ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   الملتقى الاسلامي العام (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=3)
-   -   أكرم الناس أتقاهم (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=200484)

ابوالوليد المسلم 26-04-2019 04:18 AM

أكرم الناس أتقاهم
 
أكرم الناس أتقاهم
عبد اللّه بن محمد البصري



ملخص الخطبة:

- الإنسان مدني بالطبع. 2- الحث على الاجتماع والتحذير من الفرقة. 3- راية العرب في الجاهلية. 4- إبطال الإسلام لفخر الجاهلية. 5- التحذير من احتقار الآخرين. 6- العزة بطاعة الله. 7- ذم التكاثر بالأموال والأولاد والعشيرة. 8- التحذير من العصبيات القبلية.

الخطبة الأولى:
أَمَّا بَعدُ:
فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.
أيُّهَا المُسلِمُونَ: الإِنسَانُ اجتِمَاعِيٌّ بِطَبعِهِ، مَيَّالٌ بِفِطرَتِهِ إِلى بَني جِنسِهِ، يَألَفُهُم وَيَأنَسُ بهم، وَيَأوِي إِلى مُجتَمَعَاتِهِم وَيَسكُنُ إِلَيهِم، وَمُنذُ أَن وُجِدَ النَّاسُ عَلَى هَذِهِ الأَرضِ وَهُم يَجتَمِعُونَ وَيَأتَلِفُونَ، وَيَتَّحِدُونَ وَيَتَحَالَفُونَ، وَلا شَكَّ أَنَّ الاجتِمَاعَ قُوَّةٌ وَمَنَعَةٌ وَرَحمَةٌ، وَالتَّفَرُّقَ ضَعفٌ وَتَخَاذُلٌ وَعَذَابٌ، وَلَقَد دَعَا الإِسلامُ إِلى الاجتِمَاعِ وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ وَأَمَرَ بِهَا، وَذَمَّ الفُرقَةَ وَالاختِلافَ وَالتَّخَاذُلَ وَنهى عَنهَا، قَالَ - سبحانه -: وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا، وَقَالَ - جل وعلا -: وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى، وَقَالَ - عليه الصلاة والسلام -: ((إِنَّ اللهَ - تعالى -يَرضَى لَكُم ثَلاثًا، وَيَكرَهُ لَكُم ثَلاثًا، فَيَرضَى لَكُم أَن تَعبُدُوهُ وَلا تُشرِكُوا بِهِ شَيئًا، وَأَن تَعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جميعًا وَلا تَفَرَّقُوا، وَأَن تُنَاصِحُوا مَن وَلاَّهُ اللهَ أَمرَكُم، وَيَكرَهُ لَكُم قِيلَ وَقَالَ، وَكَثرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ))، وَقَالَ - عليه الصلاة والسلام -: ((الاجتِمَاعُ رَحمَةٌ، وَالفُرقَةُ عَذَابٌ))، وَقَالَ: ((المُؤمِنُ لِلمُؤمِنِ كَالبُنيَانِ يَشُدُّ بَعضُهُ بَعضًا))، وَقَالَ: ((المُؤمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُم، وَهُم يَدٌ عَلَى مَن سِوَاهُم، وَيَسعَى بِذِمِّتِهِم أَدنَاهُم))، وَقَالَ: ((المُسلِمُ أَخُو المُسلِمِ، لا يَخُونُهُ وَلا يَكذِبُهُ وَلا يَخذُلُهُ)).
