ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى اللغة العربية و آدابها (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=111)
-   -   الأدب الذي نريد (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=211479)

ابوالوليد المسلم 08-09-2019 04:18 AM

الأدب الذي نريد
 
الأدب الذي نريد

الشيخ محمد المجذوب



الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده المصطفى محمد بن عبد الله الذي أرسله رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.

أما بعد فمن حق ندوة العلماء على حملة القلم الإسلامي في كل مكان أن يسجلوا لها بمزيد من التقدير المحمدة التي سبقت إليها بالدعوة إلى هذا الحفل، الذي يتوقع أن يكون له أثره البعيد في إضاءة الطريق أمام الكلمة المؤمنة، لتنطلق على نور، وتعالج قضايا الحياة على بينة، ليس فقط في نطاق العربية، لغة الإسلام الأولى والعليا، بل في كل وسائل البيان الذي يترجم به الأديب المسلم أفكاره وتصوراته وتأملاته ووجداناته.

وليست هذه هي المأثرة الأولى ولا الأخيرة التي تقدمها هذه المؤسسة الإسلامية العريقة للفكر الإسلامي، ففي تاريخها الحافل بالجلائل ما يجعلها محط الآمال لتحقيق الكبير الكريم في الأعمال في خدمة الإسلام العظيم، الشامل لكل ما يصلح الحياة من فكر وعلم وتشريع وفنون رفيعة ونظيفة.

وإنه ليسعدني بوجه خاص أن هذه الدعوة تحقق لي حلماً جميلاً طالما دغدغ خيالي، فكتبت وخطبت وحاضرت في توجيه العزائم والأذهان إليه... وفي كتابي الموسوم بعنوان (أفكار إسلامية) بحث مفصل لما أتصوره من موجباته وعناصره وأهدافه .. ولولا بعض التطورات المتصلة بموضوع الأدب مما أعقب ذلك البحث، خلال العشر السنوات الماضية، لاكتفيت بتقديمه إلى هذه الندوة الموقرة دون أي تعديل.. ومن هنا كان شكري لفضيلة الرائد الإسلامي الكبير الشيخ أبي الحسن أمتع الله بحياته مزدوجاً، فهو شكر على تحقيق حلمي الذي فاتحت به العديد من إخواني في هذه الديار أثناء رحلتي السابقة للهند، وهو أيضا شكر، بل تهنئة قلبية، لندوة العلماء لنهوضها بهذا الواجب الذي ليس أحق به من حملة الفكر الإسلامي في شبه القارة الهندية، التي قدمت ولا تزال تقدم لعالم الإسلام قمماً من الرجال الذين أهدوا إليه روائع من إبداعهم في مجال العلوم الإسلامية، وبخاصة الحديث الشريف الذي يكاد وقفاً عليهم في هذا العصر.. وحسبهم أن منهم العلمين العالمين اللذين أثبتا بصماتهما على ثقافة الجيل الإسلامي المعاصر، إذ كان أحدهما الشيخ أبو الحسن الندوي صاحب الصوت الأعلى في الدعوة العملية إلى تعليم إسلامي صميم متحرر من سلطان الغرب والشرق، ومجدد لبناء الشخصية الربانية على أسس الكتاب والسنة ومناهج السلف الصالح.. وكان ثانيهما الإمام أبا الأعلى المودودي تغمده الله برضوانه، ذلك السابق المجلّي في مجال الفكر العلمي، الذي رفع لواء المعرفة الإسلامية فوق سائر المذاهب الجاهلية، وقدم لهذا الجيل المخطَّطَ المحكم لنهضة واعية قادرة على مواجهة كل مشكلاته العالمية بالحلول الإسلامية الحاسمة...

ولقد كان بودي أن أسهم في هذه الندوة ببحث ضاف عن الأدب الإسلامي، يستوعب خبراتي الطويلة في خدمة الأدب والفكر الإسلاميين، ويعالج التطورات الطارئة على مسيرة هذا الأدب خلال تاريخه الحافل، وبخاصة في هذه الحقبة التي سجلت فيها هذه التغيرات ذروتها.. ولكن الأعباء الكثيرة، إلى قصر الوقت، حالت دون المراد، وأكرهتني على الاجتزاء بالإشارات العجلى إلى أهم النقاط التي تراودني في هذه المناسبة.

