الضرير من غير أن تكذب، فإن أباها قد ترك لهم حقا هذه الأحجار التي كومتها لتطمئن لها نفس الشيخ، إلا أنه قد ترك لهم معها إيمانا بالله لا تزلزله الجبال، ولا تحركه العواصف الهوج، ولا يتأثر بقلة أو كثرة في المال، ورَّثهم يقيناً وثقة به لا حد لهما، وغرس فيهم همة تتعلق بمعالي الأمور، ولا تلتفت إلى سفاسفها، فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عزَّ أن يتكرر، وقلَّ أن يوجد نظيره.

لقد ضربت أسماء -رضي الله عنها- بهذه المواقف لنساء وبنات المسلمين مثلا هنَّ في أمسِّ الحاجة إلى الاقتداء به، والنسج على منواله، وظلت أسماء مع أخواتها في مكة لا تشكو ضيقا، ولا تظهر حاجة، حتى بعث النبي زيد بن حارثة وأبا رافع مولاه، وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم إلى مكة، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه، وسودة بنت زمعة زوجه، وأسامة بن زيد، وأمه بركة المكناة بأم أيمن، وخرج معهما عبد الله بن أبي بكر بعيال أبي بكر، حتى قدموا المدينة مصطحبين.

5- دور عامر بن فهيرة مولى أبي بكر :

من العادة عند كثير من الناس إهمال الخادم وقلة الاكتراث بأمره، لكن الدعاة الربانيين لا يفعلون ذلك، إنهم يبذلون جهدهم لهداية من يلاقونه، لذا أدَّب الصديق عامر بن فهيرة مولاه وعلمه، فأضحى عامر جاهزًا لفداء الإسلام وخدمة الدين.
وقد رسم له سيدنا أبو بكر دورًا هاماً في الهجرة، فكان يرعى الغنم مع رعيان مكة، لكن لا يلفت الأنظار لشيء، حتى إذا أمسى أراح بغنم سيدنا أبي بكر على النبي فاحتلبا وذبحا، ثم يكمل عامر دور عبد الله بن أبي بكر حين يغدو من عنده رسول الله وصاحبه عائدًا إلى مكة، فيتتبع آثار عبد الله ليعفي عليها، مما يعد ذكاء وفطنة في الإعداد لنجاح الهجرة.
وإنه لدرس عظيم يستفاد من الصديق لكي يهتم المسلمون بالخدم الذين يأتونهم من مشارق الدنيا ومغاربها، ويعاملونهم على كونهم بَشَرًا أولاً، ثم يعلمونهم الإسلام، فلعل الله يجعل منهم من يحمل هذا الدين كما ينبغي.
إن ما قام به الصديق من تجنيد أسرته لخدمة صاحب الدعوة في هجرته يدل على تدبير للأمور على نحو رائع دقيق، واحتياط للظروف بأسلوب حكيم، ووضع لكل شخص من أشخاص الهجرة في مكانه المناسب، وسدٍّ لجميع الثغرات، وتغطية بديعة لكل مطالب الرحلة، واقتصار على العدد اللازم من الأشخاص من غير زيادة ولا إسراف. لقد أخذ الرسول بالأسباب المعقولة أخذًا قوياً حسب استطاعته وقدرته، ومن ثم باتت عناية الله متوقعة.
إن اتخاذ الأسباب أمر ضروري وواجب، ولكن لا يعني ذلك دائما حصول النتيجة؛ ذلك لأن هذا أمر يتعلق بأمر الله ومشيئته، ومن هنا كان التوكل أمرًا ضرورياً وهو من باب استكمال اتخاذ الأسباب.
إن رسول الله أعد كل الأسباب واتخذ كل الوسائل، ولكنه في الوقت نفسه مع الله يدعوه ويستنصره أن يكلل سعيه بالنجاح، وهنا يستجاب الدعاء، ويكلل العمل النجاح.