وَقَد كَانَتِ العَرَبُ في الجَاهِلِيَّةِ تَجتَمِعُ تَحتَ رَايَةِ القَبِيلَةِ، وَتَضُمُّ صُفُوفَهَا تَحتَ لِوَاءِ العَشِيرَةِ، مُعتَزَّةً بِأَنسَابِهَا مُفَاخِرَةً بِأَحسَابِهَا، يَعقِدُونَ لِذَلِكَ الأَسوَاقَ وَالمُنتَدَيَاتِ وَالمَجَامِعَ، وَيُلقُونَ فِيهَا الأَشعَارَ وَالأَرَاجِيزَ وَالمُعَلَّقَاتِ، وَيَخطُبُ خُطَبَاؤُهُم وَيَتَفَاصَحُونَ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسلامُ أَبطََلَ ذَلِكَ وَعَلَّمَهُم بِأَيِّ شَيءٍ يَكُونُ الفَخرُ وَعَلامَ يَكُونُ الاجتِمَاعُ، قَالَ - سبحانه -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلنَاكُم شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللهِ أَتقَاكُم إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ، وقَالَ: ((إِنَّ أَنسَابَكُم هَذِهِ لَيسَت بِسِبَابٍ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنما أَنتُم وَلَدُ آدَمَ، طَفُّ الصَّاعِ لم تملَؤُوهُ، لَيسَ لأَحَدٍ فَضلٌ عَلَى أَحَدٍ إِلاَّ بِالدِّينِ أَو عَمَلٍ صَالحٍ)). قَالَ ابنُ الأَثِيرِ - رحمه الله -: "وَالمَعنى: كُلُّكُم في الانتِسَابِ إِلى أَبٍ وَاحِدٍ بِمَنزِلَةٍ وَاحِدَةٍ في النَّقصِ وَالتَّقَاصُرِ عَن غَايَةِ التَّمَامِ، وَشَبَّهَهُم في نُقصَانِهِم بِالمَكِيلِ الذِي لم يَبلُغْ أَن يَملأَ المِكيَالَ، ثم أَعلَمَهُم أَنَّ التَّفَاضُلَ لَيسَ بِالنَّسَبِ وَلَكِنْ بِالتَّقوَى". وَعَن أَبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبيَّ قَالَ لَهُ: ((اُنظُرْ؛ فَإِنَّكَ لَستَ بِخَيرٍ مِن أَحمَرَ وَلا أَسوَدَ إِلاَّ أَن تَفضُلَهُ بِتَقوَى))، وَعَن أَبي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قِيلَ لِلنَّبيِّ: مَن أَكرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: ((أَكرَمُهُم أَتقَاهُم))، قَالُوا: يَا نَبيَّ اللهِ، لَيسَ عَن هَذَا نَسأَلُكَ، قَالَ: ((فَأَكرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ، نَبيُّ اللهِ ابنُ نَبيِّ اللهِ ابنِ نَبيِّ اللهِ ابنِ خَلِيلِ اللهِ))، قَالُوا: لَيسَ عَن هَذَا نَسأَلُكَ، قَالَ: ((فَعَن مَعَادِنِ العَرَبِ تَسأَلُونَني؟)) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: ((فَخِيَارُكُم في الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُم في الإِسلامِ إِذَا فَقُهُوا)). وَقَالَ - عليه الصلاة والسلام -: ((إِنَّ اللهَ - عز وجل - أَذهَبَ عَنكُم عِبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَفَخرَهَا بِالآبَاءِ، النَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِن تُرَابٍ، مُؤمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، لَيَنتَهِيَنَّ أَقوَامٌ يَفتَخِرُونَ بِرِجَالٍ إِنَّمَا هُم فَحمٌ مِن فَحمِ جَهَنَّمَ أَو لَيَكُونُنَّ أَهوَنَ عَلَى اللهِ مِنَ الجِعلانِ التي تَدفَعُ النَّتنَ بِأَنفِهَا)).