الأدب: قيمته وأثره:

بغض النظر عن كل التعريفات الاتباعية أقدم فكرتي عن الأدب على أنه (الفن المصور للشخصية الإنسانية من خلال الكلمة المؤثرة) ومن هنا كان الأدب بنظري هو ضابط الارتباط بين جوانب الحياة الإنسانية على الاختلاف منطلقاتها وتصوارتها.. وفي ضوء هذا التعريف البرقي تتضح قيمة هذا الفن وآثاره في ميسرة الحضارة البشرية على امتداد وتعدد مذاهبها.

ومع كل ضجيج الذي يحركه ذوو النوايا الطيبة في تنكرهم للكلام، وتحريضهم على الاكتفاء بالعمل، سيظل للكلمة ومفعولها العميق في إثارة العقول والقلوب، ثم التوجيه إلى الأعلى أو الأدنى من مسالك الحياة. وغير خافٍ على أولي العلم أمثله ذلك في رسالات النبيين، اللذين كانت الكلمة المبينة البليغة وسيلتهم الفضلى إلى أعماق الإنسان، وقد تجلى ذلك على أتمه في المعجزة الكبرى التي أنزلها الله على قلب محمد، صلى الله عليه وسلم، قرآناً يهدي للتي هي أقوم، وسنةً تُخرجُ الناسَ من الظلمات إلى النور.

وبهذين الرافدين من أدب السماء بدأ التغيير الأكبر في أدب العرب، شعراً وخطابةً وحكمةً ومثلاً، ثم ترسُّلاً وتصنيفاً وقصةً وملحمةً.. وما إلى ذلك من أساليب وفنون أدت مهمتها في تبليغ الرسالة، وتوسيع المدارك، ونشر الثقافة العليا في كل مجال وصلت إليه الفتوح الإسلامية، أو أظله الفكر الحيّ الجديد.

* وقد استمر ذلك الأدب عربيَّ اللسان ربانيَّ المضمون، حتى بدأ الخلل في مسيرة الحياة السياسية، فاختلف حَمَلَةُ الرسالة حتى الاقتتال، وكان مستحيلا على الأدب أن يقف على الحياد في ذلك المعترك الصاخب، فإذا هو مأخوذ بِرَهَجِهِ، يضطرب بين المختلفين في تحيز ترك أثَره عميقاً في كثير من شعره ونثره على السواء، ثم تتابعت الأحداث، وتفاقمت المشكلات، وإذا نحن خلال عصور الأدب التالية تلقاء ركامٍ من الكلام، قليل منه المتماسك في نطاقِ المواريثِ العليُا، وأكثره الزائغ الخطى هنا وهناك.. حتى إن الأديب الواحد ليجمع في نتاجه بين الضربين المتضادين من الألوان، فهو في بعضه إسلامي الرؤية لا يفارق خَطَّ النور، ولكنه في بعضه الآخر مدخول الهوية لا يمت إلى المنظور القرآني بأي صلة، والمؤسف بل المبكي أن المسيرة الأدب العربي -بخاصة- واصلت حركتها في هذا الطريق المضطرب، فلم تُقَيَّضْ لها القوة التي تردها إلى مسلك السليم، حتى إذا فوجئت بطلائع الزحف الغربي الدافق، لم تكن لديها المقومات القادرة على مواجهته بالوعي الذي يفرق بين الغث والسمين، فكان من نتائج هذه المواجهة تراكم العقبات في طريق الفكر الإسلامي، وطُغيان الضجيج الصادر عن المبهورين بتلك الطلائع.. وهكذا وجدنا أنفسنا أمام جيلٍ لا يرى سبيلاً للتقدم إلاَّ بالإعراض الكلي عن المنهج الإسلامي الأصيل، والذوبان التام في تيارات الفكر الواغل الدخيل.

* وقد بلغت هذه الدفعة الرهيبة أشدها في أعقاب النكبة الكبرى التي نزلت بعالم الإسلام أثر سقوط الخلافة، إذا انفرط عِقد المجموعةِ الإسلامية، فتوزعتها النزعات الوافدة مع الزحف الغربي، فإذا الأمة أمم، والأسرة الواحدة فرق، لا تقل عدداً ولا خطراً عن الفِرَق التي أفرزتها الثقافات الدخلية خلال قرون الدولة العباسية..

