ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى الخطب والمحاضرات والكتب الاسلامية (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=81)
-   -   النبيُّ الكريم - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=219084)

ابوالوليد المسلم 10-12-2019 06:12 AM

النبيُّ الكريم - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين
 
النبيُّ الكريم - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين



الشيخ سعيد بن علي بن وهف القحطاني





الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله، وأصحابه، وسَلّم تسليماً كثيراً.

أَمّا بعد:
عباد الله اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله عز وجل أرسل محمداً - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين، قال الله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107][1]، فالمؤمنون به - صلى الله عليه وسلم - قبلوا هذه الرحمة، وشكروها، وغيرهم كفرها، وبدَّلوا نعمة الله كفراً، وأبوا رحمة الله ونعمته[2].

ومما يدل على أن رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - عامة للعالم؛ حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قيل: يا رسول الله! ادعُ على المشركين، قال: "إني لم أُبعث لَعَّاناً وإنما بُعِثْتُ رحمةً"[3].

وجاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنما أنا رحمةٌ مهداةٌ"[4].

وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "أنا محمد، وأحمد، والمُقَفِّي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة"[5].

وقد شملت رحمته - صلى الله عليه وسلم - الأعداء حتى في قتالهم ومجاهدتهم؛ فإن قوة الجهاد في سبيل الله تعالى في شريعته - صلى الله عليه وسلم - لها ضوابط ينبغي أن يلتزم بها المجاهدون في سبيل الله - تعالى - ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190][6]، فيدخل في ذلك ارتكاب المناهي: من المثلة، والغلول، وقتل النساء، والصبيان، والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال، والرُّهبان، والمرضى، والعُمي، وأصحاب الصّوامع؛ لكن من قاتل من هؤلاء أو استعان الكفّار برأيه قتل[7].

ويدخل في ذلك قتل الحيوان لغير مصلحة، وتحريق الأشجار، وإفساد الزّروع والثّمار، والمياه، وتلويث الآبار، وهدم البيوت[8]، وقد "وُجدت امرأةٌ مقتولة في بعض مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان"[9]؛ ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّر أميراً على جيش أوسريّة أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، ثم قال: "اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تُمثّلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال فأيتُهنَّ ما أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم..."[10]، ثم بيّنها - صلى الله عليه وسلم -: الإسلام، أو بذل الجزية، فإن امتنعوا عن ذلك كله استعان بالله وقاتلهم[11].

وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوفي بالعهد، ولا يغدر؛ لقول الله تعالى: ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾ [الأنفال: 58] [12].

ولهذا قال سليم بن عامر: كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى عهدهم غزاهم، فجاء رجل على فرس أو بِرْذَونٍ وهو يقول: الله أكبر، وفاء لا غدر. فنظروا فإذا عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية - رضي الله عنه - فسأله، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من كان بينه وبين قومٍ عهدٌ فلا يشدُّ عقدة ولا يحلها حتى ينقضيَ أمَدُها أو ينبذ إليهم على سواء" فرجع معاوية[13]. وهذا كلُّه يدلُّ على أن الهدف والمراد من الجهاد هو إعلاء كلمة الله عزَّ وجل.

ومن الأمثلة العظيمة على هذه الرحمة التي شملت حتى أعدائه - صلى الله عليه وسلم - قصّته مع مَلَك الجبال حينما بعثه الله إليه؛ ليأمره بما شاء عندما آذاه المشركون، فجاء ملك الجبال وسلَّم عليه وقال: (يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربِّي إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت[14]؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين) [والأخشبان جبلان عظيمان في مكة، تقع مكة بينهما]، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لملك الجبال: "بل أرجوا أن يخرج اللهُ من أصلابهم من يعبُد الله وحده لا يُشرك به شيئاً"[15].

ومن الأمثلة العظيمة لرحمته - صلى الله عليه وسلم - حديث أنس - رضي الله عنه - قال: (كان غلام يهوديٌّ يخدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فمرض فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده فقعد عند رأسه فقال له: "أسلم" فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال: له أطع أبا القاسم، فأسلم، [وفي رواية النسائي فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله]، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: "الحمد لله الذي أنقذه من النار" [وفي رواية أبي داود: أنقذه بي من النار][16]. وغير ذلك كثير.

