ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى الشعر والخواطر (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=30)
-   -   أبجدية القروي العاشق (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=256565)

ابوالوليد المسلم 08-04-2021 07:36 AM

أبجدية القروي العاشق
 
أبجدية القروي العاشق


د. مقداد رحيم


قراءة في المجموعة الشعرية "الغزالة تشرب صورتها"
للشاعر السعودي علي الحازمي

كيف تشرب الغزالة صورتها؟
لعلَّ هذا السؤال يقفز إلى الذهن بعد قراءة هذا العنوان الذي جعله الشاعر السعودي علي الحازمي لمجموعته الثالثة الصادرة أخيراً "الغزالة تشرب صورتها".

وبعد تأمُّلٍ في بلاغة العبارة تبدو الصورة وتتجلَّى لتدلَّ على براعة الشاعر في رسم الصورة الشعرية المُبدَعة، حيث تنعكسُ صورة الغزالة في الماء الذي تقترب منه لتشربه، فإذا ارتوتْ رفعتْ رأسها، وأشاحت بوجهها عنه، فتكون قد شربت صورتها تلك على سبيل المجاز.

لكنَّ القضية لم تنتهِ بالارتواء من الماء، بل تبتدئ حيثُ غياب الصورة، وهو تلاشٍ وانتهاء، وهنا تبدو إشكالية معقدة أساسها التناقض المنبني على الارتواء بوصفه إيجاباً رامزاً للحياة، وغياب الصورة بوصفه سلباً رامزاً للموت، ومن هنا نلمح جدلية الحياة والموت.

ولكن ما حكاية الغزالة نفسها؟، وهل الصورة الذي رسمها الشاعر لها منذ العنوان هي صورة مجردة مُقتطَعة من خيالٍ لا علاقة له بالواقع؟، وهل هي صورة طارئة فرضتها لحظة من لحظات التوهُّج التي تمسك بتلابيب الشاعر ولا تنفكُّ منه إلاّ بعد أن يسجلها في ذاكرته الشعرية؟

إنَّ الغزالة هي الروح... هي روح الشاعر أحياناً، وهي الروح المجردة أحياناً أخرى، وما دامت كذلك فما أحراها بأنْ تكون مصدر الفعل، أيِّ فعل، وبذلك أُبرِّرُ للشاعر دورانها في قصائده، وشيوعها بين مفرداته، وهو يُشْـبه في ذلك ما كان يفعله بعض القدامى من المتصوفة.

تقع المجموعة في خمس عشرة قصيدة، لترسم بشكلٍ واضحٍ وبأسلوبٍ بليغٍ ملامحَ الحالة التي يعيشها علي الحازمي، وهي حالة عِشقٍ قروي متأصِّل في روحه وكيانه، ومستولٍ على مشاعره، طاغٍ في شِعره، ولذلك أصف عشقه بالقرويَّ.

يقول الشاعر في قصيدته "نخلة...تسند العمر":
لأني أحبكِ
أكثر من أيِّ وقتٍ مضى
أستجيبُ لخطوِ الغزالِ على ظلِّكِ،
خلاخيلكِ
تستحثُّ جيادَ انتظاري المؤجَّلِ
في هدأةِ الوقت. ص19

وعلى الرغم من قصر هذا المقطع فإنه يقودنا إلى عالم الشاعر الخاص والمتميز، وبه يرسم لنا صورة مقتطعة من القرية ببعض تفاصيلها الدقيقة الجميلة، فضلاً عن المعنى الذي حاول الشاعر باقتدارٍ تكثيفه بهذه العبارات الشعرية القصيرة، حيث تتبدَّى الغزالةُ هنا، وهي من ملازمات القرية، رمزاً للروح...لروح الشاعر نفسه.

وقد جعل حبه المتزايد لمعشوقته شرطاً لسيلان روحه على ظلها، كما يستحضر الخلاخيل وهي من ملازمات المرأة القروية ليتخذ من صوتها، أي صوت الخلاخل الذي يفترضه في مخيلته الخصبة، صوتاً يحثُّ انتظاره المؤجَّل الذي شبَّـهَهُ بالجياد التي هي أيضاً من ملازمات القرية أيضاً، ليقرِّرَ معنى السرعة في الاستجابة في هدأة الوقت وسكونه، بينما المعشوقة في حركة متواصلة، فمن أين يكون للخلاخيل صوت بلا حركة قدميها على الأرض؟!

فأنتَ ترى هنا قدرة فائقة في تكثيف الصورة وتأدية المعنى المراد بطريقة تدعو إلى الدهشة، فقد شخَّصَ المرئي والمسموع من ناحية، و المرئي والمتَخيَّل من ناحية ثانية.