* وقد انعكست آثار ذلك كله في هذا السيل العارم من نتاج الأقلام، التي اختلط فيها الحابل بالنابل، وإذا هناك أخيرا مؤتمرات مشبوهة يحمل كل منها لافتة أدبية ذات لون خاص، تحتضن في ظلالها أقزاماً لا يكادون يُرَوْن من ضالتهم، ولكنهم لا يزالون يُنْفخون وتُسَلط عليهم الأضواء الملونة حتى يشكوا أن يحجبوا الرجال ذوي الأصالة في عالم الفكر والأدب والإنتاج الحق.. ولقد اتسع المدى جناياتهم حتى شمل لغة القرآن نفسها، فراحوا ينبزونها بكل نقيصة، فهي في زعم بعضهم فقاعات من التحاسين اللفظية لا محصول لها من الفكر ولا علم، وهي في نظر بعضهم الآخر معرض للجمود الفاضح لا تمد الباحث بأي قدرة على إعطاء مدلول صحيح.. ومن هنا كان أدبها ميتاً أو مختصراً لا يملك قدرة التعبير عن أي جانب من النفس الإنسانية، فضلا عن أن يحاول اللحاق بموكب الآداب العالمية،... وطبيعي أن غرضهم الأقصى من هذه الحملات إنما هو تشكيك قرائهم في صلاحية العربية للحياة، ومن ثم صرفهم عن الاهتمام بكتابها الأسمى الذي يقول منزله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}.

* على أن لكل أجل كتابه، ولكل نبأ مستقره، كما قرر الحكيم العليم، وهكذا لم يكن بُد لهذه الغمرة المضلَّلة من حد تصير إليه، ثم ينجلي ما وراءها من المخلفات، كما تنجلي سحابة الدخان المصطنع بعد أن حجبت حقائق الأشياء إلى حين. وكذلك استفرغت هاتيك المزاعم طاقاتها، فهي اليوم تترنح تحت صفعات اليقظة الإسلامية التي لم تنطفئ شعلتها قط، ولم تستسلم لمناورات الباطل، منذ الغارة الأولى التي شنتها الشعوبية القديمة، وحتى آخر السلسلة من هجمات الشعوبية الحديثة على حصون الأدب القرآني في كل مكان أتيح فيه القلم الإسلامي أن يتنفس.

ونظرة واعية إلى ميدان الصراع الفكري الراهن، سواء على النطاق الأرض العربية وحدها، أو على مستوى العالم الإسلامي كله تكشف للمبصر هذه الحقيقة على أتمها إذ تُريه أعداء الإسلام على اختلاف هوياتهم وتبعياتهم للصليبية المحلية، أو اليهودية العالمية، أو الشيوعية المفترسة، أو الوثنية الحاقدة، قد شرعوا يلفظون أنفاسهم الأخيرة، أمام انتفاضة الفكر الإسلامي، الذي أخذ يكتسح بأشعته قطع الظلام التي دسها الغزو الشيطاني في غيبة الوعي الإسلامي، كما اكتسحت عصا موسى (عليه السلام) حبائل السحرة التي خُيِّل للناظرين أنها تسعى، وحسبنا شاهداً على ذلك معارض الكتاب الإسلامي التي تنهض هنا وهناك وهنالك، فتلقى من إقبال القراء على اختلاف مستوياتهم ما لا يحضى ببعضه كل نتاج الفكر الهدام في عالم الإسلام

* أجل.. لقد أثبت الأدب الإسلامي وجوده حتى اليوم شامخاً متألقاً في كل فنون الأدب، ففي حلبة الشعر يعلو صوت إقبال كل ما عداه من أصوات الشعراء العالميين، ليس فقط بالأسلوب الفني الذي تستأثر به لغة الشعر في كل لسان، بل بالروح الإيماني الذي يخترق بأسراره جدران الباطل ليستقر في القلوب، نوراً يضيء، وطاقةً تُحَرِّك، وحُبًّا تتلاشى في طريقه الحواجز، ليشعر كل مسلم في الأرض أنه عضو في جسد يشمل كل مسلم على وجه الأرض، وعلى سَنَن إقبال تنطلق مواكب الشعر الإسلامي لتوقظ ما غفا من مشاعر الإيمان، وتُثير العزائمَ الفتية للاندماج في كتائب الجهاد الزاحف لمكافحة الطغيان في كل مكان وزمان.