وكان - صلى الله عليه وسلم - رحيماً بالمؤمنين، قال الله تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128] [17]، فقد بعث الله تعالى النبي - صلى الله عليه وسلم - للناس كافة، وهو من أنفس المؤمنين خاصة، يعرفون حاله، ويتمكنون من الأخذ عنه، وهو في غاية النصح لهم، والسعي في مصالحهم، ويشق عليه الأمر الذي يشق عليهم، ويحب لهم الخير، ويسعى جاهداً في إيصاله إليهم، ويحرص على هدايتهم إلى الإيمان، ويكره لهم الشر، وهو شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم؛ ولهذا كان حقُّهُ مُقدّماً على سائر حقوق الخلق، وواجب على الأمة الإيمان به، وتعظيمه، وتعزيره وتوقيره[18].

وقال الله عز وجل: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ [الأحزاب: 6] [19]، أقرب مال للإنسان نفسه، فالرسول أولى به من نفسه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - بذل لهم النصح والشفقة والرأفة؛ فلذلك وجب على العبد إذا تعارض مراد نفسه مع مراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يُقدّم مُراد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأن لا يُعارض قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقول أحد من الناس، كائناً من كان، وأن يُقدّم محبّته على محبّة الناس كلهم[20].

وقال سبحانه وتعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159] [21].

ورحمته - صلى الله عليه وسلم - للناس جميعاً: فعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من لا يَرحَمِ الناس لا يَرحَمُه الله عز وجل"[22]. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تُنزعُ الرحمة إلاّ من شقي"[23].

وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء، الرَّحِمُ شُجنةٌ من الرحمن، فمن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله"[24].

ومن رحمته - صلى الله عليه وسلم - رحمتهُ للصبيان: فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جاء شيخٌ يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأبطأ القوم عنه أن يُوسِّعوا له فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس مِنَّا من لم يرحم صغيرنا، ويوقِّرُ كبيرنا"[25].

ورحمتهُ - صلى الله عليه وسلم - للبنات: فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يكون لأحد ثلاث بنات، أو ثلاث أخوات، أو بنتان، أو أختان فيتقي الله فيهنَّ ويحسن إليهنَّ إلا دخل الجنة"[26].

ورحمتهُ - صلى الله عليه وسلم - للأيتام: فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة" وأشار مالك أحد رواة الحديث بالسبابة والوسطى[27]. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رجلاً شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسوة قلبه، فقال له: "امسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين"[28].

ورحمتهُ - صلى الله عليه وسلم - للمرأة والضعيف: فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم إنِّي أُحَرِّج[29] حقّ الضعيفين: اليتيم والمرأة"[30]. وعن عامر بن الأحوص - رضي الله عنه - أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله وأثنى عليه، وذَكّر ووعظ ثم قال: "استوصوا بالنساء خيراً؛ فإِنهنَّ عندكم عوانٍ، ليس تملكون منهنّ شيئاً غير ذلك"[31].

ورحمتهُ - صلى الله عليه وسلم - للأرملة والمسكين: فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار"، ولفظ مسلم: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالقائم لا يفتر، والصائم لا يفطر"[32]. وعن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكثِرُ الذّكر، ويُقِلُّ اللّغْوَ، ويُطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين يقضي له الحاجة[33].

ورحمته - صلى الله عليه وسلم - لطلاب العلم والشفقة عليهم: فعن أبي سعيد - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "سيأتيكم أقوامٌ يطلبون العلم، فإذا رأيتموهم فقولوا: مرحباً مرحباً بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأقنوهم" قلت للحكم: ما أقنوهم؟ قال: علّموهم[34].

ورحمته - صلى الله عليه وسلم - للأسرى: فعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فُكُّوا العاني - يعني الأسير - وأطعموا الجائع، وعُودوا المريض"[35]، وهذا الحديث فيه رحمة النبي - صلى الله عليه وسلم - للأسرى المسلمين، والأمر بفَكِّهم، والأمر بإطعام الجائع، وعيادة المريض.

ورحمته - صلى الله عليه وسلم - للمرضى والشفقة عليهم: فعن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من عاد مريضاً لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع" قيل: يا رسول الله! وما خرفة الجنة؟ قال: "جناها"[36]. وعن علي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من مسلم يعودُ مسلماً غدوة إلا صلَّى عليه سبعون ألف ملكٍ حتى يُمسي، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يُصبح، وكان له خريفٌ في الجنة"[37]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن عاد مريضاً لم يحضر أجله فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، إلاّ عافاه الله من ذلك المرض"[38].

