ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   التوحيد في سورة فصلت (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=254294)

ابوالوليد المسلم 04-03-2021 09:20 PM

التوحيد في سورة فصلت
 
التوحيد في سورة فصلت













د. أمين الدميري




بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: ﴿ حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [فصلت: 1، 2].







أُنزل هذا الكتاب من الرحمن الرحيم رحمةً للناس أجمعين، غير أن كثيرًا من الناس لا يؤمنون به ولا يصدقونه، ولا يطيقون سماعه، ولا يتركون المؤمنين به وشأنهم، ويبذلون المحاولات لصرف الناس عنه، مع أنهم يقرون بصدقه ويعلمون أنه الحق، لكنهم يأبون تكبرًا وعنادًا، فقد روى ابن إسحاق في كتاب السيرة – ونقله ابن كثير في تفسيره - أن كفار مكة أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا أعلمهم بالشعر والسحر والكهانة - وهو عقبة بن أبي معيط - ليتفاوض مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عسى أن يُثنيه عن تبليغ القرآن للناس، وعرض عليه عروضًا يسيل لها لُعاب أصحاب الدعوات الأرضية الوضعية، طلاب الدنيا، كالملك والمال والنساء والرياسة، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسعى لدنيا ولا لأغراض شخصية، فقد قال الله تعالى له: ﴿ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ [الشورى: 23]، كما قال لإخوانه الأنبياء من قبله: ﴿ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ [هود: 51]، ﴿ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا ﴾ [هود: 29]، ولهذا أبى تلك العروض ولم يتنازل عن دعوته، وقال عتبه لما عاد إلى قومه: (إني سمعت قولًا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر ولا هو بالشعر ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها لي، خلوا ما بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكوننَّ لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلكه مُلككم، وعزُّه عزكم، وكنتم أسعدَ الناس به ....)، وهذه شهادة حق شهد بها مشرك، لكنها لم تنفعه؛ لأنه لم يسلم، وأصرَّ على نُصرة دين قريش والبقاء على شركه رغم ما تبيَّن له، وأقر أن هذا القرآن ليس بشعر ولا بسحر ولا بكهانة، فآثر أن يصبر على آلهته ويقيم على وثنيته!








إن قضية التوحيد تقوم على الإيمان بالله الواحد المعبود، فلا إله يعبد ولا معبود يطاع، ولا حاكم ولا مشرع إلا هو سبحانه، ولا موالاة ولا معاداة، ولا حب ولا بُغض إلا في الله، ولا رضى إلا بما قضى وحكم: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ﴾ [فصلت: 6]، وويلٌ لمن كفر وخالف وأشرك: ﴿ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ﴾ [فصلت: 6]، والمشركون هم الذين نقضوا التوحيد وخالفوا مقتضى الإيمان بترك الاستقامة على التوحيد، فسلكوا غير طريق الموحدين، واتبعوا سبيل المشركين، فلم يزكوا أنفسهم ولم يطهروها من أدران الشرك: ﴿ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾ [فصلت: 6، 7]، والمراد بإيتاء الزكاة هنا تطهير النفس وتزكيتها: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10].







ومن محاولاتهم لصرف الناس عن سماع القرآن والإيمان به - أنهم كانوا يوصي بعضهم بعضًا بعدم سماع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه؛ لكيلا يتأثروا به: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [فصلت: 26]، ومعنى (والغوا فيه)؛ أي: بالمكاء والتصدية، وقيل: قعوا فيه وعيبوه، وقيل: عارضوه؛ [تفسير القرطبي]، قلت: ومعارضة القرآن بالقرآن من أفعال الجهلاء المغرضين؛ لأن القرآن لا تعارض فيه، وإنما هو كلام الله المحكم، وإنما الذي دفعهم إلى ما يظنون أنه تعارض، هو الرغبة في صرف الناس عن الإيمان به، وقد سمعنا في هذا الزمان وقرأنا لأمثال هؤلاء الذين قالوا - ولبئس ما قالوا، ولُعنوا بما قالوا - أن القرآن نص أدبي، ويخضع لقواعد النقد الأدبي، وأخضعوا القرآن لقواعد اللغة العربية، فقالوا: إن في القرآن أخطاءً لغوية، وأطلقوا ما سموه بتاريخية النص، وهذه الأقوال هي من الجدال في القرآن بالباطل، ونوع من اللغو المحرم، ويدل على عدم تعظيم لهذا القرآن ولا لمنزِّله، ولا لمن نزل به، ولا لمن نزل عليه، وهو أيضًا طعنٌ في الدين، واستهانه بثوابته، وجرأة على الله تعالى، وهل يعقل أو يجوز أن يحكم على القرآن وتطبق عليه قواعد النقد الأدبي التي وضعها عباد الثقافة الغربية الذين لا ولاء لهم إلا لمن صنعهم وربَّاهم من المستشرقين، كما ادَّعوا وظنوا أنهم رجال والسلف رجال، فمن حقهم أن يضعوا تفسيرًا جديدًا للقرآن يتفق مع روح العصر ومصلحة الوطن؛ لأن القرآن في نظرهم نزل ليعالج قضايا ساعة نزوله من أجل الواقع وقد تغير الواقع، فلا يصح التمسك بتفسير السلف القديم؛ لأن الزمان تغير والأحوال تبدَّلت؟! وهذه الدعاوى شرك بالله وكفر فاضح!