وفي الطريق نفسه مضى النثر الإسلامي يصور مشكلات الحياة قاطبة: تدغدغ الضمائر، وروايةً تجسم المنظور الإسلامي في أعماق المشاعر، وبحثاً يكشف الحقائق في ضوء الوحيين، ليأخذ بأيدي التائهين إلى ساحة النور، ومقالةً تعالج مشكلات الإنسان في مسيرته اليومية، فتفتح الأعين على كل ما هو بحاجة إليه من ألوان المعرفة المضيئة، ولا حاجة لاستقصاء الفنون التي يحقق بها الأدب الإسلامي رسالته في عالم الكلمة، لأن استقصاء ذلك فوق حدود الطاقة، وقصارى القول: أن الأدب الإسلامي قد استعاد بفضل الله، ثم بهمم الصفوة من موهوبي المؤمنين، الكثير مما فقده من أسباب التفوق، ولا تزيده التجارب اليومية إلاَّ نشاطاً ودَأْباً في هذه السبيل المَهْدِيُّ بنور الله، على الرغم من مئات العقبات التي تقيمها في طريق الحق الأيدي الملوثة بجراثيم الشيوعية، والقوى المسخرة لأهواء الظُّلام من طواغيت الحكام، وبخاصة أن هذه الأيدي هي التي تقبض على مخانق الوسائل الإعلامية مقروءةً ومسموعةً ومرئيةً في معظم بلاد المسلمين فتسخِّر كُل شيء لخدمة أنصابها، حتى لتجعل من المسخ الهزيل الكبير العمالقة، ومن ألد أعداء الإسلام داعيةً، يستحق ألوان التقديس، ثم زاد اضطرب الرؤية لدى الجماهير المتأثرة بالإعلام المضلِّل، ذلك التكريمُ الذي توجهه السياسة المكيافيلية لقادة الفكر التخريبي، إذ يدعون المشاركة في كل مؤتمر يحمل اسم الإسلام، ثم ينفضُّون ليستأنفوا حربهم للإسلام شريعةً وتربيةً وتعليماً وإعلاماً، وكأنهم أخذوا من وجودهم في تلك المؤتمرات تفويضاً بمواصلة مساعيهم الشيطانية لتهديم كل ما هو إسلامي، وتنشيط وتشجيع كل ما هو مضاد لحقائق الإسلام...

* ولا أكشف سراً إذا ذكَّرت بآخر ما يشهده عالم الإسلام، من تلك المواقف المشبوهة، حيث طُرحتْ قضية الغزو الشيوعي لأرض الإسلام في الأفغان الشقيقة، فوقف هؤلاء ينافحون عن فجائعه بكل وقاحة، وفي مجتمع آخر قريبٍ حيث طرحت قضية تطبيق الشريعة الإسلامية، فكان أن وقف ممثل لإحدى الدول المشاركة فيه باسم الإسلام، ليعلن على رؤوس الأشهاد أنه لا يوافق على هذا الطلب، ولكن شاء الله أن يجعل من تلك المفارقات قوة جديدة للدفع الإسلامي، إذ ساعدت على تمييز الراشد من الضائع، فشدَّتْ أواصر أهل الإيمان، وأبرزت انعزالية المعادين للإسلام، وكان أعظم رد فعلٍ لموقف ذلك الرافض لحكم الله، هو الذي قدمه ممثل نيجرية المسلمة في التعقيب على ذلك الكفر الصراح، يقترفه وزير لأوقاف إسلامية، أول واجبه هو احترام عقيدة شعبه، وتسخير كل مقاومات منصبه لإعلاء كلمة ربه، فكان الرد النيجري، تذكيراً حكيماً بقوله تعالى في أمثاله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} (4-59).
يتبع


ابوالوليد المسلم 08-09-2019 04:20 AM

رد: الأدب الذي نريد
 
الأدب الذي نريد

الشيخ محمد المجذوب

ولن يقل عن هذا وذلك تلك الحملة الطائشة التي تنطلق اليوم في وجه السنة النبوية حيث يقحم رجل نفسه في مالا صلة له بعلمه، فينكر، ويفتي، ويسفه، ويريد بذلك أن يجد جيلاً من المنتفعين بما لديه من مال المسلمين يصلح لإفساد الإسلام، وهو يظن، إذا أحسنا الظن، أنه يعمل كل ذلك في خدمة الإسلام..

