براعة الوصف في شعر ابن الرومي
براعة الوصف في شعر ابن الرومي جواد عامر يعتبر الوصف واحدًا من أغراض الشعر العربي، إن لم نقل إنه الغرض الأساس الذي تنبني عليه بقية الأغراض، فالفخر والرثاء والغزل والمدح والهجاء، لا يُمكنها أن تكون أبوابًا قائمة الذات دون الوصف الذي يقيم لَبناتها، لكنه يستطيع أن يستقل بنفسه، ويَستلها من قراب الأغراض المختلفة؛ ليكون غرضًا لذاته وبذاته، وهنا تكمُن درجات عُسره على صانع الشعر، لذلك لا نستغرب إذا وجدنا فطاحلة الشعراء العرب يجيدون غرضًا دون غرض، ويبرعون في باب، ولا يستطيعون الإجادة في باب آخر، يتعسر على قرائحهم، فقد رأينا الشعراء المداحين المجيدين كالبحتري الذي لا يُتقن الهجاء كابن الرومي، فكان يتهيَّب منه، ويرجوه ألا يهجوه؛ لأنه لا يستطيع مجاراتاه، وشعراء آخرون يجيدون الغزل وهم من الفخر والرثاء أبعدُ، فقد كان ابن الرومي شاعرًا وصَّافًا متسمًا بالدقة في نقل صورة العالم الخارجي، دقة لم يمتلكها شاعر في العصر العباسي، جعلت ابن الرومي حقيقة أبرع شاعر في الوصف في العصر العباسي، خاصة أن موصوفاته لم تكن تتوقف عند حدود الأشياء المألوفة كمناظر الطبيعة من نهر وهلال وجبل، فهذه عناصر حفل بها الشعر العربي، وإنما كانت موصوفاته ملتقطة من الهوامش الاجتماعية التي قد لا يلتفت إليها الشاعر على الإطلاق، ليجد فيها السامع متعة فريدةً من نوعها، فيَنقله ابن الرومي إلى عالم بديع من الوصف الدقيق والعجيب مانحًا إياه التصوير الفوتوغرافي بأبعاده عبر اللغة الواصفة التي لا تدع للقارئ أي إحساس بالنقص الذي قد تتركه فجوة أو ثغرة في التصوير. إنها ميزات خاصة اتَّصف بها شعر ابن الرومي، فهجاؤه لا بد أن يحمل المتلقي على الضحك إلى حد القهقهة لِما يحمله من تصويرات كاريكاتورية كأنما هو صحفي ينتقد الواقع والأشياء بلغة الكاريكاتور المعاصرة؛ يقول ابن الرومي في معلمٍ يُعلم الصبية وكان مغنيًا يثير النفور والإزعاج في نفس الشاعر[1]: أبو سليمانَ لا تُرضِي طريقتُه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لا في غناءٍ ولا تعليمِ صِبْيانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif له إذا جاوبَ الطُّنبورَ مُحْتفلًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ضَرْبٌ بمصْرَ وصوتٌ في خُراسانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif عُواءُ كَلْبٍ على أوتارِ مِندَفَةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif في قُبْحِ قردٍ وفي اسْتكْبارِ هامانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وتحْسَبُ العيْنُ فَكَّيْهِ إذا اخْتلفَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif عنْد التَّنغُّم فَكَّيْ بغلِ طَحَّانِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وفي معرض آخر قال عن رجل يُدعى عيسى وكان بخيلًا[2]: يُقَتِّرُ عيسَى على نفْسِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وليْسَ بباقٍ ولا خالدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فلو يستطيعُ لتَقْتييرِهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif تنفَّسَ منْ مِنْخَرٍ واحدِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif صور من هذا النوع وغيرها كثيرة لا بد أنها ستحملك على الضحك، لما تحتويه من دقة تصويرية بليغة، تحملها بداعة الوصف القائم على عمق النظر، وإدراك الأجزاء الملاحظة غاية الإدراك بما لا يترك جزئية تنفلت من عقال التصوير، فالمعلم غير مرضية طريقته في التدريس، وغير ممتع صوته في الغناء المتسم بالنَّشاز والشتات عبر الجغرافيا البعيدة المستحيلة من باب التهويل المضحك، فالصوت في مصر والآخر في خراسان، وهو كعواء الكلب المزعج، لينتقل ببراعة منقطعة النظير إلى وصف الشكل المستقبح غاية الاستقباح الذي لا ينكر (صورة القرد)، وما يبعث عليه من ضحك هستيري أحيانًا، ووصف الطبع وهو الاستكبار والعجب ملبسًا إياه عباءة رمز تاريخي مشتهر هو هامان، فيجمع في البيت الرابع بين صورته المستقبحة الشبيهة بالبغل في لحظة تحرُّك الفكين للنطق بصورة الصوت المنبعث من الفكين عند طحن الشعير، وما أشبهه مثلًا، نقل بارع ومكتمل الصورة الكاريكاتورية لا يستطيعه إلا كبار الشعراء، يظهر أكثر في البيتين