ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى النقد اللغوي (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=120)
-   -   حرية الإبداع تطول الثوابت (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=251181)

ابوالوليد المسلم 20-01-2021 03:08 PM

حرية الإبداع تطول الثوابت
 
حرية الإبداع تطول الثوابت



(محاكم تفتيش جديدة!)

د. وليد قصاب

يزداد في الأدب العربي الحداثي عددُ المتطاولين على الأديان والمعتقَدات، بل على الذات الإلهيَّة والأنبياء، يوماً بعد يوم.


لقد صار ذلك (تقليعة) أو(كالتقليعة) في أدب حداثِيِّي اليوم، وهم يتسابقون إليها متباهين، كلٌّ يريد أن يبزَّ الآخرين، وأن يبدعَ في فتح قاموس البذاءة والسبِّ والمجاهرة بالاعتداء على كلِّ ما هو ثابتٌ مقدَّس في ثقافة هذه الأمَّة.

ومنذ أن هَذَى "نيتشة" بعبارة (موت الله) تلقَّفها مئات الببغاوات في الشرق والغرب، وأُعجب بهذا الفتح طائفةٌ من حداثيِّي الشعراء عندنا، حتى صار من (رواسم) الشعر العربيِّ الموسوم بالحداثة أن يردِّد شعراؤه - تعالى الله علوّاً كبيراً - أمثالَ: إن الله مات، أو قُتل، أو صُلب، أو أنه سجين، أو كسيح، أو مشرَّد، أو كاذب، أو مجنون، أو هَزيل، أو أنه يَبكي، وينام، ويرقص، ويتعرَّى، أو أنه ضائعٌ، وأعمى، وقاس موحش، وخائب أحمق[1]، وغير ذلك من هذه العبارات التي يندى لها جبينُ مَن في قلبه ذرَّةٌ من إيمان أو حياء، ولولا أن ناقلَ الفحش ليس بفاحش - إذا كان ما ينقله ليدلَّ به على أهله - لما أوردت حرفاً من ذلك.

كما أن طائفةً من سُذَّج هذه الأمة يَحسُن تنبيهُهم على الخافي عنهم من تجديف هؤلاء القوم وتُرَّهاتهم التي لا تدلُّ على إفلاسهم الفنيِّ والفكري فحسب، ولكنها تدلُّ كذلك على إفلاسهم الروحي.

أكتب هذا الكلام بمناسبة القصيدة التي نشرها - أخيراً - الشاعر المصريُّ حلمي سالم بعنوان "شُرفة ليلى مُراد"، ونشرها في مجلة "إبداع" التي يرأس تحريرَها الشاعر المصريُّ المعروف أحمد عبد المعطي حجازي، وهي - على طريقة حلمي سالم، وعلى طريقة ما تنشره مجلة "إبداع" - فيها الكثيرُ من العبث العقدي، والاستخفاف الديني اللذَين أصبحا - كما ذكرنا - مَلمحاً رئيساً من ملامح شعر الحداثة.


لقد أثارت هذه القصيدةُ ضجَّةً كبرى أرادها صاحبها - من غير شك - من هذه الطريق السهلة، وهي إثارة الآخرين، واستفزازُ مشاعرهم الدينية، وقد أدَّى ذلك إلى مصادرة العدد بعد صدوره، واحتجَّ على ذلك رئيس التحرير، ورفض قرارَ إيقاف توزيع المجلَّة، وأصرَّ على توزيع ما تبقى منها، وهاجم هو وحلمي سالم أولئك الرجعيِّين، السلفيِّين، الأصوليِّين، المتزمِّتين؛ لأنهم لم يباركوا هذا الإبداع؛ الذي يتطاولُ على الذات الإلهية، ويخرجُ على الأعراف السائدة، بل عدوا مجرَّدَ الاحتجاج على مثل هذه النماذج داخلاً - بتعبير حلمي سالم - في نطاق محاكم تفتيش جديدة في تاريخنا العربي.


وأعادت بعضُ الصحف - نكايةً بمشاعر المسلمين، وتحدِّياً لحسِّهم الديني - نشرَ القصيدة، كجريدة العربيِّ التي يُصدرها الحزب العربي الديمقراطي الناصري في مصر، وقد صدَّرَتها بالقول: ((نتحدَّى الرقابة، ومصادرة الإبداع، وننشر قصيدةَ حلمي سالم الممنوعة. ولأننا في جريدة العربية مقتنعون تماماً بحرية الفكر والإبداع ننشر في مُلحقنا الثقافي قصيدةَ حلمي سالم "شُرفة ليلى مُراد" التي تم بسببها مصادرةُ العدد الأول من الإصدار الثالث لمجلة "إبداع" تحت زعم أنها تُسيء للذات الإلهية))[2].