أجل.. إن العقبات التي تريد تثبيط المد الإسلامي لأكبر وأكثر من أن تُحصى ولكنها على رغم من هولها، ومن النكال الذي ينزله طواغيتها بحملة الفكر الإسلامي، مما يتجاوز بفظاعته حدود التصور، لا تزيد ذلك المدَّ المقدَّسَ إلاَّ اندفعاً وانتشاراً وعمقاً، وإنها للصورة التي تبدوا أكثر ما تكون تكاملاً في ألوان الأدب الإسلامي، الذي يطالعنا صباح مساء في أكداس المنشورات، التي تدفع بها المطابع، مصنفاتٍ ودواوينَ وصحفاً ومجلاتٍ، تتعدَّدُ تخصصاتها، وتلتقي في إطاراتها المميزة على خدمة الفكر النقي في الكلمة الجميلة البلغية..

* وأخيراً.. إن عشرات الصفحات تسطر في هذا الموضوع لن تستوعب الأفكار التي تثيرها في صدور الذين أوتوا العلم، ولذلك لا نرى مندوحة عن ضغطها في فقرات محدودة تنم بالقليل عن الكثير، وتعدل عن الهامِّ والأَهَّم، عملاً بالحكمة القائلة (ما لا يدرك كله لا يترك جله).

(1) إن منطلق الرؤية الإسلامية هي العقيدة السليمة كما أوحى بها الله وتلقيناها عن رسوله الأعظم (صلى الله عليه وسلم) دون تأويل ولا تعطيل، وما لم تتركز هذه العقيدة في قلم الأديب، حتى تسيطر على كل تصوراته، فسيظل أدبه بعيداً عن سبيل المؤمنين، وأبعد من أن يكون أدباً إسلامياً، ومن البدائه أن منبع العقيدة الصحيحة والوحي الماثل في كتاب الله وسنة نبيه، فالتزامهما إذن أساس لا مُنصرفَ عنه لتثبيت الرؤية الإسلامية السليمة في قلب الأديب وطالب الأدب على السواء، ثم الاتصال بالمؤلفات الموثوقة في نطاق الثقافة الإسلامية المبنية على هذا الأصل. ومن هنا كان فرضاً على من يريد العمل في نطاق الأدب الإسلامي أن يتشبع بهذه المناهل، كي يظل في مسيرته على طريق اللاحب فلا يزيغ بصره عنها ولا يطغى..

(2) لقد كثر الذين يتكلمون في الإسلام، وكثر ما يكتبونه وما يذيعونه وما ينشرونه في هذا المضمار، ولكن قليل منهم الذين يلتزمون أصول هذه الحقائق الإسلامية، فهم يقولون الكثير في كتاب الله دون أن يعتمدوا في ذلك على أساس سليم، متناسين أن أي عمل يُراد تحقيقه لابد من العدة المتعلقة به. وقد وجد هؤلاء بعض الإقبال على ما يذيعونه من قبل البسطاء، فتمادوا في جرأتهم على هذه الحمقات، يحسبون، أو بعضهم، أنهم يحسنون صنعاً، وقد أُخِذَ قراؤهم ببعض الطرائف التي وُفِّقُوا إليها فتوهموا أن كل ما يقولونه حق لا مرية فيه. وفي هذا ما فيه من تغرير بالجيل الذي لم يزود بالعواصم من القواصم، وعلى هذا فلا بد من حوار مع هؤلاء، يُذَكِّرُهم ويعظهم ويوجههم إلى الحق، وينوه في الوقت نفسه بالمصيب السديد من أعمالهم، ولقد جربت ذلك مع بعضهم فوجدت نية حسنة واستجابة طيبة وإقراراً بالأخطاء ووعداً بالعدول عنها، فمثل هؤلاء لا يكتبون أدباً إسلامياً خالصاً، ولكن بالإمكان تسديد خطاهم حتى يكون ما يكتبونه من الأدب الإسلامي المنشود.

(3) لابد من تعاون الأدباء الإسلاميين على حماية الإسلام من تسرب الأفكار الدخيلة إلى حقائقه، وذلك بإيضاح استقلالية الإسلام الكاملة عن كل فكر أو مذاهب آخر، كالاشتراكية والماركسية والديموقراطية وما إلى ذلك من مُدَّعيات كثر القائلون بها في هذه الأيام، حتى يعلم القارئ أيًّا كان أن الإسلام هو دين الله المصفَّى، فلا مساومة ولا ترقيع، بل شعاره الخالد أبداً هو: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.

(4) كذلك لا بد من قصر دلالة (الأدب الإسلامي) على معناه الحق، فإذا وجدنا لكاتب أو شاعر نتاجاً متفقاً مع روح الإسلام اعتبرناه من الأدب الإسلامي، وكل إنتاج له شذ عن ذلك الخط أعطيناه حقه من تعربف منفصلاً عن الجانب الإسلامي، وأضرب مثلاً على ذلك بالدكتور محمد إقبال فهو في الذؤابة من شعراء الإسلام، ولكنه في فلسفته بعيد عن الخط الإسلامي، لأنه أخذ بمفهومات الفلاسفة الوثنيين والصليبيين، وأثَّر بطريقته هذه على غير واحد من مفكري المسلمين في هذا الجانب، ومثله في ذلك كتَّاب قدموا للإسلام خيراً كثيراً، فهم من هذا الجانب ذوو أدب إسلامي أصيل، ولكنهم في جانب آخر من إنتاجهم خرجوا حتى على نصوص الوحي المتواترة في القرآن والحديث، فأنكروا ما هو معلوم بالضرورة، وبذلك التقوا مع المؤوِّلة على من الباطنية الذين قامت نحلهم على صرف المعاني عن وجوهها التي أجمعت عليها الأمة على توالي القرون، فأدبهم من هذه الناحية مجانب للمعنى الإسلامي ومرفوض بمقياس الإسلام.

(5) من مهام الأديب الإسلامي مناقشة هذه الانحرافات بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، حتى يستقيم أمر أهلها على الجادة، وإذا أصروا على شذوذهم كان في ذلك النقاش خير للقراء إذ يصبحون هم الشهداء عليه. ومثلُ ذلك يقال في كل محاولةٍ لتشويه الوجه الإسلامي، سواء جاءت من الخارج أو الداخل، حتى لا يصل إلى أعين القراء إلا وبإيزائها التفنيد الكفيل بتزييفها.

(6) من العقبات التي تواجه الأدب الإسلامي في أوساط المسلمين، قلة قرائِه، إذا قيسوا بغيرهم من الشعوب المتحضرة، والكثرة من هذه القلة تتجه في اختيارها إلى المجلات الملغومة والمسمومة مأخوذة بجاذبية الإخراج، وهي علة لا مندوحة عن معالجتها بالدواء، الناجع، وهو محصور في المضمون المشوِّق والإخراج الجميل، وبازاء الجمهور الأكبر من محسني القراءة طلاباً أو عمالاً نرى أفضل ما يقدم إليهم متمثلاً في القصة التي يجب أن تمدهم بالمتعة والفائدة من خلال المنظور الإسلاميّ، الذي لا يضيق بأي جانب من الزاد الفكري الخيِّر، وفي عناية دقيقة بالإخراج المنافس بل المتفوق على سواه.

(7) لقد أدى تدهور الثقافة في أوساط الشعبية -في البلاد العربية- إلى شيوع اللحن ومجانبة العربية السليمة، ومن ثم انتشار الأدب العامي الذي زاد في تشتيت المجموعة العربية، حتى لا يكاد يفهم العربيُّ العربيَّ إلا على طريق اللسان الوسيط، ومع أن التقدم الواسع في نطاق التعليم والنشر، قد ساعد على تفتيت الكثير من تلك الحواجز، فلا يزال لذلك الأدب العامي سوقة الرائجة في مختلف بلاد العرب، وهو منافس خطير للأدب الإسلامي الذي نريده، والذي نراه أن أفضل مقاوم لهذا الواغل هو العناية بتفصيح العامية، وأعني بها إقبال الأديب الإسلامي على تتبع المفردات الفصيحة في لغات العامة، واستعمالها في عرض مناسب خلال تعابيره، دون أن يُقيم وزناً لمقاييس البلاغيين الذين يرون ذلك من معايب البيان العربي، وبذلك نكسب المزيد من القراء في الوقت الذي نربح الرشيق الجميل الذي كان محجوبا من لغتنا الحبيبة، وبذلك يقترب أولو المواهب الشعبية من لغتهم الأم، حتى يأتي اليوم الذي يلجئون فيه إلى الأسلوب الفصيح في الإعراب عن مشاعرهم. بيد أن هذا التدبير سيظل مشلولاً حتى يمسك المدرسون وأولو العلم عن هجرهم الفصحى خلال الدروس وفي المواقف الأخرى، فيرفعوا بذلك أسلوبهم التعبيري، ويرفعوا مستويات مَن حولهم ممن لا يجدوا مفراً عن محاكاتهم والتأثر بهم من الأهلين والطلاب والإخوان.

