ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى أعلام وشخصيات (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=106)
-   -   لمحات من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية ودعوته السلفية (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=221850)

ابوالوليد المسلم 10-01-2020 06:39 AM

لمحات من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية ودعوته السلفية
 
لمحات من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية ودعوته السلفية


أحمد الشحات





عندما عَلم الإمام أحمد بن مُري الحنبلي بخبر وفاة ابن تيمية-رحمه الله-، أرسل رسالةً إلى تلامذة الشيخ يُصبِّرهم فيها ويواسيهم على مصيبتهم؛ فقال لهم: والله -إن شاء الله- ليقيمنَّ اللهُ -سبحانه- لنصر هذا الكلام، ونشره وتدوينه وتَفَهُّمِه، واستخراج مقاصده، واستحسان عجائبه وغرائبه، رجالاً هم إلى الآن في أصلاب آبائهم، وهذه هي سُنَّة الله الجارية في عباده وبلاده، قال الحافظ البزَّارُ: هذا مع ما نشر الله له من علومه في الآفاق، وبهر بفنونه البصائر والأحداق، وملأ بمحاسن مؤلفاته الصُّحُف والأوراق، كبتًا ورغمًا للأعداء أهل البِدَع المضلة والأهواء.
بهذه المقطوعة المُبهِرة، وبهذا النقل المُفْعَم بالأمل أردت أن أبدأ مقدمتي عن شيخ الإسلام-رحمه الله-؛ فقد صدَقَت نبوءة الإمام الحنبلي، وانتشرت علوم ابن تيمية ورسائله في كل مكان، واطَّلع على كتبه واستفاد من كنوزها ودررها المخالفون له والمعترضون عليه قبل المُحِبِّين له العارفين بشأنه، وها هي ذي الجامعات العلمية في كل بلاد الدنيا، تكتظ بالرسائل العلمية المستفيضة عن حياة شيخ الإسلام، وعن تراثه وآرائه المتجددة؛ فشيخ الإسلام يندر أن يجود الزمان بمثله، ومع ذلك فقد مات الشيخ -رحمه الله- مسجونًا مظلومًا، ممنوعًا من دروسه وتلامذته، بل منعوا عنه كُتُبَه وأقلامه وقراطيسه!
حملة غاشمة
وإذا كانت هناك حملة غاشمة على شيخ الإسلام -رحمه الله- في حياته؛ فإن هذه الحملة لم تنقطع منذ وفاته حتى الآن؛ فالرجال العظماء بقدر ما ينالون من تقدير العقلاء والنابهين، ينالهم من أذى الحاقدين والجُهَّال والمتربصين، وهذه سنةٌ ماضيةٌ في كل الأعلام والمُجدِّدين على مدار التاريخ.
ليس حديثًا هينًا
إذًا؛ فالحديث عن ابن تيمية -رحمه الله- ليس حديثًا هينًا؛ فنحن لا نتحدث عن عَلَم من أعلام الإسلام، أو شمس من شموس الدنيا فقط، ولكننا في الحقيقة نتحدث عن شخصية علمية فريدة، وقلعة فكرية شامخة، أذهلَت الناس بتميزه وسبقه لزمانه؛ فقد قام ابن تيمية -رحمه الله- بنشر العلم، وتجديد الدين، ومُناظَرَة المُخالِفين، وتأسيس مدرسة ما زال أتباعها وتلامذتها منتشرين في شتى بقاع العالم.
جولةٌ في حياة شيخ الإسلام
نشأ تَقِيُّ الدِّين أبو الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن تَيْمِية الْحَرَّانِي -رحمه الله- نشأةً علميةً عميقةً؛ فأبوه وجدُّه من فقهاء الحنابلة الكبار، وجدُّه من العلماء الفطاحل الذين دَوَّنوا كُتبًا لها ثقل ومكانة بين علماء المذهب، وقد نهل أحمد ابن تيمية من علماء عصره وأفاد منهم، ولكن نتاج شيخ الإسلام ابن تيمية كان ذا صبغة خاصة، اعتمد فيها على تكوينه العقليّ والفكريّ وقريحته الذكية؛ فقد وهبه الله عقلًا ثاقبًا، وبصيرة مستنيرة، تمكّن من خلالها أن يتجاوز شيوخ عصره وعلماء زمانه، وقدَّم للبشرية منتجًا فكريًا حضاريًا رائقًا، لم ينفصل فيه عن الواقع، ولم يخاصم فيه تراث السلف، بل نجح فى المزج بينهما والتأليف بين أجزائهما؛ فقدم آراءً متجددة ونظرات واعية كانت -طوال العُقود السابقة وما زالت- حاضرة في أدبيات الحركة الإسلامية في مصر، والشام، والجزيرة العربية، والمغرب، واليمن ومراجعها.
عنايته بالعلوم كافة
وقد عُنِي الشيخ -رحمه الله- بالحديث، وتعلم الخط والحساب، وحفظ القرآن، ثم أقبل على الفقه، وقرأ أيامًا في العربية وأخذ يتأمل كتاب (سيبويه) حتى فهمه، وبرع في النحو، وأقبل على التفسير إقبالًا كليًّا حتى سبق فيه، وأحكم أصول الفقه، كل هذا وهو ابن بضع عشرة سنة؛ فانبهر الفضلاء من فرط ذكائه وسيلان ذهنه وقوة حافظته وإدراكه، ونشأ في تصوّن تام وعفاف واقتصاد في الملبس والمأكل، وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره؛ فيناظر ويفحم الكبار، ويأتي بما يتحيرون منه، وشرع في الجمع والتأليف، وبَعُد صيته في العالم كله.
آية في الذكاء
قال عنه الذهبي -رحمه الله-: كان آية في الذكاء وسرعة الإدراك، رأسًا في معرفة الكتاب والسُنَّة والاختلاف، بحرًا في النقليات، هو في زمانه فريد عصره علمًا وزهدًا وشجاعةً وسخاءً وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر وكثرة تصانيف، وقرأ وحصَّل وبدَّع في الحديث والفقه، وتأهل للتدريس والفتوى وهو ابن سبع عشرة، وتقدم في علم التفسير والأصول وعلوم الإسلام جميعها أصولها وفروعها ودِقِّها وجُلِّها؛ فإن ذُكِر التفسير فهو حامل لوائه، وإن عُد الفقهاء فهو مجتهدهم المطلق، وإن حضر الحفاظ نطَق وخرسوا وسرَد وأبلسوا واستغنَى وأفلسوا، وإن سمي المتكلمون؛ فهو فردهم وإليه مرجعهم، وإن لاح ابن سينا يقدم الفلاسفة فَلَّهُم وهَتَك أستارهم وكشف عوارهم، وله يد طولى في معرفة العربية والصرف واللغة، وهو أعظم من أن تصفه كَلِمي وينبه على شأوه قَلَمي؛ فإن سيرته وعلومه ومعارفه ومِحَنه وتنقلاته، يحْتَمل أن تُوضَع فِي مجلدين؛ فالله -تعالى- يغفر له ويسكنه أعلى جنته؛ فإنه كان رَبَّانِيَّ الأُمَّة وفريد الزمان، وحامل لواء الشريعة، وصاحب معضلات المسلمين، رأسًا في العلم يبالغ في أمر قيامه بالحق والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مبالغة ما رأيتها ولا شاهدتها من أحد ولا لحظتها من فقيه.
معارك ابن تيمية العلمية والفكرية
كانت لابن تيمية -رحمه الله- صولات علمية مع الطوائف والفرق التي انتشرت في عصره؛ فقد تصدَّى لهذه الفرق بجرأة وشجاعة وعلم وفهم، لم يُرَ أحدٌ مثله منذ قرون عديدة، وإنما تمَكَّن ابن تيمية من نواصي هذه العلوم؛ لأنه فهمها ووعاها كما لم يفهمها أصحابُها؛ فعرف مقالاتهم ومؤلفاتهم؛ ففندها وسبر أغوارها وعرضها على الكتاب والسُنَّة، منتقدًا أصولها وفروعها، متفحصًا لكلِّياتها وجزئياتها؛ فنازَلَهم وناظَرَهم بلسانِهم ومنطِقِهم، وألزَمَهم -بقوة الدليل الصحيح وقوة العقل السليم- بما وقعوا فيه من مخالفة المنقول والمعقول.
