ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   ملتقى الشباب المسلم (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=94)
-   -   الثبات على الطاعة (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=238344)

ابوالوليد المسلم 14-08-2020 05:11 AM

الثبات على الطاعة
 
الثبات على الطاعة (1)






وائل عبد القادر


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فإن المسلم الموفق يبحث دائمًا عن وسائل الثبات على دين الله -تعالى- طالبًا السلامة لدينه ومرضات ربه -جل وعلا-، فهو دائمًا ما يبحث عما يحفظ عليه دينه ويحرس له إيمانه ويرقيه في منازل العبودية لله -تعالى- ويعرفه مواضع رضا ربه -عز وجل- فيتبعها، ومواطن سخطه فيتقيها، وذلك بعد أن يستعين بالله -تعالى- طالبًا هدايته للطريق المستقيم، ومعتصمًا بحول الله -تعالى- وقوته، متبرئًا من حول نفسه وقوته.

وأضع بين يدي القارئ الكريم قاعدتين مهمتين تحفظان على العبد تدينه والتزامه:

القاعدة الأولى: في الحرص، وأعني بها الحرص على الطاعات.

والقاعدة الثانية: في الحذر، وأعني بها الحذر من المعاصي.

وأقدِّم بين يدي القاعدتين تقدمة يسيرة، فأقول مستعينًا بالله العلي الكبير:

إن ميزان الإحصاء يوم القيامة يزن على العباد مثاقيل الذر من الأعمال خيرها وشرها، صالحها وطالحها، وهكذا تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة في تأكيد هذا المعنى على النحو الذي يجعل العبد لا يفرِّط في عمل صالح مهما تضاءل في نظره، أو في نظر الخلق، كما يجعله لا يستهين بمعصية مهما حقرت في نظره أو في أعين الناس.

قال الله -تعالى-: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء:47)، وقال -جل في علاه-: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (الكهف:49)، وقال -تعالى-: (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ . وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (القمر:52-53)، وقال -عز وجل-: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ . وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة:7-8).

فأما القاعدة الأولى: فيحمل لواءها حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ) (رواه مسلم).

في هذا الحديث: الحثُّ على فعل المعروف قليلًا كان أو كثيرًا، بالمال، أو الخُلُق الحسن، فإن العبد لا يدري أي العمل يكون سببًا لقبوله عند الله، ودخوله الجنة ونجاته من النار.

ولهذه القاعدة أمثلة كثيرة في السُّنة، نذكر منها طرفًا:

1ـ في المسند عن أبي جُريّ الهُجيمي قال: سألتُ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ المعروف، فقال: (لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ صِلَةَ الْحَبْلِ، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ شِسْعَ النَّعْلِ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إنَاءِ الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تُنَحِّيَ الشَّيْءَ مِنْ طَرِيقِ النَّاسِ يُؤْذِيهِمْ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إلَيْهِ طَلْقٌ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنْ تُؤْنِسَ الْوَحْشَانِ فِي الْأَرْضِ).

قال الخطابي -رحمه الله: "قوله: (تُؤْنِسَ الْوَحْشَانِ) فيه وجهان: أحدهما: أن تلقاه بما يؤنسه من القول الجميل.... والوجه الآخر: أنه أريد به المنقطع بأرض الفلاة المستوحش بها تحمله فتبلغه المكان الآنس الآهل، والأول أشبه.

وتكثر هذه الأعمال الصالحة في السفر خاصة حيث ينقطع البعض عن الرفيق، وربما كان صاحب عذر من مرض أو كبر، فيحتاج إلى مَن يتقرب إليه بمثل هذه الفضائل، خاصة في سفر الحج والعمرة.

2ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ) (متفق عليه).

شرح الحديث:

قال النووي -رحمه الله-: "قَالَ أَهْل اللُّغَة: هُوَ بِكَسْرِ الْفَاء وَالسِّين وَهُوَ الظِّلْف، قَالُوا: وَأَصْله فِي الْإِبِل، وَهُوَ فِيهَا مِثْل الْقَدَم فِي الْإِنْسَان، قَالُوا: وَلَا يُقَال إِلَّا فِي الْإِبِل، وَمُرَادهمْ أَصْله مُخْتَصّ بِالْإِبِلِ، وَيُطْلَق عَلَى الْغَنَم اِسْتِعَارَة.

وَهَذَا النَّهْي عَنْ الِاحْتِقَار نَهْي لِلْمُعْطِيَةِ الْمُهْدِيَة، وَمَعْنَاهُ: لَا تَمْتَنِع جَارَة مِنْ الصَّدَقَة وَالْهَدِيَّة لِجَارَتِهَا لِاسْتِقْلَالِهَا وَاحْتِقَارهَا الْمَوْجُود عِنْدهَا، بَلْ تَجُود بِمَا تَيَسَّرَ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا كَفِرْسِنِ شَاة، وَهُوَ خَيْر مِنْ الْعَدَم، وَقَدْ قَالَ اللَّه -تَعَالَى-: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) (الزلزلة:7)، وَقَالَ النَّبِيّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَاتَّقُوا النَّار وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَة) (متفق عليه)" (انتهى).

وفى رواية المسند وغيره: (يَا نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ لَا تَحْقِرَنَّ إِحْدَاكُنَّ لِجَارَتِهَا وَلَوْ كُرَاعُ شَاةٍ مُحْرَقٌ)، ولا يخفى على القارئ الكريم الحكمة التي يرمي إليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من وراء الحديث مِن أن تعاهد الجارة جارتها، وإهداءها من طعامها ولو بأقل القليل؛ أن ذلك يكون سببًا للتوادد بينهما، وإيناسًا للوحشة ونزعًا لفتيل العداوات والأحقاد التي قد تسري بينهما عند اعتزال بعضهن البعض.

ولما كانت هذه الخصلة الطيبة من خصال الخير مع ما ظهر منها من الحِكم يحتاجها الرجال والنساء، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للرجال منها نصيب.

ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ)، وفي لفظ له: "إِنَّ خَلِيلِي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْصَانِي: إِذَا طَبَخْتَ مَرَقًا فَأَكْثِرْ مَاءَهُ، ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ"، والمعنى: أَيْ أَعْطِهِمْ مِنْهُ شَيْئًا.

وفي الحديث: الحث على الوصية بحق الجار وتعاهده، ولو بمرقة تهديها إليه.

3- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (قَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ) (متفق عليه)، وفي لفظ: (قَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ) (رواه مسلم)، وفي لفظ آخر لمسلم: (مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ فَقَالَ وَاللَّهِ لَأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يُؤْذِيهِمْ فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ).

والعجيب: أن هذا الرجل -كما جاء في رواية أبي داود- لم يعمل خيرًا قط، إلا أن شيئًا وقر في قلبه هو الذي بلغه هذه المنزلة، وهو سلامة صدره للمسلمين برفع الأذى عن طريقهم مخافة أن يؤذيهم.

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: (نَزَعَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ غُصْنَ شَوْكٍ عَنْ الطَّرِيقِ إِمَّا كَانَ فِي شَجَرَةٍ فَقَطَعَهُ وَأَلْقَاهُ، وَإِمَّا كَانَ مَوْضُوعًا فَأَمَاطَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ بِهَا فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ) (أخرجه أبو داود، وقال الألباني: حسن صحيح).

4- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ فَقَالَ الرَّجُلُ لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَأَ خُفَّهُ مَاءً ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا؟! فَقَالَ: (فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ) (متفق عليه).

5- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ) (رواه البخاري)، وفى الصحيحين عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ) (متفق عليه).

وتصدقت عائشة -رضي الله عنها- يومًا بتمرة، ويومًا بعنبة، فقيل لها في ذلك. فقالت: "انظروا كم فيها مِن مثاقيل الذر!".

وأمثلة ذلك في هذا الباب كثيرة، وإنما ما ذكرنا إشاراتٍ لها فحسب.

يتبع -إن شاء الله-.





ابوالوليد المسلم 14-08-2020 05:13 AM

رد: الثبات على الطاعة
 
الثبات على الطاعة (2)






وائل عبد القادر



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا في المقال السابق قاعدتين مهمتين تحفظان على العبد تدينه والتزامه:

القاعدة الأولى: في الحرص، وأعني بها الحرص على الطاعات.

والقاعدة الثانية: في الحذر، وأعني بها الحذر من المعاصي.

وتناولنا في المقال السابق القاعدة الأولى، وفي هذا المقال نتكلم عن القاعدة الثانية، وهي قاعدة الحذر مِن الذنوب، ويحمل لواءها حديث سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ) (رواه أحمد، وصححه الألباني) وفي رواية عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ) وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا: كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ، فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا فَأَجَّجُوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا. (رواه أحمد، وحسنه الألباني).

وبوب الإمام البخاري -رحمه الله-: "بَاب مَا يُتَّقَى مِنْ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ"، وأورد أثرًا عن أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنْ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ الْمُوبِقَاتِ. قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُهْلِكَاتِ".

والمحقرات: ما لا يبالي المرء بها ظنًّا منه بأنها صغيرة وحقيرة.

وفي هذه القاعدة أمثلة كثيرة، نتخير بعضها:

1- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ بَعْضِ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا، فَقَالَ: (يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ كَانَ أَحَدُهُمَا لَا يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ وَكَانَ الْآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ) (متفق عليه).

فقد أشار الحديث إلى أن صاحبا القبرين يعذبان، وأنهما لا يعذبان في كبير، وإنه لكبير.

قال الإمام ابن حجر -رحمه الله- في بيان معنى الرواية السالفة الذكر نقلًا عن أهل العلم: "وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَيْسَ بِكَبِيرٍ فِي الصُّورَة؛ لِأَنَّ تَعَاطِيَ ذَلِكَ يَدُلّ عَلَى الدَّنَاءَة وَالْحَقَارَة، وَهُوَ كَبِير الذَّنْب. وَقِيلَ: لَيْسَ بِكَبِيرٍ فِي اِعْتِقَادهمَا أَوْ فِي اِعْتِقَاد الْمُخَاطَبِينَ، وَهُوَ عِنْد اللَّه كَبِير، كَقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْد اللَّه عَظِيم) (النور:15). وَقِيلَ: لَيْسَ بِكَبِيرٍ فِي مَشَقَّة الِاحْتِرَاز، أَيْ: كَانَ لَا يَشُقّ عَلَيْهِمَا الِاحْتِرَاز مِنْ ذَلِكَ. وَهَذَا الْأَخِير جَزَمَ بِهِ الْبَغَوِيُّ وَغَيْره، وَرَجَّحَهُ اِبْن دَقِيق الْعِيد وَجَمَاعَة. وَقِيلَ: لَيْسَ بِكَبِيرٍ بِمُجَرَّدِهِ، وَإِنَّمَا صَارَ كَبِيرًا بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهِ، وَيُرْشِد إِلَى ذَلِكَ السِّيَاق؛ فَإِنَّهُ وَصَفَ كُلًّا مِنْهُمَا بِمَا يَدُلّ عَلَى تَجَدُّد ذَلِكَ مِنْهُ وَاسْتِمْرَاره عَلَيْهِ لِلْإِتْيَانِ بِصِيغَةِ الْمُضَارَعَة بَعْد حَرْف كَانَ. وَاَللَّه أَعْلَم".

وقال الإمام النووي -رحمه الله-: "وَسَبَب كَوْنهمَا كَبِيرَيْنِ: أَنَّ عَدَم التَّنَزُّه مِنْ الْبَوْل يَلْزَم مِنْهُ بُطْلَان الصَّلَاة فَتَرْكه كَبِيرَة بِلَا شَكّ، وَالْمَشْي بِالنَّمِيمَةِ وَالسَّعْي بِالْفَسَادِ مِنْ أَقْبَح الْقَبَائِح؛ لَا سِيَّمَا مَعَ قَوْله -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (كَانَ يَمْشِي) بِلَفْظِ: (كَانَ) الَّتِي لِلْحَالَةِ الْمُسْتَمِرَّة غَالِبًا. وَاللَّهُ أَعْلَم".

وقال -رحمه الله-: "وَأَمَّا قَوْل النَّبِيّ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَا يَسْتَتِر مِنْ بَوْله) فَرُوِيَ ثَلَاث رِوَايَات: (يَسْتَتِر) بِتَائَيْن مُثَنَّاتَيْن، (وَيَسْتَنْزِه) بِالزَّايِ وَالْهَاء، (وَيَسْتَبْرِئ) بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَة وَالْهَمْزَة وَهَذِهِ الثَّالِثَة فِي الْبُخَارِيّ وَغَيْره، وَكُلّهَا صَحِيحَة، وَمَعْنَاهَا: لَا يَتَجَنَّبهُ وَيَتَحَرَّز مِنْهُ. وَاَللَّه أَعْلَم".

قال ابن حجر -رحمه الله-: "قَوْلُهُ: (لَا يَسْتَتِرُ): كَذَا فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ بِمُثَنَّاتَيْنِ مِنْ فَوْقُ الْأُولَى مَفْتُوحَةٌ، وَالثَّانِيَةُ مَكْسُورَة، وَفِي رِوَايَة ابن عَسَاكِرَ: (يَسْتَبْرِئُ) بِمُوَحَّدَةٍ سَاكِنَةٍ مِنَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَلِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ فِي حَدِيثِ الْأَعْمَشِ: (يَسْتَنْزِهُ) بِنُونٍ سَاكِنَةٍ بَعْدَهَا زَايٌ ثُمَّ هَاءٌ، فَعَلَى رِوَايَةِ الْأَكْثَرِ: مَعْنَى الِاسْتِتَارِ أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَوْلِهِ سُتْرَةً، يَعْنِي لَا يَتَحَفَّظُ مِنْهُ فَتُوَافِقُ رِوَايَةَ: (يَسْتَنْزِهُ)؛ لِأَنَّهَا مِنَ التَّنَزُّهِ وَهُوَ الْإِبْعَادُ.

وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ أَبِي نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَجِ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنِ الْأَعْمَشِ: "كَانَ لَا يَتَوَقَّى"، وَهِيَ مُفَسِّرَةٌ لِلْمُرَادِ وَأَجْرَاهُ بَعْضُهُمْ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَقَالَ: مَعْنَاهُ لَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَضُعِّفَ بِأَنَّ التَّعْذِيبَ لَوْ وَقَعَ عَلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ لَاسْتَقَلَّ الْكَشْفُ بِالسَّبَبِيَّةِ، وَاطُّرِحَ اعْتِبَارُ الْبَوْلِ فَيَتَرَتَّبُ الْعَذَابُ عَلَى الْكَشْفِ سَوَاءٌ وُجِدَ الْبَوْلُ أَمْ لَا؟ وَلَا يَخْفَى مَا فِيهِ... وَأَمَّا رِوَايَةُ الِاسْتِبْرَاءِ؛ فَهِيَ أَبْلَغُ فِي التَّوَقِّي، وَتَعَقَّبَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ رِوَايَةَ الِاسْتِتَارِ بِمَا يحصل جَوَابه مِمَّا ذكرنَا.

قَالَ ابن دَقِيقِ الْعِيدِ: لَوْ حُمِلَ الِاسْتِتَارَ عَلَى حَقِيقَتِهِ؛ لَلَزِمَ أَنَّ مُجَرَّدَ كَشْفِ الْعَوْرَةِ كَانَ سَبَبَ الْعَذَابِ الْمَذْكُورِ، وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْبَوْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عَذَابِ الْقَبْرِ خُصُوصِيَّةً يُشِيرُ إِلَى مَا صَححهُ ابن خُزَيْمَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنَ الْبَوْلِ؛ أَيْ: بِسَبَبِ تَرْكِ التَّحَرُّزِ مِنْهُ".

فيظهر مِن ذلك خطورة ما قام به صاحبي القبرين من عمل ظنًّا منهما أنه يسير، وهو عند الله كبير، والذي تمثَّل في:

1- عدم التحرز من رشاش البول وارتداده على ثياب وبدن صاحبه، وهو غير عابئ بهذا العمل؛ مما يكون سببًا في عذابه -عياذًا بالله-، وقد تأكَّد ذلك بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالتنزه من البول.

2- خطورة الكلمة يتكلم بها المرء من سخط الله لا يلقى لها بالًا فتكون سببًا في هلاكه -عياذًا بالله من ذلك-، كما ثبت في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أنه سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) (متفق عليه، واللفظ لمسلم)، وفي رواية للبخاري: (وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ).

فرب كلمة واحدة أوبقت صاحبها -عياذًا بالله- من غيبة ونميمة وكذب، وقول الزور والبهتان، وقذف المحصنات والقول على الله بغير حق، أو مَن يسب دين الله -تعالى- أو يستهزئ بسنة من سنن المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وكل ذلك من آفات اللسان التي ينبغي للعبد أن يصون لسانه عنها.

قال ابن حجر -رحمه الله- تعليقًا على الحديث: "فَيَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ لَا يَزْهَدَ فِي قَلِيلٍ مِنْ الْخَيْرِ أَنْ يَأْتِيَهُ، وَلَا فِي قَلِيلٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَجْتَنِبَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْحَسَنَةَ الَّتِي يَرْحَمُهُ اللَّهُ بِهَا، وَلَا السَّيِّئَةَ الَّتِي يَسْخَطُ عَلَيْهِ بِهَا".

2- في الصحيحين واللفظ لمسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا هِيَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا).

3- ثم تأمل كيف تعمل مثاقيل الذر من السيئات في أصحابها في صحيح مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ) (رواه مسلم).

قال النووي -رحمه الله- في شرح الحديث: "الظَّاهِر مَا اِخْتَارَهُ الْقَاضِي عِيَاض وَغَيْره مِنْ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ لَا يَدْخُل الْجَنَّة دُون مُجَازَاةٍ إِنْ جَازَاهُ. وَقِيلَ: هَذَا جَزَاؤُهُ لَوْ جَازَاهُ، وَقَدْ يَتَكَرَّم بِأَنَّهُ لَا يُجَازِيه، بَلْ لَا بُدّ أَنْ يَدْخُل كُلّ الْمُوَحِّدِينَ الْجَنَّة؛ إِمَّا أَوَّلًا، وَإِمَّا ثَانِيًا بَعْد تَعْذِيب بَعْض أَصْحَاب الْكَبَائِر الَّذِينَ مَاتُوا مُصِرِّينَ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: لَا يَدْخُل مَعَ الْمُتَّقِينَ أَوَّل وَهْلَة".

فهذا المتكبر على خطرٍ عظيمٍ بسبب كبره؛ لأنه ينازع الرب -جل وعلا- في ردائه، فاستحق هذا الوعيد الشديد، كما في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أن رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

قال صاحب عون المعبود -رحمه الله-: "(الْكِبْرِيَاء رِدَائِي وَالْعَظَمَة إِزَارِي): قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَى هَذَا الْكَلَام أَنَّ الْكِبْرِيَاء وَالْعَظَمَة صِفَتَانِ لِلَّهِ -سُبْحَانه-، وَاخْتَصَّ بِهِمَا لَا يَشْرَكُهُ أَحَد فِيهِمَا، وَلَا يَنْبَغِي لِمَخْلُوقٍ أَنْ يَتَعَاطَاهُمَا؛ لِأَنَّ صِفَة الْمَخْلُوق التَّوَاضُع وَالتَّذَلُّل. وَضَرَبَ الرِّدَاء وَالْإِزَار مَثَلًا فِي ذَلِكَ، يَقُول وَاَللَّه أَعْلَم: كَمَا لَا يُشْرَك الْإِنْسَان فِي رِدَائِهِ وَإِزَاره، فَكَذَلِكَ لَا يَشْرَكُنِي فِي الْكِبْرِيَاء وَالْعَظَمَة مَخْلُوق. (فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا): أَيْ مِنْ الْوَصْفَيْنِ. وَمَعْنَى (نَازَعَنِي): تَخَلَّقَ بِذَلِكَ فَيَصِير فِي مَعْنَى الْمُشَارِك. (قَذَفْته): أَيْ رَمَيْته مِنْ غَيْر مُبَالَاة بِهِ".

فــخـــلِّ الــذنـوب صـغــيـرهــا وكـــبـــيــرهــا ذاك الــتـــقـــى

واصـنع كــمـاشٍ فـــوق أرض الـــــشـوك يـحـــذر مـا يـــرى

لا تحقرن من الذنوب صـغـيرة إن الــجـــبــال مــن الحــصــى







الساعة الآن : 05:12 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 27.28 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 27.14 كيلو بايت... تم توفير 0.14 كيلو بايت...بمعدل (0.50%)]