ورحمتهُ - صلى الله عليه وسلم - للحيوان، والطير، والدواب: فعن أبي هريرة أن رجلاً وجد كلباً يأكل الثرى من العطش، فسقاه فغفر الله له، قالوا: يا رسول الله! وإنَّ لنا في البهائم أجراً؟ قال: "في كُلِّ كبدٍ رطبة أجر" وفي لفظ للبخاري: "فشكر الله له فأدخله الجنة"[39]. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه مرَّ بصبيانٍ من قريش قد نصبوا طيراً أو دجاجةً يترامونها، وقد جعلوا لصاحب الطير كلَّ خاطئةٍ من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرَّقَوا فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا؛ إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لعن من اتخذ شيئاً فيه الروحُ غرضاً"[40] [41]. وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ، فانطلق لحاجته فرأينا حُـمَّرةً[42] معها فرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحُمَّرةُ فجعلت تَفرش [أي تُرَفرِفُ بجناحيها وتقرب من الأرض] فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "من فَجعَ هذه بولدها؟ ردُّوا ولدها إليها" ورأى قرية نملٍ[43] قد حرَّقناها فقال: "مَن حرَّق هذه؟" قلنا: نحن، قال: "إنه لا ينبغي أن يُعَذِّب بالنار إلا ربُّ النار"[44]. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ على حمارٍ قد وُسِمَ في وجهِهِ فقال: "لعن الله الذي وسمه"[45] [الوسم الكي بحديدة]. وعنه - رضي الله عنه -: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضرب في الوجهِ، وعن الوسم في الوجه[46]. وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما قال: أردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم-ذات يوم خلفه، وفيه: فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حائطاً لرجلٍ من الأنصار فإذا جملٌ فلمَّا رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَنَّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فمسح ذفراه[47] فسكت، فقال: "من ربُّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟" فجاء فتىً من الأنصارِ فقال: لي يا رسول الله، فقال: "أفلا تتقي الله في هذه البهيمةِ التي ملَّكَكَ الله إيَّاها؛ فإنه شكا إليَّ أنَّك تُجيعه وتُدئبُهُ"[48]. [49]

ومما يدل على رحمته العظيمة رقة قلبه - صلى الله عليه وسلم - وبُكاؤه في مواطن كثيرة: ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يبكي بشهيقٍ ورفع صوتٍ، كما لم يكن ضحكه قهقهة، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تَهمُلا ويُسْمَعُ لصدره أزيز، وكان بكاؤُه تارة رحمة للميت، وتارة خوفاً على أمته وشفقة عليها، وتارة من خشية الله تعالى، وتارة عند سماع القرآن وهو بكاء اشتياقٍ ومحبةٍ وإجلالٍ[50].[51]

ومن رحمته - صلى الله عليه وسلم - تلطفه - صلى الله عليه وسلم - بالأطفال وإدخال السرور عليهم: فعن محمود بن الرُّبيع - رضي الله عنه - قال: (عَقلتُ من النبي - صلى الله عليه وسلم - مَـجَّةً مجَّها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلوٍ)[52]. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قبَّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحسن ابن عليٍّ وعنده الأقرع بن حابسٍ التميمي جالساً، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلتُ منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: "من لا يَرْحم لا يُرحم"[53].

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128] [54] بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:
عباد الله! اتقوا الله تعالى، واقتدوا بنبيكم الكريم الرحيم، فإن الله تعالى أرسله رحمة للعالمين، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ [55].

عباد الله!
إن العبد المسلم مأمور بالاقتداء بهذا الرسول الرحيم ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [56]، هذا وصلوا على الرحمة المهداة كما أمركم الله تعالى بذلك فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [57]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَن صلّى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً"[58]، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وارضَ اللهم عن أصحابه: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعَنّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، اللهم آمِنّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا، وجميع ولاة أمر المسلمين. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات. اللهم اغفر لأمواتنا وأموات المسلمين، وأعذهم من عذاب القبر وعذاب النار، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نسألك الهدى والتُّقى، والعفاف والغنى، اللهم اهدنا وسددنا، ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [59].

عباد الله!
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [60]، فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾[61].


[1] سورة الأنبياء، الآية: 107.

[2] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنّان، للسعدي، ص532.

[3] مسلم، برقم 2599.

[4] رواه ابن سعد، 1/192، وابن أبي شيبة 11/504، والحاكم، 1/35، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة بطرقه، برقم 490.

[5] مسلم، برقم 2355.

[6] سورة البقرة، الآية: 190.

[7] انظر: المغني لابن قدامة 13/175-179.

[8] انظر: تفسير ابن كثير 1/227 وعناصر القوة في الإسلام ص212.

[9] البخاري برقم 3014، ورقم 3015.

[10] مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث 3/1357 رقم 1731.

[11] انظر المرجع السابق 3/1357، وزاد المعاد 3/100.