اجتمعت فيه شروط الاجتهاد
قال الشيخ العلامة كمال الدين بن الزملكاني في حق ابن تيمية -رحمه الله-: كان إذا سئل عن فن من العلم، ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم بألا يعرفه أحد مثله، وكانت الفقهاء من سائر الطوائف، إذا جالَسوه، استفادوا في مذاهبهم منه أشياء، قال: ولا يُعرف أنه ناظَر أحدًا فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم، سواء كان من علوم الشرع أم غيرها إلا فاقَ فيه أهلَه، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها.
مُعارَضة أهل البدع
قال الحافظ البزَّارُ: وأما ما خَصَّه الله -تعالى- به من مُعارَضة أهل البدع في بدعتهم، وأهل الأهواء في أهوائهم، وما ألَّفه في ذلك من دحض أقوالهم، وتزييف أمثالهم وأشكالهم، وإظهار عوارهم، وانتحالهم وتبديد شملهم، وقطع أوصالهم، وأجوبته عن شُبَهِهم الشيطانية، ومُعَارَضتهم النفسانية للشريعة الحنيفية المحمدية بما منحه الله -تعالى- من البصائر الرحمانية، والدلائل النقلية، والتوضيحات العقلية، حتى انكشف قناع الحق وبان -بما جمعه في ذلك وألَّفه- الكذب من الصدق؛ حتى لو أن أصحابها أحياء ووُفِّقوا لغير الشقاء، لأذعنوا له بالتصديق، ودخلوا في الدين العتيق؛ ولقد وجب على كل من وقف عليها، وفهم ما لديها أن يحمد الله -تعالى- على حسن توفيق هذا الإمام، لنصر الحق بالبراهين الواضحة العظام.
كفاءة عالية
هذه المعارك العلمية التي أثبت فيها ابن تيمية كفاءةً عاليةً وقدرةً فائقةً، جعلت له خصوماتٍ متعددةٍ، وعداواتٍ متكاثرةٍ، قامت في الأساس على الحَسَد والبغض؛ فأدَّت بهم إلى أن يؤذوه بالضرب أو بالسجن، بل أفتى بعضهم بكفره واستحلال دمه، ولقد صدق العلامة السُبكي الشافعي -رحمه الله-؛ حيث قال لبعض من ذكر له الكلام في ابن تيمية: والله يا فلان ما يبغض ابن تيمية إلا جاهل، أو صاحب هوى؛ فالجاهل لا يدري ما يقول، وصاحب الهوى يصده هواه عن الحق بعد معرفته به، وقد خرج ابن تيمية من كل هذه المناظرات مُكرمًا مرفوع الرأس، مشهودًا له بالكفاءة والعدالة والنزاهة؛ لأنه لم يكن يسعى لمنصبٍ ولا لجاهٍ ولا لمكانةٍ، بل كان مخلصًا متجردًا -نحسبه كذلك- مدافعًا عن الحق في كل ميدان، وفي كل مجال.
العالم المُنَظِّر
فهو العالم المُنَظِّر، والفقيه المتمَكِّن، والمفتي المتبَصِّر، والمُناظِر الذي لا يُشق له غبار، والمؤلِّف الذى خَطَّ ببنانه المؤلفات الماتعة والمصنفات البديعة، وهو المجاهد الذي أشهر سيفه في سبيل الله؛ فقاتل التتار وأظهر في ذلك شجاعة باسلة، وهو السياسيُّ المُحنك الذي فاوَض ملك التتار وراسل ملوك النصارى، وقبل كل ذلك تجده رَجُل العامة، يدرس في المسجد ويؤم المصلين، ويجيب السائلين، ويجلس مع تلامذته وأتباعه يتفقدهم ويتودد لهم.
تجَرُّدٍ تلامذته وواقعيتهم
ومن نعمة الله علينا أن تلامذة ابن تيمية، لم يضيعوا علوم أستاذهم، بل نقلوا لنا علومه وكتاباته وفتاويه، ودَوَّنوا كذلك سيرته والوقائع التي حدثت في حياته، ولكنَّ اللافت للنظر، أنهم نقلوا لنا تلك السيرة بتجَرُّدٍ وواقعيةٍ؛ فلم يُبالِغوا في الوصف، ولم يُكثروا في المديح، كما كان الغالب على أتباع المذاهب الفقهية؛ ولعل هذا التوازن مما تعلموه من شخصية الشيخ الإمام.
المِحَن التي تعَرَّض لها شيخ الإسلام
قال الحافظ البزَّار: كان صلى الله عليه وسلم من أعظم أهل عصره قوة، ومقامًا، وثبوتًا على الحق، وتقريرًا لتحقيق توحيد الحق، لا يصده عن ذلك لوم لائم، ولا قول قائل، ولا يرجع عنه لحجة محتج، بل كان إذا وضح له الحق يعض عليه بالنواجذ ولا يلتفت إلى مُبايِن مُعانِد؛ فاتفق غالب الناس على معاداته، وجُلُّ مَن عاداه قد تستَّروا باسم العلماء والزمرة الفاخرة، وهم أبلغ الناس في الإقبال على الدنيا والإعراض عن الآخرة، وسبب عداوتهم له أن مقصودهم الأكبر طلب الجاه والرئاسة وإقبال الخلق، ورأوه قد رقَّاه الله إلى ذروة السنام من ذلك بما أوقع له في قلوب الخاصة والعامة من المواهب التي منحه بها، وهم عنها بمعزل؛ فنصبوا عداوته، وامتلأت قلوبهم بمحاسدته، وأرادوا ستر ذلك عن الناس حتى لا يفطن بهم؛ فعمدوا إلى اختلاق الباطل والبهتان عليه والوقوع فيه، ولاسيما عند الأمراء والحكام.
المحنة الأخيرة
وكانت حياة شيخ الإسلام مليئةً بالمِحَن والابتلاءات؛ فمحنةٌ تُسلِم إلى محنة، وفتنةٌ تأتي في أعقاب فتنة، حتى جاء موعد المحنة الأخيرة بسجنه في سجن القلعة، ثم تصاعد التضييق عليه داخل محبسه حتى توفَّاه الله وهو على هذه الحال؛ ففي يوم الاثنين تاسع جمادى الآخرة، أخرج ما كان عند الشيخ تقي الدين ابن تيمية من الكتب، والأوراق، والدواة، والقلم، ومُنِع من الكُتُب والمُطَالَعة، وحملت كتبه في مستهل رجب إلى خزانة الكتب بالعادلية الكبيرة، قال البرزالي: وكانت نحو ستين مجلدًا، وأربع عشرة ربطة كراريس؛ فنظر القضاة والفقهاء فيها وتفرقوها بينهم، وكان سبب ذلك أنه أجاب لِمَا كان رد عليه الإخنائي المالكي في مسألة الزيارة، فرد عليه الشيخ تقي الدين واستجهله، وأعلمه أنه قليل البضاعة في العلم؛ فطلع الإخنائي إلى السلطان وشكاه؛ فرسم السلطان عند ذلك بإخراج ما عنده من ذلك، وكان ما كان.
مات بالقلعة محبوسًا
وبقي بسجن القلعة بضعة وعشرين شهرًا، مقبلًا على التلاوة والتهجد والعبادة حتى أتاه اليقين؛ فلم يفجأ الناس إلا نَعْيه، وما علموا بمرضه، وعاش -رحمه الله- سبعًا وستين سنة وأشهرًا، واجتمع الناس لجنازته اجتماعًا لو جمعهم سلطانٌ قاهرٌ وديوانٌ حاصرٌ لما بلغوا هذه الكثرة التي اجتمعوها في جنازته، مع أن الرجل مات بالقلعة محبوسًا من جهة السلطان.
جنازة مهيبة

قال الحافظ البزَّارُ: ولم يُر لجنازة أحد ما رُئي لجنازته من الوقار والهيبة والعظمة والجلالة، وتعظيم الناس لها وتوقيرهم إياها، وتفخيمهم أمر صاحبها، وثنائهم عليه بما كان عليه من العلم، والعمل، والزهادة، والعبادة، والإعراض عن الدنيا، والاشتغال بالآخرة، والفقر، والإيثار، والكرم، والمروءة، والصبر، والثبات، والشجاعة، والفراسة، والإقدام والصدع بالحق والإغلاظ على أعداء الله وأعداء رسوله والمنحرفين عن دينه، والنصر لله ولرسوله ولدينه ولأهله، والتواضع لأولياء الله والتذلل لهم والإكرام والإعزاز والاحترام لجنابهم، وعدم الاكتراث بالدنيا وزخرفها ونعيمها ولَذَّاتها، وشدة الرغبة في الآخرة والمواظبة على طلبها، حتى لتسمع ذلك ونحوه من الرجال والنساء والصبيان، وكلٌّ منهم يثني عليه بما يعلمه من ذلك.