(8) الطفل المسلم هو إنسان الغد الذي سيتعهد البناء الاجتماعي بالإعلاء أو التدمير، وقد أهملناه طويلاً فلم نسعفه بالتوجيه الإسلامي الحافظ، ولم نقدم إليه من المنشورات ما يحبب إليه القراءة، والقراءة الإسلامية بوجه خاص، ومن المؤسف القول بأن ما تقوم به بعض المجلات الإسلامية من محاولات لسد هذه الثغرة قلما يراعي استعداده الفطري والبيئي، وبذلك يظل عرضة للمؤثرات غير الإسلامية، ولا سيما بعد تسلط التلفاز والفيديو والوسائل الإعلامية الأخرى على جو المنزل، وهذا يقتضي من كتاب القصص الإسلامي بوجه خاص إعادة النظر في هذا الجانب، وبذل الوسع لإيجاد البديل الإسلامي الجذاب، الذي يجب أن يأخذ سبيله إلى الطفل والبيت عن طريق هذه الأجهزة الحديثة بأي ثمن، ولئن كان بعض هذه الأجهزة مغلق النوافد والأبواب بوجه الإسلاميين فإن بعضها الآخر مفتوح ولله الحمد، وقد بدأ يبذل رعايته لهذا النوع المنشود من الأدب الرفيع في مسلسلات معتبر من التجارب الناجحة في هذا الميدان. فما على القاصّ الإسلامي إذن إلا إبداع الروائع لتأخذ طريقها إلى تلك الميادين، محفوقة برعاية المؤمنين من ذوي النفود الفعال في تلك الأجهزة.

(9) للقلم المسلم جولاته المشرقة في كل جانب من عالم الإسلام، فهناك القصة الجيدة، والمقالة البارعة، والبحث النافع، والمؤلف الفخم العميق، ومن الظلم لهذا الإنتاج الكريم أن يُحبس في نطاق اللغة التي أنشئ فيها. ومن فضل الله أن كثيراً من هذه الكرائم قد أخذت سبيلها للترجمة إلى مختلف لغات المسلمين، وكان لها الفضل الكثير في توثيق عرى الأخوة بين أعضاء الجسم الإسلامي، وهذا ما يؤكد الحاجة إلى المزيد من هذا المجهود المحمود.

وطبيعي أن لذلك تكاليف تنوء بها كواهل الأفراد من الناشرين، اللذين لا مندوحة لهم عن إقامة أعمالهم على أساس الربح والخسار، ومن هنا كان أثرهم في إشاعة هذا الخير محدوداً في نطاق قدراتهم الشخصية، ويمكن تدارك ذلك عن طريق الاستعانة بإعانات المحسنين من ميسوري المسلمين، الذين لمسنا آثارهم في كل مكان ولله الحمد، وكثير منهم على أتم الاستعداد للإسهام في نشر المؤلفات التي يتقرر نفعها للناس، لو أتيح من يقنعهم بأهمية هذا النوع من الإحسان. وإني لأعرف رجالاً يبذلون الآلاف المؤلفة في بناء المساجد تقرباً إلى الله، ولكنهم لم يقتنعوا بعد بفضلية الإسهام في نشر الثقافة الإسلامية، ولن يترددوا في تقويم نظرتهم إلى هذا الجانب إذا قرؤوا في الموضوع فتوى الثقات من العلماء.