وأستميح القارئ الكريم عذراً أن أوردَ على أسماعه بعضاً من مقاطع هذا المسمَّى شعراً ليرى الإبداعَ الذي فيه أولاً، ثم الاستهانة الدينية والعقدية ثانياً، ثم ليتحقَّق ثالثاً من زعم أولئك الجهلة الذين رأَوا أنها تُسيء للذات الإلهية!


يقول الشاعر المذكور في رائعته "شُرفة ليلى مُراد": وهي المطربة المصرية اليهودية المشهورة:

طائرات
البيوتُ تأكلها الرطوبة
لذلك يُطلقون الطائرات الورقيَّة
على السطوح
ليُثبتوا بها المنازل على الأرض
حراسة
ليس من حلٍّ أمامي
سوى أن أستدعيَ الله والأنبياء
ليشاركوني في حراسة الجثة
فقد تخونني شهوتي
أو يخذلني النقص

وفي مقطع آخرَ من هذا الشعر يحلِّق الشاعر في سماء الإبداع! فيأتي بهذه التحفة!!:

الأحرار..
الربُّ ليس شرطياً
حتى يمسك الجناةَ من قفاهم
إنما هو قروي يزغط البط
ويجس ضَرع البقرة بأصابعه صائحاً:
وافرٌ هذا اللبن
الجناةُ أحرار؛ لأنهم امتحاننا
الذي يضعه الربُّ آخرَ كل فصل
قبل أن يؤلِّف سورة البقرة
الطائر
الربُّ ليس عسكريَّ مرور

إن هو إلا طائر
وعلى كلِّ واحد منا تجهيز العنق
لماذا تعتبين عليه رفرفته فوق الرؤوس؟
هل تريدين منه
أن يمشي بعصاه
في شارع زكريا أحمد
ينظِّم السير
ويعذب المرسيدس؟

إن هذا السَّفهَ الفكريَّ والفنيَّ هو -كما ذكرنا- كثيرٌ كثرةً لافتة للنظر في أدب الحداثة، بل إن الحداثةَ عند طائفة من الكبراء والمشهورين لا تكون إلا كذلك:

اكتب كلاماً ركيكاً سفيهاً لا معنى له، واحشُهُ بالغمز واللمز في الذات الإلهية والأنبياء، وبعبارات الفحش والجنس والخمر والعهر وتدنيس المقدَّس، تصبح شاعراً حداثياً.

وتبدو وراء هذه النزعة اللادينية واللاأخلاقية التي تتفشَّى تفشِّياً فاقعاً في الأدب الحديث اليوم -لاسيما عند الكبراء والمشهورين وداخلي جُحر الضبِّ وراءهم -مجموعةٌ من العوامل:


1 - ارتباطُ الحداثة التي أذاعها هؤلاء الكبراء بالإلحاد ومعاداة القيم والأخلاق.


2 - التقليد واتِّباع (الموضة)؛ إذ أصبح هذا الهجومُ المنكر على المقدَّسات، وهذا الاجتراء على العقائد والأديان (تقليعةً) يدخل أصحابها بها -فيما يعتقدون- بيتَ الإبداع الحقيقيِّ من أوسع أبوابه.


3 - وهمُ الحرية المدَّعى الذي أصبح شعاراً يرفعه بعضُ المفكرين والأدباء، للترويج فقط لكلِّ شاذ محرَّم هجين، إن الحريةَ لا يُطالَب بها إلا لأولئك المنحرفين وحدَهم الذين يريدون إبداعاً لا يحوطه أيُّ سور من الدين أو الأخلاق، أو يرعى للأمَّة ذمة أو عهداً، وأما إذا طالب قومٌ آخرون بأدب هادف نبيل ينطلق من عقيدة الأمَّة وتصوُّراتها الفكرية صارت الحرية محرَّمة عليهم، ومُورِس عليهم القمعُ والإقصاء.


ولكن الزَّبَدَ يذهب جُفاء، وأما ما ينفعُ الناس فهو الخالدُ الدائم الذي يمكُث في الأرض.

ــــــــــــــــــــــــ
[1] انظر نماذج كثيرة في كتاب "خطاب الحداثة في الأدب "للدكتور وليد القصاب، والدكتور جمال الشحيد "دار الفكر، دمشق: 2005م، ص209.
[2] انظر صحيفة "العربي" جريدة الحزب العربي الديمقراطي الناصري القاهرة (العدد: 1054) بتاريخ: 15/4/2007م.




الساعة الآن : 09:31 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 13.50 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 13.41 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (0.69%)]