وَأَمَّا حِينَ يَقتَرِنُ الفَخرُ بِالنَّفسِ بِاحتِقَارِ الآخَرِينَ وَازدِرَائِهِم وَيَصحَبُهُ تَنَقُّصُهُم وَالسُّخرِيَةُ بهم فَكَفَى بِهِ شَرًّا، قال: ((بِحَسْبِ امرئٍ مِنَ الشَّرِّ أَن يَحقِرَ أَخَاهُ المُسلِمَ))، وَقَالَ - عليه الصلاة والسلام -: ((اِنتَسَبَ رَجُلانِ عَلَى عَهدِ مُوسَى فَقَالَ أَحَدُهُمَا: أَنَا فُلانُ بنُ فُلانٍ حَتى عَدَّ تِسعَةً، فَمَن أَنتَ لا أُمَّ لَكَ؟ قَالَ: أَنَا فُلانُ بنُ فُلانِ ابنِ الإِسلامِ، فَأَوحَى اللهُ إِلى مُوسَى أَن قُلْ لِهَذَينِ المُنتَسِبَينِ: أَمَّا أَنتَ أَيُّهَا المُنتَسِبُ إِلى تِسعَةٍ في النَّارِ فَأَنتَ عَاشِرُهُم في النَّارِ، وَأَمَّا أَنتَ أَيُّهَا المُنتَسِبُ إِلى اثنَينِ في الجَنَّةِ فَأَنتَ ثَالِثُهُمَا في الجَنَّةِ)).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: لا شَكَّ أَنَّهُ لا عِزَّ لِلإِنسَانِ بِغَيرِ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَطَاعَتِهِ وَالإِخلاصِ لَهُ، وَلا رَافِعَ لِشَأنِهِ وَمُنجِيَ لَهُ ممَّا يَحذَرُ إِلاَّ عَمَلُهُ الصَّالحُ وَسَعيُهُ لآخِرَتِهِ، قَالَ - سبحانه -: مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيهِ يَصعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُم عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ، وقال - تعالى -: وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤمِنِينَ، وَقَالَ - سبحانه -: مَن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصلاهَا مَذمُومًا مَدحُورًا وَمَن أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعيَهَا وَهُوَ مُؤمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعيُهُم مَشكُورًا.
نَعَمْ أَيُّهَا الإِخوَةُ: العِزَّةُ للهِ وَبِاللهِ، العِزَّةُ للهِ العَزِيزِ القَهَّارِ، مَالِكِ المُلكِ الذِي هُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤتي المُلكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، العِزَّةُ بِالكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالعَمَلِ الصَّالحِ، العِزَّةُ للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤمِنِينَ المُتَّبِعِينَ لِرَسُولِهِ، العِزَّةُ لِمَن وَالاهُ اللهُ وَأَعَزَّهُ بِطَاعَتِهِ وَتَقوَاهُ، وَفي حَدِيثِ القُنُوتِ المَشهُورِ: ((إِنَّهُ لا يَذِلُّ مَن وَالَيتَ وَلا يَعِزُّ مَن عَادَيتَ))، وَفي الحَدِيثِ القُدسِيِّ: ((قَالَ اللهُ - عز وجل -: الكِبرِيَاءُ رِدَائِي وَالعِزِّةُ إِزَارِي، فَمَن نَازَعَني وَاحِدًا مِنهُمَا أَلقَيتُهُ في النَّارِ)).
وَمِن هُنَا ـ أَيُّهَا الإِخوَةُ ـ فَقَد أَبدَلَ اللهُ النَّاسَ بِاجتِمَاعَاتِ الجَاهِلِيَّةِ المَبنِيَّةِ عَلَى المُفَاخَرَةِ وَالتَّكَاثُرِ وَالتَّنَابُزِ وَالتَّهَاجِي، أَبدَلَهُم بها اجتِمَاعَاتِ الطَّاعَةِ وَالتَّقوَى، في صَلاةِ الجَمَاعَةِ وَصَلاةِ العِيدَينِ وَنَحوِهَا، وَفي الحَجِّ وَالجِهَادِ في سَبِيلِ اللهِ وَمُحَارَبَةِ الأَعدَاءِ، وَفي الاجتِمَاعِ عَلَى الذِّكرِ وَشُكرِ النِّعَمِ، وَحِينَ تُرِيدُ الأُمَّةُ العِزَّةَ وَتَبحَثُ عَنِ الكَرَامَةِ فَعَلَيهَا أَن تَتَّقِيَ اللهَ وَتَتَرَقَّى في مَرَاقِي العِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ، وَأَن تَجتَمِعَ عَلَى مَا يُرضِي اللهَ وَيُقَرِّبُ إِلَيهِ، أَمَّا التَّفَاخُرُ بِالنَّسَبِ وَالحَسَبِ وَالاجتِمَاعُ عَلَى رَوَابِطَ قَبَلِيَّةٍ وَأَوَاصِرَ عَصَبِيَّةٍ وَلأَهدَافٍ دُنيَوِيَّةٍ فَهُوَ وَإِن رَاقَ لِبَعضِ قَاصِرِي النَّظرِ وَأَعجَبَهُم وَارتَفَعَت لَهُ رُؤُوسُهُم فَمَا هُوَ إِلاَّ تَلاعُبٌ مِنَ الشَّيطَانِ لِتَمزِيقِ وحدَةِ الأُمَّةِ وَبَعثَرَةِ صُفُوفِهَا، وَمِن ثَمَّ إِضعَافُهَا وَإِبقَاؤُهَا في المُؤَخِّرَةِ.