وتعود روح الشاعر تتجلَّى مرة أخرى من خلال رمز الغزالة في قصيدته "يحيك خيبتَهُ مناديلاً"، يقول:
تجلس الذكرى أمامَ النبعِ تروي للغزالةِ
قصة العطش المقيمِ على الضفافِ
وكيف لاح الغيمُ في خجلٍ على الماضي
ليُزهرَ غصنُ قامتكِ النحيلُ. ص 21


فمن الناحية الوصفية التصويرية وهي ناحية برَّزَ الشاعر فيها تبريزاً واضحاً، يرسُمُ لنا صورة قروية ناصعة الملامح، حيث عناصرها الأثيرة: النبع والضفاف والغيم والإزهار الذي هو مبتدأ الإثمار، والأغصانُ فضلاً عن الغزالة نفسها.

وما ذاك إلاّ وعاء لمرماهُ الحقيقيِّ، حيث تتهيَّأُ روحُهُ للغياب في هسيس الذكرى..ذكرى الحبيبة الغائبة، والشوق القديم الذي لم يكن لجذوته أن تنطفئ، وما ذاك إلاَّ بسبب الخجل الذي يلفُّ البدويَّ العاشق ويشكِّلُ ركناً مهماً من أخلاقياته، ثم يقفُ حاجزاً دون مُنـاه.

وقد تجلَّتْ في هذا المقطع عدة عناصر قرويَّة مُشخَّصة أم مرئية لتمتدَّ بالتعبير عن عناصر أخرى مرئية أو غير مرئية، فكانت الغزالة روح الشاعر، والنبعُ مصدراً للذكرى التي بدأتْ تتسلَّلُ إليها، والعطش المقيم هو الشوق الدائم، والغيم هو الحرمان باعتبار صفته الحالية لا باعتبار ما سيؤول إليه من مطر وإرواء، والإزهار هو ذلك الخجل الذي أشرتُ إليه. وكل ذلك في أربع جملٍ شعرية.

أما الروح المجردةُ فتتجلَّى في جملة عبارات شعرية منها قوله:
الغزالة جرح بهيج من المسكِ
في شفة الرغبة الآسرةْ
الغزالة ليل مريض يطوِّقُ صمت الحبيبينِ
حين ينامانِ في غصَّةِ القبلة العاثرةْ. ص41.


وفي هذا المقطع يتماهَى الفاعلُ بالمفعول، فالروح هي جرحٌ نحملهُ وفي الوقت نفسه تُحس الروحُ بألم الجرح، وهي بعد ذلك كله تنفردُ بكونها مصدر أحاسيسنا المختلفة، فيشبهها الشاعر بالبهجة حيث تستولي عليها رغباتنا، ولكنها تمرضُ عند الحرمان من تلك الرغبات، وقد لمح الشاعر بذكاء شديد علاقة المسك بالغزالة من حيث أن دم الغزال هو مصدر المسك الوحيد، فأكَّدَ بهذا التركيب العجيب شدة التلاحم بين الروح والجرح الذي هو سبب الإحساس بالألم.

وتتبدَّى قرويَّةُ الشاعر في هذه المجموعة من خلال دورانه حول ألفاظ القرية وملازماتها فتتكرَّر لديه ألفاظُ الفراشة أكثر من عشر مرات، ومثل ذلك ألفاظ الفضة والخيل والشمس والنخل والحمام والهديل والريش، وأقل من ذلك التكرار قليلاً ورد في ألفاظ الحقل والعشب والشجر.

ومتوسط التكرار يقع في ألفاظ السنابل والقمح والمواويل، أما ما قلَّ التكرار فيه فألفاظ السدرة والينابيع والنايات، ولا نعدم شيوع ألفاظ أخرى كالقمر والسماء والتلال والجبال والسهول والوديان والتراب والأنهار والضفاف والمياه والأطيار والأزهار والأغصان والشذا والندى والسلال وأوقات اليوم وفصول السنة.

إنَّ دوران هذه الألفاظ في جميع قصائد هذه المجموعة يوحي بأجواء القرية، ويستحضر بإلحاحٍ تفصيلاتها الملوَّنة ويستجمع عدد الرؤى والمشاهد فيها، ويؤكِّد إمَّا انغماس الشاعر في تلك التفصيلات على وجه الحقيقة، أو انغماسه فيها على وجه الخيال.

