الروح الدينية عند أبي فراس الحمداني
صدقي البيك



إنه الأمير الفارس الشاعر الحارث بن سعيد، زين شباب بني حمدان، عاش في القرن الرابع الهجري، وقتل في عام 358هـ. خاض معارك مع البيزنطيين، ونال منهم وأسروه، وكان يتعالى عليهم وهو في الأسر، وكانت أمه رومية؛ ولذلك فهو يفتخر بانتمائه إلى الأخوين النبيين إسماعيل وإسحاق، أباً وأماً فيقول:

لإسماعيل بي وبنيه فخر https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وفي إسحق بي وبنيه عجبُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وأعمامي ربيعة وهي صِيد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وأخوالي بلصفر وهي غُلْبُhttps://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ومع ذلك فإنه قد لاقى العنت من أعمامه، والأذى من أخواله:

إذا خفت من أخوالي الروم خطة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
تخوفت من أعمامي العرب أربعا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وإن أوجعتني من أعاديَّ شيمةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لقيت من الأحباب أدهى وأوجعا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ومع كون أمه رومية فقد ربى على الشهامة العربية والمفاهيم الدينية التي ظهرت في شعره بكثرة متناثرة في قصائده؛ فهو يرجو من الله لا من سواه أن يحقق له آماله:

ولو قد رجوت الله لا شيء غيره https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
رجعت إلى أعلى وأمّلت واسعا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وكل أمله معلق بعفو الله - تعالى - عنه، وسيجزى على عمله خيراً أو شراً:

فلا أمل غير عفو الإله https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ولا عمل غير ما قد مضى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فإن كان خيراً فخيراً تنل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وإن كان شراً فشراً ترى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أفلا نجد في بيته الأخير معنى قول الله - تعالى -: ï´؟ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ï´¾ [الزلزلة: 7، 8]؟. فهكذا يكون تسليم المؤمن لربه، ويقينه بأن عاقبته تعتمد على ما قدم من خير أو شر، وكل ما يقضي به الله لا راد له، ولا يمتنع منه أحد:
ما للعبيد من الذي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يقضي به الله امتناع https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وهل لقضاء الله في الناس غالب؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وهل من قضاء الله في الناس هارب؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

هم يطفئون المجد والله موقد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وكم ينقضون الفضل والله واهب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif







يتبع

كما أنه يسلم بإرادة الله التي ما تعاندها إرادة:

دع ما أريد وما تريد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فإن لله الإرادة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

الله يقضي ما يشاء https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وفي يد الله الزياده https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وهو موقن أن سلامته كانت بحفظ الله له وحمايته له:
فكم شالني من قعر ظلماء لم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يكن لينقذني من قعرها حشد حاشد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وإذا اعتمد الإنسان على غير الله لم يحفظه من العوادي شيء، بل جاءه الشر من حيث كان يتوقع الخير:
وبت يظن الناس فيَّ ظنونهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وثوبي مما يرجم الناس طاهرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فلما خلونا، يعلم الله وحده، https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لقد كرمت نجوى وعفَّت سرائرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

عفافك غي، إنما عفة الفتى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إذا عفَّ عن لذاته وهو قادرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إذا كان غير الله للمرء عدة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أتته الرزايا من وجوه الفوائد https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

إذا الله لم يحرزك مما تخافه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فلا الدرع منّاع ولا السيف قاضب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



يتبع

الروح الدينية عند أبي فراس الحمداني
صدقي البيك


أخلاقه:
وأما سلوكه وأخلاقه فهي الأخلاق الإسلامية التي يدعو إليها الدين ويحث عليها، فهو بعيد عن ظنون الناس السيئة، ويعلم أن الله مطلع عليه في خلوته، فلا يمكن أن يخالف أوامره ونواهيه:
والذي يردعه عن السوء هو تقواه وعفته وعقله، وهذه الأمور كأنها ضرائر للنساء القريبات منه:

ويا عفتي ما لي وما لك؟ كلما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
هممت بأمر همّ لي منك زاجرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كأن الحجا والصون والعقل والتقى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لديّ لربات الخدور ضرائرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ولن يخرجه عن وقاره وتقواه كل ما يمكن أن يتعرض له من مواقف الصبوة والغزل:

أنا الذي إن صبا أو شفه غزل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فللعفاف وللتقوى مآزره https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وكما يحرص على تقواه وعفافه وأخلاقه يحرص أيضاً على احتشام أهله وطهارتهن، وتحلّيهن بالأخلاق الإسلامية؛ فهو لا ينسى أن يطلب من ابنته الحفاظ على هذه الأخلاق والالتزام بالحجاب الإسلامي، ولو كان على فراش الموت:
أبنيتي لا تجزعي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كل الأنام إلى ذهاب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

نوحي عليَّ بحسرة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
من خلف سترك والحجاب https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وهو كذلك حريص على أن تكون أمه صابرة محتسبة طالبة للأجر من الله، وأن تتأسى بمن سبقها من المؤمنات الصابرات من أمثال أسماء بنت أبي بكر (ذات النطاقين) عندما قالت للحجاج وهي أمام ابنها عبدالله بن الزبير:"أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟!" وصفية بنت عبدالمطلب عمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصبرها على مقتل أخيها حمزة - رضي الله عنه - فيقول:

مصابي جليل والعزاء جميلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وظني بأن الله سوف يديلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فيا أمتا لا تعدمي الصبر إنه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إلى الخير والنجح القريب رسولُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ويا أمتا لا تخطئي الأجر إنه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
على قَدَر الصبر الجميل جزيلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أما لك في ذات النطاقين أسوة https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فقد غال هذا الناس بعدك غولُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وكوني كما كانت بأحْد صفية https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ولم يُشفَ منها بالبكاء غليلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وهذه القصيدة زاخرة بالمعاني الإسلامية السامية من إرادة الله الغالبة، وعونه وحمايته ونصره وإرشاده:

ومن لم يوقّ الله فهو ممزق https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ومن لم يعزّ الله فهو ذليلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وما لم يرده الله في الأمر كله https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فليس لمخلوق إليه سبيلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يتبع

ومثل ذلك قوله:

إذا لم يعنك الله فيما ترومه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فليس لمخلوق إليه سبيلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وإن هو لم ينصرك لم تلق ناصراً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وإن عز أنصار وجل قبيلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وإن هو لم يرشدك في كل مسلك https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ضللت ولو أن السماك دليلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

مناجاة:
وهو يناجي ربه في ظلمات سجنه الذي طال فيه أسره؛ فكم ناجى حمامة وتجلد أمامها وامتنعت عيناه من ذرف الدمع الذي لا يليق بالفرسان أمثاله، وكم شفه الوجد والألم في عتمة الليل وفي جر القيود، ولكنه كان يبدو ضعيفاً في مناجاته لربه - عز وجل- وطلبه منه أن يفرج كربه، ويكشف عنه الخطب، فيقول:

يا فارج الكرب العظيم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وكاشف الخطب الجليل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

كن يا قوي لذا الضعيف https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ويا عزيز لذا الذليل https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

أوَ ما كشفت عن ابن https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
داودٍ ثقيلات الكبول؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فهو في أسره هذا متذلل أمام ربه، ولكنه كما هو معروف عنه كان متعالياً على سجانيه يكاد يقاتلهم بشعره. فيقول في قصيدة أخرى مخاطباً الدمستق:

أتزعم يا ضخم اللغادين أننا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ونحن أسود الحرب لا نعرف الحربا؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

فويلك! من للحرب إن لم نكن لها؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ومن ذا الذي يمسي ويضحي لها تربا؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وويلك من أردى أخاك بمرعش https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وجلل ضرباً وجه والدك العضبا؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لقد جمعتنا الحرب من قبل هذه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فكنا بها أسداً وكنت بها كلباً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

بأقلامنا أحجرت أم بسيوفنا؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وأسد الشرى سقنا إليك أم الكتبا؟ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يتبع

ولكنه عندما يخاطب أحبابه يفوِّض أمره إلى الله، ويسلم بقضائه وقدره، فيقول:

لولا العجوز بمنبج https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ما خفت أسباب المنيهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

لكن قضاء الله في https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
الأحكام تنفذ في البريهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

ويثني على ما فيه أمه من التقى والدين، ويصبِّرها ويقوِّي ثقتها بفضل الله عليه:

فيها التقى والدين https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مجموعان في نفس زكيهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يا أمتا لا تحزني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

وثقي بفضل الله فيَّهْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

يا أمتا لا تيأسي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لله ألطاف خفيهْ