ابوالوليد المسلم 14-01-2020 01:32 PM

رد: لمحات من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية ودعوته السلفية
 
لمحات من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية ودعوته السلفية (2)


أحمد الشحات

ما زال الحديث موصولا عن حياة شيخ الإسلام ابن تيمية؛ حيث ذكرنا في مقدمة المقال السابق، أن علومه ورسائله قد انتشرت في كل مكان، واطَّلع عليها واستفاد من كنوزها ودررها المخالفون له والمعترضون عليه قبل المُحِبِّين له العارفين بشأنه، كما تحدثنا عن عنايته بالعلوم كافة، وحروبه الفكرية التي خاضها، ومعارضته لأهل البدع، كما ذكرنا المحن التي تعرض لها حتى وفاته -رحمه الله-، واليوم نتكلم عن صفحات ناصِعة من أخلاق الشيخ المجاهد.

شيخ الإسلام ابن تيمية لا تُمل سيرته، ولا ينتهي العجب من مواقفه؛ فمواقفه مواقف الكبار، وأخلاقه أخلاق العظماء، وفيما يلي نذكر شيئًا من أخلاقه الراقية وشمائله العظيمة:

(1) الصفح والسماحة

ما إن بزغ نجم ابن تيمية في سماء العلم والجهاد والدعوة، إلا واجتمع عليه خصومه من شتّى الفرق والطوائف، ومن مختلف المِلَل والنِّحَل، ورموه عن قوس واحدة، ولم يتورَّعوا في تلك المعارك أن يستعملوا الظلم، والبغي، والكذب، والوشاية؛ فماذا كان رد فعل شيخ الإسلام تجاه هذا البغي والتجاوز؟ يقول ابن تيمية: فلا أحب أن يُنتصر من أحد بسبب كذبه عليَّ، أو ظُلمِه وعدوانه؛ فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا أحب الخير للمسلمين كلهم، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا، فهم في حل من جهتي.



لا أتعدَّى حدود الله

ويقول أيضًا: هذا وأنا في سعة صدر لمن يُخالِفني؛ فإنه وإن تعدَّى حدود الله فيَّ بتكفيرٍ أو تفسيقٍ أو افتراءٍ أو عصبيةٍ جاهليةٍ؛ فأنا لا أتعدَّى حدود الله فيه، بل أضبط ما أقوله، وأفعله، وأزنه بميزان العدل، وأجعله مؤتمًّا بالكتاب الذي أنزله الله وجعله هدىً للناس، حاكمًا فيما اختلفوا فيه؛ فهل كانت هذه الكلمات شعاراتٍ مجردة، أو طبقها ابن تيمية بالفعل؟
أحللتك وجميع من عاداني

يقول الحافظ البزَّارُ حاكيًا الحوار الذي دار بين وزير دمشق وبين ابن تيمية، حينما زاره الوزير في سجنه، طالبًا منه العفو والمُسامَحة: فلما علم -الكاتب شمس الدين، الوزير بدمشق المحروسة- بمرضه استأذن في الدخول عليه لعيادته؛ فأذن الشيخ له في ذلك؛ فلما جلس عنده أخذ يعتذر له عن نفسه ويلتمس منه أن يُحِلَّه؛ مما عساه أن يكون قد وقع منه في حقه من تقصير أو غيره؛ فأجابه الشيخ -رحمه الله- بأني قد أحللتك وجميع من عاداني وهو لا يعلم أني على الحق، وقال ما معناه أني قد أحللت السلطان الملك الناصر من حبسه إياي؛ لكونه فعل ذلك مقلدًا غيره معذورًا، ولم يفعله لحظ نفسه، بل لِما بلَغَه مما ظنَّه حقًا من مُبلغه، والله يعلم أنه بخلافه، وقد أحللت كل واحد مما كان بيني وبينه، إلا مَن كان عدوًا لله ورسوله.
(2) التواضع والزهد

حكى الشيخ زين الدين علي الواسطي ما معناه: أنه أقام بحضرة شيخ الإسلام مدةً طويلةً قال: فكان قُوتُنا في غالبها أنه كان في بكرة النهار، يأتيني ومعه قرص قدره نصف رطل خبزًا بالعراقي؛ فيكسره بيده لُقَمًا، ونأكل منه أنا وهو جميعًا، ثم يرفع يده قبلي، ولا يرفع باقي القرص من بين يدي حتى أشبع؛ بحيث أني لا أحتاج للطعام إلى الليل، وكنت أرى ذلك من بَرَكة الشيخ، ثم يبقى إلى بعد العشاء الآخرة حتى يفرغ من عوائده، التي يفيد الناس بها في كل يوم، من أصناف القُرب؛ فيؤتى بعشائنا؛ فيأكل هو معي لُقيمات، ثم يؤثرني بالباقي، وكنت أسأله أن يزيد على أكله فلا يفعل، حتى أني كنت في نفسي أتوجع له من قلة أكله، وكان هذا دأبنا في غالب مدة إقامتي عنده.



المبالغة في التواضع

قال الحافظ البزَّارُ: وأظهر لي من حسن الأخلاق والمبالغة في التواضع؛ بحيث إنه كان إذا خرجنا من منزله بقصد القراءة، يحمل هو بنفسه النسخة ولا يدع أحدًا منا يحملها عنه، وكنت أعتذر إليه من ذلك خوفًا من سوء الأدب؛ فيقول: لو حملته على رأسي لكان ينبغي، ألا أحمل ما فيه كلام رسول الله؟! وكان يجلس تحت الكرسي ويدع صدر المجالس، حتى أني لأستحي من مجلسه هناك، وأعجب من شدة تواضعه ومبالغته في إكرامي بما لا أستحق ورفعي عليه في المجلس، ولولا قراءتي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظم حرمتها؛ لما كان ينبغي لي ذلك، وكان هذا حاله في التواضع والتنازل والإكرام لكل من يرد عليه أو يصحبه أو يلقاه، حتى إن كل من لقيه يحكي عنه من المبالغة في التواضع نحوًا مما حكيته وأكثر من ذلك؛ فسبحان من وفَّقَه وأعطاه وأجراه على خلال الخير وحَبَاه.



(3) الشجاعة والإقدام

قال الحافظ البزَّارُ: كان صلى الله عليه وسلم من أشجع الناس وأقواهم قلبًا، ما رأيت أحدًا أثبت جأشًا منه، ولا أعظم عناءً في جهاد العدو منه، كان يجاهد في سبيل الله بقلبه، ولسانه، ويده، ولا يخاف في الله لومة لائم، وأخبر غير واحد أن الشيخ] كان إذا حضر مع عسكر المسلمين في جهادٍ، يكون بينهم واقيتهم وقطب ثباتهم؛ وإن رأى من بعضهم هلعًا، أو رِقَّة، أو جبانة، شَجَّعَه وثَبَّتَه، وبَشَّره، ووعَده بالنصر والظفر والغنيمة، وبيَّن له فضل الجهاد والمجاهدين وإنزال الله عليهم السكينة، وَكَانَ إِذا ركب الخَيل يتحنك ويجول فِي العَدُوّ كأعظم الشجعان، وَيقوم كأثبت الفرسان، وَيُكَبِّر تَكبِيرًا أنكى فِي العَدُوِّ من كثير من الفتك بهم، ويخوض فيهم خوضَ رجلٍ لا يخاف الموت.