والذي أُرجِّحهُ: هو مرور الشاعر بالحالة الأولى بإمعانٍ ثم انقطاعه واقعياً عنها من غير أنْ يشذَّ خياله عنها، بل هو دائم الشوق إليها، مرتبط بها أشد الارتباط الروحي والعقلي، وهو لذلك يستمدُّ أبجديته الشعرية منها، والدليل على ذلك هو انسجام اللغة بمفرداتها وكأنها نبعٌ سلسال، وطواعية المعاني وكأنها عبيدٌ لتلك اللغة، وهذا هو السبب الذي يجعل من هذا التكرار لوازمَ لا تدعو إلى الملل ولا تحرِّضُ على الابتذال.

ويبدو لي أنَّ الحازمي أراد في مجموعته الشعرية هذه أن يؤسِّسَ لاتجاهٍ شعريٍّ يتفرَّدُ به من ناحية، ويدعو إلى الالتزام به بوصفه أداةً للخلاص من مادية الحياة من ناحية ثانية، وكأنه بذلك أراد أن يلفتَ النظر عن استخدام الأسطورة في الشعر الحديث وهي شيء بعيد، إلى استخدام القرية وهي شيء قريب، للاستهزاء بالواقع وماديته المقيتة التي أخذت تهدد إنسانية الإنسان وهي أغلى قيمةٍ فيه، بكفاءةٍ عالية ومتسارعة.

فهو شاعر قرويٌّ ذو منهج يختلف فيه عن شعراء القرى، إذْ لا يعتني بوصف القرية والغياب في مفاتنها والتغني بجمالها وسحرها الأخَّاذ، بل يتخذ منها أبجدية ينطلق منها للتعبير عن معاني العشق والحياة والجمال في الكون وما يصبو إليه الإنسان الحقّ، ويجعلها مضادَّاً للمدينة وما تحمل من أوجه قبيحة.

ولذلك نرى أنَّ دوران ألفاظ القرية وصورها في شعره يتعدَّى وصف مظاهرها، لينسج منها موضوعاته الشعرية، وهي موضوعاتٌ اقتطعها الشاعر من روحه المتأججة دائماً، المتألمة دائماً، المشتاقة دائماً إلى الخلاص وإلى عناصر الخير في الحياة، لتساعده على رفض العالم الماديَّ الزائف من خلال اللجوء إلى الطبيعة بوصفها المصدر النقيّ الصالح للحياة، وأحياناً هي مصدر الوقوف في الماضي البعيد، والسكون دون حركة تتوافق ومسيرة الحياة المتسارعة في خطاها، فينبري الشاعر لذلك فيكشف عنه.

ويعبر عن خيبة دفينة في ذاته من أجله:
يا حبيبةُ مُرِّي على الغيمِ
يأخذنا التعبُ القرويُّ
إلى تعبٍ آخر مثلنا
مُذْ وُلدنا...
ونحنُ نعيشُ مع القمح والنخلِ
أرواحُنا... لم تغادرْ ماضي القبيلةِ
في السرِّ حين يضيقُ الزمانُ بها... وبنا. ص14


وهكذا نرى أنَّ القرية عنده ليست موضوعاً في ذاته، بل استطاع أن يجعل من مفرداتها جناحاً لمعانٍ سامية، ولننظرْ إليه وهو يستعمل مفردة "عشب" على سبيل المثال:
1- كما العشبِ بين صخور التلال القريبة/ كنا قريبين مِن سرنا. ص11
2- دعيني أجرّب حظي مع الريح/حين تهب على عشبنا الحرِّ/ لعلّي انتزعتُ السماء الأخيرةَ/ من ريشها/ وأتممتُ سيري لقبلةِ روحك/فكل الدروب التي سوف تحملني/باتجاه هوانا الجنوبي...تبدأ من هنا. ص14
3- عودي إلى سهل الحنين/كما تعود الطيرُ/من ترحال نجمتها البعيدة/فلدينا ما يكفي لتربية الصغار/إذا أتوا من غيب غفوتنا/ على عشب السماء. ص30
4- كان صوتك أقرب/ للعشب من نفسه. ص31
5- الغزالة/إنْ غادرتْ عشبَ كل المراعي القريبة/ وظلت بعيداً...ستقتات من شجر الآخرة. ص43
6- قطعتِ إلى الحلمِ شوطاً بعيداً/ ولاح الخريف البليد/على عشب خطوك. ص50
7- هيا البسي من عشب روحي/خضرة الماضي المبدد في الجفون. ص76


فهذه سبعة استعمالات للعشب جعلها الشاعر في خدمة معنى القرب والاقتراب الذي يصل إلى حدِّ الاتحاد أحياناً، ففي الأول يتجلى به قربه من أنثاه، وفي الثاني قربه من روحها، وفي الثالث قرب الصغار من غيب غفوتهما، وفي الرابع اتِّحاد صوتها به، وفي الخامس قرب الغزالة من شجر الآخرة، وفي السادس التصاق الخريف بخطوها، وفي السابع التصاقها بروحه.