المواليين؛ حيث نقل صورة البخل بشكل عجيب وغريب قلما يفكِّر فيه شاعر أو إنسان حتى، صورة التقتير من المنخر الواحد حفاظًا على الهواء الذي هو ملك للجميع وهبة ربانية لا ينازع أحدٌ فيها أحدًا. والمثير في شعر الوصف عند ابن الرومي كما أسلفنا الذكر، هو تناوله لموصوفات قلما يلتفت إليها، وهذا راجع إلى رهافة حسِّه ويقظة الشعور عنده أكثر من غيره، وحبه للأشياء التي كان يعرض لها، وقدرته على الإحاطة بدقائقها، ومن نادر شعره الوصفي، وكان قد حضر مائدة أبي بكر الباقطاني، فأكل ما أكل، ثم وصف ذلك كله مركزًا على وصفه الدجاج والقطائف والثرائد[3]: وسَميطَةٍ صفراءَ دينَارِيةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ثَمنًا ولوْنا وزفَّها لكَ حَزورُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif عَظُمَتْ فكادتْ أنْ تكونَ إوَزَّةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وغلَتْ فكادَ إهابُها يَتفَطَّرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif طَفِقَت تجودُ بذَوْبِها جَوْذابةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فأتَى لبابِ اللَّوْزِ فيها السكَّرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ظَلْنا نُقَشِّرُ جِلْدَها عنْ لحْمِها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فكأنَّ تِبرًا عنْ لُجيْنٍ يُقَشَّرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وتقدَّمَتْها قبلَ ذاكَ ثرائدُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif مثلُ الرِّياضِ بمثلِ ذلك تصْدُرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومُرَقَّقَاتٌ كلُّهُنَّ مُزَخرَفٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif بالبيضِ منها ملبسٌ ومُدَثَّرُ |
رد: براعة الوصف في شعر ابن الرومي
وأتتْ قطائفُ بعْد ذاك لطائِفٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ترْضَى اللهاةُ بها ويرْضى الحنجرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ومن جميل وصفه في الطبيعة وصفه لشقائق النعمان[4]: أشقائقَ النُّعمان بيْن رُبَى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif نعمانَ أنتِ مَحاسنُ النِّعَمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif غدتِ الشقائقُ واصفةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif آلاءَ ذي الجبروتِ والعِظَمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif شُعَلٌ تزيدُكَ في النَّهارِ سنًى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وتضيء في محلولك الظلمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أعْجِبْ بها شُعَلًا على فَحَمٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لم تشتعلْ في ذلكَ الفَحمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكأنَّما لمْع السَّوادِ إلى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ما احْمَرَّ منْها في ضُحى الرَّهَمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif حَدَقُ العواشِقِ وُسِّطَتْ مُقَلًّا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif نَهَلَتْ وعلَّت من دُموع دَمِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif والأكثر من هذا الوصف البديع وغيره كثير عنده، براعته في التلاعب بالحروف وتقليبها وتصحيفها أحيانًا مما يدل على تفوُّق ابن الرومي تفوقًا باهرًا للدرجة التي جعلته يتعالى على منطق الوصف نفسه، ويتجاوزه إلى حدود التلاعب بالحروف عبر لعبة القلب والإعجام والإهمال، واصفًا مالم يصفه غيره من الشعراء كالموز مثلًا حينما قال[5]: إنما الموزُ حينَ تمْكُنُ منهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كاسْمِهِ مُبْدَلا من الميم فاءَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وكذا فقْدُه العزيزُ علينا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif كاسْمِه مُبْدلاً من الزَّايِ تاءَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فهو الفَوْزُ مثلَ ما فقْدُهُ الموتُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لقد بانَ فضْلُهُ لا خَفَاءَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ولهذا التأويل سماه فوزًا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif من أفاد المعانيَ الأسماءَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif نكهةٌ عذبةٌ وطَعْمٌ لذيذٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif شاهدا نعْمَةً على نَعْمَاءَ |