مواقف عملية

ومن المواقف العملية التي أظهرت شجاعته وقوته في الحق، موقفه من الأمراء والسلاطين، في أثناء قتال التتار؛ فخاطبهم قائلاً: إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته، أقمنا له سلطانًا يحوطه ويحميه، ويستغله في زمن الأمن، وَلَم يَزَلْ بِهِم حَتَّى جُرِّدَت العَسَاكِرُ إِلَى الشَّامِ، ثُمَّ قَالَ لَهُم: فلو قُدِّرَ أنكم لَستُم حُكَّام الشام ولا ملوكَه واستنصرَكم أهلُه وجَبَ عليكم النصر؛ فكيف وأنتم حُكَّامُه وسلاطينُه، وهم رعاياكم وأنتم مسؤولون عنهم؟!



ومنها مقابلته لملك التتار وتقريعه له بسبب جنايتهم وظلمهم، يقول ابن فضل الله العمري: ولما قدم غازان إلى دمشق، خرج إليه ابن تيمية في جماعة من صلحاء الدماشقة؛ فلما دخلوا على غازان، كان مما قال ابن تيمية للترجمان: قل للقان: أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا فغزوتنا، وأبوك وجدّك هولاكو كانا كافرين وما عملا الذي عملت، عاهدا فَوَفيَا، وأنت عاهدت فغدرت، وقُلت فما وفيت، وجرت له مع غازان أمور، قام فيها كلها لله وقال الحق، ولم يخش إلا الله.

قال زين الدين ابن الوردي: ولقد نصر شيخ الإسلام السُنَّة المحضة والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين ومقدمات وأمور لم يُسبق إليها، وأطبق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون، وهابوا وجسر هو عليها، حتى قام عليه خلقٌ من علماء مصر والشام، قيامًا لا مزيد عليه، وبدَّعوه وناظَروه وكابَروه، وهو ثابتٌ لا يُداهِن ولا يُحابِي، بل يقول الحق المُرّ الذي أدى إليه اجتهاده وحِدَّة ذهنه وسعة دائرته في السُنَن والأقوال، وجرى بينه وبينهم حملات حربية ووقعات شامية ومصرية.



(4) الإنصاف والعدل

اشتهر شيخ الإسلام بالإنصاف والعدل مع الناس؛ فعندما تحدث عن مُخالِفيه من الأشاعرة وغيرهم قال: إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساعٍ مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السُنَّة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف.



يقول ابن تيمية -رحمه الله-: ومع هذا؛ فأهل السُنَّة يستعملون معهم -يعني المُخالِفين- العدل والإنصاف ولا يظلمونهم؛ فإن الظلم حرام مطلقًا، بل أهل السُنَّة لكل طائفةٍ من هؤلاء خيرٌ من بعضهم لبعضٍ، ويقولون: أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضًا؛ وهذا لأن الأصل الذي اشتركوا فيه أصلٌ فاسدٌ، مبنيٌ على جهلٍ وظلمٍ، وهم مشترِكون في ظلم سائر المسلمين؛ فصاروا بمنزلة قطاع الطريق المشتركين في ظلم الناس، ولا ريب أن المسلم العالم العادل أعدل معهم من بعضهم لبعض.



موقفه من الصوفي علي البكري

ومن إنصافه وسماحته -رحمه الله-: موقفه من الصوفي علي البكري الذى بَالَغ في إيذائه، وحرَّضَ عليه السلاطين، ودفع ببعض الحمقى والجُهَّال للاعتداء على الشيخ وضَرْبِه، وضربه بنفسه في إحدى المرات، وأفتى بكفره وأباح دمه، يقول شيخ الإسلام: فلهذا لم نُقابِل جهلَه وافتراءه -يعني البكري- بالتكفير بمثله، كما لو شهد شخصٌ بالزور على شخص، أو قذفه بالفاحشة كذبًا عليه، لم يكن له أن يشهد عليه بالزور، ولا أن يقذفه بالفاحشة.



الكفر حكمٌ شرعي

وكان مِن هذا الإنصاف أنه لم يستعمل سلاح التكفير مع غيره من المُخالِفين من أهل المِلَّة، كما استعملوه معه مرارًا وتكرارًا، وكما تعَدّوا عليه بالضرب تارةً، وحرَّضوا السلاطين على سجنه تارةً، وسعى بعضُهم في دمه بعد الحكم برِدَّته، يقول -رحمه الله-: فلهذا كان أهل العلم والسُنَّة لا يكفّرون مَن خالَفهم، وإن كان ذلك المخالف يُكَفِّرهم؛ لأن الكفر حكمٌ شرعي فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، كمن كذب عليك وزنى بأهلك، ليس لك أن تكذب عليه وتزني بأهله؛ لأن الكذب والزنا حرام لحق الله، وكذلك التكفير حق لله؛ فلا يُكفَّر إلا من كفَّره الله ورسوله، وأيضًا؛ فإن تكفير الشخص المعيّن وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر مَن خَالَفَها، وإلا فليس كل من جهل شيئًا من الدين يُكفَّر.



حتى تقام الحُجَّة

ويقول -رحمه الله-: وليس لأحدٍ أن يُكَفِّر أحدًا من المسلمين -وإن أخطأ وغلط- حتى تقام عليه الحُجَّة وتبين له المَحَجَّة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحُجَّة وإزالة الشبهة.

ويقول -رحمه الله-: هذا مع أني دائمًا -ومَن جَالَسَني يعلم ذلك مني-: أني من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معين إلى تكفيرٍ وتفسيقٍ ومعصيةٍ، إلا إذا عُلم أنه قد قامت عليه الحُجَّة الرسالية، التي مَن خَالَفها كان كافرًا تارةً وفاسقًا أخرى وعاصيًا أخرى.



الجهمية والحلولية

ويقول -رحمه الله-: ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنُّفَاة الذين نفوا أن يكون الله -تعالى- فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافرًا؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جُهَّال، وكان هذا خطابًا لعلمائهم وقُضاتهم وشيوخهم وأمرائهم.



موقفه من أتباع الملل

ولم يظهر هذا الإنصاف في موقفه من المُخالِفين له فحسب، بل تجلَّى في موقفه من أتباع الملل والديانات الأخرى، ومن ذلك موقفه الشهير من استنقاذ أسرى النصارى من أيدي التتار؛ فقد كتب رسالةً إلى سرجوان ملك قبرص -وكان قد أسر عنده جماعة من المسلمين- قال له فيها: من أحمد ابن تيمية إلى سرجوان عظيم أهل ملته؛ فإنّا كنا نُعامِل أهل مِلَّتكم بالإحسان إليهم والذبِّ عنهم، وقد عرف النصارى كلهم أنّي لما خاطبت التتار في إطلاق الأسرى وأطلقهم غازان، وقطلوشاه، وخاطبت مولاي فيهم؛ فسمح بإطلاق المسلمين، قال لي: لكن معنا نصارى أخذناهم من القدس؛ فهؤلاء لا يطلقون؛ فقلت له: بل جميع مَن مَعك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذِمَّتنا؛ فإنا نَفْتَكُّهم ولا ندع أسيرًا، لا من أهل المِلَّة، ولا من أهل الذِمَّة، وأطلقنا من النصارى مَن شاء الله؛ فهذا عمَلُنا وإحساننا والجزاء على الله.



(5) العمق والدقة

هذه السّمة -تحديدًا- قد شهد له بها الأعداء قبل غيرهم، وما يطَّلع عاقِلٌ على كتب شيخ الإسلام، إلا وتبرز له هذه السمة، حتى إن كثيرًا ممن وقَعوا في شيخ الإسلام بالظن والجهل، إنما زَلَّت أقدامُهم في بحر علمه؛ فلم يفهموا مُرادَه، ولم يتمكنوا من الإحاطة بمقصوده؛ فحمّلوا كلامه غير ما يحتمل، ولو أنهم حَصَّلوا الأدوات التي تُمَكِّنهم من فهم كلامه لصاروا -إن صدَقَت نواياهم- خير سفراء لكلام شيخ الإسلام ومنهجه.

التصنيف في الأصول

ينقل الحافظ البزَّارُ المنهجية التي انتهجها شيخ الإسلام في اختيار كُتُبه ومؤلفاته والموضوعات، التي عناها بالبحث والنظر فيقول: ولقد أكثر صلى الله عليه وسلم التصنيف في الأصول، فضلًا عن غيرها من بقية العلوم؛ فسألتُه عن سبب ذلك، والتمستُ منه تأليف نص في الفقه، يجمع اختياراته وترجيحاته ليكون عمدة في الإفتاء؛ فقال لي ما معناه: الفروع أمرها قريب، وإذا قَلَّد المسلم فيها أحد العلماء، جاز له العمل بقوله ما لم يتيقن خطأه، وأما الأصول؛ فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء، كالمتفلسفة، والباطنية، والملاحدة، والقائلين بوحدة الوجود، والدهرية، والقدرية، والنصيرية، والجهمية، والحلولية، والمعطلة، والمجسمة، والمشبهة، والراوندية، والكلابية، والسليمية، وغيرهم من أهل البدع قد تجاذبوا فيها بأَزِمَّة الضلال.

إبطال الشريعة

وبان لي أن كثيرًا منهم، إنما قصد إبطال الشريعة المقدسة المحمدية الظاهرة العَلِيَّة على كل دين، وأن جمهورهم أوقع الناس في التشكيك في أصول دينهم؛ ولهذا ما سمعت، أو رأيت مُعرضًا عن الكتاب والسُنَّة مُقبلًا على مقالاتهم، إلا وقد تزندق أو صار على غير يقين في دينه واعتقاده؛ فلما رأيت الأمر على ذلك، بانَ لي أنه يجب على كل من يقدر على دفع شُبَههم، وأباطيلهم، وقطع حُجتهم، وأضاليلهم، أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم، ويزيف دلائلهم، ذبًا عن المِلَّة الحنيفية، والسُنَّة الصحيحة الجَلِيَّة.



ابوالوليد المسلم 23-01-2020 03:10 PM

رد: لمحات من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية ودعوته السلفية
 
لمحات من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية ودعوته السلفية (2) المشروع الفكري التجديدي

أحمد الشحات


لقد امتاز عصر شيخ الإسلام بكثرة الحوادث والنوازل التي اجتاحت بلاد الإسلام؛ فقد تشرذمت دولة الإسلام إلى دويلات صغيرة، وصار بأسها بينها شديدًا، ورماها الأعداء عن قوسٍ واحدة، وابتليت الأمة بغزوين ماكرين حاقِدَين، تمثل الأول في الغزو الصليبي لعُقر دار الإسلام، ولم تستفق الأمّة من توابع هذا الغزو حتى اجتاح التتارُ بلاد المسلمين وانتشروا فيها كالسيل العرمرم.
هذه الخصوصية التي اختص بها عصر شيخ الإسلام، جعلت منه فقيهًا نادرًا؛ فقد اختلط بالواقع، وفهم تلك النوازل، واجتهد في مُعالَجة الواقع من خلال الشرع؛ فأصبح تراثه الفقهي ثريًا من ناحية الغزارة العلمية واقعيًا؛ ومن حيث استيعابه لظروف العصر ومستجداته؛ فعندما تقرأ هذا التراث، تشعر كأنه وليد البيئة المعاصرة؛ فلا تشعر معه بالغُربة ولا بالفجوة الزمانية؛ لأنَّ القضايا التي عالَجَها ابن تيمية في زمانه، ما زلنا نعاني نظائرها وأشباهها في واقعنا المُعاصِر.
أولًا: حاجتنا العصرية إلى تراث شيخ الإسلام

جمع الله لابن تيمية صفاتٍ قلَّما تجتمع في شخصٍ واحدٍ؛ فهو العالم النحرير، والباحث المدقق، والمُناظِر الذكي، والخطيب المفوَّه، والمُنَظِّر العميق، والمدرِّس القدير، والمفتي الأمين، مع ما امتاز به من دَوام المُطالَعة، والحرص على القراءة والتأليف، ثم الحركة بهذا العلم تعليمًا وتدريسًا، وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، ودعوةً في المجامع والأسواق، وحرصًا على توريث العلم، وتأسيس الدعوة، وتدريب التلاميذ.
باعث النهضة الإسلامية

هذه العوامل جعلته بحقٍ باعثَ النهضة الإسلامية، ومؤسِّس الدعوة السلفية؛ فلم تمُتْ دعوتُه بموته، ولم تنقطع بسجنه، ولم تتقيد بمكانٍ ولا بعصرٍ، ولكن تحولت على يد تلامذته إلى تجربةٍ حيةٍ وثريةٍ، استفاد منها رواد الحركة الإسلامية في بلدانهم وأوطانهم، ولنتأمَّل في بعض الملامح الفكرية التي اتَّسَمت بها هذه التجربة، لعلنا نستطيع من خلالها أن نستنبط الفقه الكامن في تلك التجربة المُلهِمة.
المواجهة مع الفرق الكلامية

خاض ابن تيمية حربًا ضروسًا مع الفِرَق الاعتقادية التي وجدها مخالفةً لما عليه السلف -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِم-؛ فتعقَّب الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، فضلًا عن الفلاسفة والمناطقة وغيرهم من الفرق التي تحدثت في أمور العقيدة، ورغم أن الأشاعرة يُعدون من أقرب الفرق الكلامية إلى معتقد أهل السُنَّة -كما شهد ابن تيمية بذلك- إلا أنَّ المواجهة مع الأشاعرة، كانت من أشرس المواجهات التي خاضها ابن تيمية وأعنفها، وقد ظَلَّت آثار هذه المواجهة باقيةً إلى يومنا هذا، والسر في ذلك أنه مع اتِّساع رقعة الدولة الإسلامية، دخل في الإسلام كثيرٌ من أبناء الديانات الأخرى، وقد حملوا معهم بعض الأفكار والمعتقدات القديمة، واحتاج المسلمون إلى تعلم فن الجدل والمُناظَرة والمحَاجَّة بالعقل والمنطق؛ فاضطُروا إلى الدخول في علم الكلام وتوابعه؛ فانتشرت على إثر ذلك فرقة المعتزلة.
أبو الحسن الأشعري

وجاء أبو الحسن الأشعري -رحمه الله- محاولًا أن يردَّ على المعتزلة بطريقتهم؛ فلم يسلم من مُخالَفة عقيدة السلف متأثرًا بهم، إلا أنَّ الله -عز وجل- قيَّض للأشعري رجال الملكِ والسُلطان فنصَروا مذهبه، وأيَّدوا طريقته، واعتمدوها ووثَّقوها، ظنًّا منهم أنها عقيدة السلف الصافية، ولاسيما وأنها تُواجِه بدعة المعتزلة، وكاد مذهب السلف أن يندثر؛ فلم يعد يتكلم به إلا بقايا من علماء الحنابلة على خوفٍ من السلاطين والعلماء، أن يكشفوا أمرهم ويعرفوا حقيقتهم.
الفتوى الحموية

إلى أن جاء ابن تيمية بعد أربعة قرونٍ من رسوخ مذهب الأشعري وثباته حتى نشأ عليه الصغير، وشابَ عليه الكبير؛ فإذا به يخرج على الناس بما عُرِف بعد ذلك بالفتوى الحموية، وكأنه ألقى حجرًا كبيرًا في الماء الراكد، بل أحدث زلزالًا مُدَوِّيًا، لم يكن ليقدر عليه إلا رجلٌ وَهَبَه الله جرأةً في الحق، وشجاعةً في المواجهة، وهيبةً في قلوب الناس، تمكَّن من خلالها أن يواجه الدولة بسلاطينها وأمرائها، والفقهاء بأتباعهم، والمدارس العلمية، والفرق الإسلامية وما اعتادت عليه، والعامة الذين يطرق هذا الكلام آذانهم لأول مرة.
انتشار المذهب الأشعري