إِنَّ التَّكَاثُرَ بِالمَالِ وَالوَلَدِ وَالعَشِيرَةِ لم يَنفَعْ أَبَا جَهلٍ وَلا أَبَا لهبٍ وَلا الوَلِيدَ بنَ المُغِيرَةِ لَمَّا تَكَبَّرُوا عَنِ الإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ، قَالَ - سبحانه -: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالمُهلِ يَغلِي في البُطُونِ كَغَلْيِ الحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعتِلُوهُ إِلى سَوَاء الجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوقَ رَأسِهِ مِن عَذَابِ الحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ، وَقَالَ - تعالى -: تَبَّتْ يَدَا أَبي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغنَى عَنهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ، وَقَالَ - سبحانه -: ذَرني وَمَن خَلَقتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا سَأُرهِقُهُ صَعُودًا إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدبَرَ وَاستَكبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحرٌ يُؤثَرُ إِنْ هَذَا إِلاَّ قَولُ البَشَرِ سَأُصلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلبَشَرِ عَلَيهَا تِسعَةَ عَشَرَ.
وَلَمَّا كَانَت وَفرَةُ الأَموَالِ وَكَثرَةُ الأَولادِ تَغُرُّ كَثِيرًا وَتَمنَعُهُم مِنَ الهِدَايَةِ وَتَصُدُّهُم عَنِ الحَقِّ فَقَد بَيَّنَ الحَقُّ - سبحانه - أَنَّ ذَلِكَ لَن يُغنيَ عَن صَاحِبِهِ يَومَ القِيَامَةِ شَيئًا؛ لِيَحذَرَ ذَلِكَ العِبَادُ وَيَتَّقُوهُ، قَالَ - تعالى -: وَمَا أَرسَلنَا في قَريَةٍ مِن نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُترَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرسِلتُم بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحنُ أَكثَرُ أَموَالاً وَأَولادًا وَمَا نَحنُ بِمُعَذَّبِينَ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبسُطُ الرِّزقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقدِرُ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ وَمَا أَموَالُكُم وَلا أَولادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُم عِندَنَا زُلفَى إِلاَّ مَن آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُم جَزَاءُ الضِّعفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُم في الغُرُفَاتِ آمِنُونَ.
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذكُرُوا نِعمَتَ اللهِ عَلَيكُم إِذْ كُنتُم أَعدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا وَكُنتُم عَلَىَ شَفَا حُفرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِنهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُم آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تهتَدُونَ.

الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ:
فَأَطِيعُوا رَبَّكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَلا تَعصُوهُ، وَاتَّقُوا اللهَ وَاعلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم وَاخشَوا يَومًا لا يَجزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَولُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيئًا إِنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الغَرُورُ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الغَرُورُ إِنَّ الشَّيطَانَ لَكُم عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدعُو حِزبَهُ لِيَكُونُوا مِن أَصحَابِ السَّعِيرِ.
