ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى النقد اللغوي (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=120)
-   -   عودةٌ إلى التلقي (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=252877)

ابوالوليد المسلم 15-02-2021 04:56 AM

عودةٌ إلى التلقي
 
عودةٌ إلى التلقي



د. وليد قصاب







أشرت في إحدى المقالات إلى أن استقبال المتلقي لنص ما - ولاسيّما النص الأدبي - يخضع لمجموعة معقدة من العوامل، بعضها نفسي، وبعضها ثقافي، وبعضها اجتماعي، وغير ذلك.




ولذا يتفاوت هذا الاستقبال من واحد إلى آخر، والنص نفسه قد يثير عند هذا ما لا يثيره عند ذاك، ثم تتباين الأحكام بعد ذلك على هذا النص تباينًا يصل إلى حد التَّباعد الشديد، بل المتناقض أحيانًا.


ولعلَّ تجربة النَّاقد الإنكليزي المشهور "ريتشاردز" تدل على ذلك دلالة شديدة الوضوح.


أعطى "ريتشاردز" طلابه مجموعة من قصائد الشعر، وطلب منهم تقييمها وإعطاء الرأي فيها، بعد أن حجب عنهم عناوينها، وأسماء مؤلفيها.


وقد لاحظ "ريتشاردز" أن أحكام هؤلاء "جاءت متنوعة ومتقلبة إلى حد بعيد، وعلى نحو مشين، فقد خفضوا مقام شعراء تمتعوا بتبجيل القدم، وامتدحوا مؤلفين باهتين...".


ومن الواضح أنَّ هذه التَّجربة الطَّريفة التي كشفت بشكل مثير عن تفاوت بعيد في أحكام المتلقين لنصوص واحدة، قد تمَّت - كما هو واضح - بعيدًا عن أي مؤثر خارجي، أو أحكام مسبقة معروفة، إذ إن هذا النَّاقد حجب عن طلابه - عامدًا - أسماء مؤلفي القصائد، بل عناوينها كذلك، ومن ثَمَّ استقبل المتلقي النَّص خالي الذهن، استقبله بشكل عفوي تلقائي، ولو أنَّ هؤلاء الطَّلبة علموا مسبقًا أن قائل هذه القصيدة التي سفهوها هو الشَّاعر الفلاني المشهور، أو أنَّ هذه القصيدة الَّتي أشادوا بها، وعظموا من شأنها قائلها شاعر باهت مغمور، أكانوا يفعلون ذلك؟ أكانت تكون أحكامهم على ما هي عليه؟



وإذا كان "ريتشاردز" قد استنبط من هذه التَّجربة "أنَّ أحكام القيمة يمكن أن تكون نزوية حقًّا وذاتيَّة حقًّا"، ولعله من أجل ذلك كان من دعاة نقد علمي ألسني يصف أكثر مما يحكم، فإن الوجه الآخر في هذه التَّجربة هي أنها كشفت عن تفاوت أحكام المتلقين لنص أدبي واحد لأسباب هي حتمًا خارجة عن مجرد "الأدبيَّة" الخالصة.


لقد لاحظ الناقد "تيري إيفلتون" وهو يورد هذه التَّجربة الطريفة ويعقب عليها "أن هؤلاء المشاركين في هذه التجربة كانوا إنكليزيين شبانًا، بيضًا، من الطبقة العليا أو الشرائح العليا للطبقة الوسطى، تلقوا تعليمهم في المدارس الخاصَّة، وتوقفت استجابتهم لقصيدة ما على ما هو أكثر بكثير من مجرد العوامل الأدبيَّة الخالصة، فقد تضافرت استجاباتهم النقدية بشدة مع تحيزاتهم وقناعاتهم الأوسع".


وهكذا يخضع التَّلقِّي لملابسات متعددة، لا تنطلق دائمًا من مجرد "الأدبيَّة" أو "الفنيَّة" التي يحاول واحد مثل "ريتشاردز" وغيره من النقاد أن يؤصلوا لها في محاولة لإبعاد النقد عن الذَّاتيَّة، أو عن الأحكام النَّزويَّة، وجعله أكثر موضوعيَّة، وأقرب إلى العلم.


ولكن هذا - في رأينا - تصور مثالي، لأنَّ تحقيقه الواقعي على الأرض غير ميسور، وذلك أنَّ أيَّة استجابة نقديَّة لا تخضع للأعراف الأدبيَّة وحدها، بل تخضع لمؤثرات خارجيَّة متعددة، يجتهد النَّقد بموضوعيَّة ومنهجيَّة أن ينأى عنها، ولكنه لا يفلح، أو لا يفلح دائمًا.


بل إنَّ هذه الأعراف الأدبيَّة نفسها ليست معصومة من الوقوع في شرك ملابسات الذاتيَّة على نحو من الأنحاء.


وقد لاحظ ذلك "تيري إيفلتون" - ولعله أخذ على "ريتشاردز" عدم إدراكه له، أو عدم تقديره حق قدره - فذكر "إيفلتون" أنَّ هؤلاء الطلبة المستقبلين لهذه النصوص كانت لهم - بحكم تكوينهم الثَّقافي والاجتماعي، وعلى الرَّغم من تفاوت أذواقهم - عادات "أدبيَّة" في الاستقبال نفسه، وفي نظرتهم إلى النَّص، وطريقة إدراكه.



يقول "إيفلتون": "حين يقرأ المرء توصيفات طلاب "ريتشاردز" للأعمال الأدبيَّة يدهشه ما يتقاسمونه - عفويًّا - من عادات في الإدراك والتَّأويل، ما يتوقعون أن يكون عليه الأدب، والافتراضات التي أخضعوا لها قصيدة ما، والنَّتائج التي انتظروا أن يستمدوها منها". (انظر كتاب: "نظرية الأدب": 34).




وهكذا لا تخضع الاستجابة النَّقدية دائمًا للعوامل الفنيَّة وحدها، ولا يمكن "برمجة" أذواق المتلقين - جميعًا - ضمن هذه "الفنية" فلا تخرج عليها مستأنسة بعوامل خارجية كثيرة، أو خاضعة لها في بعض الأحيان.





الساعة الآن : 06:19 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 8.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 8.82 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (1.05%)]