[12] سورة الأنفال، الآية: 58.

[13] أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد فيسير إليه 3/83 رقم 2759، وانظر: صحيح سنن أبي داود 2/528، والترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في الغدر (رقم 1580) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

[14] استفهام، أي فمرني بما شئت، انظر: فتح الباري، 6/316.

[15] البخاري برقم 3231، ومسلم برقم 1795.

[16] البخاري، برقم 1356، ورقم 5657، وانظر: فتح الباري، 3/219.

[17] سورة التوبة، الآية: 128.

[18] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص357.

[19] سورة الأحزاب، الآية: 6.

[20] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص659.

[21] سورة آل عمران، الآية: 159.

[22] مسلم، برقم 2319.

[23] الترمذي، برقم 1923، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 2/350.

[24] الترمذي، برقم 1924، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 2/350.

[25] الترمذي، برقم 1919، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 2/348.

[26] أبو داود، برقم 5147، والترمذي برقم 1912 و1916، وقال عنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/429: صحيح لغيره).

[27] مسلم، برقم 2983، والبخاري من حديث سهل بن سعد برقم 605.

[28] أحمد، 14/558، برقم 9018، وقال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب، 3/323: (رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح) وحسّنه، الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب، 2/676. وقد ضعّفه أصحاب الموسوعة الحديثية في تحقيق مسند الإمام أحمد 13/21، برقم 7576، ولفظه: ((إن أردت أن يلين قلبك فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم)) وفي 14/558، برقم 9018، بلفظ ما في متن هذا البحث.

[29] أحرّج: أي أضيقه وأحرمه على من ظلمهما. النهاية في غريب الحديث، 1/361.

[30] ابن ماجه برقم 3678، وحسّنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 2/298.

[31] ابن ماجه، برقم 1851، وحسّنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 2/120، ورواه الترمذي أيضاً والنسائي، وانظر: إرواء الغليل، برقم 1997.

[32] البخاري، برقم 5353، 606، 607، ومسلم، برقم 2982.

[33] النسائي، برقم 1415، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/456.

[34] الترمذي، برقم 2650، 2651، وابن ماجه برقم 247، وحسّنه الألباني في صحيح ابن ماجه 1/98.

[35] البخاري، برقم 3046.

[36] مسلم، برقم 2568.

[37] الترمذي، برقم 969، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 1/497.

[38] أبو داود، برقم 3106، والترمذي برقم 2083، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم 3160.

[39] البخاري، برقم 173، 2466، ومسلم، برقم 2244.

[40] الغرض: بفتح الغين المعجمة والراء: هو ما ينصبه الرماة يقصدون إصابته من قرطاس ونحوه. [الترغيب والترهيب للمنذري، 3/153].

[41] البخاري، برقم 5515، ومسلم، برقم 1958.

[42] حُمَّرةٌ: بضم الحاء وتشديد الميم، وقد خُفِّف: طائر صغير، كالعصفور أحمر اللون. [النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 1/439].

[43] قرية نملٍ: موضع النمل مع النمل.

[44] أبو داود، برقم 2675، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 2/146.

[45] مسلم، برقم 2117.

[46] مسلم، برقم 2116.

[47] ذفراه: ذفرا البعير بكسر الذال المعجمة مقصور: هي الموضع الذي يعرق في قفا البعير عند أذنه، وهما ذفران. [ الترغيب والترهيب للمنذري، 3/157].

[48] تُدْئِبُهُ: بضم التاء ودال مهملة ساكنة، بعدها همزة مكسورة، وباء موحدة: أي تتعبه بكثرة العمل. [الترغيب والترهيب للمنذري، 3/157].

[49] أحمد، 1/205، وأبو داود، برقم 2549، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/110.

[50] انظر: زاد المعاد، لابن القيم، 1/183.

[51] انظر: رحمة للعالمين للمؤلف ص83-93 فقد ذكرت فيها ستة عشر موضعاً بكى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم-.

[52] البخاري، برقم 77، ومسلم، 1/456، برقم 265 - 33.

[53] البخاري، برقم 5997.

[54]سورة التوبة، الآية: 128.

[55]سورة الأنبياء، الآية: 107.

[56]سورة الأحزاب، الآية: 21.

[57]سورة الأحزاب، الآية: 56.

[58]مسلم، برقم 384.

[59]سورة البقرة، الآية: 202.

[60] سورة النحل: الآية: 90.

[61]سورة العنكبوت: الآية: 45.






الساعة الآن : 06:01 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 31.03 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 30.94 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (0.30%)]