ألا وَإِنَّ مِن عَدَاوَةِ الشَّيطَانِ لِلمُسلِمِينَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ أَن سَلَّطَ عَلَيهِم مَن يُوقِدُ فِيهِم نَارَ العَصَبِيَّاتِ بَينَ حِينٍ وَآخَرَ لِيُفَرِّقَ جَمَاعَتَهُم وَيُخَالِفَ بَينَ كَلِمَتِهِم، وَلِيَرجِعَ بهم إِلى جَاهِلِيَّاتٍ كَرِيهَةٍ مُنتِنَةٍ، وَيَعُودَ بهم إِلى مُفَاخَرَاتٍ مَقِيتَةٍ مُهلِكَةٍ، وَذَلِكَ مِصدَاقُ قَولِهِ - عليه الصلاة والسلام -: ((إِنَّ الشَّيطَانَ قَد أَيِسَ أَن يَعبُدَهُ المُصَلُّونَ في جَزِيرَةِ العَرَبِ، وَلَكِنْ في التَّحرِيشِ بَينَهُم))، وَإِنَّ أُمَّةَ الإِسلامِ لم تُرزَأْ في تَارِيخِهَا بِمِثلِ حَصرِهَا في عَصَبِيَّاتٍ قَبَلِيَّةٍ ضَيِّقَةٍ، أَو تَقيِيدِهَا بِأَحزَابٍ وَطَنِيَّةٍ خَادِعَةٍ، أَو تَعلِيقِهَا بِشِعَارَاتٍ جَوفَاءَ وَهُتَافَاتٍ حمقَاءَ، وَيَا للهِ كَم نجحَ أَعدَاءُ الإِسلامِ في إِخرَاجِ النَّاسِ مِن سَعَةِ الإِسلامِ وَعَدلِهِ وَصَفَائِهِ إِلى ضِيقِ تِلكَ العَصَبِيَّاتِ وَجَورِهَا وَكَدَرِهَا! إِنهم يُطعَنُونَ في قُلُوبِهِم يَومَ أَن يَرَوا أُمَّةَ الإِسلامِ صَفًّا وَاحِدًا، وَيَعلَمُونَ مَدَى الخَطَرِ عَلَيهِم مِنهَا إِذَا هِيَ اعتَصَمَت بِحَبلِ اللهِ وَاجتَمَعَت، فَيَسعَونَ جُهدَهُم لِتَمزِيقِهَا وَتَفرِيقِهَا وَشَغلِهَا بِأَنفُسِهَا عَن غَيرِهَا؛ لِيَتَفَرَّغُوا هُم لِمَا أَرادُوهُ بها، فَيَقتُلُوا وَيَسلُبُوا، وَيَتَحَكَّمُوا في الثَّرَوَاتِ وَالمَصَالحِ، وَيُملُوا عَلَى الشُّعُوبِ مَا يُرِيدُونَ، وَيَبُثُّوا ثَقَافَةَ الكُفرِ وَالانحِلالِ وَالابتِعَادِ عَن مَنهَجِ اللهِ، كُلّ ذَلِكَ وَالأُمَّةَ غَافِلَةٌ لاهِيَةٌ، مَشغُولَةٌ بِتَردِيدِ أَشعَارِ مُفَاخَرَةٍ وَرَفعِ شِعَارَاتٍ خَادِعَةٍ، مُكتَفِيَةً بِتَمَدُّحٍ وَتَكَثُّرٍ بِمَالٍ وَوَلَدٍ وَعَشِيرَةٍ، مُتَزَيِّنَةً بِمَا لَدَيهَا مِن سَوَائِمَ وَبَهَائِمَ.