يقول المقريزي: فانتشر مذهب أبي الحسن الأشعريّ في العراق، من نحو سنة ثمانين وثلاثمائة، وانتقل منه إلى الشام؛ فلما مَلَك السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ديار مصر، كان هو وقاضيه صدر الدين على هذا المذهب، قد نشآ عليه منذ كانا في خدمة السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بدمشق، وحفظ صلاح الدين في صباه عقيدة، أَلَّفَها له قطب الدين أبو المعالي النيسابوريّ، وصار يحفظها صغار أولاده؛ فلذلك عقدوا الخناصر، وشدّوا البنان على مذهب الأشعريّ، وحملوا في أيام دولتهم كافة الناس على التزامه؛ فتمادى الحال على ذلك أيام الملوك من بني أيوب، ثم في أيام مواليهم الملوك من الأتراك.
محمد بن تومرت

واتفق مع ذلك توجُّه أبي عبد الله محمد بن تومرت -أحد رجالات المغرب إلى العراق- وأخذه عن أبي حامد الغزاليّ مذهب الأشعريّ؛ فلما عاد إلى بلاد المغرب وقام في المصامدة يفقههم ويعلمهم، وضع لهم عقيدةً لقفها عنه عامّتهم، ثم مات فخلفه بعد موته عبد المؤمن بن عليّ القيسيّ، وتلقب بأمير المؤمنين، وغلب على ممالك المغرب هو وأولاده من بعد مدّة سنين، وتسموا بالموحدين؛ فلذلك صارت دولة الموحدين ببلاد المغرب تستبيح دماء مَن خالف عقيدة ابن تومرت؛ إذ هو عندهم الإمام المعلوم المهديّ المعصوم؛ فكم أراقوا بسبب ذلك من دماء خلائق لا يحصيها إلّا الله خالقها -سبحانه وتعالى-؛ فكان هذا هو السبب في اشتهار مذهب الأشعريّ وانتشاره في أمصار الإسلام؛ بحيث نُسي غيره من المذاهب وجُهل، حتى لم يبق آنذاك مذهب يخالفه، إلّا أن يكون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه ؛ فإنهم كانوا على ما كان عليه السلف، لا يرون تأويل ما ورد من الصفات.
الانتصار لمذهب السلف

إلى أن كان بعد السبعمائة من سِنِيِّ الهجرة، اشتهر بدمشق وأعمالها تقيّ الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرّانيّ؛ فتصدّى للانتصار لمذهب السلف، وبالغ في الردّ على مذهب الأشاعرة، وصدع بالنكير عليهم وعلى الصوفية والفرق الباطنية.
بيني وبينكم المُناظَرة

باع ابن تيمية جاهَه وقرر المواجهة، وقال لهم: بيني وبينكم المُناظَرة، تعرِضون ما لديكم وأعرض ما لديّ على مرأى ومسمع من الجميع، واستجابوا في بادئ الأمر، ولكنَّهم -وهم العلماء والفقهاء- لم يطيقوا الاستمرار في المواجهة؛ فلجأ بعضهم إلى أساليب غير مقبولة، تدل على الضعف، وتعبر عن الإفلاس، ومع أنه كان رجلًا واحدًا أمام هذا الفيض الهائل من رجال الدولة ورموز العلم، إلا أنه استطاع بقوة قلبه، وجمال بيانه، وقوة منطقه أن يجتذب له الأتباع والأنصار، حتى صار ابن تيمية مسموع الكلمة، مرهوب الجانب في طول البلاد وعرضها.
المواجهة مع مُقلِّدة الفقهاء ومتعَصِّبة المذاهب

خاض ابن تيمية حربًا على جبهةٍ أخرى، قد تبدو لأول وهلة أنها مثار استغرابٍ، ولاسيما وأن ابن تيمية عانى في حياته أشد المعاناة بسبب خوضه لهذه الحرب، تلك هي معركته مع التقليد والتعصب المذهبي والجمود الفقهي، لقد كان يسع ابن تيمية ألا يخوض هذه المعركة؛ فهي صعبةٌ للغاية وقد كادت بالفعل أن تكلفه حياته مرات عدة؛ فليس من السهل أن تواجه عددًا هائلًا من أتباع المذاهب المختلفة ممن مالوا إلى الكسل والركود، واستكانوا إلى حياة الدعة والراحة، ولكن ابن تيمية أصر على أن يخوض هذه المعركة بمفرده، وحَقَّق فيها نجاحاتٍ عظيمةٍ، وأفرز لنا طبقةً مميزة من أفضل تلامذته، الذين صاروا بعد ذلك رؤوسًا في العلم، كلٌ في بابه.
سلطنة الملك الظاهر بيبرس

يقول المقريزي: فلما كانت سلطنة الملك الظاهر بيبرس، ولِى على مصر والقاهرة أربعة قضاة، وهم شافعيّ، ومالكيّ ،وحنفيّ، وحنبليّ؛ فاستمرّ ذلك من سنة خمس وستين وستمائة، حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب أهل الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة، وعقيدة الأشعريّ، وعملت لأهلها المدارس والزوايا في سائر ممالك الإسلام، وعُودِيَ من تمذهب بغيرها، وأُنكِر عليه، ولم يُولّ قاضٍ، ولا قُبلت شهادة أحد، ولا قُدَِّم للخطابة والإمامة والتدريس أحد، ما لم يكن مُقَلِّدًا لأحد هذه المذاهب، وأفتى فقهاء هذه الأمصار في طول هذه المدّة، بوجوب اتباع هذه المذاهب، وتحريم ما عداها.
الواقع المرير

يقول شيخ الإسلام مؤكدًا على ذلك الواقع المرير الذي ذكره المقريزي: وبلادُ الشرق من أسباب تسليط الله التتر عليها كثرة التفرُّق والفِتَن بينهم في المذاهب وغيرها، حتى تجد المنتسب إلى الشافعي يتعصب لمذهبه على مذهب أبي حنيفة حتى يخرج عن الدين، والمنتسب إلى أبي حنيفة يتعصب لمذهبه على مذهب الشافعي وغيره حتى يخرج عن الدين، والمنتسب إلى أحمد يتعصب لمذهبه على مذهب هذا أو هذا، وفي المغرب تجد المنتسب إلى مالك يتعصب لمذهبه على هذا أو هذا، وكل هذا من التفرق والاختلاف الذي نهى الله ورسوله عنه، وكل هؤلاء المتعصبين بالباطل المُتَّبِعين الظن، وما تهوى الأنفس المُتَّبِعين لأهوائهم بغير هدى من الله مستحقون للذم والعقاب.
أسباب التعصب

ثم يوضح -رحمه الله- أن من الأسباب القوية التي توصل إلى هذا التعصب، الانتصار للمذاهب بالأحاديث الضَّعيفة والموضوعة، وتبنّي الآراء الفاسدة، وتَرْك ما صحَّ وثبت من الأحاديث النبوية الشريفة، يقول ابن تيمية: وجمهور المتعصبين لا يعرفون من الكتاب والسُنَّة إلا ما شاء الله، بل يتمسكون بأحاديث ضعيفة، أو آراء فاسدة، أو حكايات عن بعض العلماء والشيوخ، قد تكون صدقًا وقد تكون كذبًا، وإن كانت صدقًا فليس صاحبُها معصومًا، يتمسكون بنقل غير مصدَّقٍ عن قائلٍ غير معصوم، ويَدَعون النقل المصدَّق عن القائل المعصوم، وهو ما نقله الثقات الأثبات من أهل العلم ودَوَّنُوه في الكُتُب الصِّحاح عن النبي[؛ فإن الناقلين لذلك مُصدَّقون باتفاق أئمة الدين، والمنقول عنه معصوم لا ينطق عن الهوى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى؛ قد أوجبَ اللهُ -تعالى- على الخلق طاعتَه واتِّباعه. قال -تعالى-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(النساء:٦٥)، و{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}النور:٦٣}.
حكم التعَصُّب المذهبي