ومن الاستقامة على التوحيد: الالتزام بالصبغة الإسلامية، والتمسك بمقتضيات التوحيد، وذلك باجتناب الألفاظ والاصطلاحات الغربية، خصوصًا في مجال السياسة والاقتصاد والاجتماع؛ مثل: الديموقراطية، والمدنية، والعلمانية، والليبرالية، والرأسمالية، وغير ذلك مما تسرب إلى عقول المسلمين عن طريق الغزو الفكري بعد ما ضعُفت شوكة المسلمين وذهب ريحهم، وقُضي على شريعتهم، واستبدلت بشرائع الغرب أيام الاستعمار أو الاحتلال الصليبي لبلادهم!







فالديموقراطية نشأت في الغرب لمواجهة الديكتاتورية الكنسية، والإسلام لا يسمح بنشوء ديكتاتور أو فرعون متسلط؛ كي نقول: ديموقراطية، كما أن القرآن الكريم جاء بشريعة تامة متكاملة صالحة لقيادة الحياة من كل نواحيها: ﴿ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ﴾ [الأنعام: 114].







أما الدولة المدنية فقد نشأت أيضًا في أوروبا لمواجهة الدولة الدينية الثيوقراطية التي أقامها وتحكم فيها رجالُ الدين وشرعوا للناس ما يحقِّق أغراضهم وطموحاتهم الشخصية، وأعطوا أنفسهم حق الحكم والتشريع، وصنعوا أنفسهم أربابًا من دون الله، وليس هذا في الاسلام، فالعبادة هي طاعة الله فيما حكم وشرَع؛ قال تعالى: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 31]، ذكر الطبري في تفسيره قصة عدي بن حاتم؛ قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال: يا عدي: اطرح هذا الوثن من عنقك، قال: فطرحته، وانتهيت اليه وهو يقرأ: ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾، قال: قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم، فقال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: قلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم؛ أي: فتلك عبادتكم إياهم، فثبت أن العبادة هي الطاعة في التشريع؛ أي: في التحليل والتحريم في العبادات والمعاملات، وتلك هي العبودية لله الذي يملك التشريع والتحليل والتحريم وحده، وفي سورة الشورى قال تعالى: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ﴾ [الشورى: 21]، ومن معاني العبودية سجود العقل لأوامر الله قبل سجود الجباه والأنوف، فإن العقل قد لا يصل إلى الحكمة من الأوامر والتكاليف، وقد لا يقف على فوائدها وعواقبها، فكان الخير كله في الانقياد والاتباع، والدليل على ذلك أننا لو احتكمنا للعقل في أمر الله تعالى لإبراهيم بذبح ولده، أو لتركه ولدَه الرضيع وأمَّه في مكة، لرفض العقل وتحيَّر، لكن استجابة إبراهيم عليه السلام كان فيها الخير كله والنجاة من كل شر، فكانت النجاة وكان الفوز بخيري الدنيا والآخرة في سجود العقل لأوامر الله، وتلك هي العبودية الخالصة؛ ليتحقق الانسجام بين العبد وبين الكون، فالكون يسجد إجبارًا والعبد يسجد اختيارًا: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [فصلت: 37]، وهل الأحق بالسجود له الخالق أم المخلوق: شمسًا كان أو قمرًا، شجرًا كان أو حجرًا، بشرًا كان أو بقرًا؟!



الساعة الآن : 04:14 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 11.39 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 11.29 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (0.82%)]