أَلا فَرَحِمَ اللهُ امرأً اعتَزَّ بِدِينِهِ وَافتَخَرَ بِتَقوَاهُ، وَأَهَمَّهُ أَمرُ أُمَّتِهِ وَاشتَغَلَ بِمَا يُصلِحُ شَأنَهَا وَيُعلِي بُنيَانَهَا، وَعَمِلَ عَلَى اجتِمَاعِ كَلِمَتِهَا عَلَى الحَقِّ، وَحَذرَ وَحَذَّرَ مِن تَفَرُّقِهَا، عَامِلاً بِقَولِ اللهِ - سبحانه -: وَتَعَاوَنُوا عَلَى البرِّ وَالتَّقوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَانِ، أَمَّا الاجتِهَادُ في إِحيَاءِ العَصَبِيَّاتِ وَتَشجِيعُهَا وَالمُشَارَكَةُ فيها مَادِّيًّا أَو مَعنَوِيًّا فَإِنما هُوَ مُخَالَفَةٌ لِمَا جَاءَ الأَمرُ بِهِ مِنَ الاعتِصَامِ بِحَبلِ اللهِ وَهُوَ عَهدُهُ وَصِرَاطُهُ المُستِقِيمُ وَكِتَابُهُ الكَرِيمُ، بَل هُوَ وُقُوعٌ فِيمَا نُهِيَ عَنهُ مِنَ التَّعَاوُنِ على الإِثمِ وَالعُدوَانِ، وَلا وَاللهِ تَجني البِلادُ وَلا العِبَادُ مِن إِحيَاءِ العَصَبِيَّةِ وَبَعثِ القَبَلِيَّةِ إِلاَّ الدَّمَارَ وَالهَلاكَ وَلَو بَعدَ حِينٍ، قَالَ - سبحانه -: وَإِذَا أَرَدنَا أَن نُّهلِكَ قَريَةً أَمَرنَا مُترَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيهَا القَولُ فَدَمَّرنَاهَا تَدمِيرًا، أَفَلَيسَ مِنَ الفُسُوقِ جَمعُ مَالِ اللهِ مِن عِبَادِ اللهِ ثم تَفرِيقُهُ في حَفَلاتِ فَخرٍ وَسُمعَةٍ؟!
لَقَد نهى عَن دَعوَى الجَاهِلِيَّةِ وَوَصَفَهَا بِأَنها مُنتِنَةٌ، فَعَن جَابِرِ بنِ عبدِ اللهِ - رضي الله عنه - قال: كُنَّا مَعَ النَّبيِّ في غَزَاةٍ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنصَارِ، فَقَالَ الأَنصَارِيُّ: يَا لَلأَنصَارِ! وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلمُهَاجِرِينَ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: ((مَا بَالُ دَعوَى الجَاهِلِيَّةِ؟!)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنصَارِ، فَقَالَ: ((دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنتِنَةٌ)). وَقَالَ - عليه الصلاة والسلام -: ((أَربَعٌ في أُمَّتي مِن أَمرِ الجَاهِلِيَّةِ لا يَترُكُونَهُنَّ: الفَخرُ في الأَحسَابِ، وَالطَّعنُ في الأَنسَابِ، وَالاستِسقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ)).
وَإِنَّ لِلشُّعَرَاءِ في إِذكَاءِ تِلكَ العَصَبِيَّاتِ وَإِيقَادِهَا لَدَورًا كَبِيرًا هُم مِنهُ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ، قال: ((إِنَّ أَعظَمَ النَّاسِ فِريَةً لَرَجُلٌ هَجَا رَجُلاً فَهَجَا القَبِيلَةَ بِأَسرِهَا، وَرَجُلٌ انتَفَى مِن أَبِيهِ وَزَنَّى أُمَّهُ)).
أَلا فَلْنَتَّقِ اللهَ جَمِيعًا أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَلْنَحرِصْ عَلَى الاجتِمَاعِ عَلَى الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلْنَعمَلْ عَلَى تَقوِيَةِ رَوَابِطِ الأُخُوَّةِ الإِسلامِيَّةِ وَالعَلائِقِ الإِيمَانِيَّةِ؛ لِنَنَالَ بِذَلِكَ رَحمَةَ اللهِ وَرِضَاهُ عَنَّا، قال - سبحانه -: إِنَّمَا المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ، وقال - جل وعلا -: وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاء بَعضٍ يَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيرحمهم الله إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.


الساعة الآن : 10:41 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 19.16 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 19.06 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (0.49%)]