ويذكر ابن تيمية حكم التعَصُّب المذهبي؛ فيقول: ولا يجوز لأحد أن يُرَجِّح قولًا على قولٍ بغير دليلٍ، ولا يتعَصَّب لقولٍ على قولٍ، ولا لقائلٍ على قائلٍ بغير حُجَّة، بل مَن كان مُقَلِّدًا لزم حكم التقليد؛ فلم يرجِّح، ولم يزيف، ولم يُصوِّب، ولم يُخَطِّئ، ومَن كان عنده من العلم والبيان ما يقوله سُمع ذلك منه فقُبِل ما تبين أنه حقٌ ورُدَّ ما تبين أنه باطلٌ ووُقِف ما لم يتبين فيه أحد الأمرين، والله -تعالى- قد فاوَتَ بين الناس في قوى الأذهان، كما فاوت بينهم في قوى الأبدان، وهذه المسألة ونحوها فيها من أغوار الفقه وحقائقه ما لا يعرفه إلا مَن عرف أقاويل العلماء ومآخذهم.
هذا أولى بالحق

ويقول: وإذا كان الرجل متبعًا لأبي حنيفة، أو مالك، أو الشافعي، أو أحمد، ورأى في بعض المسائل أنَّ مذهب غيره أقوى فاتَّبَعه، كان قد أحسن في ذلك، ولم يقدح ذلك في دينه ولا عدالته بلا نزاع، بل هذا أولى بالحق وأحب إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ممن يتعصب لواحدٍ مُعَيَّن غير النبي صلى الله عليه وسلم ، كمن يتعصب لمالك أو الشافعي، أو أحمد، أو أبي حنيفة، ويرى أن قول هذا المُعَيَّن هو الصواب الذي ينبغي اتِّباعه دون قول الإمام الذي خَالَفه.
واقع المُقَلِّدة والمتعَصِّبين

وما أجمل ما فسَّر به ابن تيمية واقع المُقَلِّدة والمتعَصِّبين ومَن نَحَا نحوَهم حين قال: وكثير من هذه الطوائف يتعَصَّب على غيره، ويرى القذاة في عين أخيه، ولا يرى الجذع المعترض في عينه، ويذكر من تناقُض أقوال غيره ومُخَالَفتها للنصوص والمعقول ما يكون له من الأقوال في ذلك الباب ما هو من جنس تلك الأقوال، أو أضعف منها، أو أقوى منها، والله -تعالى- يأمر بالعلم والعدل ويذم الجهل والظلم كما قال -تعالى-: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}(الأحزاب:٧٢-٧٣)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «القُضَاةُ ثَلاَثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الجَنَّةِ، رَجُلٌ قَضَى بِغَيْرِ الحَقِّ فَعَلِمَ ذَاكَ فَذَاكَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ لاَ يَعْلَمُ فَأَهْلَكَ حُقُوقَ النَّاسِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى بِالحَقِّ؛ فَذَلِكَ فِي الجَنَّةِ»، ومعلومٌ أن الحكم بين الناس في عقائدهم، وأقوالهم أعظم من الحكم بينهم في مبايعهم وأموالهم.
الصرخات المريبة

فإذا نحيتَ ذلك جانبًا وجُلْتَ بنظرك في تلك الصرخات المريبة التي تشتد وطأتها في هذه الأيام، علمت السبب الذي من أجله خاض ابن تيمية هذه الحرب في هذا الوقت المبكر، وإلا فإن الحملة التي تقودها تلك الشرذمة من شذاذ الآفاق الذين يتهمون التراث بالجمود، وعدم القدرة على مُسَايَرَة العصر، كان من الممكن أن تتضاعف إذا لم تحدث هذه اليقظة؛ فهم يزعمون أن هذه الكتب التي ورثتها الأمة عن أجدادها، ليس لها مكان أفضل من المتحف، أما أن تُدرس في جامعاتنا ونعلِّمها لأبنائنا؛ فتلك هي الجريمة التي لا تُغْتَفَر؛ فرحمة الله على الإمام الفَذِّ الذي أزاح عن كواهلنا همومًا، وكفانا شرورًا، الله وحده يعلم ماذا كان يمكن أن يحدث.



ابوالوليد المسلم 04-02-2020 04:40 PM

رد: لمحات من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية ودعوته السلفية
 
لمحات من حياة شيخ الإسلام ابن تيمية ودعوته السلفية (3) المواجهة مع غلاة الصوفية



للكاتب: أحمد الشحات



ما زال الحديث موصولاً عن حياة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وأهم اللمحات من حياته المباركة، واليوم نتكلم عن مواجهته مع الصوفية والطرق الخرافية، فقد علم ابن تيمية خطر هذه الطرق وخاصة أنها ترفع شعار تعظيم الأولياء والصالحين؛ ومَن الذي يجرؤ على التعَرُّض لجنابهم أو التعدي على مقامهم؟!


ولقد قامت معركة ابن تيمية مع الصوفية، ومع غلاتهم بالتحديد؛ لأنهم ضَلُّوا وأَضَلُّوا، وفَسَدُوا وأفسَدُوا، لأن دور العلماء هو تخليص العقائد والمناهج من الشوائب التي علقت بها مِن خارجها، ومهمتهم هي تبصير الأُمَّة لكي يفرق أفرادُها بين المسموح والممنوع، وبين الجائز والمحذور، فالأُمَّة -بفضل الله- تعظم صالحيها وعلماءها، لكنها في ذات الوقت لا تغالي فيهم ولا تتوسع في مَدْحِهم.

التصالح مع الصوفية

وتَمُرُّ الأيام وتأتي التقارير الغربية لتوصي بالاهتمام بالمَشَاهِد والمَوالِد والأضرحة!؛ تُرى ما الذي أعجب دهاقنة الساسة ورجال الفكر الأوروبي ليجعلهم في تصالحٍ وسلامٍ مع المنهج الصوفى؟!، إذا نقَّبت فيما كتبه ابن تيمية عن خطر الصوفية علمت سر الانبهار والدعم الغربي لهذا الفكر المبتدع.

التصدي للجمود الحركي

التصدي للجمود الحركي والتأصيل للعمل الجماعي: كم من علماء ثقات أثبات قضوا نحبهم، فانتهى ذِكْرهم، ودَرَسَت علومهم، وتفَرَّق تلامذتهم؛ فلم يَعُد لهم بعد موتهم ذِكْر، ولا لكلامهم بعد انقضاء أجلهم أثر؛ ولكن جاء ابن تيمية بمفهومٍ لم يكن مألوفًا في عصره؛ فقد كان هو رجل الدعوة ورجل الحركة ورجل العامة، فلم يُغلِق باب داره على نفسه، ولم ينكَبّ على كُتُبه ومكتبته تاركًا الواقع بكل ما فيه من مُخالَفات وتجاوزات؛ بل انطلق يدعو إلى الله، ويحرك الماء الراكد، ويوقظ الضمائر، ويحيي في الناس حُبَّ السُنَّة وبُغْضَ البدعة وخطورة الفواحش والمعاصي؛ فانتقل بالعلم خارج جُدُر المكتبات وحِلَق المساجد، ثم إنه لم يفعل ذلك منفردًا؛ ولكنه أعَدَّ الرجال، وقَدَّم النموذج العملي للتعاون على البر والتقوى، فهو مُنَظِّر الحركة الجماعية، وفقيه الأعمال النظامية.

لفظ (الزعيم)

يقول ابن تيمية رحمه الله: وأمّا لفظ (الزعيم) فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين، قال -تعالى-: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (يوسف: ٧٢)؛ فمن تكفل بأمر طائفةٍ فإنه يقال هو زعيم؛ فإن كان قد تكفل بخير كان محمودًا على ذلك، وإن كان شرًا كان مذمومًا على ذلك، وأمّا (رأس الحزب) فإنه رأس الطائفة التي تتحزب -أي تصير حزبًا-؛ فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم.

التعصب

وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا -مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق أم على الباطل- فهذا من التفَرُّق الذي ذَمَّه الله تعالى ورسوله؛ فإن الله ورسوله أَمَرَا بالجماعة والائتلاف ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان.

تحريك الركود السياسي

يكفي لبيان خطورة عصر ابن تيمية أن نقول أنه عصر اجتياح التتار لبلاد الإسلام، ذلك الغزو البربري الوحشي الذي لم يشهد له العالم مثيلاً منذ أن خلق الله الأرض وحتى يومنا هذا.

يقول ابن الأثير: لقد بقيت سنين عدة معرضًا عن ذكر هذه الحادثة استعظامًا لها، كارهًا لذكرها، فأنا أقدم إليه رِجلاً وأؤخر أخرى؛ فمَن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسيًا منسيًا، إلا أنني حثّني جماعةٌ من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقفٌ، ثم رأيت أن تَرْك ذلك لا يُجدي نفعًا؛ فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقت الأيام والليالي عن مثلها، عَمَّت الخلائق، وخَصَّت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالَم مذ خلق الله -سبحانه وتعالى- آدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها، لكان صادقاً؛ فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.

أعظم الحوادث

ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله (بختنصر) ببني إسرائيل من القتل، وتخريب البيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد، التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس؟، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا؟؛ فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يَرَون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالَم وتفنى الدنيا، إلا يأجوج ومأجوج، وأما الدجال فإنه يبقي على من اتَّبَعه، ويُهلك مَن خالفه، وهؤلاء لم يُبقوا على أحدٍ؛ بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشَقُّوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

التفاعل مع مستجدات الواقع

تفاعَل ابن تيمية مع مستجدات الواقع، ولم ينكفئ على نفسه ويفر هاربًا إلى بلدٍ أكثر أمنًا كما فعل ذلك كثيرٌ من العلماء في عصره؛ ولكنه غادر محراب العلم وانتقل إلى ميدان الجهاد، تحرَّك ابن تيمية في ذلك الوقت وقام بأعمالٍ ربما تعجز دُوَلٌ كاملة عن القيام بمثلها؛ فعلى الصعيد العلمي: كَتَب الكُتُب وأصدر الفتاوى التي تختص بهذه النازلة، وعلى الصعيد السياسي: ذهب إلى الأمراء والسلاطين وحَثَّهم وشَجَّعَهم على القتال والجهاد، وعلى المحور الدبلوماسي: فقد انتدب نفسه مع جماعة من الوُجَهاء للذهاب إلى ملك التتار ومقابلته والتفاوض معه، وعلى الصعيد الشعبي: فقد ألهب حماسة المسلمين، وقَوَّى مِن عزائمهم، وشَجَّعَهم وأثار النخوة في دمائهم، ثم ختم ذلك بالمشاركة العسكرية المُبَاشِرة مع الجيوش التي واجهت التتار.

المشاركة السياسية

لم تقتصر المشاركة السياسية لابن تيمية على نازلة التتار فقط؛ ولكن كان اسمه يتردد بقوة في بلاط السلطان؛ فلم يتردد رحمه الله في الدخول على السلاطين لإسداء نصيحةٍ، أو تقديم طلبٍ، وأحيانًا كان الوُشَاة والأفاقون يكذبون عليه عند السلطان فيطلبه للمثول بين يديه ليستوضح منه الأمر، وفي مرات أخرى كان الفقهاء يطلبون مُنَاظَرته في حضرة كبار علماء السلطنة بسبب بعض رسائله أو فتاويه.

العلاقة مع الملك الناصر

ولم تكن العلاقة بينه وبين الملك الناصر على وتيرة واحدة؛ فقد توطّدت العلاقة بينهما منذ حرب التتار، وقد عظم ابن تيمية في عين السلطان بدرجة جعلته يرفعه فوق كل العلماء والفقهاء الرسميين والمقربين، ولكن هذه المكانة لم تدم طويلًا؛ حيث عُزل الملك الناصر وجاء خلفه المظفر بيبرس وكانت هذه الفترة من أشد فترات المحنة التي أصابت ابن تيمية، ولاسيما عندما أفتى بعض الفقهاء بكفره وإهدار دمه.

لم يدم الأمر طويلاً

ولم يدم هذا الأمر طويلًا؛ فقد تمكن الناصر من بيبرس وأرغمه على الاعتزال؛ وما أن استقر الناصر على كرسي السلطنة حتى أفرج عن ابن تيمية، وأراد الناصر أن ينتقم من الفقهاء والعلماء الذين ناصروا المظفر عليه، وحاول أن يستنطق ابن تيمية في جواز قتلهم، ولكن ابن تيمية رفض ذلك، وقال له: إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم. قال له السلطان: لقد آذوك وأرادوا قتلك؛ فقال له ابن تيمية: أنا لا أنتصر لنفسي، وظل يُكَلِّم السلطان حتى عَفَا عنهم جميعًا، لذلك علق ابن مخلوف -وهو أحد الذين أهدروا دم ابن تيمية- قائلًا: ما رأينا مثل ابن تيمية؛ حَرَّضْنا عليه فلم نقدر، وقَدَر علينا فصفَح وحَاجَّ عنا.

ومع توطُّد العلاقة بين ابن تيمية والناصر إلا أن ابن تيمية حُبس بعد ذلك بسبب إصراره على القول بفتواه في الطلاق التي خالف فيها عامة فقهاء عصره، و-سبحان مغير الأحوال-؛ فالناصر الذي لم يرضَ أن يبقى ابن تيمية في الحبس يومًا واحدًا بعد عودته إلى سُدة الحكم، إذ به يُصدر قرارًا بسجنه!، فالمُلك له صولته، والمصالح عند الملوك والسلاطين لها ميزان خاص، وصديق اليوم قد يصبح في غمضة عين عَدُوَّ الغد؛ فهم لا يطيقون عصيان الأوامر أو مُخَالَفة التوجيهات، ومن يتصدّى من العلماء للعمل العام والظهور في النوازل يجب أن يعرف هذه الحقيقة؛ فهذه ضريبة قد يدفعها هذا النوع من العلماء، ولكنهم يحتسبون الأجر والثواب عند الله.

وها أنت ترى أن السلطان الذي قرّب ابن تيمية وهو شابٌ في اكتمال قوته لم يتورع عن حبسه بعدما تجاوز الستين من عمره، لمجرد أنه ألزمه بعدم التحدث بفتواه في الطلاق، وابن تيمية يرى أنه يلزمه ديانةً ألا يكتم هذا العلم؛ ومع ذلك فقد مكث ابن تيمية في السجن خمسة أشهر ثم أفرج عنه الملك.

الحبس الأخير

أما الحبس الأخير الذي تُوفِي فيه ابن تيمية فقد كان بسبب فتواه في القبور، وصدر المرسوم الملكي بحبس الشيخ في قلعة دمشق، وكان الحبس في مبدئه كريمًا يليق بمقام الشيخ؛ فوَفَّروا له المتطلبات الحياتية، كما يَسَّروا له استخدام الكتب والأوراق؛ فتفرغ الشيخ للكتابة والعبادة، بل كان يكتب الكتب والرسائل ويُخرجها إلى خارج السجن، فتنتشر في الآفاق ويذيع صيتها بين الناس، وكان من بين هذه الرسائل رسالة فيها رد على الإخنائي في شأن زيارة القبور، فتوجه الإخنائي إلى السلطان وشكا ابن تيمية إليه.

المرسوم الملكي

وصدر المرسوم الملكي بإخراج ما عند ابن تيمية من الكتب والأوراق والمحابر، ومُنِع من المُطَالَعة والقراءة منعًا تامًا؛ حيث وجد الخصوم أنهم حبسوا جسده، ولكن ظل فكره حرًا طليقًا يجول بين الناس ويؤثر فيهم؛ فقرروا سجن هذا الفكر ومحاصرته، بل طال البلاءُ تلامذتَه ومحبيه خارج السجن؛ فحَبَس قاضي القضاة جماعة من تلامذته، وعزّر بعضهم ونادوا عليهم في الطرقات.

ختام حياته

الخلاصة أن ابن تيمية اختتم حياته بالجهاد في هذا الميدان معتَقَلًا على يد السلطان الذي لاذ به عند ملاقاة التتار، وهو يعرف قدره ومكانته وإخلاصه؛ ولكن قدر الله أمرًا من البلاء لعله كان خيرًا لابن تيمية، ونسأل الله أن يكون قد رفع له بهذا البلاء درجاته في عِلِّيين، وأن يحشرنا وإياه مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقًا.




الساعة الآن : 06:57 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 59.97 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 59.75 كيلو بايت... تم توفير 0.22 كيلو بايت...بمعدل (0.37%)]