ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=81)
-   -   السبل المختارة في بيان الحكمة من شدة الحرارة (1) (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=241571)

ابوالوليد المسلم 28-09-2020 02:57 AM

السبل المختارة في بيان الحكمة من شدة الحرارة (1)
 
السبل المختارة في بيان الحكمة من شدة الحرارة (1)


د. محمد ويلالي





الخطبة الأولى

ارتفعت هذه الأيام موجة الحرارة في معظم مدن بلدنا، وارتفعت معها تأوهات وشكاوى كثير من الناس، حتى إنه لا يكاد يتلاقى اثنان، إلا ويفتتحان كلامهما بالحديث عن موجة الحر التي ضربت بطنبها، فانهدت منها الأجسام، وكلت بسببها العقول، وضعفت من جراها القوى، وصار الناس يسارعون لاقتناء المكيفات، والمراوح، والمبردات، ويبحثون عن الظل في كل مكان.



غير أن القليل من الناس من يبحث عن الحكم المبثوثة وراء شدة الحر، وشدة البرد، وأنهما من جند الله - تعالى - يخوف بهما عباده، ليتذكروا حرارة جهنم، وزمهريرها، فيتعظوا وينزجروا عما هم فيه من غفلة وإعراض. يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا. فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ. فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ" متفق عليه. وبين ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن شدة الحر من فيح جهنم، تُذكَّر بها النفوس، ويخوف بها الناس. قال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلاَةِ" متفق عليه.



ويقرر الحسن البصري - رحمه الله - هذه الحقيقة فيقول: "كل برد أهلك شيئاً فهو من نَفَس جهنم، وكل حر أهلك شيئا ً فهو من نَفَس جهنم".



وكان - صلى الله عليه وسلم - يذكر صحابته بحرارة الآخرة، ويضرب لهم من الأدلة المشاهدة ما يجعلهم ينيبون إلى ربهم، ويعملون لآخرتهم. ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ". قَالُوا: وَالله إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً يَا رَسُولَ الله. قَالَ: "فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا" مسلم.



إن ما نعانيه اليوم من وهج الشمس، وجفاف في المناخ، وضيق في التنفس، لا يساوي شيئا أمام حر الآخرة ووهجه. قال - صلى الله عليه وسلم -: "تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا" مسلم. وفي لفظ في الصحيحين: "فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لاَ يُطِيقُونَ وَلاَ يَحْتَمِلُونَ".



إن من حِكم شدة حرارة الدنيا أن نتذكر الفقراء الذين يسكنون الدور القصديرية، والأكواخ المترهلة، والخيام المتهالكة، والعلب الكرتونية، والصناديق الصفيحية، تنساب إليهم الشمس من كل مكان، وتلفحهم الحرارة من كل جانب، لا يجدون زاوية يستظلون بها من القيظ والهجير، ولا ماء باردا يرتوون به من الجفاف والظمأ.



ومن حكمها أن نتذكر أولئك العمال على سطوح البنايات، تحرقهم الشمس، وتذيبهم الحرارة، بحثا عن لقمة العيش.



ومن حكمتها أن نتذكر عمال النظافة، والسائقين، ورجال الأمن الذين يؤدون واجبهم بياض النهار بدون تبرم أو كلل، وكثير منا يرفل تحت برد المكيفات، ومياه المبرِّدات، واستعمال المنعشات، أليست نعما عظيمة تستحق الشكر، ومننا جليلة تستوجب الحمد؟ فكيف نطلق للنفس عَنانها، فنرسلُها وراء ملذاتها بِسَفَر بعض الناس إلى حيث المعاصي، من عري، وسفور، واختلاط، وقضاء لأوطار الشهوات، واهتبال النزوات؟



تفر من الهجير وتتقيه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فهلا من جهنم قد فررتا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ولستَ تطيق أهونها عذابا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ولو كنت الحديد بِها لذُبتا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



ولا تنكر فإن الأمر جد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وليس كما حسبتَ ولا ظننتا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif






كان السلف يجعلون من حرارة الدنيا سبيلا لتذكر حرارة الآخرة، وعملا على التوقي منها.



قال أبو هريرةَ - رضي الله عنه -: "نِعمَ البيتُ الحمام؛ يدخله المؤمنُ فيزِيل به الدَّرَن، ويستعِيذ بالله من النار".



ودَخَل ابن وَهبٍ الحمّامَ، فسمِع تاليًا يتلو: ﴿ وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ ﴾ [غافر: 47]، فغُشِي عليه.



وصَبَّ بعضُ الصّالحين على رأسِه ماءً، فوَجَدَه شَديدَ الحرِّ فبَكى وقال: ذكَرتُ قولَه - جلّ وعلا -: ﴿ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ ﴾ [الحج: 19].



وكان عمر - رضي الله عنه - يقول: "أَكثِروا ذِكرَ النّار؛ فإنَّ حَرَّها شَديد، وإنَّ قعرَها بَعيد، وإنَّ مَقامِعَها حَديد".