ثالثًا: جندية الصديق الرفيعة وبكاؤه من الفرح:

تظهر أثر التربية النبوية في جندية أبي بكر الصديق، فأبو بكر عندما أراد أن يهاجر إلى المدينة وقال له رسول الله: «لا تعجل، لعل الله يجعل لك صاحبًا» »، فقد بدأ في الإعداد والتخطيط للهجرة «فابتاع راحلتين واحتبسهما في داره يعلفهما إعدادًا لذلك». وفي رواية البخاري: وعلف راحلتين كانتا عنده، ورق السمر (وهو الخبط) أربعة أشهر، لقد كان يدرك بثاقب بصره (وهو الذي تربى ليكون قائدًا) أن لحظة الهجرة صعبة قد تأتي فجأة ولذلك هيأ وسيلة الهجرة ورتب تموينها، وسخَّر أسرته لخدمة النبي، وعندما جاء رسول الله وأخبره أن الله قد أذن له في الخروج والهجرة بكى من شدة الفرح، وتقول عائشة -رضي الله عنها- في هذا الشأن: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدًا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ، إنها قمة الفرح البشري، أن يتحول الفرح إلى بكاء،
فالصديق يعلم أن معنى هذه الصحبة أنه سيكون وحده برفقة رسول رب العالمين بضعة عشر يوماً على الأقل، وهو الذي سيقدم حياته لسيده وقائده وحبيبه المصطفى، فأي فوز في هذا الوجود يفوق هذا الفوز، أن ينفرد الصديق وحده من دون أهل الأرض ومن دون الصحب جميعاً برفقة سيد الخلق وصحبته كل هذه المدة.
وتظهر معاني الحب في الله في خوف أبي بكر وهو في الغار من أن يراهما المشركون ليكون الصديق مثلاً لما ينبغي أن يكون عليه جندي الدعوة الصادق مع قائده الأمين، حين يحدق به الخطر, من خوف وإشفاق على حياته، فما كان أبو بكر ساعتئذ بالذي يخشى على نفسه الموت، ولو كان كذلك لما رافق رسول الله في هذه الهجرة الخطيرة وهو يعلم أن أقل جزائه القتل إن أمسكه المشركون مع رسول الله، ولكنه كان يخشى على حياة الرسول الكريم، وعلى مستقبل الإسلام إن وقع الرسول في قبضة المشركين.
ويظهر الحس الأمني الرفيع للصديق في هجرته مع النبي في مواقف كثيرة منها، حين أجاب السائل: من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فقال: هذا هادٍ يهديني السبيل، فظن السائل بأن الصديق يقصد الطريق، وإنما كان يقصد سبيل الخير، وهذا يدل على حسن استخدام أبي بكر للمعاريض فرارًا من الحرج أو الكذب. وفي إجابته للسائل تورية وتنفيذ للتربية الأمنية التي تلقاها من رسول الله ؛ لأن الهجرة كانت سرًّا، وقد أقره الرسول على ذلك.

ابوالوليد المسلم 16-08-2019 04:20 PM

رد: أبو بكر الصديق علي بن محمد الصلابي
 

أبو بكر الصديق

(10) فن قيادة الأرواح وفن التعامل مع النفوس


علي بن محمد الصلابي


https://static.islamway.net/uploads/articles/BookC1.jpg
يظهر الحب العميق الذي سيطر على قلب أبي بكر لرسول الله في الهجرة، كما يظهر حب سائر الصحابة أجمعين في سيرة الحبيب المصطفى، وهذا الحب الرباني كان نابعا من القلب وبإخلاص، ولم يكن حب نفاق أو نابعاً من مصلحة دنيوية، أو رغبة من منفعة أو رهبة لمكروه قد يقع. ومن أسباب هذا الحب لرسول الله صفاته القيادية الرشيدة، فهو يسهر ليناموا، ويتعب ليستريحوا، ويجوع ليشبعوا، كان يفرح لفرحهم ويحزن لحزنهم، فمن سلك سنن الرسول مع صحابته، في حياته الخاصة والعامة، وشارك الناس في أفراحهم وأتراحهم، وكان عمله لوجه الله، أصابه هذا الحب إن كان من الزعماء أو القادة أو المسئولين في أمة الإسلام.
وصدق الشاعر الليبي أحمد رفيق المهداوي عندما قال:
فإذا أحب الله باطنَ عبده
ظهرت عليه مواهب الفتاح
وإذا صفت لله نية مصلح
مال العباد عليه بالأرواح