رد: براعة الوصف في شعر ابن الرومي
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وتخال انْسِرابَهُ في مجاريهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif اقْتراعَ الأبْكارِ والإغْفَاءَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لو تكونُ القلوبُ مأوى طعامٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif نازعَتْه قلوبُنا الأحشاءَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إنني لحقيقٌ بالشَّبع السَّائغ منْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أكْلهِ وإنْ كان ماءَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إن الناظر لمثل هذا الوصف سيجزم فعلًا أن ابن الرومي كان يمتلك من القوة الشعرية ما يجاوز المعتاد، مما جعل اللغة الواصفة بين يديه طَيِّعةً، يصنع بها ما يشاء في شعره، يُقلب ما شاء، ويصحف ما أراد للتعبير عن مزاجه المتَّسم بالتطير والتشاؤم، أو هجاء لغيره، فقد صحَّف لفظة قينة وصيَّرها فتنة توقع في البلية، فيقول[6]: لا تلْحُ مَنْ تَفْتِنهُ قيــْنَةٌ ♦♦♦ فإنَّ تصْحيفَ اسمها فِتْــــــنَة وصحف اسم "إسحاق" وقلبه إلى "فاحش"، وذلك بعد إلغاء الهمزة في أوله وقراءته مقلوبًا من آخره، بعد تصحيف القاف فاء والسين شينًا يقول في هجاء المدعو "أبا إسحاق"[7]: يا أبا إسْحاقَ واقْلِبْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif نظْم إسْحاق وصَحِّفْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif واتْركِ الحاءَ على حالٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif فما للمَاءِ مَصْرِفْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يشْهَد اللَّه لقَدْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif أصبحت عينَ المُتَخَلِّفْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif لقد تجاوز ابن الرومي حدود الوصف نفسه، ولذلك لا أجد مغالاة في اعتداده بنفسه حينما وصف الخباز وهو يدحو رقاقة الخبز قائلًا: انظروا إذا وصفت، أين يقع الناس كلهم مني؟ هل أحد قط أملح من قولي في صفة الرقاقة[8]: ما أنْسَ لا أنْسَ خبَّازا مررْتُ بهِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif يدْحُو الرُّقاقَةَ وشْكَ اللَّمْحِ بالبَصَرِ[9] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif ما بيْن رؤْيَتِها في كفِّهِ كُرَة ٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif وبين رؤْيَتهَا زهْراءَ كالقَمرِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif إلا بمِقْدارِ ما تنْداحُ دائرَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif في صَفْحَةِ الماءِ يرمِي فيهِ بالحَجَرِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif نماذج مثل هاته تضعنا حقيقة أمام رهبة هذا الشاعر الجهبيذ الذي نكاد نجزم أنه لا يُضاهى في عصره، لا من حيث اللغة الواصفة فحسب، ولكن من حيث صدق التعبير الوصفي النابع من الإحساس بحب الأشياء التي يصفها أو مَقتها، منطلقة توصيفاته البديعة الدقيقة من رهافة الإحساس لديه، وصدق الشعور، ويقظة الحدس الشعري، الأمر الذي جعل ابن الرومي في نظري شاعرًا وصَّافًا بامتياز، قادرًا على نقل الصور الخارجية عبر اللغة الشعرية المتمكنة بفنيَّة عالية جعلته واحدًا من كبار شعراء العربية. [1] ابن الرومي حياته من شعره ص143. [2] ديوان ابن الرومي ج 1، ص 251. [3] زهر الآداب ج 1. [4] الديوان ج2، ص180. [5] الديوان ج1، ص 34 ـ 35. [6] ابن الرومي حياته من شعره ص212. [7] المرجع السابق ص 212. [8] ابن الرومي سلسلة نوادر الظرفاء من الشعراء والأدباء، قدَّم لها وصنَّفها الدكتور يحيى شامي، الكتاب صدر عن دار الفكر العربي، بيروت ط1 سنة 1992. [9] العمدة ابن رشيق القيرواني ج2، ص 237. |
الساعة الآن : 06:11 AM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour