ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى القرآن الكريم والتفسير (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=57)
-   -   يوسف عليه السلام عزيز مصر (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=224787)

ابوالوليد المسلم 05-02-2020 11:19 PM

يوسف عليه السلام عزيز مصر
 
يوسف عليه السلام عزيز مصر




د. محمد منير الجنباز





﴿ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴾ [يوسف: 58]، رُبَّ صدفة خير من ألف ميعاد، تأمَّلهم يوسف طويلاً، وفي داخله دهشة واستغراب أخفاهما ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ كيلا يشعروا بذلك، وكان لسان حاله يقول - كما في المثل العربي -: "أتت بخائن قدماه".

تأملهم مليًّا من الرأس إلى أخمص القدمين، واحدًا واحدًا، أهؤلاء إخوتي؟ أتَوْا بعد غياب، ولكن أين شموخُهم، وسَطْوتهم، ونشاطهم، وحُمْرةُ وجوههم؟

كل ذلك قد اختفى! لقد رأى آثار الفاقة والتعب باديةً على الوجوه، وذلَّ الحاجة قد ارتسم على المُحَيَّا بوضوح، فمن عرفهم من قبل وما هم عليه من الاعتداد بالنفس، والحركية والشموخ، قد ينكر حالهم اليوم وهم في هيئة البؤس وذل الحاجة، حزن عليهم من داخله، ورثى لحالهم، وكادت عيناه أن تُظهر ما أضمر من رقة وشفقة، بَيْدَ أنه لم ينسَ ما اقترفوه بحقه من الأذى والشر، ولم تَغِبْ عن مُخيلته التي نقشت فيها تلك الدقائق الحاسمة التي تنمروا فيها وفقدوا إنسانيتهم فألقوه في الجُبِّ، تآمرٌ ما كان يتوقعه من إخوة تربوا في محض الرسالة اليعقوبية، ونهلوا من مَعِينها، ولم يخالجه شك - رغم بؤس ما رأى على الوجوه - أنهم هم أصحاب القلوب القاسية، وما يدريه إن كانوا قد تغيروا إلى الأحسن فتهذبت قلوبهم، أم لا يزالون يحيون بتلك القلوب التي أنستهم صلة الرحم بأخيهم الصغير؟ ولذلك عاملهم وفق شِقَّيْنِ: شقِّ الرحمة؛ لما رأى من حالهم، ولأجل أبيه والرحم؛ لأن المِيرَةَ التي سيأخذونها هي للعشيرة كلها، وشقِّ الكيدِ لهم ومعاملتهم وفق أسلوبهم، بحذر ومكرٍ يَردُّ لهم فيه شيئًا مما عاناه منهم، فكان أن طلب منهم الإتيان بأخ لهم من أبيهم في المرة القادمة، وإلا فلن يعطيَهم المِيرَة، وخطط لإذلالهم بنقض عهدهم مع أبيهم ثانيةً؛ ليعيد تأزيم العَلاقة بينهم وبين أبيهم، وليَنكأَ الجراح من جديد، فيعيد في أسرته تذكُّرَ يوسف بعد عهد طويل قد تُنسَى فيه أكبر المصائب والآلام، فيرجع في الأذهان غضًّا طريًّا كأنما حدث بالأمس القريب، فكانت مكيدته عظيمة، وخطته مدبرة محبوكة، فلما أحضروا معهم بِنيامين وضَع الصاع في رَحْله، وأظهرهم أمام الملأ أنهم سارقون ﴿ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ﴾ [يوسف: 70]، تكفي هذه التهمة على الملأ من أصحاب القوافل المرافقين أن تُنقِصَ من سُمعِتهم، فكيف وقد وجدوا السقاية في رحل أخيه؟! فالتهمة ثابتة لا مفرَّ منها، صحيح أنهم تبرؤوا مما فعل كيلا يُعمَّمَ ما حصل عليهم فقالوا: ﴿ إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ ﴾ [يوسف: 77]، وبهذه المكيدة حبَسَ أخاه عنده، لكن ما كان يظنه أنه ضربة لغرورهم - بما كان يعلمه عنهم - تبين له أنهم لم يعودوا أولئك الأشرار، وأنهم قد ارتقوا عن تلك الأخلاق، وربما كان ذلك بعد حادثة يوسف وحُزن والدهم الشديد عليه، فكان هو يخطط وفق معطيات سابقة، لكنهم في الحقيقة الراهنة كانوا في غير هذا الوارد تمامًا؛ فقد تبين هذه الحقيقة بعد ذلك من خلال قولهم: ﴿ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا ﴾ [يوسف: 78]، قدموا أنفسهم مكان أخيهم، وهذا فيه إيثار لم يكن معهودًا عندهم، وفيه مزيد إشفاق على حالة أبيهم التي لم تكن تَرِدُ في خاطرهم يوم غيَّبوا يوسف في الجب! تحول كبير!

ويبدو أنهم قرعوا سن الندم لما رأَوْا حالة أبيهم المحزنة، وعرفوا خطأ فعلهم، ولكن بعد الحدث ليت ساعة مندم، لقد تجرعوا بعد فَعلتهم النَّكراءِ غُصصَ الألم، ومرارة الندم، وهي تعتصر منهم الأفئدة، وتَفُلُّ لهم العزيمة مرارًا وتَكرارًا، كلما لاح لهم على القرب حزن أبيهم، أو رأوا عَبرة حرَّى مسفوحة على خده وهو يردد اسمَ يوسف مع الحزن والتأَوُّهِ الصادر من قلب جريح حزين!

كان يريد أن يلعب معهم لعبة تُذلُّهم، لكن مع مَن؟ مع من كان يعرف طباعهم من قبل، فهم ليسوا هم! لقد أدَّبتْهم السنُونَ، وعلمتهم الحياة أن يسلكوا منهج أبيهم بإخلاص؛ فهم يعيشون الآن حالة تأنيب الضمير والصحوة مما كانوا قد اقترفوه من قبلُ، فهذه المرة كان هو القوي المتمكن، وهم الضعفاء المغلوبون، فكما لم يكن في السابق تكافؤ في الخصومة، وكانت الكفة لصالحهم؛ فيوسف كان الطفل الضعيف، وقد استسلم للأمر بلا مقاومة، وهنا أيضًا أضحوا هم الضعفاء، فقد استسلموا للأمر بلا مكر أو مقاومة، ولقد بلغ به الحزن عليهم لما رأى انكسارَهم وتذللَهم عندما قالوا له: ﴿ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ﴾ [يوسف: 88]، فقد وصلوا إلى درجة بائسة من العَوَز والفقر حتى طلبوا الصدقة؛ لأن ما حملوه من بضاعة لا يمنحهم من القمح المؤونة الكافية، فأي موقف ليوسف بعد هذا؟ فرَقَّ لحالهم، وأمسك دمعة كادت تنهَمِلُ حزنًا عليهم، وألغى ما كان يساوره لتبكيتهم وإذلالهم، فعاد للصفح والتسامح، بل وعدَّ ما فعلوه به كان لخيره من حيث لا يعلمون، ولولا رميُه في البئر لما وصل إلى السلطة وأصبح عزيز مصر، فهم السبب وقد سخرهم الله لهذا الأمر، فما كل مؤامرة تعود على المغدور بالشر، فهناك لطفُ الله وتقديره!

فربَّ شرٍّ أُريدَ بالعبد كان خيرًا له ورِفعةً، كما رُفع يوسف؛ لذلك كشف لهم نفسه عطفًا عليهم وإشفاقًا على حالهم: ﴿ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ ﴾ [يوسف: 89]؟

فكان جوابهم دون تلكؤٍ: ﴿ أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ﴾ [يوسف: 90]، قال: ﴿ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي ﴾ [يوسف: 90].

فأشعروه بما منَّ الله عليه أولاً كيلا ينتقم منهم، وأن عملهم القبيح جلب له الفوز والرئاسة والعلو، وأتبعوه بالاعتذار وأنهم كانوا مخطئين: ﴿ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ﴾ [يوسف: 91]، ولكي يخفف من لومهم أنفسهم على ما اقترفوه بحقه، سارع لمسامحتهم من قلب ملأه الصفاءُ والمحبة: ﴿ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [يوسف: 92]، ويتبادر إلى الذهن أيضًا: ألم يُلهِمْهم تفرد جمال يوسف وهيبته وحسن طلعته بأنه يوسف؟ أم أن المنصب الكبير قد غشَّى أبصارهم، وأنه من المستحيل أن يكون شاغل هذا المنصب هو يوسف، وهو الغلام الغريب الذي بِيع بثمن بَخسٍ، وأن يكون قد وصل إلى هذا المنصب في أم الدنيا (مصر)؟! لكن أقول: ربما خامرهم شك بأنه هو، وربما تداولوا هذا الأمر فيما بينهم؛ لذلك لما قال لهم: ﴿ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ ﴾ لم يقولوا له: وما أدراك أنت بيوسف؟ أو من أين لك أن تعلم خبر يوسف؟ بل أجابوا بلا تردد: ﴿ أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ﴾، فقال لهم: ﴿ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي ﴾.

وهناك مقارنة يوم كذبوا على أبيهم بأن الذئب أكل يوسف، ويوم سرقة صواع الملك.

وكما يقال: حبل الكذب قصير، والكاذب عندما يدلي بأمر ما وهو يكذب تظهر على ملامحه أنه كاذب، ولا يقول الحق، وقد تختلف هذه الملامح من شخص لآخر، حسب التعوُّد؛ فالذي لم يتعوَّدِ الكذب ستظهر على وجهه الملامح ظاهرة أنه يكذب، وسيكون الارتباك ظاهرًا لا يخفى على المتفرِّس، ولكن الذي تعود الكذب فإن ملامح الوجه ستكون أكثر غموضًا، بحيث يتطلب ممن يسمعه وقفات طويلة متأملة ليكتشف كذبه، وليحكم عليه بذلك، ومع ذلك فللكذاب ملامح تفضحه مهما استتر، وتكون براهينه وشواهده على صحة ما يقول واهية وغير مقبولة؛ ففي قصة يوسف يظهر هذا الأمر جليًّا، فيوم أن كذبوا على أبيهم بأن الذئب قد أكل يوسف، جاؤوا بدم كذب وضعوه على ثيابه، ونسوا أن الدم وحده لا يكفي شاهدًا على هذه الواقعة؛ فالذئب يمزق الثياب ويأكل من اللحم ويترك، فهل ابتلعه كاملاً وابتلع رأسه أيضًا ولم يترك شيئًا من جسده إلا هذه الثياب؟ فيعقوب يومها لم يصدِّق ما قالوه، فكان قوله: ﴿ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]، بينما في واقعة أخيه لما وجد الصواع في متاعه قالوا الصدق، وقدموا البرهان القوي الذي يدل على صدق روايتهم، وما حدث له دون مواربة، فقالوا: ﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ [يوسف: 82]، فكان الصدق واضحًا في لهجة كلامهم.




الساعة الآن : 02:14 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 11.64 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 11.55 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (0.81%)]