إنَّ القرب الذي يسعى إليه الشاعر وينـزع إليه بهذا الإلحاح يحملُ في طيَّاته تضادَّاً فلسفياً مبطَّناً، فإذْ يكون قرباً من هنا يكون بُعداً من هناك، وإذا يكون اتّحاداً هنا فإنه تلاشٍ في الضفة الأخرى من المعنى. والشاعر على هذه الحالة يغلِّف جملته الشعرية بثلاثة أثوابٍ مختلفة هي ما بدا عياناً، وما بدا وصفاً للظاهر، وما لم يبدُ إلاَّ بعد تأمُّلٍ وإمعانِ نظر.

وهكذا تعامل مع مفردة الفضَّة ليحيلها إلى معنى:
1- تصير دروب سماواتنا فضَّة للأناشيد. ص12.
2- وحدها خيلنا/ حين تغدو إلى النبع/تشرب من خيلاءٍ يلوح/على فضة الماء. ص18.
3- أغوتنا الغزالة حين فرَّتْ من قوائمها/ لتبلغ فضَّة الأوقاتِ في غدنا الشريد. ص27.
4- لم نكن قادرين على أن نميز/فضتنا عندما انسكبت/فوق وجه التراب وذابتْ. ص34.
5- إن القصيدة حين تولد/بعد ليلك لا تكون قريبة من نفسها/ تحتاج وقتاً كافياً للنضج/ فوق لهيب ماضينا وفضَّة نارها. ص53.
6- يشتد في ليلي وليلك حبنا وتراً/ يناغم فضة الدنيا ونايات الحياة. ص57.
7- إنا تركنا/ باب غرفتنا الوحيد موارباً/ فتسللي يا فضة الدنيا إلى أرواحنا. ص67.
8- هزي بكفك نخل أيامي التعيسة/ وانثري بسماء صمتي فضةً/ للروح في الرمق الأخير. ص76.
9- لو تقفزي وتراً/يحركُ فضة النجوى بقلبي كلما/تاق الحنين إلى هواكِ. ص78.
10- والمواويل تطفو على فضة الماء. ص84.

فقد دلَّت مفردة الفضة هنا على معنى الصفاء والنقاء والبياض إلى حدَّ المثال، ففي الاستخدام الأول دلَّتْ على انسيابية الدروب إلى السماوات وخلوِّها من العثرات، وفي الثاني على صفاء الماء مما يشوبه، وفي الثالث على خلوِّ الأوقات من الكدر، وفي الرابع على نقاء روحه وروح أنثاه وبياضهما وهما ترجعان إلى التراب، وفي الخامس على صفاء نار القصيدة، وفي السادس وعلى الدنيا المثال، وفي السابع على صفاء الدنيا من الهموم، وفي الثامن على كلمات الترحُّمِ على الروح في الرمق الأخير، وفي التاسع على صفاء النجوى الدال على صفاء النفوس، وفي العاشر على صفاء الماء مرة ثانية. وهكذا الأمر في تكرار الألفاظ الأخرى التي أشرتُ إليها.

إنَّ أعجب ما يلفت الانتباه في قضية التكرار لدى الحازمي هو قدرته الفائقة على نفث الطرافة في ألفاظه المتكررة بحيثُ تبدو في كلِّ مرة وكأنه يستخدمها لأول مرة، لأنه يُلبسها ثوباً جديداً بهيَّاً من البلاغة وحسن التركيب، كما رأينا منن خلال الأمثلة، وبهذه التقنية استطاع أن يمسك بأجواء القرية في جميع قصائد هذه المجموعة دون أن يفلت زمامُها من بين يديه. إنه مخلصٌ لمشروعه هذا كلَّ الإخلاص.

أما المعاني التي تكررتْ لدى الشاعر فأخصُّ بالذكر منها معنى التصالح، لأدلَّ بذلك على ما يشعر به الشاعر من خراب ينـزع منه إلى الخلاص من عالم الشر والحلول في عالم الفضيلة.

ففي قوله: (الغزالة أرض ضرورية للتصالح/بين خصوم الطبيعة والبشر الطيبين.42)، ينص على أن اللجوء إلى الروح في أعماقها الشريفة كفيل بأن يقضي على الشر في العالم.