إن القيادة الصحيحة هي التي تستطيع أن تقود الأرواح قبل كل شيء، وتستطع أن تتعامل مع النفوس قبل غيرها، وعلى قدر إحسان القيادة يكون إحسان الجنود، وعلى قدر البذل من القيادة يكون الحب من الجنود، فقد كان رحيماً وشفوقاً بجنوده وأتباعه، فهو لم يهاجر إلا بعد أن هاجر معظم أصحابه، ولم يبق إلا المستضعفون والمفتونون، ومن كانت له مهمات خاصة بالهجرة.
والجدير بالذكر أن حب الصديق لرسول الله كان لله، ومما يبين الحب لله والحب لغير الله أن أبا بكر كان يحب النبي مخلصاً لله، وأبو طالب عمه كان يحبه وينصره لهواه لا لله، فتقبل الله عمل أبي بكر وأنزل فيه قوله: + {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى *الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 17- 21]، وأما أبو طالب فلم يتقبل عمله، بل أدخله النار؛ لأنه كان مشركاً عاملاً لغير الله، وأبو بكر لم يطلب أجره من الخلق، لا من النبي ولا من غيره، بل آمن به وأحبه وكلأه وأعانه في الله، متقرباً بذلك إلى الله وطالبًا الأجر من الله، ويبلغ عن الله أمره ونهيه ووعده ووعيده.

خامسًا: مرض أبي بكر الصديق بالمدينة في بداية الهجرة:

كانت هجرة النبي وأصحابه عن البلد الأمين تضحية عظيمة عبر عنها النبي بقوله: «والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخْرجت منك ما خرجت».
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: لما قدم رسول الله المدينة قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى، وكان واديها يجري نجلا (يعني ماء آجنا) فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم، وصرف الله ذلك عن نبيه، قالت: فكان أبو بكر وعامر بن فهيرة وبلال في بيت واحد، فأصابتهم الحمى، فاستأذنت رسول الله عيادتهم فأذن، فدخلت إليهم أعودهم -وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب- وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك، فدنوت من أبي بكر فقلت: يا أبت، كيف تجدك؟ فقال: كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله

قالت: فقلت: والله ما يدري أبي ما يقول، ثم دنوت من عامر بن فهيرة فقلت: كيف تجدك يا عامر؟ فقال: لقد وجدت الموت قبل ذوقه إن الجبان حتفه من فوقه كل امرئ مجاهد بطوقه كالثور يحمي جلده بروقه

قالت: قلت: والله ما يدري عامر ما يقول. قالت: وكان بلال إذا أقلع عنه الحمى اضطجع بفناء البيت ثم يرفع عقيرته، ويقول:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل وهل أرِدَن يوما مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل

قالت: فأخبرت رسول الله بذلك فقال: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم وصححها وبارك لنا في مدها وصاعها،وانقل حمَّاها واجعلها بالجحفة».
وقد استجاب الله دعاء نبيه، وعوفي المسلمون بعدها من هذه الحمى، وغدت المدينة موطنًا ممتازًا لكل الوافدين والمهاجرين إليها من المسلمين على تنوع بيئاتهم ومواطنهم.

شرع رسول الله بعد استقراره بالمدينة في تثبيت دعائم الدولة الإسلامية، فآخى بين المهاجرين والأنصار، ثم أقام المسجد، وأبرم المعاهدة مع اليهود، وبدأت حركة السرايا، واهتم بالبناء الاقتصادي والتعليمي والتربوي في المجتمع الجديد، وكان أبو بكر -رضي الله عنه- وزير صدق لرسول الله ولازمه في كل أحواله، ولم يغب عن مشهد من المشاهد، ولم يبخل بمشورة أو مال أو رأي.


الساعة الآن : 12:05 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 108.83 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 108.32 كيلو بايت... تم توفير 0.51 كيلو بايت...بمعدل (0.47%)]