(10) إن العناية بنشر العربية على المستوى العالمي واجب يسهم بحمله كل مسلم مستطيع، وهو أكثر توكيداً بالنسبة للعالم الإسلامي، الذي يفتح ذراعيه لاحتضان لغة القرآن بلهفة المحب إلى لقاء حبيبه الأثير، وقد رأينا دول الغرب الصليبي تبذل أكداس الملايين لإشاعة لغاتها في كل مكان، تثبيتاً لمصالحها السياسية والاقتصادية، ومما لا شك فيه أن مصلحة الدول العربية بإذاعة لغة القرآن في الشعوب الإسلامية، غير الناطقة بالعربية، أكثر وأعظم وأعمق، ومن فضل الله أن بعض هذه الحكومات قد تنبهت لهذه القضية الهامة، فهي تبذل الكثير لنصرتها، ولكن الذي نراه أن يرفع اقتراح إلى مجموع الدول العربية وعن طريق جامعتهم بتخصيص نصف بالمئة على الأقل من ميزانية كل منها لتمويل هذا العمل الجليل، بواساطة النادي الذي نرجوا أن ينبثق عن هذه الندوة الموقرة، وفي ذلك خير لا يُقَّدر لأنه سيزيد عرى الأخوة الإسلامية قوة، ويقرب بين الأفكار، ويسهل سبيل التفاهم بين أبناء الإسلام، ويعيد للعربية مكانتها التي سبق أن احتلتها في عالم الإسلام أيام ازدهار الحضارة الإسلامية.

* وحتى الآن نكاد نقتصر في فقراتنا الآنفة على مجرد العرض النظري، ومن حق الناظر فيها أن يسأل: وأخيراً ما السبيل إلى ترجمة هذه المقترحات إلى الأعمال؟

وهنا ننتهي إلى الغاية التي نعتقد أنها أهم الوسائل إلى تحقيق ذلك وأكثر منه بفضل الله.

في نهاية البحث ختمتُ به محاضرتي في موضوع الأدب الإسلامي قبل عشر سنوات قلت: "إن أقرب السبيل لإخراج هذا الحلم إلى حيز الواقع تأليف لجنة تحضيرية تتولى الدعوة إلى مؤتمر للأدباء الإسلاميين يخطط لمستقبل الأدب، الذي لابد منه في هذه الفترة الحرجة من حياة العالم الإسلامي، وعن هذا المؤتمر ينبثق النادي الدائم باسم (نادي القلم الإسلامي) وإلى عضويته ينتسب كل مؤمن بأهدافه، التي يجب أن تحدَّد في دستور مستوحى من التصور الإسلامي المحض، بحيث يصبح كل عضو منتسب ملتزماً بإقامة أدبِه على أساس من ذلك الدستور، حتى إذا انحرف عن سبيله نُزعت عنه عضويته، ومفروض في هذا النادي أن يضم شمل أدباء الإسلام في سائر أقطارهم، ويجمعهم في مؤتمرات دورية لدراسة ما جدَّ وما ينبغي أن يجدَّ من العمل، وبديهي أن هذا يقتضي وجود مكتب دائم للنادي يظل في انعقاد دوري، ليعمل على متابعة مقرراته واستطلاع آراء أعضائه في كل طارئ، ويتولى تنسيق مجهوداتهم، ليتمكنوا من أداء واجبهم في توعية الشعوب الإسلامية توعية تُبَصِرها بما يراد لها، وما يجب عليها، ويُحَصَّنُها من السقوط من حبائل الختالين من أصحاب الشمال واليمين".

وها نحن أولاء في هذه الندوة المباركة نحقق الجانب الأول من هذه الأماني، ويبقى الجانب الآخر وهو تكوين (نادي القلم الإسلامي) ووضع دستوره المحكم.

أما مقر هذا النادي فيقرره المؤتمرون، وإن كنت من الموقنين أن مقره الطبيعي هو الجامعة الإسلامية في مدينة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، حيث وضع القدر أول لبنة في بناء الأدب الإسلامي العظيم.

والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم وبارك على قائد الفكر الإسلامي في الطريق القويم محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.



الشيخ محمد المجذوب

كلية الدعوة وأصول الدين
بالجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة



الساعة الآن : 02:26 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 26.21 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 26.07 كيلو بايت... تم توفير 0.14 كيلو بايت...بمعدل (0.52%)]