وكان بَعضُ السَّلف إذا رجَع من الجُمُعة في حرِّ الظهيرةِ يذكر انصرافَ الناسِ مِن موقف الحسابِ إلى الجنّة أو النار، فإنَّ السَّاعةَ تقوم يومَ الجمُعة، ولا يَنتَصِف ذلك النهار حتى يَقيل أهلُ الجنّة في الجنّة وأهلُ النّار في النار، ثم تلا: ﴿ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً ﴾ [الفرقان: 24].



هكذا يتذكرون بحرارة الدنيا حرارة الآخرة، فيحفزهم ذلك على العمل، ويدفعهم لمضاعفة التزلف من الله تعالى، ويرون ذلك اختبارا من الله تعالى، ليميز المجد من المتهاون.



أما نحن، فسرعان ما نعتذر بالحر الشديد، فنتكاسل في العبادة، ونخلد إلى الدعة والراحة، ولربما تقاعس بعضنا عن الصلاة، فتركنا الخروج لصلاة الظهر، معتذرين بشدة الحرارة، وهو خلاف الهدي النبوي، ومقاصد الشريعة، التي تبنى على اختبار المؤمنين في الشدة والرخاء.



عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال:"خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ، حَتَّى يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلاَّ مَا كَانَ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَابْنِ رَوَاحَةَ" متفق عليه.



ولما أدرك معاذَ بنَ جبل الوفاة قال: "اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجَرْيِ الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة الليل، ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلَقِ الذِّكر."



وكان أبو الدرداء يوصي أصحابه ويقول: "صوموا يوماً شديداً حرُّه لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور".



واختبر عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - راعيا يسوق غنمه في شديد السموم، فدعاه إلى الطعام، فقال الراعي: إني صائم. فقال ابن عمر متعجبا: في مثل هذا اليوم الشديدِ حَرُّه، وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم؟ قال: أبادر أيامي هذه الخالية. وكأنه تطلع إلى قول الله ـ تعالى ـ: ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾ [الحاقة: 24].



وكانوا يرون في تقلب الحراة والبرودة برهانا على وجود الله، الذي ﴿ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ﴾ [الزمر: 5].



قال الحسن البصري - رحمه الله -: "كانوا - يَعني الصحابةَ رضي الله عنهم - يقولون: الحمد لله الرفيق، الذي إذا شاءَ، جاءَ بِبردٍ يقرقفُ الناسَ (يرتعدون)، وإذا شاء، ذهَبَ بذلك وجاءَ بحرٍّ يأخذ بأنفاس الناس، ليعلمَ الناسُ أنَّ لهذا الخَلقِ ربًّا".

نسيتَ لظَى عند ارتِكابِك للهوى ♦♦♦ وأنت توَقَّـى حرَّ شَمس الْهواجرِ



الخطبة الثانية

إن هناك قوما صموا آذانهم عن هذه الدروس المستوحاة من تصرف الرب - عز وجل - في كونه، فراحوا يعبون من أنواع الموبقات، وألوان المحرمات، ما يجلب غضب الرب - سبحانه -، الذي عذب قوم شعيب في الدنيا بالحرارة، بسبب المعاصي وانتهكاك حرمات الله.



جاء في تفسر فتح القدير في قصّة قوم شعَيب عن ابنِ عباس - رضي الله عنهما - عند قولِهِ تَعَالى: ﴿ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [الشعراء: 189] قال: "أرسَلَ الله إليهم سَمومًا من جَهنّمَ، فأَطافَ بهم سبعةَ أيّام حتى أنضَجَهمُ الحرُّ، فحَمِيَت بيوتهم، وغَلَت مياههم في الآبار والعيون، فخَرَجوا من منازلهم هارِبين والسَّموم معهم، فسلَّط الله عليهم الشَّمسَ من فوقِ رؤوسهم، فغَشِيَتهم، وسلَّط الله عليهم الرَّمضاءَ مِن تحتِ أرجُلِهم حتى تساقَطَت لحومُ أرجُلِهم، ثم نَشَأت لهم ظُلّة كالسّحابة السوداءِ، فلمّا رَأَوها ابتَدَروها يستغيثونَ بظلِّها، فوجَدوا لها بردًا ولذّةً، حتى إذا كانوا جميعًا تحتَها أطبقَت عَلَيهم، وأمطَرَت عليهم نارًا فهلَكوا، ونجّى الله شعيبًا والذين آمنوا مَعَه".



فكيف بمن يفطر رمضان نهارا جهارا، معلنا الحرب على الله ورسوله، متحديا الشعور الديني للمسلمين؟ وكيف بمن يريد التأسيس للمثلية الجنسية في بلاد المسلمين، ويسعى للتطبيع مع الفاحشة التي أهلكت قوم لوط؟ وكيف بمن يستحب العري في الشواطئ والحمامات العمومية، حتى استلقى آلاف العراة على أحد الشواطئ احتفالا بالبحر؟ وكيف بمن ينادي بإباحة الخمور للمسلمين، باعتبار ذلك من الحريات الفردية؟ ومن ينادي بالحرية الدينية، بحيث يمكن أن يصبح مسلماً ويمسي كافرا؟ ألا يخشى هؤلاء وهؤلاء من غضب الله تعالى، كما غضب على قوم عاد وثمود وفرعون؟





الساعة الآن : 07:49 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 18.83 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 18.73 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (0.50%)]