وفي قوله: (ليس يجمعنا إذاً/غير التصالح في وريدين/استجابا للمضيّ مع الحياة.55) يدعو إلى اشتمال الدم على فصيلة واحدة رامزاً بذلك إلى ضرورة الاتفاق بين المختلفين فتسير الحياة بلا منغِّصات.

وفي قوله: (أم كان يكفي/أن نسير على ضفاف قلوبنا/حتى نصالح عزلة الدفء/في فجرٍ يلوِّح بالحياة.67)، يدعو إلى دفء العلاقات بين البشر من أجل تلك الحياة ذاتها.

وفي قوله: (صالحي عتبَ الجداول في دمائي/ بعدما فاضتْ بنهر هواك.78) يجنح إلى الوفاق مع حبيبته من أجل الحياة نفسها، وهكذا تكرر فعل التصالح أربع مراتٍ ليمتزج فيه الذاتي والموضوعي في إطارٍ من الإنسانية المُطلقة.

وقد قامت القرية بحمل هذا التصالح على بعض عناصرها غالباً، من خلال الضفاف والنهر والجداول، وهي عناصر انتقاها الشاعر بذكاء شديد لتوحي بالحركة واختلاف الأمكنة بالنسبة للماء الجاري فيها، وعلى هذا المبدأ يكون التخاصم الذي يبحث الشاعر عن تصالحٍ من أجله!

إنَّ الشاعر علي الحازمي يكتب بلغةٍ مطواعةٍ يسخِّرها باقتدارٍ بـيِّن، وقارئ شعرهِ سرعان ما يُؤخَذُ بشفافية لغته وصفائها، ونصوع فكرته، وسلامة تراكيبه، وبلاغة معانيه، فقد برَّأ نفسه من التعقيد في النظم، أو الإخلال في معاني الكلام، أو الإسفاف دونَ غاية، أو النزوع إلى الغموض والتعمية، وهذا من أهم ما يَسِمُ شعرَهُ، ويُعلي من مكانته بوصفه شاعراً حديثاً.

وهو فوق ذلك يلتزمُ شريف المعنى؛ حيث الحب والإنسان بقيمه العليا، ونقاء اللفظ؛ حيثُ الفصاحة بعيداً عن الألفاظ السوقية أو العامية على سبيل التملُّح أو الاستعارة أو التبسُّط، فيتشكل بذلك إخلاصُه الشديد لشعره ولأدواته الشعرية عالية الجودة حيث هي السبيل لذلك كله.

أضفْ إلى ذلك: أنه استطاع بقدرته الفائقة على البوح أنْ يرسم صورة دقيقة لما تنطوي عليه نفسه من نقاءٍ وبساطةٍ ومعانٍ إنسانية راقية الملامح، فضلاً عن حزنٍ عميقٍ وزَّعه برقةٍ وهدوء متناهيين على هذه القصائد الخمس عشرة.

ومما يلفتُ النظر في شعره هو تلك القدرة الواضحة في الموازنة بين حرارة المعنى وهدوء العبارة، وهذه قدرة نادرة لا تتأتَّى للشعراء بسهولة ويُسر، فهو يكتب شعراً لا تكلُّفَ فيه، ويبدو لي أن القصيدة تقفز من خاطره على الورق دون تصنيع أو تعديل ساعةَ انتباهٍ، فهو بذلك ينضمُّ إلى الشعراء المطبوعين، فضلاً عن قدرته الفائقة في حسن تركيب الجملة الشعرية، والإيجاز اللافت في استخدام الألفاظ، وتكثيف الصورة الشعرية.

وهو بعد ذلك شاعر ملتزم بأصول القصيدة العربية الحرة، وتقاليدها فائقة الجودة، إذْ يلتزم بالوزن، معتمداً التفعيلة الواحدة التي تنبني عليها القصيدة الحديثة من أولها إلى آخرها، فيوفِّر لها الإيقاع الداخلي الذي يرفد القصيدة بالموسيقى وهي تحمل المعاني على أجنحتها لتحقيق المتعة لدى القارئ.

ثمَّ هو لا يستغني عن القافية في أغلب الأحيان لأنه يُدرك أهميتها ليتكامل العمل الفنّي بتوفُّره على الموسيقى الخارجية، دون أنْ يكون لهذا الالتزام أثرٌ سلبيٌّ في اختيار المفردة الشعرية أو التحرِّي عن المعاني أو انسيابية التعبير.

وبذلك يمكن أنْ نعدَّه من جيل شعراء الشعر الحر المحافظين السائرين على نهج الرعيل الأول من جيل الروَّاد، وهم الآن قلَّة.





الساعة الآن : 04:41 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 18.10 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 18.01 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (0.52%)]